لندن- من احمد القبيسي أعلن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلقاء القبض على المتورطين في تفجيرات الأربعاء الماضي.
وبدا هذا الإعلان وكأنه محاولة يائسة لاستعادة الثقة بقدرة حكومته على معالجة المشكلات الأمنية المتفاقمة، او على الأقل الخروج من ورطة الشكوك التي أثيرت حول قدرته على ضبط التدهور الناجم عن انهيار تحالفاته الداخلية.
وبصرف النظر عن الشروخ التي يعانيها الإئتلاف الطائفي الحاكم، وبمقدار ما يتعلق الأمر بالأوضاع الأمنية، فان تجارب تحقيقات سابقة ظلت من دون طائل تجبر بعض المراقبين على إثارة بعض الأسئلة، ومنها على المثال: هل سيتم الكشف عن أسماء المعتقلين؟ هل سيعرف الرأي العام إرتباطاتهم الحزبية، او ارتباطات "المتواطئين" معهم؟ هل ستجري لهم محاكمة علنية، ام سيتم "طمطمة" الموضوع للتستر على تفاصيل غير مرغوب بالكشف عنها؟ هل سيتعرضون للتعذيب للإدلاء باعترافات؟ هل سيمنح المعتقلون الحق بتكليف فريق للدفاع؟ أم أنهم سيعتقلون في فندق خمس نجوم، إذا كانوا من "علية" ذوي المسؤوليات الأمنية؟ وإذا أدينوا بارتكاب الجريمة هل سيتم تنفيذ الحكم بهم بما يتناسب مع مستوى الجريمة وعدد ضحاياها؟ وماذا بشأن "البصمات" الإيرانية في التفجيرات؟ وماذا بشأن الصلة بين هذه "البصمات" وبين أحد أطراف التحالف الحاكم؟ وهل ستكون هناك صلة للتحقيقات الخاصة بهذه الجريمة بالتحقيقات الخاصة بجريمة سرقة بنك الزوية والتي أودت بحياة ثمانية حراس؟ والمجرمون الذين ارتكبوا هذه الجريمة معروفون، فهم من فريق حراسة نائب رئيس الجمهورية السيد عادل عبدالمهدي، وهم سرقوا ثمانية ملايين دولار وأودعوها، بمنتهى الأمانة فيما يبدو، في مبنى جريدة "العدالة" التابعة لعبدالمهدي، فلماذا لم يتم إلقاء القبض عليهم لمحاكمتهم؟ وإذا هربوا الى الخارج، فلما لم تتم ملاحقتهم؟ ومن هم المسؤولون عن تهريبهم؟ وهل سيحاكم هؤلاء الى حين العثور على المجرمين؟ وإذا كانوا في إيران، فهل تعجز السلطات الإيرانية، وهي حليف مهم، عن أن تلقي القبض عليهم؟ أم أنها ستحميهم؟ وهل يجوز لبلد "صديق" مثل إيران أن يحمي قتلة؟ هل هناك "صلة" بين هؤلاء المجرمين والمسؤولين الحزبيين عنهم؟ ألا يحق للقضاء ان يكشف هذه الصلة أو يبرئ المعنيين بها؟
كل هذه أسئلة تنتظر الجواب عنها. وبقاؤها من دون أجوبة واضحة سوف يلقي ظلالا من الشك على المسعى الحكومي نفسه، بل أن التهرب منها سوف يكشف بوضوح أن هناك فوق "التواطؤ" الذي سمح بارتكاب الجريمة تواطؤا أكبر، ولكنه هذه المرة بين الحكومة نفسها وبين المعنيين بـ"التواطؤ" الأول.
والتواطؤ مع الجريمة، جريمة بعرف القانون. ومحاولة طمس معالمها او طمس التحقيقات بشأنها، او "طمطتها" وتسويفها، جريمة أيضا. والقناعة السائدة بين بعض المقربين من الحكومة تفيد بان تحالف "دولة القانون" لن يستطيع أن يحظى بالاحترام إن لم يحترم إلتزاماته تجاه القانون.
ويقول مراقبون في بغداد ان المسؤولين الحكوميين يعرفون ان محاولة استغفال العراقيين، لن تنجح هذه المرة. فبعد سلسلة تحقيقات تم تسويفها، فان جريمة الأربعاء كانت من الضخامة بحيث انه لا يمكن التستر عليها. ولهذا السبب، فمن الأولى بهم، أن يتحاشوا الوقوع في نظر الناخبين في شرك الاستخفاف بالقانون وبذوي الضحايا.
وكان المالكي قال في تصريحات صحافية: "لن نسكت بعد اليوم عن كل متورط، ولن نتساهل مع الإعلام الذي زمر فرحا وطربا لجريمة يوم الاربعاء".
واتهم المالكي قوى سياسية مشاركة في العملية السياسية الحالية "بابداء حالة الفرح بالتفجيرات". وهو ما شكل سببا لاثارة التساؤل: هل الهدف من هذا الإتهام هو حرف الأنظار عن الجريمة لملاحقة الذين "ابدوا الفرح" بها بدلا من ملاحقة "الذين ارتكبوا التفجيرات" نفسها؟
ولكن وجه الصعوبة التي يعانيها المالكي تكمن في إن الشكوك في الجريمتين تدور حول حلفائه في الإئتلاف الشيعي. فالتفجيرات حصلت بعد إعلانه عن العزم تشكيل تحالف "وطني" بدلا من التحالف الطائفي القائم، وهذا الإعلان حصل بدوره بعد جريمة سرقة بنك "الزوية". والرابط بين الحدثين يبدو قويا الى درجة أن نكرانه يتطلب الكثير من الإيضاحات والإجابة على الكثير من الأسئلة. وإلا فان ظلال الشك سوف تحيط بالتحقيقات وتضعف من مصداقية الحكومة وكفاءة إجراءاتها الأمنية.
ويبدو أن رئيس الوزراء العراقي يواجه معضلة حرجة، هي أن عليه أن يختار بين أحد خيارين أحلاهما مر، الأول، أن ينفصل عن حلفائه. ولكنه يعرف أن هؤلاء الحلفاء مستعدون فيما يبدو لتدميره وتدمير أنفسهم معه، في أول عملية انتحار جماعي من نوعها في تاريخ "العملية السياسية". والثاني، أن يبقى معهم، وهو ما سيجعله يبدو ضعيفا، من ناحية، بسبب التراجع عن نواياه بتشكيل تحالف "وطني" بدلا من بقاء التحالف الطائفي الراهن، ومن ناحية أخرى، بقبوله البقاء في تحالف على حساب القانون وحساب الكشف عن الحقيقة بشأن التفجيرات. الأمر الذي سيجعل من "دولة القانون" في موضع للسخرية لا تحسد عليه.
وفي خضم الفوضى الراهنة، صار من المألوف للمسؤولين العراقيين ان يبحثوا عن سبيل لإيضاح موافقهم، حتى وإن لم تُطلب منهم. وعلى سبيل المثال، ففي سابقة لم تشهدها المؤتمرات الصحفية في البرلمان العراقي قاطع النائب الاول لرئيس البرلمان خالد العطية سؤالا لصحفي كان موجها الى وزير الدفاع عبد القادر العبيدي حول التورط الايراني في التفجيرات الاخيرة. واجاب بالنيابة عنه على الرغم من اصرار الصحفي على توجيه السؤال للعبيدي.
ولكن من بين كل الذين يحاولون العثور عن مخرج من الورطة، يبدو آية الله علي السيستاني، وهو أحد اهم عرابي التحالف الحاكم القائم، مكتفيا بصمته، ربما بانتظار ان يلجأ اليه المتنازعون لكي يعيد المياه الى مجاريها فيما بينهم.
وعلى الرغم من ان النزاع بين المتحالفين لم يعد "ضربا بالنواقيس" بل ضربا بالقذائف والصواريخ، فان الصمت يبدو بدوره مثيرا للشكوك والأسئلة. فهناك من يقول إن تحت عمامة السيد حلولا تكفي لرأب الصدع، ولكن هناك من يقول أيضا إن عمامته مفخخة، لأنها قد تميل الى طرف دون آخر، فتجعل الصمت نفسه مفخخا، بل أنها إذا مالت الى بقاء هذا التحالف، بعد إعلان المالكي عن رغبته بتشكيل تحالف "وطني"، فان "المفخخة" ستنفجر على "الوطني" من اجل أن تحمي "الطائفي".
وهذه ورطة، ولكن لا بأس، فمن الواضح أن الكل في ورطة