قال الطبري رحمه الله"
والصواب من القول عندي في تأويل مفاتِح السور، التي هي حروف المعجم: أنّ الله جلّ ثناؤه جعلَها حروفًا مقطَّعة ولم يصِل بعضَها ببعض - فيجعلها كسائر الكلام المتّصِل الحروف - لأنه عز ذكره أراد بلفظِه الدلالةَ بكل حرف منه على معان كثيرة، لا على معنى واحد, كما قال الربيعُ بن أنس. وإن كان الربيع قد اقتصَر به على معانٍ ثلاثةٍ، دون ما زاد عليها.
والصوابُ في تأويل ذلك عندي: أنّ كلّ حرف منه يحوي ما قاله الربيع، وما قاله سائر المفسرين غيرُه فيه - سوى ما ذكرتُ من القول عَمَّن ذكرت عنه من أهل العربية: أنهّ كان يوجِّه تأويلَ ذلك إلى أنّه حروف هجاء، استُغني بذكر ما ذُكر منه في مفاتيح السور، عن ذكر تتمة الثمانية والعشرين حرفًا من حروف المعجم، بتأويل: أن هذه الحروف, ذَلِكَ الْكِتَابُ , مجموعة، لا رَيْبَ فِيهِ - فإنه قول خطأ فاسدٌ، لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين وَمن بَعدَهم من الخالفين منْ أهل التفسير والتأويل . فكفى دلالة على خَطئة، شهادةُ الحجة عليه بالخطأ، مع إبطال قائل ذلك قولَه الذي حكيناه عنه - إذ صار إلى البيان عن رفع ذَلِكَ الْكِتَابُ - بقوله مرّة إنه مرفوعٌ كلّ واحد منهما بصاحبه، ومرة أخرى أنه مرفوعٌ بالرّاجع من ذكره في قوله لا رَيْبَ فِيهِ ومرة بقوله هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . وذلك تركٌ منه لقوله: إن « الم » رافعةٌ ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وخروجٌ من القول الذي ادّعاه في تأويل الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ ، وأنّ تأويل ذلك: هذه الحروف ذلك الكتاب.
*****************************
قال الطبري رحمه الله"
فإن قال لنا قائل: وكيفَ يجوز أن يكون حرفٌ واحدٌ شاملا الدلالةَ على معانٍ كثيرة مختلفة؟
قيل: كما جاز أن تكون كلمة واحدةٌ تشتمل على معانٍ كثيرة مختلفةٍ، كقولهم للجماعة من الناس: أمَّة, وللحين من الزمان: أمَّة, وللرجل المتعبِّد المطيع لله: أمّة, وللدين والملة: أمّة. وكقولهم للجزاء والقصاص: دين, وللسلطان والطاعة: دين, وللتذلل: دين, وللحساب: دِينٌ، في أشباه لذلك كثيرةٍ يطول الكتاب بإحصائها - مما يكون من الكلام بلفظ واحد, وهو مشتمل على معان كثيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: « الم » و الر , و المص وما أشبه ذلك من حروف المعجم التي هي فواتح أوائل السور, كل حرف منها دالّ على معانٍ شتى, شاملٌ جميعُها من أسماء الله عز وجل وصفاته ما قاله المفسِّرُون من الأقوال التي ذكرناها عنهم. وهنّ، مع ذلك، فواتح السور، كما قاله من قال ذلك.
******************************
قال الطبري رحمه الله"
وليسَ كونُ ذلك من حُروف أسماء الله جل ثناؤه وصفاته، بمانعها أنْ تكون للسُّور فواتح. لأن الله جلّ ثناؤه قد افتتح كثيرًا من سوَر القرآن بالحمد لنفسه والثناء عليها, وكثيرًا منها بتمجيدها وتعظيمها, فغيرُ مستحيل أن يبتدئ بعض ذلك بالقسم بها.
فالتي ابتُدِئ أوائلُها بحُروف المعجم، أحدُ مَعاني أوائلها: أنهنّ فواتحُ ما افتتَح بهنّ من سُور القرآن. وهنّ مما أقسم بهن، لأن أحدَ معانيهن أنّهنّ من حروف أسماء الله تعالى ذكُره وصفاتِه، على ما قدَّمنا البيان عنها, ولا شك في صحة معنى القسَم بالله وأسمائه وصفاته. وهنّ من حروف حساب الجُمَّل. وهنّ للسُّور التي افتتحت بهنّ شعارٌ وأسماء. فذلك يحوى مَعانِيَ جميع ما وصفنا، مما بيَّنا، من وجوهه. لأن الله جلّ ثناؤه لو أراد بذلك، أو بشيء منه، الدلالةَ على معنًى واحد مما يحتمله ذلك ، دون سائر المعاني غيره, لأبان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إبانةً غيرَ مشكلةٍ. إذْ كان جلّ ثناؤه إنما أنـزل كتابه على رسوله صلى الله عليه و سلم ليُبيِّن لهم ما اختلفوا فيه. وفي تركه صلى الله عليه و سلم إبانةَ ذلك - أنه مرادٌ به من وُجوه تأويله البعضُ دون البعض- أوضحُ الدليل على أنه مُرادٌ به جميعُ وجوهه التي هو لها محتمل. إذ لم يكن مستحيلا في العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويله ومعناه، كما كان غير مستحيل اجتماعُ المعاني الكثيرة للكلمة الواحدة، باللفظ الواحد، في كلام واحد.
*****************************
قال الطبري رحمه الله"
ومن أبىَ ما قلناه في ذلك، سُئِل الفرقَ بين ذلك، وبين سائر الحروف التي تأتي بلفظ واحد، مع اشتمالها على المعاني الكثيرة المختلفة، كالأمّة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول في أحدٍ منْ ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
وكذلك يُسأل كلّ من تأوّل شيئًا من ذلك - على وجهٍ دُون الأوجه الأخَر التي وصفنا- عن البرهان على دَعْواه، من الوَجه الذي يجبُ التسليم له. ثم يُعارَض بقول مُخالفه في ذلك, ويسأل الفرقَ بينه وبينه: من أصْل, أو مما يدل عليه أصْل. فلن يقولَ في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
***************************
قال الطبري رحمه الله"
وأما الذي زعم من النحويين: أنّ ذلك نظيرُ « بل » في قول المنشد شعرًا:
بل * ما هَاج أحزانًا وشجوًا قد شَجَا
وأنه لا معنى له, وإنما هو زيادة في الكلام معناه الطَّرْح - فإنه أخطأ من وُجُوه شَتَّى
أحدها: أنه وَصفَ الله تعالى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هوَ من لغتها، وغير ما هو في لغة أحد من الآدميين. إذْ كانت العرُب - وإن كانت قد كانتْ تفتتح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ « بل » - فإنه معلوم منها أنها لم تكن تبتدئُ شيئًا من الكلام بـ « الم » و الر و المص ، بمعنى ابتدائها ذلك بـ « بل » . وإذْ كان ذلك ليس من ابتدائها - وكان الله جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم من القرآن، بما يعرفون من لغاتهم، ويستعملون بينهم من منطقهم، في جميع آيه - فلا شك أن سبيل ما وصفنا من حروف المعجم، التي افتُتِحت بها أوائل السور، التي هن لها فواتح، سَبيلُ سائر القرآن، في أنه لم يعدلْ بها عن لغاتِهم التي كانوا بها عارفين، ولها بينهم في منطقهم مستعملين. لأن ذلك لو كان معدولا به عن سبيل لغاتِهم ومنطقهم، كان خارجًا عن معنى الإبانة التي وصف الله عزّ وجل بها القرآن, فقال تعالى ذكره: نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وأنَّى يكون مُبينًا ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالمين ، في قول قائل هذه المقالة, ولا يُعْرَف في منطق أحد من المخلوقين، في قوله؟ وفي إخبار الله جَلّ ثناؤه عنه أنه عربي مبين، ما يُكذِّب هذه المقالة, وينبئ عنه أنّ العربَ كانوا به عالمين، وهو لها مُستبينٌ. فذلك أحدُ أوجه خطئه.
والوجه الثاني من خطئه في ذلك: إضافته إلى الله جلّ ثناؤه أنه خاطب عباده بما لا فائدة لهم فيه ولا معنى له، من الكلام الذي سواءٌ الخطابُ فيه به وترك الخطاب به. وذلك إضافة العبث الذي هو منفيٌّ في قول جميع الموحِّدين عن الله - إلى الله تعالى ذكره.
والوجهُ الثالث من خطئه: أن « بل » في كلام العرب مفهومٌ تأويلها ومعناها, وأنها تُدْخلها في كلامها رجوعًا عن كلامٍ لها قد تَقضَّى كقولهم: ما جاءني أخوك بل أبوك ; وما رأيتُ عمرًا بل عبد الله, وما أشبه ذلك من الكلام, كما قال أعشى بني ثعلبة:
وَلأشْـــرَبَنَّ ثَمَانِيًـــا وثَمَانِيًـــا وثَــلاثَ عَشْـرَةَ واثْنَتَيـنِ وأَرْبَعَـا
ومضى في كلمته حتى بلغ قوله:
بالجُلَّسَـــانِ, وطَيِّـــبٌ أرْدَانُــهُ بِـالوَنِّ يَضْـرِبُ لِـي يَكُـرُّ الإصْبَعَا
ثم قال:
بَـلْ عَـدِّ هـذا, فِـي قَـريضٍ غَيْرِهِ وَاذكُـرْ فَتًـى سَـمْحَ الخَلِيقـةِ أَرْوَعَا
فكأنه قال: دَعْ هذا وخذ في قريض غيره. فـ « بل » إنما يأتي في كلام العرب على هذا النحو من الكلام، فأما افتتاحًا لكلامها مُبتدأ بمعنى التطوّل والحذف ، من غير أن يدلّ على معنى, فذلك مما لا نعلم أحدًا ادعاه من أهل المعرفة بلسان العرب ومنطقها, سوى الذي ذكرتُ قوله, فيكون ذلك أصلا يشبَّه به حُرُوف المعجم التي هي فواتح سور القرآن التي افتتحت بها - لو كانت له مُشبهةً- فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟
*********************************