ظالمٌ من أنفسهم ، يستبيحهم كما يحدث عند غيرهم .ولهذا السبب _ أعني كون فريضة تقويم السلطة عظيمة جـداً في هذا الدين _ صار أعظم الجهاد ، ما يكون في تقويم إنحراف السلطة ، وإصلاحها ، كما روى النسائي عن طارق بن شهاب البجلي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز .. أي الجهاد أفضل ؟ قال : ( كلمة حق عند سلطان جائر ) ، وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (سيد الشهداء حمزة ، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتلـه ) رواهالحاكم ، والضياء في المختارة .
ومعلوم أنَّ الجهاد أفضل متطوع به ، وفي هذا الحديث أن أفضله ، هو كلمة الحقِّ الناقدة لجور الحاكم ،
فهذا نص واضح في أنَّ جهود إصلاح الأنظمة المنحرفة ، بالوسائل المشروعـة المعتبرة ، أفضل الجهاد في سبيل الله تعالى .
وليس في هذا الحـديث ونظائره ، ما يقتضي إسراراً لكلمة النقد ، بل هو بالحضِّ على إعلانها أوضـح ، إذْ ما جُعلت أفضل الجهاد إلاّ من أجل أنّ في الإعلان التعرُّض لبطش الظالم ، وفي ذلك أعظم البذل للجهد ، وارتكاب المشقة في سبيل الله تعالى ، ولأنَّ في الجهـر والإعـلان تخويفُ الحاكم الجائر ، من تشجيع المجاهر بالإنكار لغيره على الإنكار أيضاً ، مما يؤدي إلى ارتداعه عن الظلم ، فهي في الحقيقة وسيلة مؤثرة لكبح جماح السلطة وتقييدها .
وإما الإسرار فليس فيه في الغالب بذل النفس ، لأنـّه ليس مظنّـة الأذى أصـلا ، بل قـد أصبح الإسرار بالنصيحة للسلطة اليوم ، مـن الوسائل السياسية الماكرة التي تُضفي على الظلم شرعية زائفة !
يستحيل تحقيق الدولة العادلة في هذا الزمن بغير رقابة فعّالة على السلطة تقيّدُها وتحمـلها على مقتضى الإصلاح ، والعدل ، فإن تعذّر الإصلاح تغيـّرها.
هذا .. وقد تقـرَّر شرعـا ، وعقـلا ، وواقعـا ، إستحالة أن يؤدِّي نظام الحكم دوره الأساس وهـو الإصلاح ، والعدالة _ لاسيما في هذا العصر _ إلاّ بوسائل الرقابة ، والمحاسبـة ، التي تملك القدرة على الإصلاح الفعلي ، لامجرد البيان القولـي وترك السلطة سادرة في غيِّها ، وجوْرها !
ولهذا فإنَّ تقييد السلطة في الإسلام كما هو فريضة دينية ، هـو أيضا ضرورة اجتماعية ، وذلك انطلاقاً من حقيقتين اثنتين :
الأولـى : أن تولـّي السلطة مع احتكار أدوات القوة ، والقدرة على استعمال العنف بلا قيود ، مدعاة إلى الاستبداد ، ضرورة انقياد الطبيعة البشرية لحبِّ التسلط المركوز فيهـا ، وهذه الطبيعة وإن كانت يمكن معارضتها بالوازع الذاتي ، غير أنـَّه محجوبٌ في طيِّ القلوب ، ولا يمكن ضمانه ، أو ضمان استمراره ،
فضلاً عن أن باب ارتكاب المحظورات بالتأويل مفتاحـه هـو الاستبداد بالرأي ، وهـو ملازم للسلطة المطلقة من القيود ، وهذا الباب قد دخل منه من ظـُنَّ فيه الاستقامة ، والمثاليـّة ، وقوة الوازع الذاتي ، الذي يُفتــرض أن يمنع من سوء استعمال السلطة ، إلى ارتكاب عظائم من التعسُّف في استعمال السلطـة باسم الديـن !
الثانيـة : أنَّ تضخم أجهزة ، وآلات السلطة في العصر الحديث ، وتشعُّبها إلى مختلف أنشطة الحياة ، وتملُّك السلطة إلى جانب أدوات العنف ( الشرطة ، الأمن ، الجيش ، أجهزة الاستخبارات . . إلخ )، أدوات تمكّنها من صناعـة العقول ، وصياغتها ، وكذا خداعها ( الإعلام ، التعليم . . إلخ ).
إضافـة إلى سيطرتها على أدوات التحكُّم في موارد الإنتاج ، ودورة الاقتصاد ، وبالتالي مستوى حياة الأفراد المعيشية ،
يعني منحها قدرة مطلـقة على تحكُّـم كامل في المجتمع ، وإخضاعه بالقوة بشتى أنواع الإخضاع .
ولاريـب أنَّ هذا يعنـي أنَّ ترك السلطة التي هذا شأنها بلا قيود تردعها عن الجـوْر ، يعنـي تعريض الأمـّة لكوارث شاملة تهدِّد وجودها .
وكم من أمم ودول زالت ، ودُمـِّرت ، بسبب الاستبداد وترك السلطة بلا قيود ، مما أغراها بالظلم ، والطغيـان ، حتى حلَّ بسبب ذلك الدمار ، وأدركها وعيد الله تعالى الذي توعّـد به الظالمين ، في آيات كثيرة في القرآن العظيـم .
ومن يقــرأ تاريخ الأمم يلحظ بوضوح تلك النقطة البارزة التي كانت وراء الدمار الهائل الذي أصابها في كثير من الأحيان ، أعنـي استبداد الدولة.
هذا .. ومـن المعلوم أنَّ الإسلام قد جاء بتحصيل المنافع ، والمصالح ، منافع ، ومصالح الناس في دينهم ودنياهم بحسب الاستطاعة ، وإلغاء وتفويـت المضار ، والمفاسد في الدين ، والدنيا ، بحسب الاستطاعة ،
فلا يمكن أن يكون هناك شأن من الشئون ، الناس معــه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، في حال تفرُّدهم ، واجتماعهم ، وإلاّ ويأتي في الإسلام الأمر به ، والحث عليه ،
ولهذا فقـد سبق الفقه الإسلامي جميع النظم الوضعيّة في تقرير هذا المبدأ العظيـم ، مبدأ تقييد السلطة ، ورقابة الشعب للدولة .
مشروعية وسائل الإحتجاج السلمي لتتغيير والإصلاح في الشريعة الإسلامية
ولهــذا نجــد جميع الآلات ، والوسائل ، التي تستخدمها النظم الحديثة لردع السلطة عن الظـلم ، وضمان تحقيقها العدل ، والمصالح ، أي ضمان عدم انحراف الدولة عن مقصودها الأساس ، نجـدها منصوصٌ عليها ، أو مدلول عليها بالأدلة العامة ، أو القواعد الكلية ، أو القياس المضطرد الصحيح في الشريعة الإسلاميـة ، وقد أخـذ بها علماء الإسلام قبل النظم الوضعيّة بقرون .
غير أنَّ الفقه الإسلامي في نصوصه العامة ، ومصادره الأصلية _ في عامّة القضايا المتعلقة بتنظيم الحياة المتغيرة ، والمتطورة _ إنـّما يوجـّه نحو المعاني ، والحقائق العامـّة ، ويحـرّك عوامل التفكـُّر ، والتدبـُّر ، ويدع للإنسان التفريعَ على القواعد ، حتى يمكـن استيعاب المتغيـّر .
ولهذا جاء في القواعد الفقهية : أنَّ الوسائل لها حكم المقاصد ، ليتسنَّى للمسلمين الإستفادة من كـلِّ وسيلة جديدة تحقق مقاصد دينهم ، المنطويـة كلُّها تحت هذا العنوان العظيـم : جلب المصالح ، ودرء المفاسـد .
كما قال الإمام العز بن عبدالسلام رحمه الله : ( واعلم أن الذريعة كما يجب سدُّها ، يجب فتحها ، ويكره ، ويندب ، ويباح ، فإنّ الذريعة هي الوسيلة ، فكما أنّ وسيلة المحرّم محرّمة ، فوسيلة الواجب واجبة ، كالسعي للجمعة والحج ، وموارد الأحكام على قسمين :
مقاصد : وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها
ووسائل : وهي الطرق المفضية إليها ، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم ، أو تحليل ، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد ، أفضل الوسائل ، وإلى أقبح المقاصد ، أقبح الوسائل ) الذخيرة 1/145