آثرت بها المقعد المسكين إنما هي ذخيرة لي وضعتها عنده ليوم فاقتي قال ومتى ذاك اليوم قال يوم يحتاج الناس إلى ذخائرهم في الآخرة فتعجب الصياد لذلك وندم
ولقد عجبت لهذا الشغل الذي غر أهل العقل والجهل حتى هلكوا جميعا بالرجاء والطمع كما هلك اليهودي والنصراني قالوا أخبرنا كيف ذلك مثل قال أنطونس اصطحب رجلان يهودي ونصراني إلى أرض يبتغيان الجوهر فسارا في عمران من الأرض واتصال من المياه حتى انتهيا إلى بئر ومن وراء تلك البئر مفازة مسيرتها أربعة أيام ومع كل واحد منهما قربة فملأ اليهودي قربته وأراد النصراني أن يملأ قربته فقال له اليهودي تكفينا قربتنا هذه ولا تثقل دوابنا فقال له النصراني أنا أعلم بالطريق فقال له اليهودي تريد إلا أن تشرب الماء كلما عطشت قال لا فترك النصراني قربته فارغة وسار مع صاحبه وهو يعلم أنه سيحتاج إلى الماء فلما توسطا المغازة أصابهما سموم شديد أنفد ما كان في القربة فقعدا في الطريق يتلاومان ويقول النصراني لليهودي ما أهلكنا إلا رأيك القبيح وما صنعت ذلك إلا لعداوة ما بيننا في أمر المسيح قال اليهودي أتراني كنت أريد أن أقتلك وأقتل نفسي قال النصراني أبعدك الله كما لم ترحمني قال اليهودي ويحك إنما نهيتك عن حمل الماء لضعف حمارك وكرهت لك المشي قال النصراني لعمري للمشي كان أهون علي من الموت وما فعلت هذا إلا لعداوتكم القديمة وإنما يحزنني أن نموت فندفن جميعا في قبر واحد فيمر بنا من القسيسين من يصلي علينا
قال اليهودي ويحك ولم يشق عليك أن ندفن جميعا ويصلي من يصلي علينا قال النصراني لأنك قتلت نفسك وصاحبك فليس ينبغي أن يصلى عليك فبينما هما تخرج أنفسهما إذ مر بهما رجل ماش يسوق حمارا عليه قربتان من ماء فلما رأياه ابتدراه فقالا احتسب علينا شربة من ماء عافاك الله قال هذا طريق ليس فيه حسبة قالا له أخبرنا ما دينك قال ديني دينكما قالا فإن أحدنا يهودي والآخر نصراني قال اليهودي والنصراني والمسلم إذا لم يعمل بما في كتابه واتكل على الغرة في الرجاء والطمع لقي ما لقيتما وولى عنهما ولم يسقهما فقالا هذا رجل حازم فقال ما أقل ما يغني عنكما حزمي وعمن فرط في الأخذ بالوثيقة واتكل على الرجاء والطمع وقد ينبغي للعاقل أن يأخذ بالحزم في أمر آخرته كما يأخذ به في أمر دنياه ولا يتكل على الرجاء والطمع في المغفرة والرحمة بغير اتباع لما أمر به والترك لما نهي عنه ولقد عجبت لأهل الأعمال السيئة واستتارهم من العباد بقبيح أعمالهم ولا يستترون ممن يلي عقوبتهم ولا يراقبوه وهو الذي يثيب على الحسن ويجزي بالسيء كيف أمنوا أن يصيبهم ما أصاب صاحب الدير قالوا وما الذي أصاب صاحب الدير مثل قال أنطونس زعموا أن رجلا كان يبيع العسل والسمن والزيت والخمر وكان يشتريه طيبا نقيا ويبيعه غاليا مغشوشا وكان ذا لحية عظيمة جميلة وكان أكثر من يراه إنما يقول له لو كنت أسقفا فما صلحت لحيتك إلا للأساقفة فلما كثر قولهم ذلك له وقعت في نفسه الرهبانية لرجاء منزلة يصيبها فقال لامرأته ذات يوم إن الناس قد أكثروا في لحيتي ولا يعلمون عملي ولو أني ترهبت لرجوت أن أصيب مالا ومنزلة فجزعت لذلك امرأته جزعا شديدا وقالت لقد أردت أن تؤيمني وتؤتم أولادي قال ويحك لم أرد ذلك لنية في العبادة ولكن رجوت أن تكون لي منزلة وأنال فضيلة في أهل ملتي قالت أخاف أن تداخلك حلاوة العبادة إذا صرت مع الرهبان فتلج وتتركني فحلف لها وأقبل على تعلم الإنجيل والمزامير وأشياء من كتب الأنبياء وحلق رأسه ثم انطلق إلى دير عظيم فيه جماعة من الرهبان فنزله فلم يقم فيه إلا قليلا حتى أعجب الرهبان ما رأوا من جماله ونبل لحيته فأجمعوا على رئاسته وولوه أمرهم فلما بلغ همته وأمكنته الأمور من أموال الدير وخزائنه ألطف عظماء الناس وأشرافهم فعظمت منزلته في أعينهم وصغرت منزلة الرهبان في عينه فأذلهم ونقص أرزاقهم وغير مراتبهم وعمد إلى أهل العبادة منهم فولاهم غلات الدير وخزائنه وتفرغ لنعمة نفسه والتذ بالنساء وشرب الخمر وأكل الطيب ولبس اللين فلما رأى الرهبان ذلك غاظهم وفيهم رجل سناط كان يحسده على نبل لحيته فقال لأصحابه إن هذا الفاسق يذلكم ويستعين بكم على فسقه فاتقوا الله في أنفسكم قالوا قد اعتزلنا الدنيا وما فيها وتفرغنا للعبادة فابتلينا من هذا الرجل بالشغل والهم والحزن قال السناط هذا ما عمل بكم سوء رأيكم وحسن نظركم في طول اللحى ومن قلد أمره أهل اللحى والرياء وترك أهل العفاف والدين والورع فليصبر لما جنى على نفسه فأجمع رأيهم على أن يعظوه فأتاه السناط في جماعة منهم فقال له إنك قد أسرفت على نفسك وقد ظهر لأصحابك ما تظن أنه قد خفي عليهم من أمرك وما أنت عليه فاحذر عقوبة الله تعالى فإنه ربما عجلها في الدنيا للعبد قبل الآخرة فقال له الراهب أليس إن الخطيئة قد أحاطت ببني آدم حتى نالت الأنبياء فقد أخطأ داود وسليمان ويحيى بن زكريا فقال السناط أراك عالما بخطايا الأنبياء جاهلا بالتوبة التي كانت منهم إنما كانت خطيئة داود نظرة واحدة فخر لله ساجدا أربعين ليلة وإنما سها سليمان عن صلاة واحدة فأخر وقتها للذة في الخيل فتاب واستغفر وضرب أعناقها وعرقبها وإنما ترك يحيى صلاة واحدة من نوافل الليل اتهم بذلك كثرة طعامه فما ملأ بطنه من الطعام حتى قبضه الله وكان ذلك كله فرقا من الله عز و جل وخوفا من عقابه ورجاء لثوابه قال صاحب الدير أرجو التوبة قال السناط ربما عاجل الموت صاحب الخطيئة عن التوبة فأقام صاحب الدير على خطيئته حتى أذن الله سبحانه وتعالى في هلاكه على يدي رجل من اللصوص كان له أصحاب متفرقون في القرى فبعث رأس اللصوص أصحابه يبيتون القرية التي فيها امرأة الراهب صاحب الدير فلما بيتوهم وجدوا الراهب مع امرأته في لحاف فأتوا به رأسهم فقالوا لو لم يكن راهبا لعذرناه ولكنا نقيم فيه حد الله فيمن حرم النساء ثم ركبهن فسأل عن عقوبته أهل العلم فقيل عقوبته أن يحرق بالنار فألقي في تنور مسجور وكفى الله الرهبان مؤنته وعجله للنار في الدنيا لعبادته التي نواها للدنيا ولقد عجبت لأهل المصائب كيف لا يستعينون على مصائبهم بالصبر ويذكرون ما يؤملون من الثواب فإنه سيأتي
|