المحاضرة الثامنة (الأخيرة)
الولاء والدين
(1)
لقد سبق أن قلنا بصورة عامة بأن الولاء هو التفاني الإرادي والمستمر من فرد ما، تجاه قضية معينة. وعرفنا القضية بأنها شيء يوحد كثيراً من الحيوات الإنسانية في حياة واحدة. وكان مرادنا من وضع هذه التعريفات، هدفا عمليا أساساً. فلقد قََصَدَتْ فلسفتنا عن الولاء أن تكون فلسفة عملية، واستخدمنا تعريفاً، لمساعدتنا على كشف غاية الحياة، والخير الأعلى الذي تستطيع الكائنات الإنسانية تحقيقه لنفسها، ولقد وجدنا بالفعل أن هذا الخير يبدو متناقضاً. فلقد كان خيرا يتم من خلاله التضحية.
لا يتحقق الولاء بالتضحية فقط، إنما بالعمل الشاق المؤلم، ومن مرارة الهزيمة. فلقد أثبتت القضايا التي بدت خاسرة وميئوسا منها في التاريخ أنها أكثر القضايا خصوبة وحياة. وباختصار يتم التدريب على الولاء بوجود القادة الشخصيين وبتحويل قضايانا الى مثل عليا، هذه القضايا التي تتغذى على النكبة والبؤس، وتتوهج بالموت والتي تجعلها الهزائم أكثر وضوحا، والمثل الأعلى المرغوب.
إن خيرك الحقيقي، لا يمكن أن تحصل عليه أو يتحقق، في ظل خبرتك الإنسانية الحاضرة تحققا كاملا. وأفضل ما يمكن أن تحصل عليه يكمن في الاستسلام الذاتي وفي يقينك الذاتي بأن القضية التي سلمت لها نفسك قضية خيرة بالفعل، وإذا كانت قضيتك بالفعل قضية موجودة وواقعية وخيرها لا يستطيع فردٌ أو حتى مجموعة أفراد تحقيقه. فإن هذا الخير الخاص بالقضية يعد أساسا خيرا روحانيا، حتى وإن كان إنساني التجسد.
(2)
إن الذين يؤمنون بارتباط (الروحي) بمسألة (الولاء)، دائما يسألون عن كيف يصبح إيمانهم، إيمانا واضحا ويكون أقرب للبصيرة الواضحة؟
يحاول الكاتب (جوزايا رويس) أن يحل إشكالية البراجماتية الحديثة بجدوى ربطها بالروحي. فالفرد يرتبط بحلقات مهنية واجتماعية ومكانية وقومية وسياسية ويمكن أن يكون محرك ولاءه في كل حلقة له معنى واقعي ملموس، أما ربطه بالروحي فيبدو عند البراجماتيين لا يتصل بخبراتهم مباشرةً.
يقول: لا يعتبر العالم الواقعي، شيئا مستقلا عنا، إنه عالم محتوياته جاءت من طبيعة الخبرة، وبنائه يناسب ويصحح الضمان لتحقق أفعالنا الإيجابية وتكون كل طبيعته يمكن التعبير عنها وتفسيرها بالأفكار والنشاط العقلي، لكن هذا النشاط يختص بكل جزء من مكونات العالم الطبيعي، في حين تكون الروح أو النشاط الروحي معنيا بالكل المحتوي لتلك الأجزاء.
إن ذاكرة الفرد معرضة للخطأ عندما يحاول تقييم مسألة سابقة، وإن أراد التحقق منها باختبارات معينة، فإن تلك الاختبارات تكون هي الأخرى معرضة للخطأ، والفرد وهو يحاول ذلك سيكون مثل من يتيه في أحراش وأدغال لا يوجد بها معالم واضحة للمخارج، فقد يعيد ويكرر المرور من نفس المسالك التي سلكها حتى يهتدي للمخرج، وإن أراد شرح ذلك للآخرين أو أراد أن يتذكر محاولاته فإنه سيجد نفسه أمام قدرة محدودة ناقصة، وهنا تبرز الركون للروح، أو الإيمان بالغيب والدين وإرجاع رعايته كفرد من مجموع لقوة خارقة ترعاه وترعى الآخرين.
(3)
كان الدين دائماً، وفي أي صورة له، عبارة عن محاولة لتفسير عالم يتجاوز عالمنا الإنساني، ومحاولة للاستفادة من ذلك العالم، ولا يهمنا هنا عرض تاريخ الصورة البدائية والبسيطة للدين، وعلاقة الأخلاق بالدين بصورتها البدائية.
أن تحاول البشرية التوفيق بين العلم والدين، فهذا ممكن جدا، أما أن تحاول التوفيق بين الدين والأخلاق فلا يمكن ذلك إلا بجذب الاثنين معا نحو شواطئ محيط الزمان الغامض واللانهائي، ثم إغراقهما في أعماقه (وهو ما عمله البوذيون والمسيحيون)
يشير الكاتب الى الموروث العالمي: بأن الأخلاق تجعل من الفرد في أفضل الأحوال كائناً أو مواطناً مقبولاً، بينما الدين هو وحده القادر على تحقيق التوافق بين الفرد والعالَم الإنساني.
(4)
يحاول الكاتب إيجاز الخلاصة النهائية لنظريته، بأن الولاء هو تجسيد (للأبدي) في أفعالهم، فمن يضحي بروحه من أجل قضية معينة أعلن ولاءه لها، وهو مؤمن يريد مرضاة الله، ولا يريد أن يكافئه المجتمع الذي يعيش بينه عليها.
لكن، هل يمكن أن يعلن أشخاص غير متدينين ولاءهم لشيء ويضحوا بأرواحهم من أجله دون أن يكونوا مؤمنين بالحياة الأخرى؟
نعم، هذا ممكن، فالأبدي والخلود والأخلاق عند غير المتدينين لها أبعاد إنسانية مختلفة عن المتدينين الذين يربطون ولائهم برضا الله. وهم يرون أن الدين يفسد الأخلاق ويضر في تعامل الناس فيما بينهم، فقد يتناحر أبناء الديانات المختلفة راغبين في اختفاء غيرهم من أبناء الديانات أو الطوائف الأخرى، في حين من يقدم الأخلاق على الدين ينظر بعين إنسانية لكل البشر.
(5)
يتميز الولاء الديني عن غيره، بأنه أكثر مدعاة للصبر والمثابرة والجلد وإن كان مصدرا للحزن والآلام، فإن تلك الأحزان والآلام هي ما تضفي عليه تميزه وقدسيته.
وإن من يعلن ولاءه للدين، يحس بعدم عبثية حياته، ويقول لمن يشاركونه بالولاء اطمأنوا (أنا معكم حتى نهاية حياتي) بعكس الذي يعيش بلا (أي ولاء) الذي يحس بعدميته وعزلته ونفور الآخرين من أنانيته.
انتهى
__________________
ابن حوران
|