الثاني : أن الصمد : هو الذي يصمد ( يقصد ) إليه في الحوائج وهذا قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين وهو متفرع ومبنى على القول الأول كما سبق بيانه .
قال ابن عباس : الصمد الذي تصمد إليه الأشياء إذا أنزل بهم كربة أو بلاء ؛ قال الخطابي : أصح الوجوه أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج لأن الاشتقاق يشهد له . وجمع أبو هريرة بين القولين فقال : المستغنى عن كل أحد المحتاج إليه كل أحد . ؛ وقال أبو بكر بن الانبارى : لا خلاف بين أهل اللغة في أنه السيد الذي ليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم ؛ قال شيخ الإسلام : الاشتقاق يشهد للقولين جميعا قول من قال الذي لا جوف له وقول من قال : أنه السيد وهو على الأول أدل ؛ فإن الأول أصل للثاني ولفظ الصمد يقال على من لا جوف له في اللغة قال يحيي بن أبي كثير : الملائكة صمد والآدميون جوف ..
سابعا: بيان اشتقاق اللفظ وأصل مادته وكذا الألفاظ المتناسبة معه ( الصمد - السيد - المقصود - المصمت - الجامع ) واستعمالها في اللغة في اللسان العربي ؛ وبيان المناسبة بين اللفظ والمعنى . فهذا البند هام جدا في فهم المعاني وتصورها وترسخها في الأذهان ؛ مع التعرف على جمال وقوه وإحكام اللغة العربية في إبانتها للمعاني المطلوبة . .
1- حرف الميم :
حرف شفهي يجمع الناطق به شفتيه فوضعته العرب علما على الجمع فقالوا للواحد : أنت ؛ وللجمع : أنتم ؛ وللواحد الغائب : هو ؛ وللجمع : هم وكذلك في المتصل : ضربت ضربتم ؛ إياك إياكم ؛ إياه إياهم ونظائره نحو به وبهم....والمراد هنا أن الميم في الصمد مؤذنة دالة على الجمع .
2- حرف الصاد مع الميم ( صم ) :
يقول بن فارس في المقاييس : الصاد والميم أصل يدل على تضام ( اجتماع ) في الشيء وزوال الخرق والسم (...والخلاصة أن أصل هذه المادة ( صم ) الجمع ؛ والجمع فيه القوة .
3- الصاد والميم والدال :
أصلان أحدهما : ( القصد ) ؛ والآخر : ( الصلابة )
الأول : صمد يصمد ( بكسر الميم وضمها) صمدا : قصد ؛ ويقال قصدته وقصدت له ؛ وقصدت إليه ؛ وكذلك : صمدته ؛ وصمدت له ؛ وصمدت إليه وهو مصمود ؛ ومصمود له ؛ ومصمود إليه .
* بيت مصمود ومصمدا : إذا قصده الناس في حوائجهم .
الصمد والمصمد : وهو السيد ( رئيس القبيلة أو القوم ) الذي يصمد إليه قومه لقضاء حوائجهم .
الثاني : الصلابة : حيث اجتمع الشيء بعضه إلى بعض وتضام بشده ولم يكن فيه خلو ؛ وازداد تماسكه وقوته حتى صار صلبا ؛ وعبر عن هذا المعنى بتثليث الصاد والميم والدال ؛ والدال حرف قوى ؛ وتظهر قوته عند النطق به ومن أمثلة ذلك من اللسان والقاموس :-
أرض صمدة : مرتفعه غليظة متماسكة قوية ( وحولها رمال غير متماسكة ) ؛ وكذلك صخرة راسية في الأرض مستوية أو مرتفعه .
ناقة صمدة : حمل عليها فلم تلقح ؛ إذا لم يفرق الولد بطنها ..
ناقة مصماد : الدائمة الرسل على القر والجدب ؛ إذ مع شده البرد وقلة الطعام فهي دائمة الرسل ( الإمداد باللبن ) .
صماد : هو العفاص وهو جلد يلبسه رأس القارورة ( وهو بخلاف الصمام فهو أعلى منه ويحيط به ويجمع القارورة والصمام ) وكذلك ما يلفه الإنسان على رأسه من خرقة أو منديل دون العمامة ؛ فهي تجمع الرأس وهى أعلى ما في الإنسان .
يصمد المال : يجمعه .
رجل صمد : لا يجوع ولا يعطش في الحرب ؛ وهذه قمة الصلابة في الإنسان ( والخلاصة ) :
أن الرجل إذا اجتمع له من الصفات مثل ( الاجتماع والقوة والمتانة والحلم والأناة والعقل والشجاعة والكرم وسعه الصدر والأفق وغير ذلك ) فإنه يكون أهلا بسيادة قومه يصمدونه في حوائجهم ؛ وهذا هو الصمد من الناس ؛ غير أن صمديته بشرية ناقصة ؛ وهى نسبيه ؛ أعنى بالنسبة إلى أفراد قومه كما يقال في المثل الدارج ( الأعرج بين المكسحين سلطان ) فهو وإن كان صمدا من بعض الوجوه ؛ فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه؛فإنه - كما سبق بيانه - يقبل التفرق والتجزأ ؛ وهو أيضا محتاج إلى غيره ؛ فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه ؛ فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى فحقيقة الصمدية وكمالها له وحده ؛ واجبة لازمة ؛ لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه .
وإذا كان أهل اللغة قد استعملوا أسم الصمد في حق المخلوقين كما تقدم لذلك لم يقل الله تعالى في سوره الإخلاص : الله صمد ؛ بل قال : ( الله الصمد ) لأنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه ؛ فإنه المستوجب لغايته على الكمال . وال التعريفية لبيان علميته تعالى على الصمدية فلا يشاركه فيها غيره .
4- الألفاظ المتقاربة والمتناسبة : وهى التي أقواها الصمد : " الصمد - المصمت - السيد - المقصود - الجامع "
أرجو من القارئ الكريم ألا يستطيل الكلام في هذه اللغويات لأنها ركيزة أساسية في فهم الأسماء الحسنى وفي تصور عظمة اللغة العربية وانفرادها بالإبانة الدقيقة وأنها لا تماثلها لغة أخري .
(أ) المصمت : قال ابن فارس : الصاد والميم والتاء أصل واحد يدل على إبهام وإغلاق من ذلك : صمت الرجل : إذا سكت ؛ وباب مصمت قد أبهم إغلاقه ...فالمصمد أقوى من المصمت ؛ لان حرف الدال أقوى من التاء وان كانتا أختين ؛ وأذكر مثالا على ألسنة العامة الآن ؛ عندما يقام البناء على المساحة الموجودة دون نقص يعنى دون أن تتفرق المساحة إلى جزء للبناء وجزء للشارع فإنهم يقولون : البناء على الصامت؛وهذا المثال يقرب المعني جدا ).
قال شيخ الإسلام "ج 17 / ص 232 233" :
والاشتقاق الأصغر : اتفاق القولين في الحروف وترتيبها ( مع اختلاف الضبط ) .
والاشتقاق الأوسط : اتفاقهما في الحروف لا في الترتيب .
والاشتقاق الأكبر : اتفاقهما في أعيان بعض الحروف ؛ وفى جنس الباقي كاتفاقهما في كونهما من حروف الحلق ؛ إذ قيل حزر عزر أزر فإن الجميع فيه معنى القوة والشدة وقد اشتركت مع الراء والزاي والحاء والعين والهمزة في أن الثلاثة حروف حلقيه ؛ وعلى هذا فإذا قيل الصمد : بمعنى المصمت وأنه مشتق منه بهذا الاعتبار فهو صحيح ؛ فإن الدال أخت التاء وإن الصمت : هو السكون ؛ وهو إمساك وإطباق الفم عند الكلام .
قال أبو عبيد : المصمت : الذي لا جوف له وقد أصمته أنا ؛ وباب مصمت : قد أبهم إغلاقه ...ولهذا كان الصمت : إمساك عن الكلام مع إمكانه ؛ والإنسان أجوف يخرج الكلام من فيه لمنه قد يصمت ؛ بخلاف الصمد فإنه إنما استعمل فيما لا تفرق فيه كالصمد والسيد والصمد من الأرض ؛ وصماد القارورة ونحو ذلك ( كما تقدم ) ؛ فليس في هذه الألفاظ المتناسبة أكمل من لفظ الصمد فإن فيه الصاد والميم والدال ؛ وكل هذه الحروف الثلاثة لها مزية على ما يناسبها من الحروف ..
(ب) السيد : ( قال رجل للنبي (ص): أنت سيدنا فقال :" السيد الله " رواه أبو داود في الأدب (4806) وأحمد 4/24 25 قال الألباني : صحيح برقم ( 3700 ) في صحيح الجامع . معروف أن الغرفة المطلية باللون الأبيض ؛ أقل ضوء يكفيها لكي تستنير وتتضح فيها الرؤية ؛ بخلاف المطلية باللون الأسود ؛ فإنها تحتاج إلى أضعاف ذلك من الإضاءة حتى تستنير وتتضح فيها الرؤية ؛ ...وعلى ذلك فاللون الأسود جامع للضوء ؛ ففيه معنى الجمع ؛ والجمع فيه القوة كما تقدم في المصمد والمصمت وكما في القاموس : السواد : المال الكثير والعدد الكثير ؛ ...والسيد أصله : سيود ؛ كميت وأصله : ميوت .
وعلى هذا يمكن فهم كلام ابن فارس في المقاييس؛وكلام ابن تيميه كما يلي: قال ابن فارس :
السين والواو والدال أصل واحد وهو خلاف البياض في اللون ؛ ثم يحمل عليه ويشتق منه ؛والسواد في اللون معروف ( وذكر أمثله كثيرة منها ) فلان اسود من فلان أي : أعلى سيادة منه ؛ ويقال سادني فلان فسدته من اللون والسؤدد جميعا( لأن مادة السواد والسؤدد واحدة ) والقياس في الباب كله واحد .
|