غششتني يا منحوس :
كانت علاقة أبي شوفة مع البغال علاقة حميمة .. فهو لا يثق بحيوان في قدرته على التحمل كثقته بالبغل .. وكانت بعض الطبائع تتسرب من الحيوانات لأصحابها .. كما هي الحال اليوم عندما نستخدم بعض خصائص جهاز الكمبيوتر ونستخدمها في حديثنا ، فنقول عندما نريد أن نتجاهل ما يقول آخر ( كنسله ) .. أي الغي ما قال .. أو اعمل له ( ريستور ) ..
فكانت لغة الناس في عهد أبي شوفة ، تتأثر ببيئتها بشكل ، فأحيانا عندما كان يريد تنبيه أحد أبناءه ، فانه يصرخ به ( هيش ) وهي تقال للحمير .. أو (هو ها ) وهي لفظة تقال لردع ( عجل أو ثور ) .. أو إذا أراد أن يزجر أبناءه مجتمعين ، فإنه يناديهم يا ( طرش ) وهي معشر الحيوانات مجتمعة ..
صدف و أن أصبح ( بغل ) أبي شوفة ذات مرة ، يضطرب في مشيه ، ويعاني من شيء ، أشبه بالدوخة ، فحمل أبو شوفة همه كثيرا ، و استشار أحد أصدقاءه القدماء ، فشخص صديقه الحالة على وجه السرعة ، بأن البغل يعاني من ديدان ، في داخل معدته .. ولم يكن التشخيص نابع من خبرة ، بل كان الرجال في ذلك الوقت لقلة المعلومات و لقلة الأجهزة التي ممكن أن تجيب على وجه الدقة عن أي شيء .. لا يعتذرون عن الإجابة عن شيء .. فلو سألت أحدهم عن كيفية صناعة الطيارات ، لبادر في حديث طويل عن صناعتها ، وهو لم ير في حياته طائرة عن قرب ، الا اذا رأى لمعانا في السماء في يوم مشمس .
فقال له أبو شوفة : وما الحل لتلك الدوخة ؟ وكان يتلهف أن يسمع من صديقه أي شيء ..
فأجابه صديقه : اسق البغل ( مسودة بنزين ) والمسودة هي زجاجة ، كان يعثر عليها الفتية على الطرقات بعد أن شرب سائح محتوياتها من الخمر ، ورمى بها على جانب الطريق ، فيلتقطها بعض الفتية ، وتدخل بسرعة مجال الخدمة في البيوت المحظوظة بالعثور على مثل ذلك الإناء الفاخر ..
سأله أبو شوفة : ألا يتأثر البغل من شرب البنزين ؟ إني أخشى عليه من أن يموت يا صاحبي ..
ثم خطرت على بال أبي شوفة ، فكرة غريبة ، إذ نوى أن يجرب بأحد أبناءه وكان اسمه ( حسن ) فإن جرى لحسن شيئا من شرب البنزين توقف عن استعماله للبغل .. وان لم يتأثر حسن بذلك ، فإنه سيقوم بتقديمه للبغل ..
لم يكن أمام حسن أي خيار .. فقد نفذ تعليمات والده ، فأمسك أنفه بأصبعيه وجرع البنزين على دفعة واحدة .. وبعدها صرخ وتلوى و بكى .. فزجره أبو شوفة ، فتوقف عن الصراخ .. ولكن بقي أبو شوفة يراقب ابنه بين حين وحين حتى انقضى اليوم .. فأحس أبو شوفة براحة حذرة ، فهو يعرف أن حسن أخشن من البغل قليلا .. وهذا سر حذره ..
وفي اليوم الثاني ، أتى أبو شوفة بمسودة البنزين و وضعها في حلق البغل حتى فرغت ، وما هي الا ساعات حتى فارق البغل الحياة ..
فثارت ثائرة أبي شوفة ، وانهال على حسن بالضرب المبرح .. وهو يصرخ ويشتم .. غششتني يا ملعون الوالدين ، غششتني يا ملعون الوالدين !!
__________________
ابن حوران
|