وكانت الحملة الثالثة في كانون الثاني 1167، فقد قام الملك عموري بالهجوم على مصر، بناء على استنجاد آخر، من وزير مصري آخر، هو شاور، فسار الملك عموري في الطريق الذي أصبح يعرفه جيدا، من غزة إلى العريش إلى سيناء والى بلبيس، وهناك لقيهم حليفهم الخائن الوزير شاور، واجتازوا النيل وعسكروا على الضفة الشرقية. وهالهم أن يجدوا أن جيش أسد الدين الأيوبي ومعه صلاح الدين، كان قد سبقهم أيضا، فقد خرج من دمشق واجتاز الصحراء وعبر النيل عند أطفيح، ومنها إلى الجيزة، حيث عسكر في مواجهة الفسطاط على الضفة الغربية للنيل.
وقبل أن يبدأ القتال، شهدت القاهرة أتعس أيامها عارا وذلا، ففي ذلك اليوم وصل سفراء الملك عموري إلى قصر الخليفة الفاطمي، وعقدوا معه اتفاقية يلتزم بموجبها أن يدفع إلى الإفرنج مبلغ أربعمائة ألف دينار، في مقابل إخراج أسد الدين الأيوبي وقواته من مصر، وتم إبرام الاتفاق وعاد السفراء إلى الملك عموري، وقد انبهرت أبصارهم بالعجائب والغرائب التي شهدوها في القصر الفاطمي…من الستائر الذهبية، إلى الوسائد المرصعة باللآلى، إلى الجدران المكسوة بالياقوت والمرجان!!
وبعد الاتفاق بين الصليبيين وخليفة المسلمين، دارت المعركة بين الإفرنج وجيش نور الدين، وراج الإفرنج يعبرون إلى جزيرة الروضة… وأصبح موقف أسد الدين الأيوبي حرجا فاتجه إلى الصعيد، ولحق به عموري وشاور، وعند الأشمونيين في المينا دارت معركة البابين الشهيرة، وانهزم الإفرنج، مع أن عسكر أسد الدين لم يتجاوزوا ألفي فارس، وانبهر ابن الأثير لهذا النصر فقال "وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس "جيش أسد الدين" يهزم عسكر مصر (الفاطميين) وإفرنج الساحل"
وتعاقبت المعارك بين الجانبيين بعد ذلك, وشدّد الإفرنج الحصار على الإسكندرية، وصبر أهلها وهم على ضيق شديد، وصلاح الدين معهم يقاوم الحصار، غير أن قوات الإفرنج ومعهم حلفائهم الفاطميون كانت أكثر عددا وعددا، مما اضطر أسد الدين الأيوبي إلى الانسحاب، والعودة إلى دمشق…وكانت النتيجة : لا غالب ولا مغلوب!!
وفي ختام هذه الحملة ….وبالتحديد في خريف عام 1167، وقعت واحدة من المآسي الرهيبة التي عرفها تاريخ الأمة العربية، ذلك أن الملك عموري بقي بضعة أسابيع في القاهرة ليضع قواعد الحماية على مصر، تنفيذا للاتفاقية مع الخليفة الفاطمي، وسجل ابن الأثير تلك المأساة الرهيبة في عبارة دامعة دامية، يقول فيها :
"أما الإفرنج فقد استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة ( نائب ملك)، وتكون أبوابها بيد فرسانهم، ليمتنع نور الدين من إنفاذ العسكر إليهم،و يكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار" .
ولكن أنى للشعب المصري، الشعب الشجاع الأبي، أن يصبرعلى هذا الضيم… فإذا كان حكامه قد ارتضوا حماية الإفرنج ، فليس للشعب أن يخضع ويخنع … فقد هاجمت خواطر الناس في مصر وفي العالم الإسلامي وهم يرون في القاهرة، حامية من فرسان الإفرنج، ومندوبا (شحنة) يشارك في الحكم…حتى أصبحت مصر كما وصفها أبن الأثير :
"تمكن الفرنج من البلاد المصرية، وجعلوا لهم في القاهرة شحنة (مندوبا) وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم وأعيان فرسانهم، وحكموا على المسلمين حكما جائرا وركبوهم بالأذى العظيم" .
ورأى الفاطميون، بالتجربة والممارسة، لا بالعقل والضمير، أن الشعب المصري لم يعد يطيق بقاء الإفرنج في القاهرة، فلم يجدوا مناصا من الاستنجاد بالملك نور الدين، لإنقاذهم من الحماية والاحتلال، وبلغ من سوء الحال أن الخليفة الفاطمي حين بعث إلى نور الدين يستنجده أرسل في كتبه شعور النساء ، وقال :
" هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج".
وكذلك يفعل الخونة، يحتمون في الشدة بالنساء ويستغيثون، بدموعهن وشعورهن !!
وتهيأ مسرح التاريخ على أرض مصر بالحملة الرابعة…ففي أواخر تشرين الأول 1168 خرج الملك عموري من عسقلان لغزو مصر فوصل إلى بلبيس ومنعه الشعب من دخولها وأن يعسكر فيها، كما كان يفعل في المرات السابقة، وقالوا له "لا تدخلها إلا على أسنة الرماح… أتحسب أن بلبيس جِبنة تأكلها ؟ ولكن عموري ركبة الغرور فرد قائلاً "نعم , هي جبنة والقاهرة زبدة". ولم يدرِ أنه هو وجيشه سيكون الجبنة والزبدة تأكلها مصر هنيئا مريئا.
وبادر نور الدين إلى النجدة، وزحف أسد الدين ومعه صلاح الدين إلى مصر، ودارت معارك طاحنة بين الفريقين، تجلت فيها بطولة الشعب المصري، "فاحترقت مدينة بلبيس وقتل من أهلها خلق عظيم وخرب أكثرها وأحرق جل دورها" وقاوم أهل القاهرة مقاومة ضارية… واحترقت الفسطاط، ولجأ أهلها إلى مدينة القاهرة….ووضع المصريون العقبات الكثيرة في مجرى النيل ليحولوا دون تقدم أسطول الإفرنج.. وقد رضي المصريون بكل هذه التضحيات الجسام، " وأن تدمر بيوتهم وتحرق مدنهم حتى لا تقع بيد الإفرنج .
ولم يكن النضال قاصرا على الرجال فحسب، فقد قامت النساء بدورهن خير قيام، فإن كثيرا من نساء القاهرة جززن شعورهن لتباع في الأسواق ليساهمن بثمنها في مجهود الحرب . والشعب دائما، صاحب المروءات والاريجيات، الرجال والنساء، سواء بسواء….
واضطر الملك عموري في النهاية أمام قوات أسد الدين، ومقاومة الشعب المصري، إلى أن يعود مرة أخرى، مقهوراً مدحوراً إلى مملكته في بيت المقدس.