وفي جعل الحكمين اثنين تنبيه لطيف إلى مسألة الشورى التي قررها الإسلام من غير استبداد أحد برأيه فان الحكم الواحد قد يخطىء في اجتهاده أو لم يستوف القضية بحثا ودراسة وتفتيشا وتمحيصا فوجود حكم آخر معه يؤيده ويقويه برأيه ونظره ليجتمعا سوية على حكم واحد وقد سأل موسى (ص) ربه عز وجل أن يعينه بأخيه هارون فقال " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري " " وموسى (ص)مسدد ومؤيد بالوحي فغيره أحوج إلى الرأي والمناصحة والمشاورة وتقليب الأمور للوصول إلى الصواب في إزالة الشقاق أو الحكم بالصلح على شيء أو المخالعة أو التفريق على ما يريانه سدادا "
ووجود حكم واحد هو مخالفة وعصيان لأمر الله فى الآية وأفلح الجنابى بالرد على حديث أنيس أنه ليس فى الإصلاح بين الزوجين ثم تحدث عن الشروط الواجب توافرها فى الحكمين فقال :
"7 – ما يشترط في الحكمين كي يحقق التحكيم الغرض المرجو منه لا بد أن تتوفر في الحكمين جملة من الشروط منها
أ – كمال الأهلية وذلك بأن يكونا بالغين عاقلين فلا يصح تحكيم صبي ولا سفيه ومن لا يصلح للنظر في شأن نفسه فهو لا يصلح للنظر في شأن غيره من باب أولى وهذا بين ظاهر
ب – الذكورة وفيها قولان للفقهاء
القول الأول ذهب المالكية والحنابلة في الأصح والشافعية في قول إلى اشتراط الذكورة في الحكمين لأن هذا الأمر مفتقر إلى الرأي والنظر
القول الثاني ذهب الشافعية في القول الآخر والحنابلة في الرواية الأخرى إلى جواز كون الحكمين من الإناث ...تنبيه قال ابن جزي الغراطي المالكي في قوانينه الفقهية " عادة القضاة أن يبعثوا امرأة مسنة عوض الحكمين قال بعض العلماء وذلك لا يجوز لأنه مخالف للقرآن "
وهذا الكلام عن تحكيم الإناث لا محل له فالآية تتحدث عن حكم وحكم وليس عن حكمة وحكمة أو حكم وحكمة كما أن المسنة هى شيخة والشيخوخة فى الذكر والأنثى تجعل العقل يتراجع ومن ثم يجب أن يكونا ممن فى سن الأربعين وما يقاربها فهى سن كمال الرشد كما قال تعالى :
" حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن اشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين"
ثم قال:
ج – العدالة
والمقصود منها الاعتدال في دينه وذلك بأن يكون مجتنبا للكبائر وعلى ترك الصغائر محافظا على مروءته ظاهر الأمانة غير مغفل وقيل صفاء السريرة واستقامة السيرة والمعنى متقارب
وممن نص على اشتراط العدالة الإمام أبو حامد الغزالي في الوسيط فقال " ثم لابد على هذا القول في الحكمين من العدالة والهداية إلى المصالح " وقال أبو إسحاق بن مفلح " فان خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين مكلفين لأن هذه شروط العدالة "
القوم يفهمون العدالة هنا خطأ فالعدالة تعنى الإسلام وليس غيره فلا يجوز تحكيم الكفار فى مشاكل المسلمين ثم قال :
د – الحرية
فلا يصح أن يكون الحكم عبدا لأن العبد لا تقبل شهادته فتكون الحرية من شروط العدالة وبه قال الإمام مالك والحنابلة في الأصح من المذهب وهو اختيار القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي وهو المذهب عند الشافعية
وعلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد والقول المرجوح عند الشافعية أنه يجوز أن يكون الحكمان عبدين لا باعتبارهما حكمين يقضيان بينهما وإنما باعتبارهما وكيلين لأن توكيل العبد جائز ولا تشترط له الحرية بينما لا يجوز أن يكون الحاكم عبدا "
وهذا الكلام خطأ فاحش فكل مسلم تقبل شهادته فى نفسه وفى غيره كما قال تعالى :
"يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين وإن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا "
ثم قال :
ه– الإسلام
فلا يصح تولية كافر التحكيم بين المسلمين لقوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " بل قال تعالى " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " " وعلى هذا الأساس فلا يجوز أن يكون الحاكم كافرا وكذلك لا يجوز أن يتحاكم إليه
قال الإمام المحقق الشوكاني مفسرا الآية " فيه تعجيب لرسول الله (ص)من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله وهو القران وما أنزل على قبله من الأنبياء فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلا وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكون يكفروا به وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يتضح معناه "
والعدالة كما سبق القول هى الإسلام ومن ثم فهذا تكرار ثم قال :
ه – العلم والفقه
ونعني بذلك أن يكونا عالمين بالجمع والتفريق لهما خبرة ودراية في شؤون الأزواج وهذا ما سيأتي له مزيد تفصيلا قريبا والذي نريد بحثه هو هل يشترط في الحكمين الفقه؟
في المسألة قولان قال شمس الدين بن مفلح "إن كانا حكمين يشترط الفقه وان كانا وكيلين جاز أن يكونا عاميين قال وهذا الثاني ضعيف " ومع القول باشتراط الفقه فانه لا يشترط فيهما الاجتهاد وقال أبو حامد الغزالي " وكذلك كل أمر معين جرى يفوضه القضاة إلى الآحاد"أي لا يشترط فيه الاجتهاد "
والعلم والفقه لا يشترطان فى الحكمين بمعنى أن يكون علماء فقهاء وإنما علماء علم العامة فإن وجد منهما علماء حقا كانوا هم ألأولى بكونهم الحكام
وتحدث عما يصنعه الحكمان مع الزوجين فقال :
8 – ما يفعله الحكمان مع الزوجين
إن المهمة التي يقوم بها الحكمان خطيرة فعلى أساسها تتم استدامة الحياة الزوجية أو رفعها لذلك عليهما أن يبذلا جهدا عظيما للوصول إلى معرفة أسباب الشقاق ولا توجد هناك طريقة معينة يلزم الأخذ بها دون غيرها بل هذا متروك تقديره لفطانة الحكمين وذكائهما ومن تلك الطرق ما ذكره الإمام القرطبي في بيان كيفية عمل الحكمين بقوله " ويخلو الحكم من أهل الزوج به ويقول له اخبرني بما في نفسك أتهواها أم لا ؟ حتى أعلم مرادك فان قال لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها فيعرف أن من قبله النشوز وان قال إني أهواها فأرضها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها فيعلم أنه ليس بناشز وكذلك يفعل الحكم من أهل الزوجة معها فيخلو بها ليتبين له حقيقة ما في نفسها ملاحظين أن الحكم إن كان من محارمها فلا حرج في خلوتها به وان كان من غيرهم يتعين حضور امرأة من محارمه معه دفعا لشبهة الخلوة المحرمة
ومن الأساليب التي يحتاجها الحكمان التلطف بالقول لعل الله تعالى بحسن قولهما يوفق الزوجين لإصلاح ذات البين ورفع الشقاق ومن القول اللطيف الذي يترك أثرا حسنا في سامعه هو الترغيب والترهيب فيرغبان أحدهما في الآخر وفي حسن الخلق والصبر والعفو وانه لا يبغض مؤمن مؤمنة – أي لا يكره زوج زوجته – إن كره منها خلقا رضي منها خلقا غيره
ويذكرا الزوجة بعظم حق الزوج وفضل طاعته في غير معصية الله وان في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وكل ذلك مؤيد بنصوص الوحي من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ليخاطبا بها روح الإيمان في نفوس الزوجين ليكون أوقع في نفسيهما
وعلى الحكمين أن يتحريا العدل والإنصاف ما استطاعا إلى ذلك سبيلا ولا يخصا بذلك أحدهما دون الآخر ولا يميلا إلى أحدهما دون الآخر ليكون أقرب للتوفيق بينهما "
وما يعمله الحكمان أولا الاستماع معا لكل واحد من الزوجين وثانيا جلوس الحكمين معا لبحث أوجه الخلاف وتحديدها ثم تقرير كيفية الإصلاح فقد تكون الكذب على الطرفين بنقل كلام طيب فى حق كل طرف من الطرف الأخر وقد يكون إصدار حكم فى مسائل الخلاف حسب أحكام الله فيطلب من الطرف المخطىء التوبة لله والاعتذار وقد يكون طلب فعل أمور معينة من كل طرف وقد يكون جمع مال من الأهلين لسد حاجة معينة عند طرف ...
وبين الجنابي ضرورة وجود إرادة عند الزوجين للإصلاح وهو عودة المياه لمجاريها كما يقال فقال :
"ومما يحتاجه الحكمان والزوجان معا حسن النية وصلاحها لقوله تعالى "إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "
ولأهل التفسير في الآية ثلاثة أقوال في المقصود منها
القول الأول ان الضمير يعود للحكمين ..القول الثاني المراد الزوجان أي يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبر به الحكمين يوفق الله بينهما فيزول الشقاق وتقع الألفة والوفاق
القول الثالث إن الضميرين كلاهما يعودان للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفق الله بينهما لتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وأنت تلاحظ أن هناك رابطا مشتركا ينتظم هذه الأقوال جميعا ألا وهو حسن النية وصلاحها "
والحكمان يريدان التوفيق فى كل الأحوال وأما الزوجين فهما من يريدان التصالح أو الانفصال
وتحدث عن سلطة الحكمين فقال :
9 – التكييف الفقهي للتحكيم
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الحكمين لهما سلطة الجمع والتفريق دون الرجوع إلى إذن الحاكم ..
وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الحكمين وكيلان ليس لهما الفرقة إلا بتوكيل الزوجين ...
قال ابن حزم مستدلا لهذا المذهب الأخير " ليس في الآية ولا في شيء من السنن أن للحكمين أن يفرقا ولا أن ذلك للحاكم وقال عز وجل " ولا تكسب نفس إلا عليها " "وصح أنه لا يجوز أن يطلق أحد على أحد ولا أن يفرق بين رجل وامرأته إلا حيث جاء النص بوجوب فسح النكاح فقط ولا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
|