السلام عليكم أخي البدوي الشارد..
في مقالة أبي زيد المقرئ الإدريسي، والذي بالمناسبة اعرفه جيدا، نجد لديه بعض الخلط فيما يتعلق بفهم القضية موضوع النقاش بسبب تلك المصادفة الصغيرة التي تجمع بين طموحات البرجوازية سابقا، والتيار الليبرالي الحالي كما أشار إلى ذلك تراساندانت، وأطماع الكنيسة المتمثلة في السيطرة وضمان انقياد الأفراد، الشيء الذي سأتطرق له بالتفصيل من خلال هذه المقالة.
ثم إن مراد هوفمان، والذي كان سفيرا لألمانيا بالمغرب في فترة الثمانيات وأعلن إسلامه، تطرق إلى حضور الدين في الحياة الغربية، لكنه لم يوضح درجة ذلك الحضور، والذي لا يمكن أن نتصوره بنفس الوتيرة التي لدينا، أنظر مثلا إلى الحياة الأوربية ومظاهر الدين :
عطلة نهاية الأسبوع وعطلة بعض الأعياد الدينية، لبس الصليب على العنق، الزواج في الكنيسة، (مع ضرورة توثيق العقد المدني في الادارة العمومية)، حضور القداس يوم الأحد و و و.
سترى يا أخي أنها لا تمثل شيئا، وأنها مظاهر بسيطة لا شأن للدولة بها، الدولة التي لا تتبنى أحدا عن الآخر، ولا تمنع ممارسة شعائر وتدعو إلى أخرى.. في أمريكا يمكن لعشرين شخصا أن يجتمعوا لتقديم طلب تأسيس دين جديد....
الأمثلة كثيرة.
أما تلك الكتب التي تم الاستشهاد بها، على أنها الدليل القاطع على حضور الدين، فأنا أرى أن السيد المقرئ الإدريسي يخلط بين الطموحات الاستعمارية لدى الإدارة الأمريكية وتحالفها مع الكارتلات الإقتصادية والشركات الكبرى، وبين الدولة في هويتها القانونية..
أعطيك مثالا من فرنسا التي تبنت موقفا علمانيا متشددا، ففي الفترة الامبريالية مهدت طريق غزوها للشمال الافريقي ببعثات تبشيرية وقساوسة من الكنيسة من أجل التوغل في قلب المجتمع المغاربي، والحدث هنا : تحالف بين فرنسا التوسعية، والكنيسة الراغبة في الحصول على أتباع. هل يعني هذا أن فرنسا دولة دينية ؟
ثم ردا على الخلاصة في موضوع أبي زيد الذي قال أن في أوربا : "أحزاب مسيحية تصل إلى الحكم بشكل ديمقراطي، وتعيد صياغة بعض القضايا من منظور ديني بالرغم من أنها لا تمس جوهر العلمانية".
من يشرح لنا كيف نصوغ قضية من منظور ديني دون أن نمس جوهر العلمانية ؟
دعني أوسع الموضوع..
إن العلمانية من المسائل التي يجب أن نفكر فيها باستمرار وبجد لأن الفصل فيها صعب للغاية. ليست القضية أن نكون مع أو ضد الدولة العلمانية، ولكن أيضا هل السؤال نفسه ذو موضوع في نطاق مجتمع إسلامي ؟ ألا يجب أن نبدأ بتحليل تاريخي للمفهوم ؟ تقترن اليوم الديمقراطية بالعلمانية حتى لنتخيل أن المفهومين يدلان على حقيقة واحدة، ألا يمكن أن يكون ارتباطهما من نتائج الصدفة والاتفاق ؟
لم تكن المسيحية في بداية أمرها مرتبطة بنظام اجتماعي معين، كان القس يعمل للتأثير على ضمير الفرد ولا يتطلع إلى تسيير شؤون الدولة تبعا لقولة المسيح " أعطوا ما لقيصى لقيصر وما لله لله". كانت المسيحية آنذاك أقلية مضطهدة تتمنى فقط أن يسمح لها أن تقيم شعائر دينها وألا ترغم على عبادة الأوثان. لكن عندما أصبحت المسيحية دين الإمبراطورية الرسمي اندمجت الكنيسة في هياكل الدولة واستحوذ القس على جميع مظاهر الحياة الخاصة والعامة. نسي مبدأ فصل الدين عن الدولة مدة قرون فنشب صراع عنيف بين الإمبراطور والبابا وطالب أنصار الأول أن يعود الثاني إلى وضعه السابق مذكرين بمبدأ الفصل. توالت الحروب بين السلطتين من دون أن تنتصر إحداهما انتصارا ساحقا على الأخرى حتى بداية العهد الحديث.
عندئد تبلور البرنامج العلماني على أربع مراحل :
1- تحرير الضمير الفردي من مراقبة رجال الكنيسة.
كان من نتائج حركة النهضة أن تعرف وتشبع المثقفون بالفلسفة الرومانية والقانون الروماني وأعجبوا بأخلاق الفلاسفة والحكماء المشرعين القدماء وتمنوا أن يعيشوا مثلهم عيشة فاضلة خاضعة فقط لدوافع الضمير وأوامر العقل.. ولا حاجة إلى القس الذي لا يتقيد هو نفسه في الغالب بتعاليم الإنجيل ..
في المقابل اتهمت الكنيسة هؤلاء برغبتهم فقط بالانفلات من ضوابط الأخلاق لكي ينغمسوا في الملذات ورمتهم بالزندقة.
2- تحرير الدولة من النفوذ الخارجي.
وتمثل في قطع الكنيسة البروتستانتية كل علاقاتها مع البابا واستولت على ممتلكات القساوسة وأممت التعليم وأسست كل منها كنيسة قومية خاضعة لرئيس الدولة. وحتى الدول التي لم تتغلب فيها الدعوة البروتستانتية شعرت الدولة فيها أن من مصلحتها حصر النفوذ البابوي في ميدان العقيدة فقط دون تجاوزه إلى السياسة أو الإدارة ..
3- إلغاء احتكار الكنيسة للتربية.
وقد كان هذا جوهر فلسفة عصر الأنوار حيث رأوا أن الكنيسة تمثل آلة دعاية لصالح النظام الإقطاعي المنافي للعقل والحق معا فصارت الدولة هي المشرفة على قطاع التعليم والتربية لفتح أعين الصغار على علوم جديدة نافعة ومشجعة على الانفتاح وليس جعلهم آلات طيعة في أيدي قساوسة متزمتين، بعد سحب البساط من تحت يد اليسوعيين الذين قادوا محاكم التفتيش وظلوا يحاربون كل إبداع وكل فكرة جديدة.
4- تحرير الطبقات الفقيرة وخاصة الطبقة العاملة من تأثير الكنيسة.
هذه الكنيسة التي كانت ارستقراطية إقطاعية، ثم تحالفت مع البرجوازية التي ارتأت ضرورة وجود هيئة تعلم الناس الخضوع والانقياد، فعاد الأغنياء يشجعون المدارس الكنسية، وكان من الطبيعي أن تهاجم الاشتراكية هذا التحالف، البرجوازي الكنسي، وتصاعدت صرخات الحركة الاشتراكية في القرن 19 لأنها شكلت سدا منيعا في وجه نشر أفكارهم ...
هذه بإيجاز أهم المراحل التي مرت بها علاقة الكنيسة بالدولة منذ بداية العهد الحديث.
هل يصدق هذا التحليل على دول أخرى ؟ التاريخ الفرنسي في هذه النقطة نموذجي بالنسبة لجميع الدول الكاثوليكية، أما الدول البروتستانتية فإنها لم تعرف مواجهة عنيفة بين السلطتين لأنها تحررت من سلطة البابا مبكرا منذ القرن 16.. كذلك لم تعرف الدولة الاورثدوكسية هذا المشكل لأن السلطتين الروحية والمدنية متحدتان في شخص رئيس الدولة منذ الانفصال الأكبر الذي فرق في القرن الرابع المسيحيات الشرقية عن المسيحية الغربية، ومع ذلك فالتاريخ الفرنسي والتجربة الفرنسية يمكن أن تعتبر النموذج الأمثل لتقريب معنى وظروف نشأة العلمانية.
وهكذا نرى أن مفهوم العلمانية مقيد بظروف تاريخية معينة :
الظرف الأول : وجود أقلية تخشى أن تستعمل ضدها قوة الدولة فتطالب أن تبقى هذه في الحياد وتترك المشكل يحسم على الساحة الفكرية.
الظرف الثاني : إرتباط المنظومة الدينية بمركز دولي يجعلها تقدم أوامر ذلك المركز على متطلبات الدولة التي تعيش في نطاقها.
الظرف الثالث : استقلال الكنيسة بالتعليم واستغلال هذا الاحتكار لخنق كل ابتكار.
الظرف الرابع : أن تكون الكنيسة طبقة في مجتمع طبقي فلا تفرق بين الدفاع عن موقعها وعن النظام ككل.
إن مجموع هذه الظروف يجعل البرنامج العلماني يندرج في إطار المشروع التحرري القومي الديمقراطي، إذ يتوخى تحرير الدولة من التأثير البابوي والمجتمع من الفكر الإقطاعي والعقل من الدعاية الكنسية، والضمير من تأثير القس..
الآن، هل العلمانية بالمضمون الذي سبق، الناتج عن تطور تاريخي محدد، أساس في المجتمع الإسلامي ؟ هكذا يمكن أن نطرح السؤال.. وهل توجد كنيسة بالمعنى المتعارف عليه تنفرد وحدها بتعليم الفرد وتربية الشباب تفرض اختياراتها العقائدية بقوة الدولة في عالمنا الإسلامي، تحارب كل اجتهاد مهما كان نوعه، تحتل مكانة متميزة في المجتمع تجعل منها ركيزة النظام كله، و أخيرا تخضع لتعليمات تأتيها من الخارج ...
في نفس الوقت لا يمكن أن نجيب : لا شيء مما ذكر موجود عندنا على الوجه المخصص فلا نفع لنا إذن بالخوض فيه، فهذه أمور لا تعنينا من قريب ولا من بعيد، بل يجب أن نتساءل :
ألا توجد تلك الأمور عندنا في ثياب أخرى ؟ ألا يمكن أن تظهر في أطوار لاحقة من مسيرتنا ؟؟
إذا أردنا أن نستفيد من تجربة الغرب علينا أن نرى ماذا يخفي مشكل العلمانية من مشاكل سياسية عامة، و بالنسبة لنا ما هي المسائل التي توازي في مجتمعنا القضايا التي تبلورت في الغرب في ثوب العلمانية.. علينا أن ندرس العلمانية في الإطار التاريخي الغربي لا لنعرض عنها كما لو لم ولن تمسنا في شيء، ولا أن نتولاها كما لو كانت قضية ملحة علينا، بل لنستخرج منها العبرة تحسبا لما قد يحصل من معضل سياسي أثناء تطورنا...
هذه محاولة للرد و لتوسيع رقعة النقاش ..
__________________
"Noble sois de la montaña no lo pongais en olvido"
|