03-01-2009, 08:24 PM
|
#7
|
|
قـوس المـطر
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
|
سقوط طرابلس
وكانت طرابلس ذات مزايا كثيرة وإغراءات كبيرة، فهي مدينة حصينة، وثغر كبير على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ولها تجارة وافرة، وأموال متكاثرة.
والواقع أن طرابلس كانت بذاتها إمارة مستقلة، يحكمها بنو عمار، وليس أمام الإفرنج إلا أن يستولوا عليها ويجعلوا منها عاصمة لدولة إفرنجية ثالثة، بعد مملكة بيت المقدس، وإمارة أنطاكية.
كانت طرابلس، وكما هي اليوم، تقارب أن تكون شبه جزيرة في البحر الأبيض المتوسط، وهذا ما مكن حكامها من بني عمار أن يظلوا على اتصال دائم بالبحر، للحصول على ما يلزمهم من المؤن، إذا ضُرب الحصار على المدينة برا……
وكان أول ما فعله الإفرنج أن بنوا قلعة في مواجهة طرابلس مباشرة، على الجبال المقابلة، وذلك لإحكام الحصار عليها، وقطع صلتها بالعالم الخارجي.
وقد حاول بنو عمار هدم هذه القلعة وإشعال النار فيها (أيلول 1104) ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا….ذلك أن حاكم طرابلس ليس بمقدوره بمفرده، أن يتصدى لقوات الإفرنج الهائلة الزاحفة من أواسط أوروبا.
وتوالت الإمدادات على الإفرنج عن طريق قبرص، ليزيدوا الحصار على طرابلس إحكاما، ولكن أهل طرابلس الشجعان كانوا في معظم الأحوال يصادرون سفن الإفرنج وهي في البحر، ويسوقونها إلى ميناء طرابلس في بسالة نادرة وشجاعة خارقة .
غير أن الحصار قد أخذ يضيِّق الخناق على أهل طرابلس، "فساءت الأحوال وارتفعت أسعار المؤن ارتفاعا فاحشا، وهجرها الفقراء، وافتقر الأغنياء"، كما عبر عن ذلك جارهم القريب، مؤرخ دمشق ورئيس ديوانها.
وكان أمير طرابلس في تلك الحقبة فخر الملك بن عمار، قد حاول أن يستنجد بملك دمشق، وخليفة الفاطميين في القاهرة، ولكنهما كانا يطمعان في إلحاق طرابلس بأملاكهما، وراحا ينتظران الفرصة الأولى للانقضاض عليها، ولعل حصار الإفرنج يكون فاتحة الطريق….. وكانت تلك أحلى أحلامهم وأعز آمالهم!!
وضاق طوق الحصار على طرابلس، وأهلها مستميتون في الدفاع عنها، ولم يبالوا أن يبيعوا ما يملكون "من الحلى والأواني لشراء ما يلزمهم من المؤن.
غير أن الشعب في طرابلس تصدى لحصار الإفرنج ثلاث سنوات أخرى، (1105-1108) واستعان الأغنياء بكنوزهم من الذهب والفضة فاستوردوا المواد الغذائية لأسواق طرابلس من كل مكان… حتى من جزيرة قبرص البيزنطية، ومن إمارة أنطاكية الواقعة بيد الإفرنج .
ولما اشتد أمر الحصار على طرابلس وحكام المسلمين في دمشق والقاهرة وبغداد، يراقبون ويتفرجون، قرر فخر الملك بن عمار أن يسافر في ربيع 1108 إلى دمشق وبغداد لطلب النجدة، تماما مثل رسائل النجدة التي أرسلها إلى العواصم العربية المستنجدون المستصرخون من أبناء فلسطين في الثلاثين عاما الأخيرة!!
وشاء القدر أن تكون رحلة فخر الملك بن عمار مأساة إنسانية مثيرة، لا بد أن يقف المواطن العربي أمامها متعظا ومعتبرا، وأوجه الشبه والمقارنة تتزاحم في ذهنه بين الأمس البعيد، واليوم القريب.
وتفصيل الأمر، في غاية الإيجاز، أن فخر الملك قد أناب عنه ابن عمه في حكم طرابلس، ودفع مرتبات الجند لستة أشهر سلفا، وخرج في رحلة الاستنجاد والاستصراخ، حاملا الهدايا الفاخرة النادرة. وما كان أكثرها في قصور طرابلس.
ووصل فخر الملك إلى دمشق. وتصف كتب المؤرخين كيف خرج للقائه ملك دمشق وأمراؤها بالحفاوة والتقدير، واستضافوه بكل إعزاز وإكرام، وكيف أقام عندهم وهو يحدثهم عن حصار الإفرنج لأهل طرابلس، والضائقة التي يعانونها، وكيف أن حكام دمشق قد كالوا المديح والثناء على ابن عمار، والسؤال "عن حالة وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطر في قتالهم" تماما مثل البيانات المشتركة التي يصدرها الملوك والرؤساء في ما بينهم ….هذه الأيام.
وانتهت رحلة دمشق، على غير طائل، أو نائل، واستأنف فخر الملك مسيرته إلى بغداد، وخرج ملك دمشق وأمراؤها، يودعونه بمثل ما استقبل به من حفاوة وإكرام، حسب تعابير الإذاعات العربية، اليوم، في وداع الملوك واستقبالهم.
واجتاز فخر الملك بادية الشام إلى بادية العراق، وهو يأمل أن يجد في بغداد النجدة والأريحية، أليست بغداد مقر الخلافة العباسية وعلى رأسها المستظهر بالله…. أليس فيها السلطان محمد السلجوقي …., هما زعيما العالم الإسلامي يومئذ، بلا منازع؟
ولم يكد فخر الملك أن يصل إلى ضواحي بغداد، حتى وجد حفاوة أشد كرما وإقبالا. فقد أرسل السلطان محمود سفينته الخاصة، لتقله هو وحاشيته في عبوره الفرات إلى بغداد.
ودخل فخر الملك إلى عاصمة العباسين في موكب فخيم، ونزل في قصر عظيم، أقام فيه أربعة أشهر، كانت المباحثات خلالها جارية على ساق وقدم، وفخر الملك يحدث الخليفة والسلطان عما يكابده أهل طرابلس من عناء الحصار، ويحضهم على مجاهدة الإفرنج، وإنقاذ الإمارة العربية من أن تسقط بيد الإفرنج.
وكان كل ما فعله السلطان والخليفة أن أشادا بجهاد فخر الملك وبسالة أهل طرابلس…، وانتهى الأمر بسخاء، ولكن بالحمد والثناء، من غير نجدة ولا مساندة.
وعاد فخر الملك في الطريق إياه، ولا تتسع الصحراء لآلامه، وهو حائر في أمره، والقدر يخبئ لأمير طرابلس، أن يصيح من غير طرابلس، ثم بعد ذلك لتسقط عاصمته العريقة الباسلة بيد الإفرنج…
وتمضي فصول المأساة، لتروي أن فخر الملك قد عاد بخفي حنين، خف من بغداد وحَف من دمشق، ذلك أنه لم يكد يصل إلى طرابلس حتى علم أن الفاطميين قد انتهزوا فرصة غيابه، فأرسلوا في صيف 1108، شرف الدولة واليا عليها، فاحتلها، وحمل إليها كميات وافرة من القمح، وقبض على رجال فخر الملك ونقلهم بحرا إلى مصر، وآلت طرابلس إلى الفاطميين. وهتف الناس للفاتحين.
وبقيت الفصول الأخيرة في المأساة…
أحد فصولها، أن ملك دمشق وجد فرصته الذهبية في ذهبها الزائف، ليستولي على أملاك فخر الملك ، فزحف على عرقة وضمها إليه…. ولكن لبضعة أيام، فقد تصدى لها الإفرنج، وضربوا حولها الحصار لمده ثلاثة أسابيع، وحينما يئست الحامية من المقاومة فرت ليلا وتركت القلعة خالية، واحتلها الإفرنج في اليوم التالي، وظل الإفرنج يطاردون الحامية وعلى رأسها ملك دمشق حتى مشارف حمص.
وفصل آخر… إن طرابلس نفسها، لقيت المصير الذي لقيته عرقة، فلم تستطع أن تصمد أمام حصار الإفرنج أكثر مما صمدت، وساءت أحوال الأهلين "وزادهم ضعفا تأخر الأسطول المصري عليهم بالنجدة والميرة، وأنه لم تكد تصل النجدة البحرية من مصرٍ إلى طرابلس حتى وجدوا البلد قد أخذ فعادوا كما هم".
والذي حدث، أنه قد أطل العاشر من حزيران سنة 1108، وتجمع في ذلك اليوم كله أمراء الإفرنج خارج أسوار طرابلس، وتمت تصفية الخلافات في ما بينهم، وتعاهدوا أن يحملوا على طرابلس حملة رجل واحد، واستسلمت المدينة بعد حصار رهيب دام ستة أعوام، أبلى فيها الشعب أعظم بلاء…. والخلفاء والملوك هم البلاء!!
وأخيرا وصل الأسطول المصري للنجدة، وكانت طرابلس قد استسلمت، ذلك أن إقلاع الأسطول المصري كان قد تأجل بضعة أشهر لفض المنازعات بين قادته .
ودخل الإفرنج إلى مدينة طرابلس، وسيوفهم عطشى إلى الدماء، فقتلوا الشيوخ والنساء والأطفال، وأحرقوا الدور بعد أن نهبوا ما فيها، وكان أعز ما تناولته النيران مكتبة بني عمار التي كانت تعتبر أروع مكتبات العالم، كما شهدت بذلك المراجع الغربية .
وكانت عبارة "لله الأمر من قبل ومن بعد"، وهي التي يرددها ملايين العرب والمسلمين، ولا يزالون، كلما رأوا تخاذل ملوكهم وأمرائهم في الأيام السوداء.
وهذا "المستعلي بالله " الذي كان الخليفة الفاطمي في تلك الحقبة ، لم يتورع أن يبعث بسفرائه إلى الإفرنج ليفاوضوهم على التحالف ضد حكام الشام والعراق ، وليتفقوا معهم على اقتسام البلاد : هذه لكم وهذه لنا !!
والمؤرخون المسلمون ، يتحدثون بمرارة وحسرة ، كيف أن السفراء الفاطميين جاؤوا إلى معسكر الإفرنج خارج أسوار طرابلس وهم يحملون الهدايا النفيسة إلى أمراء الإفرنج واحداً واحداً ... وكيف أن وفداً من الإفرنج قد رد الزيادة ، فجاء إلى القاهرة ودخل قصر الفاطميين ليستأنف المفاوضات من جديد !!
ومن أجل ذلك كان طبيعياً أن تسقط ديار الشام غنيمة باردة ولقمة سائغة ، والفاطميون يفاوضون الأعداء بدلاً من أن يجاهدوهم ، ويبلوا فيهم أحسن البلاء .
يقرأ المواطن العربي جميع هذه الوقائع ، وتقفز في ذهنه الأشباه والنظائر كما يراها في أيامه التي يعيشها ، وفي الأحداث التي يقرؤها أو يسمع بها.
يقرأ المواطن العربي كل هذا ، فيرى أن المفاوضات مع الأعداء هي المفاوضات ، وأن الهزائم هي الهزائم ... وأن الأسباب هي الأسباب ... لقد تبدلت الأسماء والألقاب ... ولكن الملوك والرؤساء هم الملوك والرؤساء ... والكوارث هي الكوارث ... والضحية هم الشعوب ...
استتب الأمر للملك بلدوين في بيت المقدس، ولكنه ظل خائفا يستبد به قلق حائر بعيد.. تجاوز أسوار المدينة المقدسة.
لقد أصبحت حدود المملكة شاملة فلسطين كلها، ومعها كثير من أقاليم ديار الشام، وأصبحت "حدوداً آمنة معترفا بها"، حسب تعبير الأمم المتحدة في هذه الأيام التي نعيشها في حوار مع إسرائيل!!
ومثل الإسرائيليون اليوم، كان بلدوين يتطلع إلى حدود أكثر أمنا… وكانت مصر هي مصدر مخاوفه، وكان اتصال مصر والشام هو مبعث أرقه في ليله، وقلقه في نهاره.
وراح بلدوين، يفكر ويخطط ...ثم راح ينفذ ...
|
|
|