عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 10-02-2011, 01:27 PM   #4
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

في مواعظ الملوك


لقد خاب وخسر من كان حظه من الله الدنيا. اعلم أيها الرجل، وكلنا ذلك الرجل، أن عقول الملوك وإن كانت كباراً إلا أنها مستغرقة بكثرة الأشغال فتستدعي من الموعظة ما يتولج على تلك الأفكار، ويتغلغل في مكامن الأسرار، فيرفع تلك الأستار ويفك تلك الأكنة والأقفال، ويصقل ذلك الصدأ والران؛ قال الله تعالى: " قل متاع الدنيا قليل" النساء77.

فوصف الله تعالى جميع متاع الدنيا بأنها متاع قليل. وأنت تعلم أنك ما أوتيت من ذلك القليل إلا قليلاً، ثم ذلك القليل إن تمتعت به ولم تعص الله فيه فهو لهو ولعب وزينة. قال الله تعالى: " اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة" الحديد: 20. ثم قال: " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون" العنكبوت: 64. فلا تبتع أيها العاقل لهواً قليلاً يفنى بحياة الأبد حياة لا تفنى وشباب لا يبلى، كما قال الفضيل رحمه الله تعالى: لو كانت الدنيا ذهب يفنى، وكانت الآخرة خزفاً يبقى، لوجب أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى، فكيف وقد اخترنا خزفاً يفنى على ذهب يبقى? تأمل بعقلك هل آتاك الله تعالى من الدنيا ما آتى سليمان بن داود عليهما السلام، حيث آتاه ملك جميع الدنيا والإنس والجن والطير والوحش والريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ثم زاده الله تعالى ما هو خير منها فقال له تعالى: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب" ص: 39.

فوالله ما عدها نعمة كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل قال عند ذلك: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. وهذا فصل الخطاب لمن تدبره أن يقول له ربه في معرض المنة: " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب". ثم خاف سليمان عليه السلام أن يكون استدراجاً من حيث لا يعلم. هذا وقد قال لك ولسائر أهل الدنيا: " فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون" الحجر: 92و93.

وقال: " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين" الأنبياء:47.

تأمل بعقلك إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء! وألق سمعك إلى ما نزل به جبريل على محمد عليه السلام، فقال: يا محمد، إن الله تعالى يقول لك عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الكلمات من صرعة الموت وفراق الأحبة والجزاء على الأعمال، فلو لم ينزل من السماء غيرها لكانت كافية.


انظر بفهمك إلى ما رواه الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمنزل قوم قد ارتحلوا عنه، وإذا طلى مطروح فقال: أترون هذا هان على أهله? فقالوا: من هوانه عليهم ألقوه. قال: فو الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذا على أهله. فجعل الدنيا أهون على الله من الجيفة المطروحة.


وقال أبو هريرة: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أريك الدنيا جمعاً بما فيها? قلت: بلى. قال، فأخذ بيدي وأتى بي إلى واد من أودية المدينة، فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم، ثم قال: يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم، ثم هي اليوم تساقط جلداً بلا عظم ثم هي صائرة رماداً رمدداً، وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها وقذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية رياشهم ولباسهم ثم أصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكياً على الدنيا فليبك! فما برحنا حتى أشتد بكاؤنا.

وقال ابن عمر: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى. أيها الرجل، إن كنت لا تدري متى يفاجئك الأجل فلا تغتر بطول الأمل، فإنه يقسي القلب ويفسد العمل، وقد غير الله أقواماً مد لهم في الأجل فقست منهم القلوب، وطال منهم الأمل، فقال:


" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" الحديد:16.
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنـت

ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بهـا

وعند صفو الليالي يحدثالكدر
يا أيها الرجل ألق سمعك وأعرني لبك.
فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن

بأنك لا تبقى إلـى آخـرالـدهـر

أين آدم أبو الأولين والآخرين? أين نوح شيخ المرسلين? أين إدريس رفيع رب العالمين? أين إبراهيم خليل الرحمن الرحيم? أين موسى الكليم من بين سائر النبيين والمرسلين? أين عيسى روح الله وكلمته رأس الزاهدين وإمام السائحين? أين محمد خاتم النبيين? أين أصحابه الأبرار المنتخبون? أين الأمم الماضية? أين الملوك السالفة? أين القرون الخالية? أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان? أين الذين اعتزوا بالأجناد والسلطان? أين أصحاب السطوة والولايات? أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات? أين الذين قادوا الجيوش والعساكر? أين الذين عمروا القصور والدساكر? أين الذين أعطوا النصر في مواطن الحروب والمواقف? أين الذين اقتحموا المخاطر والمخاوف? أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب? أين الذين تمتعوا في اللذات والمآرب? أين الذين تاهوا على الخلائق كبراً وعتياً? أين الذين استلانوا الملابس أثاثاً ورئياً?

" وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً?" مريم: 74. أين الذين ملأوا ما بين الخافقين عزاً? أين الذين فرشوا القصور خزاً وقزاً? أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وهزاً? أين الذين استذلوا العباد قهراً ولزاً? " هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً?" مريم: 98

ـــــــــــ
من كتاب سراج الملوك/ للطرطوشي
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس