ومما قال رحمه الله: ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك ورجلك بساقك كما جاء في الحديث عن النبي (ص)( إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيها على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه كقوله تعالى " ولا تخرجون أنفسكم من دياركم " أي لا تخرجون إخوانكم وقوله " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " أي بإخوانهم على أصح التفسيرين وقوله " ولا تلمزوا أنفسكم " أي إخوانكم على أصح التفسيرين وقوله " ولا تأكلوا أموالكم بينكم " أي لا يأكل أحدكم مال أخيه إلى غير ذلك من الآيات ولذلك ثبت في الصحيح عنه (ص)أنه قال (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية قوله تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الا خر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا ءابآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والابناء والإخوان والعشائر وقوله " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض " وقوله " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم " وقوله " فأصبحتم بنعمته إخوانا " إلى غير ذلك من الآيات ،فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين، ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه قال باب قوله تعالى " يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولاكن المنافقين لا يعلمون" حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال حفظناه من عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار ، المهاجري يا للمهاجرين فسمعها الله رسوله قال ( ما هذا ) فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال النبي (ص)( دعوها فإنها منتنة ) الحديث فقول هذا الأنصاري يا للأنصار وهذا المهاجري يا للمهاجرين هو النداء بالقومية العصبية بعينه وقول النبي (ص)( دعوها فإنها منتنة ) يقتضي وجوب ترك النداء بها لأن قوله ( دعوها) أمر صريح بتركها والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول لأن الله يقول " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " فمما سبق في الكلام على قول الله تعال "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" وشرح الإمام الشنقيطي يتجلى لمن يتدبر هذا القرآن من المسلمين أنه كما قال الله عنه"وإنه لتنزيل رب العالمين* نزل به الروح الأمين" فالقرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع نواحي الحياة، فيزيد المؤمنين إيمانا ويزيد ديار الإسلام المستمسكين به والمعتزين به أمنا وسلاما،فعلينا أهل القرآن أن تتجلى فينا تلك الرابطة العظيمة – رابطة الدين- وأن نترفع عن كل ما يشوبها من النعرات العصبية والقومية والشعوبية التي انتشرت عند بعض أهل الإسلام، فإن تلك الأمور تجلب الفتن والفوضى وتحصد الأمة من جرائها الخوف والفتن0" وهذا الكلام عن الأمن بمعنى عدم الخوف مرتبط بعبادة وهى طاعة المؤمنين لله كما قال : "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" فألمن يعنى الطمأنينة وهى سكينة القلب وأما ألأمن الذى قصده الرجل من الخيرات وعدم وجود جرائم فهذا أمر محال أن يوجد لأن الله يبتلى بالشر والخير كما قال : "ونبلوكم بالشر والخير فتنة" وتطبيق الرسول(ص) والمؤمنين لحكام الله لم يمنع جوعهم وفقرهم كما قال تعالى : "ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين " كما لم يمنع حدوث الجرائم كجريمة حديث الآفك وجريمة اتهام البرىء بالسرقة والتى عاتب الله فيها نبيه(ص) والمؤمنين على دفاعهم عن المجرم وذمهم للبرىء مع كونه من دين مخالف وتحدث عما قاله الشنقيطى عن المصالح فقال : "فكتاب الله وتدبره يجيء بجميع المصالح التي عليها مدار جميع الشرائع وما أحسن ماذكره الشنقيطي عند ذكره للمصالح فقال: فالمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة : الأولى درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات والثانية جلب المصالح المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات والثالثة الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعد لها،فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء: الأول :الدين وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها كما قال تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" والثاني :النفس وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها ولذلك أوجب القصاص درءا للمفسدة عن الأنفس كما قال تعالى " ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألباب" وقال "كتب عليكم القصاص في القتلى " الثالث :العقل وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها قال تعالى " يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " إلى قوله " فهل أنتم منتهون " وللمحافظة على العقل أوجب (ص)حد الشارب درءا للمفسدة عن العقل،الرابع: النسب، الخامس والسادس: العرض والمال0 المصلحة الثانية: جلب المصالح وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين قال تعالى "فإذا قضيت الصلواة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" وقال " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وقال " يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وءاخرون " ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع ليستجلب كل مصلحته من الآخر كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة وما جرى مجرى ذلك 0 المصلحة الثالثة :الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدا في كتاب الله وسنة نبيه (ص)ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه (ص)قالت ( كان خلقه القرآن ) لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق لأن الله تعالى يقول في نبيه (ص)"وإنك لعلى خلق عظيم " فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق أنه يكون على خلق عظيم وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق والكلام في هدي القرآن للتي هي أقوم وحله لكثير من المشاكل العالمية والإقليمية كثير جدا " وهذا الكلام عن المصالح والمفاسد لا تقوم الشريعة عليه وإنما تقوم على العدالة فالله مثلا شرع عمل المفاسد في الحرب من قتل وجرح وتخريب دور وقطع شجر من خلال إباحة القتال فقال : " كتب عليكم القتال" ومثلا منع المال عن المسلمين بأمرهم بمنع الكفار من الحج وهى منفعة فقال : " يا أيها الذين أمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء" كما منع منافع الخمر بتحريمها لوجود مفاسد معها فالمسألة في التشريع لا تعود للمنفعة والمضرة وإنما تعود لتقرير العدالة
|