عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 02-03-2010, 02:29 PM   #2
transcendant
كاتب مغوار
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2008
الإقامة: الجزائر DZ
المشاركات: 2,785
إفتراضي

لا تكلف الشعوب إلا وسعها
وقد نكون أكثر حاجة لدراسات تبادر إليها نخبنا الأكاديمية، تبدأ باستكشاف مقدار ما هو متاح اليوم لشعوبنا ودولنا من مقدرات، وتفعيل المبدأ التقييمي القرآني في الحكم على المكلفين حسب ما أوتوا من سعة، مصداقا للآية الكريمة: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”؛ ذلك أن الدول والشعوب، ككيانات مسئولة، لا يمكن أن تحاسب إلا بمقدار ما توفر لها من سعة وطاقة، ومؤهلات في لحظة زمنية ما من تاريخها. فليس من العدل أن نحكم على شعب أو أمة مثل العالم العربي، أنفق الخمسين سنة الماضية في استكمال الانعتاق من الاستعمار الغربي، ومن وصايات متعددة، وخضع مع ميلاده العسير لحروب استنزاف كثيرة مازالت متواصلة، ولأعمال نهب منظم لثرواته وموارده المادية والبشرية، ليس من العدل أن نخضعه لنفس المقاييس التي نحكم بها على مجتمعات ودول نعمت بالاستقرار والسيادة المطلقة على القرار، والعيش على ثروات الشعوب الأخرى، كما هو حال الكثير من الدول الغربية، لكن بوسعنا أن نحاسب شعوب ودول العالم العربي وفق مبدأ “لا تكلف نفس إلا وسعها” فماذا كان بوسع شعوب ودول العالم العربي، بما بين يديها من موارد ومقدرات ومؤهلات طبيعية وثقافية وفكرية لتحقيق العودة إلى الواجهة، وتقاعست عن تفعيلها؟

الآفات السبع لولادة متعثرة
لقد خرج العالم العربي من حقبة الاستعمار، وتفكك الوصاية العثمانية، بجغرافية استعاد منها الجزء الأكبر والأغنى من الجغرافية التي وصلتها أقدام السلف من الفاتحين، وهي جغرافية تحتل قلب العالم، وتتحكم في أهم معابره المائية وتختزن اليوم ثلثي الاحتياطي العالمي من الطاقة الأحفورية، وتشكل اليوم أفضل فضاء لإنتاج الطاقات البديلة الشمسية وطاقة الرياح، فضلا عن موارد طبيعية كثيرة لم تخضع بعد للاستكشاف.
وعلى مستوى الموارد البشرية، ورث من الحقبة السابقة كتلة بشرية معتبرة متجانسة، حافظ لها الإسلام على أهم مقومات الأمة: من لغة وثقافة وتاريخ مشترك، صمدت أمام عمليات المسخ الاستعماري التي فعلت فعلتها في أمم وشعوب كثيرة، غير أنه ورث في الوقت نفسه حالة انقطاع فظيع مع العلم والمعرفة، لم تكن لتسمح له بتحقيق العودة السريعة، أو النبوغ كما فعل أسلافه مع الفتح الإسلامي.
وعلى مستوى مؤسسات الحكم وإدارة الشأن العام، حددت نشأته القطرية المسخ، وسكاكين “سيكس بيكو” حددت من خياراته، ما بين سلفية سياسية انتكست ببعض أقطاره إلى نظم حكم عشائرية مستنسخة من حقبة ما قبل الفتح الإسلامي، أو استنساخ غبي لمؤسسات الدولة القطرية الغربية من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هي على الدوام مهددة بطغيان العنصر العسكري، وتحقيق التداول على السلطة بالقوة.

أمة عريقة تبحث عن مشروع ودولة
على هذا النحو، وبهذه المواصفات، ولد العالم العربي من جديد منذ خمسة أو ستة عقود على الأكثر، وهي فترة كانت كافية لدول وشعوب تعرضت لعملية تخريب شامل مثلما حصل للألمان واليابانيين، واستطاعوا خلالها تحقيق إعادة البناء، لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى بذل جهد فكري وثقافي لإعادة ابتكار الدولة ومؤسسات الحكم، كما كان العرب ومازالوا بحاجة إلى بذل جهد خاص لابتكار الدولة من صميم ميراثهم الثقافي. وإذا كانت الحرب قد خربت العمران المادي في ألمانيا واليابان، وقتلت الملايين من العامة، فإن النخبة المتعلمة القائدة في السياسة والاقتصاد والحقول الأكاديمية، التي اعتمد عليها الرايخ الثاني والإمبراطورية اليابانية، هي التي أعادت بناء الدولتين، ونفس المؤسسات العملاقة التي أنتجت الآلة العسكرية الألمانية الرهيبة، مثل كروب وديملر وبورش وغيرها، هي التي أعيد هيكلتها لبناء ألمانيا الجديدة. وقد عملت المؤسسات التعليمية في البلدين بنفس المقرر، باستثناء ما أملته قوات الاحتلال من دول التحالف في مجال اجتثاث الفكر النازي والفاشي.
وبالعودة إلى العالم العربي، وإلى مقياس الحكم على الشعوب والدول بما عندها من سعة، فإن ما عند العرب من سعة حتى اليوم لا يسمح لها بتفعيل المقومات الهائلة المادية والبشرية، إلا بتركيز الجهد على ثلاثة أمور:
الأول: أن تحسم مسبقا خياراتها بشأن الموقع الذي تريد أن تحتله بين الأمم في العقود القادمة، وتصوغ لنفسها مشروعا قوميا، يتجاوز بالضرورة جغرافية الأقطار الموروثة عن تقسيم سايكس بيكو، وأن يكون خيارها متناغما مع سعتها، ومع ما توفره موازين القوة من ساحات ممكنة للتنافس. ويكفيها أن تقتنع أنه لن تكون قادرة على منافسة الغرب على الأقل في زمن منظور، لا في صناعاته المتقدمة ذات التقنية العالية، ولا في حقل الخدمات، أو منافسة القوى الأسيوية الصاعدة، مثل الصين والهند، في إنتاج البضائع والمنتجات الصناعية الاستهلاكية، لكنها تمتلك مقومات حقيقية لكي تحول صحاريها القاحلة إلى مصدر هائل لإنتاج الطاقات البديلة التي يحتاج إليها العالم، بعد أن ينضب النفط والغاز، وتفتح معها آفاقا واسعة لمعالجة أزمة المياه القادمة، والدخول بقوة في منافسة عالمية قادمة سوف تكون الفلاحة وإنتاج الغذاء من أبرز ساحاته.
الثاني: مراجعة شاملة لمفهوم الدولة، والبحث عن صيغ عصرية لدولة مدنية محررة من القيود العقائدية كيفما كانت، تعمل بمؤسسات مرنة خاضعة للقانون، ولقضاء مستقل، يتحقق فيها التداول السلمي على السلطة في جميع مفاصلها ومستوياتها، ولا ينحرف فيها التنافس على السلطة عن مسار التحقيق الكامل لمفردات المشروع القومي.
تعليم متميز لتخريج القادة المتميزين
الثالث: حسم الموقف من منظومة التعليم، بالتوجه إلى منظومة تعليمية قادرة على تخريج نخبة مميزة من القادة في السياسة والإدارة والاقتصاد، وصفوة من الأكاديميين والعلماء والمهندسين والتقنيين الذين يحتاجهم المشروع القومي، وهذا يعني الانتقال من خيار منظومة تعتمد على الكم، إلى منظومة تحرص في جميع مراحلها على النوعية والتميّز، على الأقل في الميادين العلمية التي تخدم المشروع القومي.
وقتها يحق لنا ولغيرنا إخضاع واقع العالم العربي لتقييم موضوعي يحاسبه على ما بين يديه من سعة، ومن استعداد فطري ومكتسب لتفعيل مقدراته، أو نساير من يصفه اليوم برجل العالم المريض الفاقد للثقة في النفس الذي لا ينفع معه علاج، ولا يرجى منه خير.
__________________


transcendant غير متصل   الرد مع إقتباس