عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 25-01-2009, 07:06 AM   #22
محمد الحبشي
قـوس المـطر
 
الصورة الرمزية لـ محمد الحبشي
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
إفتراضي

وبعد أن فرغ من وضع الأمور في نصابها، خرج صلاح الدين من دمشق لاستكمال مهمة الوحدة. وما هي إلا بضعة أيام حتى استسلمت له مدينتا حمص وحماه. ولم يبق إلا حلب الشهباء، فضرب حولها حصاراً ليرغمها على الاستسلام من غير قتال.

ولكن أمير حلب أبى واستكبر. فأرسل إلى الإفرنج يطلب معاونتهم على صلاح الدين. ولقي هذا الطلب هوى في نفوس الإفرنج، فإن بقاء حلب "مستقلة" هو صمام الأمان في وجه أية وحدة عربية من النيل إلى الفرات.

ولجأ بادئ الأمر إلى الحيلة والمكيدة، فأرسلوا إلى صلاح الدين يفاوضون حول قضية حلب، كما يتفاوض الاستعمار في يومنا هذا مع الحاكم العربي أو ذاك… وشفع الإفرنج الترغيب بالترهيب، يلوحون له بأن " الفرنج قد تعاضدوا وصاروا يدا واحدة"…. ورد صلاح الدين بذلك الجواب التاريخي قائلا "لست ممن يرهب بتأليب الفرنج" .

وتطور الموقف، فأغار صلاح الدين بقواته على إمارة أنطاكية، وأوقع بالإفرنج خسائر فادحة.

وخرج أمير الموصل على رأس قوة كبيرة للتصدي لقوات صلاح الدين – نيسان 1176 وانضمت إليه قوات أخرى من حلب، حتى بلغت كلها ما يربو على عشرين ألف مقاتل، ودارت المعركة في موقع يعرف بتل السلطان على مسافة عشرين ميلا إلى الجنوب من حلب.

ورغما عن أن قوات صلاح الدين لم تزد على ستة آلاف، فإن النصر كان حليف صلاح الدين، ووقع في يده عدد من الأسرى، فأطلق سراحهم واستولى على سرادق أمير الموصل نفسه، وكان فيه كثير من الحمام والبلابل والببغاوات والخمور، فجمع ذلك كله وأرسله إلى أمير الموصل ومعه رسالة تفيض بالسخرية اللاذعة. ويقول فيها "البلابل والببغاوات شيء والحرب شيء آخر.

وفي صيف 1181 قام أحد أمراء الإفرنج –أرناط-وكان متوليا على حصن الشوبك والكرك في شرق الأردن، بغارة على واحة تيماء الواقعة على الطريق إلى المدينة المنورة، ونهب قافلة إسلامية كبيرة كانت متجهة من دمشق إلى مكة.

وأغارت قوات صلاح الدين على مواقع الإفرنج في الأردن، فاضطر أرناط أن يعود أدراجه بعد أن أوشك على "الاستيلاء على تلك النواحي الشريفة" .

قال ابن الأثير في تاريخه "…..جمع صلاح الدين أمراءه واستشارهم فأشار عليه أكثرهم بترك اللقاء(الحرب) وأن يضعف الإفرنج بشن الغارات وإخراب الولايات مرة بعد مرة…فقال له بعض أمراء الرأي عندي أن نجوس بلادهم وننهب ونخرب ونخرق ، ونسبي، فإن وقف أحد من عسكر الفرنج بين أيدينا، فإن الناس بالمشرق يلعنوننا ويقولون ترك قتال الكفار، وأقبل يريد قتال المسلمين، والرأي أن نفعل فعلاً نعذر فيه ويكف الألسن عنا…."

وواضح من هذا الحوار، أن الرأي العام، يومئذ كما هو اليوم بشأن إسرائيل يريد قتال الإفرنج، وأن الناس كانوا يلعنون الأمراء. كما يفعل الناس اليوم مع الملوك والرؤساء طعنا ولعنا.

وقد حسم صلاح الدين ذلك الحوار، فقال كلمته الشهيرة، كما أوردها ابن الأثير"…. الرأي عندي أن نلقي بجميع المسلمين جمع الكفار، فإن الأمور لا تجري بحكم الإنسان، ولا نعلم قدر الباقي من أعمارنا ولا ينبغي أن نغرق هذا الجمع إلا بعد الجد في الاجتهاد." .

وهكذا يبدو صلاح الدين مع أمرائه وكأنه يستعجل أيام الجهاد، قبل أن يعاجله الموت، والأرض العربية يحتلها الغاصب الدخيل. ثم يؤكد هذا المعنى مرة ثانية ويقول "العمر قصير والأجل غير مأمون " .

وعزم صلاح الدين على الجهاد فكتب إلى "جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وأرسل إلى الموصل والجزيرة وأربل وغيرها من بلاد الشرق، وديار بكر، والى مصر، وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد، ويحثهم عليه والتجهيز له" .

ثم يروي ابن شداد أن صلاح الدين "نازل طبرية وزحف عليها، فهاجمها وأخذها في ساعة من نهار، واستولى على ما فيها من ميرة وذخيرة".

ولما علم الإفرنج أن صلاح الدين قد استولى على طبرية عقدوا مجلسا حربيا في عكا حضره جميع الأمراء، وهالهم أن يسقط هذا الموقع الاستراتيجي الهام بيد صلاح الدين، فتنادى أمراؤهم للقتال، وقال ملكهم "لا قعود لنا بعد اليوم، وإذا أخذت طبرية ذهبت البلاد بأسرها، فوافقوه، ورحلوا بجيوشهم نحو السلطان" .

والواقع أن صلاح الدين باستيلائه على طبرية كان يقصد انتزاع هذه المنطقة الاستراتيجية التي كانت تقف حائلا بينه وبين الساحل، كما كان يرمي إلى استدراج الإفرنج إلى محاربته في الزمان والمكان اللذين يختارهما، وقد أحسن في ما اختار.

لقد اختار الزمان شهر تموز وهو شهر الحرارة في هذه المنطقة، يطيقه الجنود العرب، ولا يطيقه جنود الإفرنج.

واختار المكان، هضاب حطين، على بضعة أميال إلى الغرب من مدينة طبرية، أرض مجدبة، فلا زرع ولا ضرع ولا مياه ولا ظلال.

وكانت جموع الإفرنج محتشدة في قرية صفورية، إلى الغرب، حيث المياه الوفيرة، والظلال الوارفة.
وهكذا أفلح صلاح الدين، باستيلائه على طبرية، فأخرج الإفرنج من الظل الظليل إلى هضاب حطين حيث البقاع الملتهبة الجرداء.

وما أن علم صلاح الدين أن الإفرنج قد خرجوا من صفورية، حتى بادر إلى استدراجهم إلى الفخ الجهنمي الذي ينتظرهم في حطين، وهو يقول، كما روى رفيقه العماد الأصفهاني :"قد حصل المطلوب. وجاءنا ما نريد" .

وتلاقى الجمعان عند هضاب حطين في عشية الثالث من شهر تموز من عام 1187، الموافق، الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني-ولم أذكر التاريخ العربي عبثا.

لقد اختار صلاح الدين ليلة الرابع والعشرين من الشهر العربي، حين كان القمر في أيام المحاق ، ففي مثل تلك الليلة يحسب للرأئي أن التلال فرسان، والفرسان تلال، ولا يميز هذا وذاك!!

وحين كان صلاح الدين يرقب أمور "الواقعة المباركة" كان الإفرنج يجوسون بين الهضاب بحثا عن الماء، ولكن أنى لهم ذلك، والمنطقة جدباء على حين كان الماء من خلف صلاح الدين أقرب إليه من حبل الوريد.

وأسفر الصباح في الرابع من شهر تموز عن شمس لافحة ورياح لاهبة والإفرنج يدهقهم العطش، وصلاح الدين وجنده، آكلون شاربون مسلحون وجها لوجه أمام الإفرنج، وقد عزموا أن يكيلوا لهم الكيل كيلين، ففي هذا المكان بالذات وقف السيد المسيح عليه السلام ينطق بكلماته في "عظة الجبل الشهيرة" ويقول :"وبالكيل الذي تكيلون يُكال لكم .

وكان قد مضى على الإفرنج ما يزيد على ثمان وثمانين عاما، هم يكيلون للعرب القتل والدمار والنار جزافا، وها قد جاء الوقت لتصفية الحساب. وكأنما وقف السيد المسيح في هذا المكان، ينثر عظاته الرفيعة لمثل هذا اليوم الرفيع!!

وكان ذلك اليوم حارا لاهبا، وأدرك الإفرنج أن صلاح الدين "قد أحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها".
__________________

محمد الحبشي غير متصل   الرد مع إقتباس