الدستور: من الثورة المُضَّادة الى الثورة
الصفحات من 48ـ 64 من الكتاب
قبل أن نبدأ بتلخيص ما جاء في هذا الباب، سيكون من الجدير التذكير بأنه كان هناك مجموعتان مؤثرتان في تشكيل مستقبل أمريكا: المجموعة الأولى وهي (الكوزموبوليتانية) وهي مجموعة جذبتها أطماعها وأحلامها لتقيم في أمريكا، أو أنها كانت من أجيال الموظفين الذين كانوا يتولوا إدارة المستعمرات البريطانية ومنها أمريكا. والثانية: هي السكان الأصليين، ولا نعني السكان ذوي الأصول الهندية، بل من وُلدوا هم وآباؤهم وربما أجدادهم في الولايات المتحدة.
اكتشفت المجموعتان أن الشجار فيما بينها سيقوض وحدة المجتمع ويبدد أحلامه في الاستقرار والنهوض، فكان لا بُد من التفكير في دستورٍ يُنظم شكل الحياة السياسية المستقبلية في تلك البلاد.
اجتمع خمسٌ وخمسون في فيلادلفيا( بين شهري أيار/مايو و أيلول سبتمبر 1787) كان ثلثاهم من الأثرياء، وثلاثة أخماسهم تحدروا من عائلات أرستقراطية، وكان مُعظم هؤلاء من أعضاء الكونجرس، وكان ثلاثة منهم جنرالات في الجيش الذي نشأ إبان حرب الاستقلال ومنهم (جورج واشنطن).
أهم النقاط التي أثيرت في وضع الدستور
1ـ كانت الولايات التي دخلت في مناقشات الدستور 13 ولاية، هي: بنسلفانيا؛ وجورجيا؛ و كونيتيكت؛ وديلاوير (ثاني أصغر ولاية مساحة)؛ وماساتشوسيتس؛ وميريلاند؛ وفرجينيا؛ و نيوهامشاير؛ ونورث كارولينا؛ وساوث كارولينا؛ ونيويورك؛ و رودآيلاند (أصغر ولاية مساحة)؛ ونيوجيرسي.
2ـ كان لتلك الولايات مجالس تشريعية، مكونة من مجلسين (نواب وشيوخ) عدا بنسلفانيا وجورجيا حيث كان لها مجلس واحد. وكانت أعداد أعضاء المجالس في الولايات مختلفة فمنها ما يصل الى مائتين (بنسلفانيا) ومنها أقل من مائة.
3ـ تم الاتفاق على أن يكون هناك مجلس تشريعي أولي، واحد مكون من 65 عضواً.
4ـ أعطى المجتمعون بعد إحصاء السكان، لكل 13 ألف ناخب عضواً واحداً. في حين أعطي الرقيق ثلاثة أخماس الصوت للواحد! يعني إذا كان عدد الرقيق في ولاية خمسون ألفاً، فإنهم يحسبون وكأنهم ثلاثين ألف.
5ـ ظهرت أصوات تحذر من الإفراط في الديمقراطية، لأن ذلك يخلق مجتمعاً يسوده الأشرار، فدهماء الشعب من السهل تضليلها أو شراء ذممها.
6ـ اتفق الجميع على أنه إذا وافقت تسعة ولايات من أصل ثلاث عشرة، فإن الاتحاد سيكون ملزماً، حتى للولايات الأربع التي لم توافق عليه.
وافقت إحدى عشر ولاية عدا اثنتان منهما نيويورك. لم يكن الذين وقعوا تلك الوثيقة والذين أعلنوا الاتحاد واثقين من عدم انفراطه مبكراً، وأصبح يُطلق عليهم بعد ذلك التاريخ (الفيدراليون).
الرؤية الفدرالية وانقسام النخبة
نشد الفيدراليون والجمهوريون خلق ولايات متحدة قوية وثرية قادرة على التنافس بنجاح على الصعيد العالمي في مواجهة قوى جبارة أخرى. لكنهما مع ذلك كانا ينظران الى مسودة القانون الاتحادي باعتبارها خاطئة في المسائل السياسية وبذرة تخريب للمؤسسة الجمهورية بأكملها.
وقد ظهرت رافعتان فلسفيتان تتبنى أولاهما النموذج الإنجليزي، والثانية تريد الابتعاد عنه. كان يقود التبشير بالنموذج الإنجليزي (الكسندر هاملتون1755ـ 1804) والذي يُطلق عليه فيلسوف تأسيس الولايات المتحدة، وهو شاب محامي ولد من أمٍ غير شرعية. أصبح المستشار الخاص لجورج واشنطن، ثم أصبح في عهده وزيراً للخزانة.
والتيار الآخر، قاده (جيفرسون1743ـ1826) و (ماديسون1751ـ 1836) وكلاهما أصبح رئيساً للولايات المتحدة. وهما من أسسا الحزب الديمقراطي ـ الجمهوري عام 1792، قبل أن يصبح الحزب الديمقراطي، بعد انشقاق مجموعة من أعضائه ليؤسسوا الحزب الجمهوري عام 1854، والذي أوصل أول رئيس له للبيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة (إبراهام لينكولن) عام 1860، وكان الانشقاق على هامش قضية الرق والعبودية، كما سنرى.
كان برنامج هاملتون يعتمد على الضمانة المركزية لديون الولايات (منفردة) تحت ضمانة مركزية، تعزز من ثقة الدائنين، وتجمع الرأسماليين في كل الولايات المتحدة تحت مركزية واحدة، تسهم فيها الأموال المركزية في دفع عجلة التعليم والزراعة والصناعة، وبنفس الوقت يكون جريان الأموال تحت الإدارة المركزية.
اعترض كلٌ من جيفرسون و ماديسون على البرنامج، باعتبار أن بيع سندات حكومية لآخرين محليين وبأسعار مغرية وفوائد عظيمة، سيخلق طبقة من المضاربين الذين سيثرون ثراءً فاحشاً على حساب أموال الدولة.
وفي عام 1791، أوصى هاملتون بدعم الصناعيين، لتطوير الصناعة، لأن اقتصاداً متنوعاً من شأنه التوسع بسرعة وثبات أكثر من اقتصاد يعتمد على الصادرات الزراعية، والتي اعتبرها بأنها لن تدوم.
أما ماديسون وجيفرسون، اعتبرا تلك الدعوة ابتعاداً عن قيم الجمهورية ومحاكاة للملكية البريطانية، فبالإضافة لتوصيات هاملتون بموضوع (الدَين) فإن ذلك سيكون مبعثاً للفساد. وصرح ماديسون تصريحه المشهور (إن المواطنين الذين يؤمنون غذاءهم وملابسهم... هم الأساس الأفضل للحرية العامة والحصن المنيع للسلامة العامة).
فاز هاملتون في معظم معاركه، حتى عام 1792 عندما انقسم الكونجرس الى كتلتين كتلة مع هاملتون وكتلة مع (جيفرسون وماديسون) وهي التي أصبحت من يومها (الحزب الديمقراطي).
شعر الجميع بأن التفتت والانفصال أصبح قاب قوسين، فانتبه جيفرسون وماديسون الى كبح جماح هاملتون وسيره في تَسيد الطبقة الأرستقراطية الموالية لإنجلترا، وبنفس الوقت الى منع حدوث الانفصال والتفتت فاقترحا إستراتيجية من ثلاثة محاور:
المحور الأول: البنية الصارمة للدستور الفدرالي، وقد استطاعا من خلال هذا المحور كسب ثقة جورج واشنطن وعدم تحمسه المطلق لهاملتون.
المحور الثاني: اللجوء الى انتخابات تهتم بالمناطق للابتعاد عن أغلبية مصطنعة، وسيكون الاحتكام لتلك الانتخابات النزيهة وممثلي الولايات هو البديل عن خداع الأعضاء ببلاغة الخطباء. وبالمقابل، فإن ماديسون استطاع أن يكسب عبر الصحف ووسائل الإعلام جمهوراً واسعاً من الطبقة الوسطى عندما قال (إن أعداءنا اعتقدوا أنه يمكن إدارة الحكومة من خلال أبهة الطبقات الاجتماعية فقط، وتأثير المال والرواتب، وما تخلقه القوات المسلحة من ذعر.... إن البشر قادرون على حكم أنفسهم ويكرهون السلطة الموروثة بصفتها إهانة للمنطق وإساءة لحقوق الإنسان).
استطاع هذا التيار بهذا المحور أن ينجح، فقد تم انتخاب (جيفرسون) عام 1796، رئيساً للولايات المتحدة، بعد ثلاث جولات انتخابية مضنية.
المحور الثالث: بعد أن اعترى اليأس كل من جيفرسون وماديسون صاغ محورهما الثالث المتمثل بإعطاء الولايات (منفصلةً) حقوقها في التشريع والإدارة، ما لم ينص الدستور (الصارم) على غير ذلك. فقد أعلن جيفرسون أنه (كلما تولت الحكومة المركزية سلطات غير مفوضة بها كانت أعمالها غير موثوقة، عقيمة، ودون أي جدوى).
انتصر تيار جيفرسون وماديسون، واعتزل هاملتون السياسة وذهب لممارسة المحاماة حتى وفاته عام 1804.
__________________
ابن حوران
|