عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 20-12-2009, 08:40 PM   #48
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
Angry


9


مستلقيا على ظهري أنظر إلى السقف الذي تعشش في زواياه عناكب كثيرة نسجت خيوط بيوتها آمنة مطمئنة . صارت لي صديقة و جارة . أحيانا أصطاد لها الذباب , أمسكها من جناحها أقربها بحذر شديد من الخيوط . الفخ ما إن تعلق حتى تتقدم نحوها الحشرة الغريبة تلفها و تلفها بإتقان و براعة بخيوطها الدقيقة إلى أن تشل حركتها . تذكرت الحكاية التي قرأتها عن هذا المخلوق . لا أدري مدى صحتها و التي تقول أن الأنثى تظل كالأميرة بعد زواجها لا تفعل شيئا سوى التهام ما يصطاده الذكر. ينتفخ بطنها تضع الصغار ثم تطردهم من العش مباشرة بعد الوضع
و حين تغلظ و تسمن تلتهم بعلها المسكين. الذي يتوقف دوره وحياته معا نعم الإخلاص والوفاء والجميل. تسمرت طويلا خلال ليالي السهاد و الأرق أرقب الأعشاش علي أحظى بهذا المشهد الغريب .
سمرت نظري على الخيوط الدقيقة و سرحت بعيدا . أسترجع الذكريات الأثيرة بمرارتها . حين تركوني - مؤقتا - أول مرة . صارت المدينة بشوارعها و على اتساعها . تضيق علي ... تضيق ....حتى كنت أحسها أضيق من زنزانة السرداب السيء الذكر و الذكرى . تغيرت ملامح الأمكنة و كأنني غبت عنها قرنا من الزمن.
لن أنسى تلك اللحظة و ذاك الشعور الذي انتابني , حين نزعوا العصابة عن عيني و رموني في طريق متفرع عن" الأتوروت " الطريق السيار
بمدخل المدينة الصاخبة . أمروني أن أمشي و أن لا ألتفت خلفي و إلا أعادوني . لم ألتفت و مع ذلك عدت . من هول الصدمة , لم أعرف أول الأمر أين أنا , عاملات الحي الصناعي تسرعن الخطى بسحنات علتها علامات الإرهاق و البؤس , وجوه صفراء تعاني فقر دم تحالف على مصه أخطبوط الباطرونات من أصحاب البطون المنتفخة بعرق الناس. و سوء التغدية و غول العنوسة . أصابني الدوار كخارج من منجم أو راكب بحر لأول مرة (اللي داخ يشد الارض). طبقت المثل الشعبي فورا وحرفيا وضعت مؤخرتي على حجر ناتئ .أتفرس الوجوه كأبله ضائع أو قادم من كوكب آخر.
لا أدري تحديدا أي المشاعر تلك التي كنت أجد آنذاك. رغبات جامحة اجتاحتني دفعة واحدة. البكاء...الفرح...الصراخ...الركض!!!هذه الأخيرة - الرغبة في الركض – لا زلت أحسها ليومي هذا , لم أجد لها أي تفسير . سألني صاحب سجن و رفيق محنة يوما و نحن نحلم بيوم الفرج . و ما أكثر أحلامنا هنا . عن أول شيء سأفعله إن كتب لي الخروج حيا من المقبرة. أجبته دون تفكير أو تردد : سأجري!!!استغرب ردي و رغبتي تلك...نعم سأجري , أجري في غابة خالية أو شاطئ فسيح ...سأركض...سأركض إلى أن أسقط. يغمى علي أو يتوقف قلبي عن النبض. ساحة السجن الصغيرة لم تكبح هذه الرغبة المجنونة التي تتملكني و تسكنني رغم محاولاتي المتكررة . ساعة من العدو و هي أقصى مدة بلغتها خلال محاولاتي , أظل أدور فيها كحمار مغمض العينين يجر رحى عتيقة . لم تقمع هذا الشيء الغريب الذي أجده في داخلي. تخنقني الأسوار العالية و تجثم على صدري " كبوغطاط " الذي ألف زياراتي كل ليلة تقريبا . فظيع أن يلازمك هذا المارد في صحوك و نومك. قرأت يوما لا أذكر أين, أن العرب تسميه الجثامة. صدقوا ...أصارع الأرق و السهاد رغم حفنة العقاقير المختلفة الألوان التي لم يعد لها مفعول أو تأثير . و ما إن تأخذني سنة من نوم حتى يجثم الخبيث على صدري و عنقي , أحاول الصراخ و طلب النجدة دون جدوى ,,, أحاول تحريك أطرافي دون جدوى ...يشل حركتي . خمنت يوما أن "كابيلا" الشرير قد يكون أحد نسله الذي لا ينقطع ... خنقني يوما بيديه الضخمتين حتى انقطعت أنفاسي و غبت عن الوعي إلى أن أيقظتني صفعاته القوية و رجع صدى صوته المدوي.
استعدت بعض توازني ...آلمني نتوء الحجر تحتي ...ترجلت من جديد ...و كأن العالم قد وارى ذكورة التراب ... لو فعلها فلربما سيكون الوضع أفضل ََ!! ألقيت التحية على فتاتين لا أدري كيف انتقيتهما من بين هذا الخضم الزاخر من بنات حواء من مختلف الأعمار و الألوان...زادت خطواتهما سرعة بعد أن ردت علي أكثرهما جرأة و ذمامة: "الله يسهل أخويا...".
تمنيت لو تنشق الأرض حينها و تبتلعني. ألهذه الدرجة صار منظري بشعا يحاكي المتسولين الذين صاروا يزاحمون الناس في كل مكان؟؟ قصدت أقرب سيارة مركونة بباب شركة نسيج محاولا استعمال زجاج نافذتها الجانبية على يمين مقعد السائق كمرآة تعكسني عليها .لم أتبين شكلي كما رغبت . أهتز قلبي فجأة ,و تراجعت خوفا . قد يمسك أحدهم بتلابيبي ويتهمني بمحاولة سرقة محتويات السيارة, ثم أجد نفسي خلف القضبان مع قطاع الطرق و تجار المخدرات و مغتصبي براءة الطفولة. من يستمع إلي أو يصدق مبرراتي . الأفكار السوداء و الخوف صار يتملكني. أصبحت مذ ولجت القبو أعيش الرعب من المجهول , كالشاب البدوي من ضواحي مدينة خريبكة الذي جاورني يوما على حافلة قادمة من طنجة . قال لي و نحن نتحدث عن الوطن و الغربة كلاما لن أنساه بدالي حينها مبالغة . حدثني أنه منذ أن تطأ قدماه الوطن وهو خائف مرعوب و أن رهبته لا تزول حتى يصعد السفينة عائدا إلى ايطاليا حيث يقيم. ظننته يهرب المخدرات, فلخص أسباب خوفه في كلمات يتيمة : أخاف من الباطل !!!
في هذه البلاد ساهل باش يرميو عليك الباطل...
عشت تلك الشهور التي تركوني فيها في رعب ووسواس فظيع. أهم بفعل الشيء ثم أتراجع عنه فورا. أقصد المسجد للصلاة . ما أن أنزع نعلي حتى أنتعله وأعود للصلاة في البيت.أقرر زيارة أختي التي تلح علي في ذلك أشد الإلحاح بل وتستحلفني مرارا. أقطع نصف المسافة الموصلة إلى بيتها أو أكثر ثم أجدني قد نزلت من الحافلة عائدا من حيت أتيت. قد يصنعون لزوجها سيناريو يربطونه بي ويلقون به في القبو حيث كابيلا البشع والخرقة الرهيبة ( الشيفون) واطيارة وأشياء أخرى...ييتمون أبناءه وهو حي يرزق وأكون أنا السبب في ذلك. ألم يسألوني عنه وعن أسماء أبنائه وأعمارهم ومدارسهم؟؟؟هكذا يوحي لي ويحدثني شيء ما بداخلي وأنا في الطريق إليها فأعود فورا. ربما كنت محقا فحين ولجت السجن عرفت الكثيرين ممن لا ذنب ولا جريمة لهم سوى ( جريمة ) القرابة الدموية التي تجمعهم ببعض السجناء. أحدهم كان شابا جيء به من دولة أوربية لم يكن يكلم أحدا إلا ناذرا حاكموه بعشرين سنة لأنه فقط خرج من رحم واحدة مع شقيقه الذي اعتبروه عنصرا خطيرا فكانت النكاية فيه بهذه الوسيلة وغير هذا الكثير.الكثير...
كانت دبابيسهم تلاحقني منذ خرجت وتكاد تنغرز في خاصرتي, تزيد من خوفي ووساوسي. حتى شككت في كل من يحيط بي, في نفسي, وأهل بيتي ومعارفي, والعالم أجمع. قررت الإعتزال والإعتكاف في البيت منذ اليوم الذي هرب مني فيه ط كنت حينها أبحث عمن بقي من أصدقاء كغريق يلتمس حبل نجاة في ظلمة حالكة. لم يزرني أحد بعد الإفراج (المؤقت). ما أن لمحني قادما في اتجاهه حتى التف عبر أول زقاق عن يمينه مغيرا الشارع الذي جمعني به ومتظاهرا بعدم رؤيتي. عرفت حينها سبب ارتباك والدته التي قابلتني ببرود وارتباك غير معتاد صباح نفس اليوم الذي طرقت فيه الباب سائلا عنه. تلعثمت وهي تخبرني أنه لن يعود من سفره إلى البادية قبل شهر. وفي المساء لمحته!!! رغم ذلك حاولت أن ألتمس له ولأمه ولغيرهما الأعذار. الخوف والهلع أكل الأكباد هذه الأيام.لم يكن - ط - هو الأول ولا الأخير.-أ س- كان أكثر منه جرأة ووضوحا. أول ما زرته في محله التجاري. أحسست انزعاجه وتحرجه من تلك الزيارة الخاطفة.اضطرب وتغير لونه. قال لي وهو يحاول استجماع ما يمتلك من جرأة وشجاعة للتخلص مني بأدب:
" اسمع يا أخي سأكلمك بصراحة. سأتدبر لك مبلغا من المال تترك به وتزور طبيبا نفسيا, بلغني أنك تعاني, أعرف واحدا متخصصا في شارع ادريس الأول هذا عنوانه لا تتأخر في زيارته, سأرسل لك المبلغ إلى البيت مع الوالدة حين تمر علي للتسوق. أرجوك لا تخبر أحدا بهذا ولا تسيء بي الظن...فأنت تعلم الوقت خايبه, وأنت مراقب...وأنا غارق في الديون...و...و...وكلاما آخر لم أعد أذكره.
صرت كالمجذوم أو المكلوب, يفر منه الناس. ويعتبرون هروبهم منه هو صك برائتهم. زادت غربتي وتفاقمت...أشجعهم كان يسلم علي ويهنئني على العودة وهو يتلفت يمنة ويسرة كلص, ثم يذوب متظاهرا بكثرة المشاغل. أطفال الجيران وحدهم, ظلوا على وفائهم. ما أن أطل من رأس الزقاق حتى يركضون نحوي ببراءة طفولية غير مبالين بما يجري في هذا العالم الأحمق. أركل معهم الكرة. وأحكي لهم نكثة أو لغزا يناسب مستواهم وعقولهم. كانوا أذكى مما كنت أعتقد. بدورهم لاحظوا تغيري ولمسوه.
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس