عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 29-05-2009, 05:37 PM   #5
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

حضارة الإسلام



باستثناء كل الحضارات الإنسانية كانت هذه الأكثر تميزا .. فهى وحدها التى أشرفت السماء على بناء كل لبنة فيها .. إنها حضارة تمثل دين الله وتقوم على تشريعاته .. لكننا سنرجىء إستعراض تفصيلاتها إلى مجمل الكلام .. سوف نرى عبر رحلتنا فى دروب التاريخ وأروقته العتيقة أسباب قيام وسقوط كل حضارة .. وسنطل بإصرار على كل عيب فيها .. وسنرى أن كل نقيصة فى كل حضارة منها ومضة مضيئة فى هذه الحضارة الخضراء ..

إذا أردنا أن نعرّف الحضارة تعريفا مجملا .. فإن الحضارة بمفهومها السامى تضع كل مناحى الحياة فى مرتبة ثانية وتقدم عليها كلها رفعة ورقىّ هذا الإنسان .. إنها تحفظ إنسانيته بكل ما تمثلها من قيم وهى تصون مثاليته التى خلقه الله عليها فكان كائنا فريدا من نوعه .. هى حضارة تصونه من إستعباد البشر وإستعباد المادة وإستعباد كل مغريات الحياة .. إنها تكفل له حقوقه وتعرفه واجباته .. إنها لا تميز وتفرق بين أبناءها تبعا للون البشرة وأصل كل جنس .. إنها حضارة عالمية من الممكن أن تنشأ فى أى مكان وأى زمان فهى أموية عباسية أمازيغية أندلسية عثمانية.. على عكس كل حضارة فى تاريخ البشرية لم يكن لها كلها أن تنشا سوى فى زمانها ومكانها ..

إنها حضارة تدرك جيدا أسرار هذا الإنسان فلا تراه بصورة الآلة الصماء أو النزعة الحيوانية العمياء .. فى حين سعت كل الحضارات بسذاجة مفرطة إلى تدمير هذا الإنسان .. أرقى الكائنات على ظهر هذا الكوكب .. فقتلت فيه الإبداع والإحساس والمسئولية تجاه هذا الجنس البشرى .. إن المخزون العلمى والفكرى الذى اضافته كل حضارة يعد كبيرا فى حين كانت إضافتها لهذا الـ "إنسان" أقل بكثير .. "ذلك المجهول" كما يصفه الكسيس كاريل فى عنوان أحد مؤلفاته الشهيرة .. على الرغم مما وصلت إليه علوم اليوم من صفات تركيب هذا الكائن وكل تفصيله فيه .. وتطور مذهل لعلوم الإنسان وعلوم النفس والإجتماع .. لكنها كلها لا تزال تجد غموضا كبيرا بهذا الكائن العجيب المعقد بصورة لا توصف .. جسديا ونفسيا وشعوريا وفكريا ..

((الإنسان ذلك المجهول)) .. يقرر أن حقيقة علمنا عن الإنسان لا شئ وأننا نعيش فى جهل مطبق بهذا الكائن، الذى هو نحن ..

يقول الكسيس كاريل :

((كيف تنتظم الخلايا فى جماعات من تلقاء نفسها، مثل الأنسجة والأعضاء ؟ فهى كالنمل والنحل تعرف مقدماً الدور الذى قدر لها أن تلعبه فى حياة المجموع، وتساعد العمليات الميكانيكية الخفية على بناء جسم بسيط ومعقد فى الوقت ذاته))

((ما هى طبيعة تكويننا النفسانى والفسيولوجى؟ إننا نعرف أننا مركب من الأنسجة، والأعضاء، والسوائل والشعور .. ولكن العلاقات بين الشعور والمخ مازالت لغزاً .. إننا ما زلنا بحاجة إلى معلومات كاملة تقريباً عن فسيولوحية الخلايا العصبية .. إلى أى مدى تؤثر الإرادة فى الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟ على أى وجه تستطيع الخصائص العضوية العقلية التى يرثها كل فرد أن تتغير بواسطة طريق الحياة والمواد الكيماوية الموجودة فى الطعام والمناخ، والنظم النفسية والأدبية؟

ومن بين ملايين الملايين من الجنس البشرى الذين سكنوا هذا العالم بالتعاقب، كان يولد أشخاص قلائل، من حين لآخر، وهبتهم الطبيعة قوى مدهشة نادرة، كسرعة إدراك الأشياء المجهولة، والخيال الذى ابتدع عوالم جديدة، والقدرة على اكتشاف العلاقات الخفية الموجودة بين ظواهر معينة ))


لقد أمدت عقيدة الإسلام هذا الإنسان بطاقة عبور إلى عالم آخر لم تطأه قدماه من قبل .. إنه عالم الغيبيات المطلق .. أسرار هذا الكائن المنوط بعمارة الارض واستخلافه فيها .. أسرار هذا الكوكب والتى لم يسمع عنها من ذى قبل فى عصر هو فجر العلوم .. وإنها فى الوقت نفسه تقف على نقاط قوته وضعفه وتنمى لديه نزعة الإرادة فيكون هو نفسه مستقلا بقراره بعيدا عن الثواب والعقاب فى مجتمعه الذى يعيش فيه .. إنها تمنحه تميزا فريدا وتؤمن بالفروق الفردية فى حين تعامله حضارة اليوم بصفة فرد من بين قطيع لا يختلف افراده .. وهى تلقى على كاهله أثقال هذه البشرية كلها فهو مكلف برفعتها وصونها والرقى بها لا بجنسه وحده ولا بجغرافيا تخصه وحده فحسب ..

لقد منحت حضارة الإسلام هذا الإنسان وسام ارقى الكائنات على ظهر هذا الكوكب وارقى أجناسها .. الإنسان .. ذلك الغامض الذى عرفت الحضارة الخضراء قدره الأسمى فى أزمان هى فجر العلوم .. نرى حضارة اليوم تنزع عنه هذا الرقىّ لتضعه فى منزلة الآلة والنزعة الحيوانية العمياء وبظهور نظرية داروين اعتبر الإنسان حيواناً وبهذا فإن آراءه فى معنى الحياة الإنسانية، والمثل العليا، لا تستحق تقديراً أكثر من آراء الدودة الشريطية والبقاء هو المقياس الوحيد للنجاح التطورى . ولذلك فكل الكائنات الحية متساوية القيمة. وليست فكرة التقدم إلا فكرة إنسانية. ومن المسلم به أن الإنسان فى الوقت الحاضر سيد المخلوقات ولكن قد تحل محله القطة أو الفأر .

الإنسان كائن فذ فى هذا الكون. وحقيقة أن الإنسان كائن معقد شديد التعقيد . وحقيقة أن الإنسان يشتمل على عوالم متفردة عددها عدد أفراده ..

هذه الحقائق تقتضى منهجاً للحياة الإنسانية يرعى تلك الاعتبارات كلها. ويرعى تفرد ((الإنسان)) فى طبيعته وتركيبه. وتفرده فى وظيفته وغاية وجوده، وتفرده فى مآله ومصيره. كما يعرى تعقده الشديد وتنوع أوجه نشاطه وتعقد الارتباطات بينها. ثم يرعى ((فرديته)) ..

لم أجد أشد فهما لحضارة هذا العصر من أهل الغرب أكثر من ألكسيس كاريل من بين مؤلفات وموسوعات معاصرة تعنى فحسب بالحضارة كتعريف وتاريخ مجرد كما يعامل المرء قطعة اثاث .. إن تحديد أسباب المشكلة والإعتراف بها أولى الطرق الناجحة فى علاجها .. لا توجد خطوة قبل أو بعد هذه الخطوة الشديدة الأهمية .. تشخيص المرض بنجاح والإعتراف به .. وضع ألكسيس كاريل ما يخجل أو يخشى غيره من المفكرين والعلماء الغربيين من أفكاره ونظرياته حول حضارة ينظر لها إنسان اليوم على أنها أرقى حضارة عرفتها البشرية .. ولم أجد أيضا فى الشرق أكثر فهما لحضارة اليوم والربط القوى بينها وبين حضارة الإسلام غير المفكر الإسلامى سيد قطب .. والذى كان كتابه "الإسلام ومشكلات الحضارة" من بين كل المؤلفات التى تناولت حضارة الإسلام بين الامس واليوم فكان مميزا غاية التميز لم ينحاز فيه إنحياز أعمى وإنما أفرد الحقائق والارقام .. يقول :

"والمنهج الوحيد الذى راعى هذه الاعتبارات كلها كان هو المنهج الذى وضعه للإنسان خالقه، العليم بتكوينه وفطرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، القادر على أن يضع له المنهج الذى يحقق غاية وجوده ويحقق التوازن فى أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعيته كذلك ..

فى الأساطير الإغريقية كان ((الإنسان))نداً للآلهة. ينازعها السلطة والمعرفة، وإن كانت هى تبطش به وتقسو عليه. ولكنه هو لا يستسلم ولا يذعن. وحتى فى حالة انتصارها عليه، فإنه يستبقى فى نفسه السخط والإنكار والإصرار !

فلما جاء العهد الروماني – ونبدأ به باعتباره الأساس الحقيقى للحضارة الأوروبية القائمة – بهت ظل الآلهة – وبقى الإنسان يعبد ذاته وشهواته . وهو على كل حال لم يكن يسمح للآلهة بالتدخل فى تصريف حياته الأرضية . وإن كان يسمح لها بالتكهن على ألسنة الكهان، ويستبقيها كعرف اجتماعى لا ضرر منه، ويستمتع بمباهج الاحتفالات بمواسمها فى طلاقة من كل قيد على طريقة الرومان فى المتاع ..

ولما سيطرت النصرانية – كما تصورتها الكنيسة – على الدولة الرومانية، وسم الإنسان بالخطيئة ، ونكس رأسه بالذل. وبدا ذلك فى التماثيل التى أنشئت فى ظل هذه النظرة إلى الإنسان، كما بدا فى سواها من وسائل التعبير ..

ومع أن النظرة النصرانية إلى الإنسان تحمل تكريم الله لهذا الجنس، إلا أن خطيئة آدم – كما تصورها الكنيسة – قد دمغت الجنس كله بالإثم. حتى جاء المخلص ((ابن الإنسان)) المسيح ((الرب)) ((الابن)) … إلى آخره فكفر عن هذه الخطيئة. ولكن هذا لم يرفع جبين الإنسان، فقد كان عليه أن يكفر بالذل والهوان والتقشف ولعذاب طوال حياته، لكى يلحق بالمخلص، ويتحد فيه، وينال الغفران ..

وكذلك اعتبرت ميوله الفطرية رجساً ودنساً، وعلاقاته الجنسية قذراً ووسخاً، وشعوره بذاته إثماً وخطيئة.. وكان من وراء هذه النظرة ما سنفصله بعد قليل من الرهبنة، ورد الفعل للرهبنة فى أوروبا التى لم تستقر على حال ..

ولما وقع رد الفعل، وثارت أوروبا على الكنيسة، وعلى التصورات الكنسية، وعلى المفهومات الدينية كلها بالإجمال، حدت مع الثورة نظرة جديدة للإنسان. وبالذات إلى ((العقل)) فى الإنسان ..

لقد جعل هذا العقل إلهاً فى ((عصر التنوير)) فى منتصف القرن الثامن عشر الميلادى، فهذا العالم الخارجى إنما هو من خلق العقل وصنعه. وللعقل حق السيطرة على كل جوانب الحياة، والقطع فيها برأيه الذى يراه . والإنسان – من ثم – حر فى العمل حرية تامة، لا يشوبها تحديد من غير الإنسان نفسه.. وبهذا انتهى عصر تدخل الدين فى الحياة ..

ثم انتهى عصر التنوير بانتهاء القرن الثامن عشر . وابتدأ القرن التاسع عشر بضربة قاصمة لهذا العقل وللإنسان معه. إذ جاءت (( الفلسفة الوضعية)) تعلن أن المادة هى الإله! فهى التى تنشئ هذا العقل، وهى التى تطبع فى حس الإنسان ما تراه !

بذلك تضاءل العقل، وتضاءل معه ((الإنسان)). لم يعد هذا الإنسان إله نفسه، ولا إله شىء من الأشياء ، إنما أصبح من مخاليق ((الطبيعة)) ومن عبيد هذا ((الإله)) !

ثم جاء ((داروين)) بحيوانية الإنسان. حيث نشر كتابه : ((أصل الأنواع)) فى سنة 1859، وكتابه ((أصل الإنسان)) فى سنة 1871 وفقد الإنسان كل ما كان التصور الدينى قد أسبغه عليه من تكريم وتفرد وخصوصية. كما فقد كل ما كانت الفلسفة قد خلعته عليه فى عصر التنوير من إيجابية واستقلال وسيطرة. وعاد حيواناً – ككل حيوان آخر – ولو أنه له السيطرة اليوم، فإن هذه السيطرة قد تؤول إلى قط أو فأر فى يوم من الأيام. كما يحكى جوليان هكسلى !

ثم تمت الضربة القاضية على يد ((فرويد)) من جانب، و((كارل ماركس)) من الجانب الآخر. الأول يرد دوافع الإنسان كلها إلى الميول الجنسية، ويصوره غارقاً فى وحل الجنس إلى الأذقان .. والثانى يرد تطورات التاريخ كلها إلى الاقتصاد، ويصور الإنسان مخلوقاً ضئيلاً سلبياً، لا حول له ولا قوة أمام إله الاقتصاد بل إله أداة الإنتاج!



لقد كان الإسلام ميزان عدل ما بين الغلو والتفريط وما بين الحرص الشديد .. لقد عرف خفايا هذه النفس التى تسكن هذا الجسد .. فلها أن تحيا حياتها كما تشاء بإعتدالية ومنهجية وضعت لها .. فلا هو إفراط فى شهوتها ولا هى رهبانية قاسية .. إن جنوح الإنسان إلى التطرف فى متع الحياة أو التطرف فى إمتناعه عنها كلية يعطل طبيعة هذا الكائن .. وفى كليهما تدمير لصفة الإنسانية فيه .. وتعطيل لوظيفته الاساسية فى إستعمار الارض وخدمة هذا الوجود ..

__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس