الموضوع: *وداعاً أبي*
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 12-06-2010, 10:30 AM   #10
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

وتأتي مرة أخرى حالة المقابلة لتعيد الموقف إلى صورته المأساوية المتمثلة في هذه المفارقة والتي فيها يمسح الشاعر أحزانه بالمنديل ولكنه يفلسف هذا الموقف على أن موت أبيه كان مسحة لدموع الفرح التي عاشها من قبل ، فكأن الشاعر هو حيّ بين دموعين دموع فرح ودموع حزن وإذا كانت المقابلة مراد منها إبراز حالة التناقض في الموقف لكل من الوالد والولد ، وهذا الحزن الذي يظهر في مسح أبيه دموع فرحه هو مستمر لذلك استخدم له الشاعرأداة تعبر عن الاستمرارية من خلال ما زلت تمسح بينما أن دموعه مُسِحت لكن مسحها انتهى لتعود من خلال الفعل ما زلت ،وتحضر الشاعر رمزية مميزة في المنديل المقطع والذي هو يتوازى في دلالة يقصد بها قلب الشاعر.ولعل الشاعر يستعيد ماضيه حينما كان حيًا والده والذي كان لا يطيق سماع صوت طفل من أحفاده يلعبون من حوله ولكن الحياء يعاود الشاعر مرة أخرى فلا يعطي والده صورة موازية لصوت الحطام وكأنه يقول له لقد حاولت أن أزرع السعادة فوق الحطام ولكن موتك هو الذي زرع الشوك ولكن التأدب يبلغ من الشاعر مبلغه حتى لا يقول شيئًا من ذلك، وهذه الموازاة بينهما هي أداة تعبر عن اختلال الشاعر حتى أنه برحيل والده يصور الرحيل وكأنه شيء متعمد عقابًا له. وهي عادة كثيرًا ما يلجأ إليها الشعراء من أجل بث مواجدهم الحائرة ، كأنه عتاب شفيف هادئ لهذا الراحل على أن تركه وهي فكرة من الضروري أخذها بالحذر حتى لا يقلب الشاعر هذه المعاني الجميلة ويوهم القارئ بعكس ما أراد.
وتنفجر هذه الأحزان بشدة من خلال إعطاء الأشياء سمات البشر (التشخيص) في فرحة الجراح عندما تتوارى ولكنها مرة أخرى تعاود الظهور ليسأل السؤال الاستنكاري : أيعجبك الجرح إن صار يلمع ؟ كأن ثمة أحزانًا قبل الموت غطى عليها وجوده لكن عرّاها هذا الغياب . إلا أنني أشعر أن ثمة خطـًأ وقع الشاعر فيه عندما صور الجراح بالمختفية تحت الغبار وشبهها بحاله ، فالجرح عندما يغبّر فإنه يصير أكثر دمامة في الشكل والماء وإن عمل على تلميع الجرح حينًا وظهوره إلا أنه بعد ذلك يطهره لهذا كان التشبيه مأخذًا على الشاعر من حيث ارتباطه بالموقف النفسي.
وهذه السخرية تأتي -قبل الوداع -لتشعِر القارئ بأزمة هذا الموقف من خلال الرؤية التي بثها والتي صوّر فيها مدى محاولته التحايل على الجرح وتكذيبها وإقناع نفسه بأمل وتفاؤل سرعان ما اتضح له أنهما في غير المكان الصحيح من خلال :"أقول لجرحي أنك مبضع" لعل الجرح يكون شفاء له آخر جرح له وبالتالي يكون كالمبضع الذي شُفِي َبه آخر الجراح .
إلا أن الصورة تزداد قتامة عندما يكون الزمان في غير صف الشاعر ويخبره بسخرية "سلام على الجرح إن تاه مبضع!!" فكأن الزمان هو الآخر واقف ضد هذا الشاعر وكأن أمله كان مجرد لحظة خدعه فيها الأمل وسرعان ما تكشّف له أن هذا الجرح جرح حقيقي ولن يندمل لا سيما وقد "ضاع مبضع" وهو ما يعبر عن حالة أسوأ من التي كان الشاعر يظنها ،فلم يكن فقط جرحًا وإنما جرح لا مبضع له.وهو ختام عبقري لهذه الشطرة التي أفقدت الشاعر كل الآمال الممكنة ليدخل من بعدها إلى صفحة الوداع الصريح بكلمة "وداعًا". ووجود حرف الضاد مرتين والعين كذلك وهما حرفان صعب النطق بهما أضاف إلى القصيدة جانبًا صوتيًا مشعرًا بالحزن والضياع والكبت المتولد عن قافية العين والمعاناة في إخراجه .
***
ولا يكون أمام الشاعر بعد هذه الموجة من الصور والأحاسيس الحزينة القوية الصادقة إلا أن يقول وداعًا وهو بعد ذلك يفاجئ القارئ بأنه ينقض ما كان بانيه كما يُنقض بناء هذا الأب الراحل بالموت ، وذلك من خلال نفي التهمة عنه والتي كانت مبثوثة في ثنايا الأسطر السابقة ، لينفي عنه هذه التهمة ويعبر عن تقلباته هو ويفتح صورة منها ثم يعود إلى أدراج صوابه حينما لا يكتفي فقط بتبرئة والده وإنما بامتداحه مهديًا إليه طاقة ورود على قبره من خلال "لا يلام الرحيق إذا الورد ودع" فالأب هو ذلك الورد الذي ضاع الرحيق منه ،لهذا يعود إلى تبرئته معبرًا عن استسلامه للواقع وتدرجه من صورة المحمل إياه مسؤلية حزنه إلى المشفق عليه والمدافع عنه إلى آخر لحظة من خلال السطر الأخير والذي -قبله- حرر كل شيء من ارتباطه بأبيه ليصبح هو وحده في حضرة المقبرة التي يراها بعين قلبه ويتدرج من النفي للتهمة عنه من خلال البيت "لا يلام الرحيق"إلى تحمل المسؤليه بنفسه"أضمد جرحي بنفسي" وأخيرًا انتهاء بدفاعه عنه من خلال مداراته عن أعين الحزن الذي كان يتخطفه من قبل من خلال السطر الأخير"وإن سأل الحزن عنك سأخفي.." بل وفي النهاية يستميت في ترجي الحزن مفارقته بهذه القبلة الحانية"دع أبي يتمتع" ليكون التمتع هو الخاتمة التي تمناها وألح على استدعائه لها.وكأن الحزن هو ذلك المخبر الذي يحاول طرق الأبواب لإخراجه بالقوة ليقف هو أمامه ويقول دع أبي يتمتع ، لعلها آخر ما يواسي الشاعر به نفسه ، فهذا المصير المحتوم الذي يرجى أن يكون جنات خلد هو ما يصبّر الشاعر في مواجهة الحزن ليعطي هنالك توازنًا في الحالة ، ويظل التمتع الغاية المنشودة. وفي هذه الشطرة الأخيرة رقة في التعبير وإنسانية في الصياغة والتي يستدعي القارئ في ذهنه صورة الوالد الراحل مسجى بالفراش وكأن الشاعر يربت عليه ويطبع آخر قبلة ليبقى في آخر مراحله في الدنيا آمنًا مطمئنًا بإذن الله .
العمل في تقييم أروع من أن أصفه وهو عمل يتسم بالعمومية لكل زمان ومكان وحالة (على بعض الاختلافات في بعض الجوانب الدينية) ويبقى الرحيل هو ذلك الحبر الذي يغذي كل قلم لإنتاج أروع ما يمكن أن يكتب وتظل إنسانية الحالة كأنها القبر يقف عليها الواحد - أي إنسان- ليجد العبرات تنساب منه تلقائيًا ، لأنه في النهاية -قبل وبعد كل شيء- فراق كان عنوانه الإنسان. عمل رائع وأشكرك على هذا التناول العبقري والذي جعلني وشيك البكاء ، وهكذا الشعر ..(ما أشعرك)


__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس