الموضوع: *وداعاً أبي*
عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 28-12-2009, 09:32 PM   #3
المشرقي الإسلامي
أحمد محمد راشد
 
الصورة الرمزية لـ المشرقي الإسلامي
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 3,832
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
أختي العزيزة أهلاً بك ويا لأجمل ما أتيت به رغم قسوته ..إن الألم قد يتعتق فيصير شجنًا ، وما أجمل أن يستحيل الحزن أداة لحفز القدرة الإبداعية لدى المبدع! وكأن المبدع يقول إن أقسى ما أشعر به نشوة النجاح بقصيدة كتلك ،فلتأخذوا كل ما خطت أقلامي مقابل لحظات أو لُحَيظات كنت أعيشها مع أبي.
القصيدة تتسم بحس إنساني راق للغاية ، وهي إلى ذلك تتسم بالشمولية والعمومية لأي دين أو جنس أو عرقية ولكل زمان ومكان .وعدم وجود اسم الأب في القصيدة يجعل المتلقي يشعر أن هذا الأب هو أب كل الناس ،وأنه حالة يشعر بها كلما وجد أبًا وأبناء يلعبون أو يضحكون .
كان استخدام عناصر الطبيعة كالغيث والخضرة وكذلك الاتكاء على لحظة بعينها وهي وهن العظام قبل اكتمال النمو جوانب فاعلة في إضفاء حالة من الجمال على القصيدة ، ليغدو الأب في كل شيء موجودًا سواء في أمطار الربيع وصحراء الصيف ، ورقة العظام . كذلك يستحيل الجوع معنى غير المعنى المعتاد فلا يصبح جوعًا ماديًا وإنما عاطفة متقدة .إنها اللحظة الجميلة التي يداعب الأب فيها ابنه بوضع أصابعه قرب فمه أو خده مداعبًا له ليفرحه ،فكأن هذا هو جل ما يتمناه من الدنيا .
ونأتي إلى هذه اللقطة الشاعرية الأكثر توهجًا :
وأستعطف البدر في ليل وجهك
عله يسطع
حين تكون تعبيرًا عن اللحظة الأخيرة والتي ينظر فيها إلى وجه والده وقد خبا نوره ، ولم يعد له من الدنيا أي أنفاس .كأن النفس هو النور الذي يضيء هذه الحياة .وهنا يكون في هذا الشطر حالة من الاتساق الحركي بين الضوء والتنفس لنصبح أمام صورة فريدة لهذا الميت تلك الصورة الفانتازية والتي هي أقرب إلى شكل الحلم إذ يظل الطفل في وجه والده فيشعر بالدنيا قد أنارت ولكن لما ينظر إليها مرة أخرى يرى الضوء قد خبا . تشبيه الوجه بالسماء والقمر أضافا لهذه القطعة وهجًا خاصًا .
وهذه الجزئية قريبة للغاية من الصورة السينيمائية إذ تكون صورة انطفاء الضوء إيذانًا ضمنيًا بوفاة البطل .

وداعاً أبي

لا يلام الرحيق إذا الورد ودع
ودعّني أضمد جرحي بنفسي
وأنفض عني غبار التمني
تأتي كلمة وداعًا أبي مرة أخرى لتعيد الحالة الشجية إلى نقطتها الأولى وليصير الحزن حالة دائرية كلما أحس الشاعر بأنه حاد عنها بالذكرى وجدها تعود إليه صارخة مرة أخرى (وداعًا أبي) وإذ تتكرر اللفظة تأخذ الحالة تصاعدًا في الأسى.وتتسم الرؤية بالعبقرية في السطر :لا يلام الرحيق إذا الورد ودع . هذه الرؤية التي تعكس تعاطفًا مع الراحل وتأكيدًا على إتمامه دوره على أكمل وجه .
فالحياة هي الرحيق والورد هو الوالد ، وبعد كلمة الوداع تصبح حالة التمني حالة مغبّرة ولا تعود كما كانت ورودًا ورحيقًا ، وكذلك العمر .
ولا أعرف دلالة كلمة وأعتق ابني ولا الظرف المحيط بها ، لكن تستمر الحالة الشجية إلى أن تصل إلى نهاية أسيفة تتسم بالقدرة على تطويع الكلمات وأنسنة كل ما يحيط بالإنسان ، فيغدو الحزن إنسانًا يسأل ،وكأن الحزن قد صار شيئًا اعتياديًا كأنه إنسان بالضبط .وكذلك الليل .
ولعل الذكريات الجميلة وتوحد الابن في شخص أبيه يأخذ هذه الصورة الإنسانية إلى أعماق المتلقي:


وإن سأل الليل عني فقل:
لست أدري
وإن سأل الحزن عنك سأخفي

وأقول له :
دع أبي يتمتع
ليصبح الليل والحزن معنى واحدًا كلاهما يفرق الأب عن ابنه وكأن الحزن يحاول ملاحقة الأب ليؤدي الابن واجبه في الدفاع عن والده وحمايته من هذا الحزن بقوله دع أبي يتمتع.
إن هناك ثراء واسعًا وراء هذا التعبير الأخير ،إذ بعد الموت جنة بإذن الله هي التي تمنع هذا الحزن من الوصول إليه ولعل هذا التمتع أتاه من عمل صالح قام به أو غير ذلك.
وكذلك يُحتمل المعنى التقليدي وهو الذي يفترض أن الموت نهاية كل مصيبة (على ما فيه من محاذير دينية لأن ليس كل ميت مرحومًا ) ولكن يكون الجزء الظاهري من الحزن -على الأقل- قد رحل ،ولتصبح كل ما يتعلق بما وراء ذلك في علم الغيب .
سلم نقلك وشكرًا لك على جمال ما زيّنت به خيمتنا، ولك منا أحر الشكر والامتنان.
__________________
هذا هو رأيي الشخصي المتواضع وسبحان من تفرد بالكمال

***
تهانينا للأحرار أحفاد المختار




المشرقي الإسلامي غير متصل   الرد مع إقتباس