كقوله:
وما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل
فإنه ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار من هو بمرصد لأن يعس
دونها مع كون الهرير في وجه من لا يعرفه طبيعياً له إلى استمرار تأديبه لأن الأمور الطبيعية لا تتغير بموجب لا يقوى ومن ذلك إلى استمرار موجب نباحه وهو اتصال مشاهدته وجوهاً إثر وجوه، ومن ذلك إلى كونه مقصد أدان وأقاص، ومن ذلك إلى أنه مشهور بحسن قرى الأضياف، وكذلك ينتقل من هزل الفصيل إلى فقد الأم ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المتليات، ومنها إلى صرفها إلى الطبائخ، ومنها إلى أنه مضياف، ومن هذا النوع قول نصيب: لعبد العزيز على قومه وغيرهم منن ظاهره
فبابك أسهل أبوابهم ودارك مأهولة عامرة
وكلبك آنس بالزائرين من الأم بالابنة الزائرة
فإنه ينتقل من وصف كلبه بما يذكر أن الزائرين معارف عنده، ومن ذلك إلى اتصال
مشاهدته إياهم ليلاً ونهاراً، ومنه إلى لزومهم سدته، ومنه إلى تسني مباغيهم لديه من غير
انقطاع، ومنه إلى وفور إحسانه إلا الخاص والعام وهو المقصود، ونظيره مع زيادة لطف قول الآخر:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلاً يكلمه من حبه وهو أعجم
ومنه قوله: لا أمتع العوذ بالفصال ولا أبتاع إلا قريبة الأجل
فإنه ينتقل من عدم أمتعها إلى أنه لا يبقى لها فصالها لتأنس بها ويحصل لها الفرح الطبيعي
بالنظر إليها، ومن ذلك إلى نحرها، أو لا يبقى العوذ إبقاء على فصالها وكذا قرب الأجل
ينتقل منه إلى نحرها ومن نحرها إلى أنه مضياف ومن لطيف هذا القسم قوله تعالى " ولما
سقط في أيديهم " أي ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل لأن من شأن من
اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها، وكذا
قول أبي الطيب كناية عن الكذب:
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو ق إليها والشوق حيث النحول
وكذا قوله:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له كأنهم فيما وهبت ملام
فإن أوله كناية عن الشجاعة وآخره كناية عن السماحة، وكذا قول أبي تمام:
فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً عدوك فاعلم أنني غير حامد
يردي بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده، أي إن لم أكن أجيد القول في مدحك حتى
يدعو حسنه عدوك إلى أن يحفظه ويلهج به صاغراً فلا تعدني حامداً لك بما أقول فيك،
ووصفه بالصغار لأن من يحفظ مديح عدوه وينشده فقد أذل نفسه، فكنى بحفظ عدو
الممدوح مدحه ما عن إجادته القول في مدحه، وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
وقول الآخر: صلب العصا بالضرب قد دماها أي جعلها كالدم في الحسن، والغرض من قول الأول ضعيف العصا وول الثاني صلب العصا وهما وإن كانا في الظاهر متضادين فإنهما كنايتان عن شيء واحد وهو حسن الرعية والعمل بما يصلحها ويحسن أثره عليها فأراد الأول بأنه رفيق مشفق عليها لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة فهو يتخير ما لان من العصا وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها عارف بسياستها في الرعي يزجرها عن المراعي التي لا تحمد ويتوخى بها ما تسمن عليه، ويتضمن أيضاً أنه يمنعها عن التشرد والتبدد وأنها لما عرفت من شدة شكيمته وقوة عزيمته تنساق في الجهة التي يريدها، وقوله بالضرب قد دماها تورية حسنة، ويؤكد أمرها قول صلب العصا. الثالثة المطلوب بها نسبة كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
فإنه حين أراد أن لا يصرح بإثبات هذه الصفات لابن الحشرج جمعها في قبة تنبيهاً بذلك
على أن محلها ذو قبة، وجعلها مضروبة عليه لوجود ذوي قباب في الدنيا كثيرين فأفاد
إثبات الصفات المذكورة له بطريق الكناية، ونظيره قولهم المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه.
قال السكاكي وقد يظن هذا من قسم زيد طويل نجاده وليس بذاك فطويل نجاده بإسناد
الطويل إلى النجاد تصريح بإثبات الطول للنجاد، وطول النجاد كما تعرف قائم مقام طول
القامة، فإذا صرح من بعد بإثبات النجاد لزيد بالإضافة كان ذلك تصريحاً بإثبات الطول لزيد
فتأمل، وقول الآخر:
والمجد يدعو أن يدوم لجيده عقد مساعي ابن العميد نظامه
فإنه شبه المجد بإنسان بديع الجمال في ميل النفوس إليه وأثبت له جيداً على سبيل
الاستعارة التخييلية ثم اثبت لجيده عقداً ترشيحاً للاستعارة ثم خص مساعي ابن العميد
بأنها نظامه فنبه بذلك على اعتنائه خاصة بتزيينه وبذلك على محبته وحده له وبها على
اختصاصه به ونبه بدعاء المجد أن يدوم لجيده ذلك العقد على طلبه دوام بقاء ابن العميد،
وبذلك على اختصاصه به، وكقول أبي نواس:
فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يصير الجود حيث يصير
فإنه كنى عن جميع الجود بأن نكره، ونفى أن يجوز ممدوحه ويحل دونه، فيكون متوزعاً يقوم منه شيء بهذا وشيء بهذا، وعن إثباته له بتخصيصه بجهته بعد تعريفه باللام التي تفيد العموم، ونظيره قولهم مجلس فلان مظنة الجود والكرم. هذا قول السكاكي، وقيل كنى
بالشطر الأولى عن اتصافه بالجود وبالثاني عن لزوم الجود له، ويحتمل وجهاً آخر وهو أن
يكون كل منهما كناية عن اختصاصه به وعدم الاقتصار على أحدهما للتأكيد والتقرير
وذكرهما على الترتيب المذكور لأن الأولى بواسطة بخلاف الثانية، وكقولهم مثلك لا يبخل
قال الزمخشري نفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك
فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده وعمن هو على أخص أوصافه
فقد نفوه عنه، ونظيره قولك للعربي العرب لا تخفر الذمم، فإنه أبلغ من قولك أنت لا تخفر،
ومنه قولهم أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون إيفاعه وبلوغه، وعليه قوله تعالى: " ليس
كمثله شيء " على أحد الوجهين وهو أنه لا تجعل الكاف زائدة، قيل وهذا غاية لنفي التشبيه، إذ لو كان له مثل لكان لمثله شيء يماثله وهو ذاته تعالى فلما قال ليس كمثله دل على أنه ليس له مثل، وأورد أنه يلزم منه نفيه تعالى لأنه مثل مثله ورد بمنع أنه تعالى مثل مثله لأن صدق ذلك، موقوف على ثبوت مثله تعالى عن ذلك. وكقول الشنفري الأزدي في وصف امرأة بالعفة:
يبيت بمنجاة من اللوم بيتها إذ ما بيوت بالملامة حلت
فإنه نبه بنفي اللوم عن بيتها على انتفاء أنواع الفجور عنه، وبه على براءتها منها، وقال
يبيت دون يظل لمزيد اختصاص الليل بالفواحش، هذا على ما رواه الشيخ عبد القاهر
والسكاكي. وفي الأغاني الكبير يحصل بمنجاة وقد يظن أن هنا قسماً رابعاً وهو أن يكون
المطلوب بالكناية الوصف والنسبة معاً كما يقال يكثر الرماد في ساحة عمرو في الكناية عن أن عمراً مضياف وليس بذاك، إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة بل هو كنايتان إحداهما عن
المضيافية والثانية عن إثباتها لعمرو وقد ظهر بهذا أن طرف النسبة المثبتة بطريق الكناية
يجوز أن يكون مكنياً عنه أيضاً كما في هذا المثال، ونحوه بيت الشفري المتقدم فإن حلول
البيت بمنجاة من اللوم كناية عن نسبة العفة إلى صاحبه، والمنجاة من اللوم كناية عن العفة،
واعلم أن الموصوف في القسم الثاني والثالث قد يكون مذكوراً كما مر وقد يكون غير
مذكور كما تقول في عرض من يؤذي المسلمين المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده أي
ليس المؤذي مسلماً. وعليه قوله تعالى في عرض المنافقين " هدى للمتقين، الذين يؤمنون
بالغيب " إذ فسر الغيب بالغيبة أي يؤمنون مع الغيبة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم
أو أصحابه رضي الله عنهم، أي هدى للمؤمنين عن إخلاص لا للمؤمنين عن نفاق. وقال السكاكي الكناية تتفاوت إلى تعريض وتلويح ورمز وإيماء وإشارة فإن كانت عرضية
فالمناسب أن تسمى تعريضاً وإلا فإن كان بينها وبين المكنى عنه مسافة متباعدة لكثرة
الوسائط كما في كثرة الرماد وأشباهه فالمناسب أن تسمى تلويحاً، لأن التلويح هو أن يشير
إلى غيك عن بعد وإلا فإن كان فيها نوع خفاء فالمناسب أن تسمى رمزاً لأن الرمز هو أن
تشير إلى قريب منك على سبيل الخفية، قال:
رمزت إلي مخافة من بعلها من غير أن تبدي هناك كلاما
وإلا فالمناسب أن تسمى إيماء وإشارة كقول أبي تمام يصف إبلاً:
أبين فيما يزرن سوى كريم وحسبك أن يزرن أبا سعيد
فإنه في إفادة أن أبا سعيد كريم غير خاف وكقول البحتري: أوما رأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثم لم يتحول فإنه في إفادة أن آل طلحة أماجد ظاهر. وكقول الآخر:
إذا الله لم يسق إلا الكرام فسقى وجوه بني حنبل
وسقى ديارهم باكراً من الغيث في الزمن الممحل
وكقول الآخر:
متى تخلو تميم من كريم مسلمة بن عمرو من تميم
ثم قال والتعريض كما يكون كناية قد يكون مجازاً كقولك: آذيتني فستعرف وأنت لا تريد
المخاطب بل تريد إنساناً معه وإن أردتهما جميعاً كان كناية.
بلاغة الكناية
اطبق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وأن الاستعارة ابلغ من التصريح بالتشبيه،
وأن التمثيل على سبيل الاستعارة أبلغ من التمثيل لا على سبيل الاستعارة، وأن الكناية
أبلغ من الإفصاح بالذكر، قال الشيخ عبد القاهر ليس ذلك لأن الواحد من هذه الأمور يفيد
زيادة في المعنى لا يفيده خلافه، فليست فضيلة قولنا رأيت أسداً على قولنا رأيت رجلاً،
هو والأسد سواء في الشجاعة، أن الأول أفاد زيادة في مساواته للأسد في الشجاعة لم يفده
الثاني بل هي أن الأول أفاد تأكيداً إثبات تلك المساواة لم يفده الثاني، وليست فضيلة قولنا
كثير الرماد على قولنا كثير القرى أن الأول أفاد زيادة لقراه لم يفدها الثاني، بل هي أن الأول الفصاحة إلى معنوية ولفظية، وفسر المعنوية بخلوص المعنى عن التعقيد وعنى بالتعقيد
اللفظي على ما سبق تفسيره، وفسر اللفظية بأن تكون الكلمة عربية أصيلة، وقال: وعلامة
ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم لها أكثر
لا مما أحدثه المولدون ولا مما أخطأت فيه العامة وأن تكون أجرى على قوانين اللغة وأن
تكون سليمة التنافر، فجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة وحصر مرجع البلاغة في الفنين ولم
يجعل الفصاحة مرجعاً لشيء منهما، ثم قال: وإذ قد وقفت على البلاغة والفصاحة
المعنوية واللفظية فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة
والفصاحتين ما عسى يسترها عنك، وذكر ما أورده الزمخشري في تفسير قوله تعالى: "
|