عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 03-12-2009, 03:06 PM   #6
أوان النصر
عضو فعّال
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2007
الإقامة: عدن أبين
المشاركات: 397
إفتراضي

كنت أحس بألم عميق وأنا أرى أختي تخرج كل صباح للعمل فيما أنا لم أجد ما أعمله. في الأخير اهتديت لفكرة العربة المدفوعة. صنعتها بيدي وتوكلت على الله, أبيع العصير البارد متجولا طيلة اليوم, وفي الليل أركنها عند رأس الزقاق.

أبيع سمك السردين الرخيص مقليا وما بقي من عصير النهار ( أكلة خفيفة) تغير لوني وشكلي. لفحت حرارة الصيف وجهي فمال لوني للسمرة وازداد جسدي ظمورا.

رغم كل هذا فقد كنت أحس بسعادة بالغة وأنا أمد الوالدة مساهما في مصروف البيت,وأسمع دعائها لي بالرضى والبركة والتيسير .

بدأت أخرج من قوقعتي وتلعثمي. ثم شرعوا في الظهور . كانوا يحرضون السكارى والمنحرفين لافتعال المشاكل والمشاجرات معي ليلا.

فكنت أكبح جماح غضبي وأهدأ أعصابي التي تغلي وتفور رغم الضربات العنيفة التي تتلقاها عربتي المجرورة ومحاولات قلبها المستمرة.

مرة , التقيت أحد أولئك المغرر بهم في حمام الحي الشعبي. ما أن لمحني حتى سارع إلى إلى معانقتي بحرارة والاعتذار بشتى الأعذار, حدثني وهو يساعدني في حك ظهري وهي عادة تضامنية اجتماعية تعرفها الحمامات الشعبية. أنهم استغلوا إدمانه , اشتروا له قارورة خمر رخيص وبضع حبات (قرقوبي) مهلوسة وأغروه بكسر عربتي ومنعي من عرض تجارتي في رأس الدرب .

وليبرهن لي على صدق توبته وندمه على ما اقترف في حقي ووبخته عليه أسرته حينها أشد التوبيخ كما قال. فقد أسر لي بلائحة طويلة من عملائهم وعيونهم في الحي ممن يترددون على مكتب الحاج ويتردد عليهم باستمرار.

صعقت!! منهم من لا يتخلف عن حضور الصف الأول في الصلوات الخمس . الجزار, الخضار , الإسكافي ,صاحب الفرن, البقال , جارتكم فلانة, بنت الحاج فلان ...لائحة طويلة من (المتطوعين) الذين لا ينتظرون جزاءا على خدمتهم ولا شكورا .

لطفك يارب ورحماك... عالم مهووس...عالم ملغوم...عالم مجنون...
بعد أيام من الكد والتعب(وقف علي) قائد مقاطعة الحي وكوكبة من المخازنية (رجال القوات المساعدة) بلباسهم الكاكي الباهت.

أطفئوا الغاز وصبوا الزيت الساخن من المقلاة جانب الرصيف ,ثم ساقوا العربة أمامهم نحو ( الفوريان البلدي) الذي ترمى فيه محجوزات المواطنين قبل عرضها في مزاد الخردة العلني. ترجيته دون إلحاح وترجاه بعض كبار السن ممن حضروا الموقف دون جدوى.

صعد سيارته غير مبال بي. في الغد زرته في مكتبه باقتراح من مقدم الحي لعلي أسترجع العربة . بعد انتظار طويل دخلت مكتبه الذي خرجت منه إمرأة شابة تركت رائحتها القوية في كل أرجائه. تغامز وتلامز مجموعة من الموظفين بعد خروجها مما يوحي أن الأمر فيه إن بل إن وأخواتها.
برر لي تصرفه بكثرة الشكاوى المقدمة ضد سمكي المقلي الذي كان سببا في عدد من حالات التسمم والإسهال ...هكذا زعم ...!!!

شكوت له حالي وصحتي المعتلة ووضعت أوراق الطبيب وفاتورة الأدوية الغالية على مكتبه. سكت قليلا,وتظاهر بالإنصات والإشفاق والتأثر لحالي.

اسمع يا بني . والله لقد تأثرت لك كثيرا. لكن لا عليك عندي لك حلا. هل تريد أن تعمل عملا شريفا وبمدخول جيد ومستقبل مضمون.

كنت ألمس خبثه من كلماته وأعرف من أوصاه بهذا السناريو لكني تظاهرت بالغباوة. أطنبت في كلمات الشكر والدعاء له بموفور الصحة والعافية . دون أن أسأله عن طبيعة العمل تابع قائلا :
"الأجر الشهري ضعيف لا عليك هذا لا يهم لأن هناك قنوات أخرى حلالا طيبا الناس شيدوا المنازل ذوات الطوابق الثلاث والأربع واشتروا منها السيارات والعقارات...

أظهرت السرور لكلامه فأطنبت في كلمات الشكر والثناء له ودون أن أسأله عن طبيعة هذا العمل المغري تابع قائلا :
"عندنا مقدم حي كبير السن ومصاب بداء السكري سيحال على التقاعد آخر هذا الشهر بعد أن أمن مستقبل أبنائه وبنى بيتا من ثلاثة طوابق ...

سأبدل مجهودا وأتصل بالجهات المسؤولة لتشغل أنت مكانه وسأقول لهم أنني أضمنك !!!

تملكتني الدهشة واستمر يمثل علي دوره كمونولوج فردي ساخر . لم يتوقف عن الكلام الذي بدا لي أنه أجهد نفسه لحفظه . لم أتمالك نفسي, ومن غير شعور انفجرت في نوبة ضحك هستيرية...انتهت المقابلة بطردي من مكتبه ...

عدت للعطالة والكآبة والإنزواء ...بإلحاح من والدتي صنعت عربة أخرى بعد ما ذقت طعم العزلة القاتلة لأيام أخرى. غيرت منطقة نفوذ( صاحبي) القائد . لعبة القط والفأر لا تنتهي . لم يتأخر رد فعلهم.

نفس السيناريو يتكرر. غير أنهم في المرة الثانية لم يدفعوا العربة بل حطموها أمام ناظري واستنكار بعض الزبناء والمارة الذين واسوني بكلماتهم . كوموا حطامها في شاحنة البلدية لحرقه بعيدا عن المساكن.

كان صاحبي الأول أرحم من الثاني. خلفت الحادثة في داخلي نذبا عميقا لن يمحى . انضاف إلى نذوبي الكثيرة الغائرة.

كلما تخيلتني مقدم حي أضحك حتى تغرورق عيني. وأسخر من نفسي. لشد ما أكره هذه المهنة منذ صغري وازداد كرهي لها الآن . عيون وزارة الداخلية التي تحصي أنفاس العباد وتحشر أنوفها في كل شيء في محتوى قفة البيت وضيوفه وعدد الخبزات التي تعجن ونوع الهاتف المستعمل وكل ما لا يخطر على البال .

لن أنسى ذاك اليوم وأنا صغير. رزأ حينا بمقدم من أخبث مخلوقات الله زوجته عاهرة قواده و أمه كانت مشعوذة وجهها وجه شيطان نفزع منها ونحن صغار أما أبناؤه منحرفون لا يغادرون السجون إلا ليعودوا لها بالتناوب . وأحيانا دفعة واحدة . ذرية بعضها من بعض.

عدنا من المدرسة في زوال ذاك اليوم الخريفي أثارتنا جمهرة الناس من سكان الدرب وغيرهم من الدروب المجاورة والمارة وبشغفنا الطفولي وشغبنا تسللنا لمقدمة الجموع لنفاجأ بالمقدم يخرجون به شبه عار يرتدي سرواله فقط ويلقى به في سيارة الأمن.

كاد الأمر أن يتحول إلى مصادمات بين المواطنين الذين علا صفيرهم وأصوات احتجاجاتهم مستنكرين فعل المقدم وهجومه على امرأة وحيدة في عز النهار.
__________________




أوان النصر غير متصل   الرد مع إقتباس