آخر مرة زرتها . كانت بعداستشهاده. ما إن رأتني حتى بكت . انخلع قلبي من مكانه . من أخبرها ؟؟؟ كدت أخرمغشيا علي أن تنشق الأرض وتبتلعني أهون علي من أن تكتشف أمي الحاجة ومعها بقيةالأسرة كذبي وتواطئي. كانوا يعدونني واحدا منهم . كلما طرقت الباب رمت لي مفتاحالبيت من الشرفة كما تفعل مع أبنائها وأمرتني بالصعود. قالت ليمرارا:
"لا تدري يابني معزتكعندي والله لو كانت لدي بنت بلا زواج لزوجتك إياها..."
وقفت أمامها مشدوها ... سحبتني من بوابة المنزل لفنائه كأنها تريد البوح لي بسر ما. حدثتني بعد أن أغلقتالباب ودموعها مسكوبة لا تنقطع.
"قلبي يحدثني بشيء ما ياولدي . رأيت البارحة خيرا وسلاما فيما يرى النائم. مجموعة من الجنود اليهود, فيأعناقهم الصليب!!! لم أشأ أن أصحح معلوماتها وخلطها. كان الأمر أكبر من ذلك. طرقوابابي وسلموني جثة إبني. كان مصابا في صدره ووجهه ودون نظارات. دمه أحمر غزير كشلال. وعلى وجهه هالة من نور قوي. قالوا لي هذا ابنك. فصرخت فيهم, قتلتموه يا مجرمين ياقتلة...قتلتموه... قتلتموه يا يهود...
قلبي يحدثني بشيء غيرجيد. أنا هكذا دائما ,غالبا ما تتحقق رؤاي ...حتى رسائله (تقصد المسكينة رسائلي ) إنقطعت... والهاتف يستحيل أن يكون إبني بخير ولا يكلمنا في الهاتف...لم يهاتفني منذسافر سوى مرتين, ورسائله لم تكن تشفي غليلي...ثم لماذا لا يكلمني مباشرة وأراهبكاميرا الكمبيوتر كما يفعل معي شقيقه من فرنسا مساء كل ليلة...لا ...لا...لا..
كنت كلما حاولت تهدأتهاتعثرت الكلمات وانعقد لساني. خانتني العبارات . ماذا أقول في مثل هذه المناسبة . أيموقف هذا وضعتني فيه يا -خ -؟؟؟
كنت حينها أغالب شلالاتالدموع المنحبسة في مقلتي . أنقذني من ورطتي وحساسية الموقف رنين هاتفي في جيبي. غادرت البيت متمتما لها بكلمات لم أعد أذكرها ... من يومها وأنا أحاول تفاديها... ضلت تلك الوصية كحمل ثقيل على عاتقي . زادت همومي, كربي, أرقي ووساوسي, فكرت فيعشرات الحيل والطرق لإبلاغ أسرته بالنبأ. فكنت كلما وضعت خطة لذلك وهممت بالتنفيذ, تراجعت. شيء ما لم أستطع تفسيره كان يمنعني. عانيت من ثقل المسؤولية وبقيت علىترددي إلى أن تلقفوني من جديد. مازلت ليومي هذا تحيرني الرؤيا التي حدثتني بها أميالحاجة, والدته رحمه الله. غريب أمرها. رأتها في نفس الليلة التي بلغني فيها خبراستشهاده . ازددت يقينا وإيمانا بالمقولة الشعبية التي رددتها والدتي مرارا علىمسامعي في ما يشبه جلسات اعتراف كانت تقيمها لي كلما أحست أنني أخفي عنهاشيئا:
" يا بني قلبي يحدثني عنكبكذا وكذا (غالبا ما كانت تصيب) افصح يا بني فقلب الأميعلم..."
حتى في سنوات الطيشالأولى والمراهقة حين كنت أعود من بعض سهرات النزوات العابرة التي كان يقيمهاأحيانا رفاق الدراسة. ورغم تأبطي للكتب والإدعاء أنني بت عند فلان أو علان لمراجعةالرياضيات. ورغم كل الإجراءات الاحترازية. كانت تقول:
" اكذب على إنسان آخر, أما أنا فإني أمك عجنتك بيدي هذه ...الله يهديك ...الله يهديك..." ثمتنصرف.
لا شك أن الله استجابدعواتها تلك فلم تطل فترة النزوات الحمقاء... سرعان ما أبصرت دربيوعفتها...