03-01-2009, 08:22 PM
|
#7
|
|
قـوس المـطر
تاريخ التّسجيل: Apr 2006
الإقامة: بعيدا عن هنا
المشاركات: 3,527
|
ولعل الوزير الأفضل قد عاد بذاكرته، عامين إلى الوراء، حين كان يفاوض الإفرنج للمرة الأولى، وهم يحاصرون إنطاكية، فأرسل يعاتبهم على احتلال بيت المقدس، ولم يكن من التاريخ العربي إلا أن يسخر منه، كما يسخر من حكام هذا الزمان، فقال "إن الأفضل قد أرسل رسولا إلى الإفرنج يوبخهم على ما فعلوه"….كأن التوبيخ والاستنكار والاحتجاج يرد المعتدي عن عدوانه.
ولكن الإفرنج، لم يتركوا جيش الأفضل يعود أدراجه إلى مصر، فجمعوا قواتهم وهاجموه عنيفا، ودارت معركة حامية بين الطرفين كانت الغلبة فيها للإفرنج…وتشتت شمل الفاطميين، حتى "أن بعضهم لم يجد نجاة إلا في البحر، فألقوا بأنفسهم فيه وغرقوا، واحتمى البعض الآخر بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً فأحرق الإفرنج بعض الشجر حتى هلك من كان فيه". أما الوزير الأفضل فقد هرب إلى عسقلان ومعه بعض رجاله , وركبوا سفينة وهربوا الى مصر بحرا، وهكذا وصف التاريخ العربي تلك الهزيمة العربية .
وكان طبيعيا أن تحل الهزيمة بالفاطميين، فقد كانوا كحكام هذا الزمان، يحسنون الظن أمام العدو، ولم يجد المؤرخ العربي في وصف تلك المأساة إلا أن يقول "…….تمكنت سيوف الإفرنج من المسلمين، فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد، وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس، ونهب العسكر. وهكذا تكون عاقبة الذين يحسنون الظن بالأعداء، يفاوضونهم متهافتين، وإذا حاربوا، يحاربونهم متخاذلين!!
وسقطت هيبة الفاطميين، ولم يستشعر أهل البلاد أن لهم أملا في الخلافة الفاطمية في القاهرة أن تحميهم، ولم يبق أمام الإفرنج إلا أن يتوجوا انتصاراتهم في سائر أنحاء البلاد، بأن يعلنوا في بيت المقدس، قيام المملكة وتسمية الملك.
وفي عيد الميلاد، في كانون الأول من عام 1099، كانت كنيسة العذراء في بيت لحم تدق أجراسها، فرحا وابتهاجا، بتتويج أمير الإفرنج بلدوين، أول ملك على بيت المقدس، يتبعه بعد ذلك ثمانية عشر ملكا، آخرهم هنري الثالث.... والشعوب العربية غامضة مذهولة، والملوك والخلفاء يتوارثون العروش في قصورهم الباذخة…واحداً بعد واحد...
وأدرك بلدوين أن "مملكته" لا تزال تحت رحمة "جيوب" عربية قائمة على ساحل فلسطين، أهمها قيسارية، وأرسوف، وكان الأهلون يقومون بغارات باسلة على مواقع الإفرنج القريبة منهم، ويكبدونها خسائر فادحة . ذلك أن الشعب يظل دوما يقاوم الاحتلال حتى ولو كان حكامه سادرين في الضلالات والجهالات.
ولهذا فقد عزم بلدوين على أن يضرب مقاومة الشعب في عقر دارها، فوجَّه حملة إلى قيسارية وأرسوف، وكان قد وصل إلى حيفا أسطول بحري من جنوة (آذار سنة 1101) محمل بالمؤن والعتاد…واستطاع الإفرنج، ما لم يقدروا عليه في الماضي، فاستولوا على قيسارية وأرسوف، وأعملوا السيف في رقاب الأهلين، حتى أن المراجع التاريخية الأوروبية ذكرت أن الإفرنج قد ارتكبوا مذبحة بالغة الوحشية في قيسارية، فقتلوا كثيراً من أهلها الأبرياء، ولم يتركوا شيئا إلا نهبوه…وعندما احتمى الأهالي بجامع المدينة لحق بهم الإفرنج وذبحوهم داخل الجامع عن آخرهم، دون أن يفرقوا بين الرجال والنساء والأطفال، وتحول الجامع إلى بركة من دماء قتلى المسلمين.
ووصلت أنباء هذه الفواجع والمذابح، إلى أرجاء العالم العربي، وضج الناس ينددون بالحكام أجمعين، وأحس الفاطميون في القاهرة بأن الأبصار الغاضبة تتجه إليهم، وأن أصابع الاتهام تكاد تفقأ عيونهم.
فشرعوا يعدون العدة للقيام بحملات عسكرية ضد مواقع الإفرنج في فلسطين.
وحدثت أربع معارك ..
انتهت إلى أربع هزائم…
وكانت المعارك في ربيع 1101، وكان قائد الفاطميين صاحب لقب آخر ينتسب إلى الدولة، "سعد الدولة القواسي"، وقد تجمعت الحملة المصرية، بعد اجتيازها سيناء، عند عسقلان….وقضى الجيش الفاطمي عدة أشهر من غير قتال ولا يزال ينتظر المدد من الفاطميين…ثم اتجه إلى الرملة حيث يستطيع منها أن يضرب مواصلات الإفرنج في يافا، ويزحف على بيت المقدس.
وسارع الإفرنج بقيادة مليكهم، ولم تكن قوتهم تتجاوز مائتين وستين فارسا، وتسعماية من المشاة، تقابلها قوات كبيرة من الجيش الفاطمي.
وفي صباح السابع من شهر أيلول التقى الجيشان، وشهدت سهول الرملة معركة قاسية بين الفريقين، انتصر فيها الإفرنج، وانهزم الفاطميون وقتل منهم عدد كبير، وفر الباقون في اتجاه عسقلان، وقُتل القائد سعد الدولة القواسي، ولحق الإفرنج بالمسلمين وظلوا يطاردونهم حتى أسوار عسقلان، وغنم الإفرنج أموالا كثيرة وعِددا وفيرة.
وقد تملك الحزن ابن الأثير، كما تملكنا اليوم، فلم يجد في وصف تلك المعركة، إلا أن يقول أربع كلمات وحرفا واحدا ...
فملك الفرنج جميع ما للمسلمين .
ووقعت المعركة الثانية، في السنة الثانية-أيار 1102-ذلك أن الهزيمة التي حلت بالفاطميين قد انتشرت أخبارها، وأصبح الناس يتندرون بها، ويسخرون من حكامهم، فجدد الوزير الأفضل الحملة مرة ثانية، في محاولة لإزالة آثار العدوان حسب تعبير هذا الزمان.
ووصلت الحملة إلى الرملة، فهي ساحة المعارك التي يفصل فيها بين النصر والهزيمة، وكانت هذه المعركة بعد عام من المعركة الأولى، ففي ربيع 1102، وصلت قوات الفاطميين إلى عسقلان ومنها اتجهت إلى الرملة واللد ويازور، وكما في الحملة السابقة، فقد كان الهدف الاستيلاء على يافا لقطع الشريان بين أوروبا ومملكة الإفرنج في بيت المقدس.
ودارت رحى الحرب بين الفريقين، وانهزم الإفرنج في المرحلة الأولى من الحرب، وكاد الملك بلدوين أن يسقط في المعركة، فقد "اختفى في أجمة قصب، فأحرقها المسلمون ولحقت النار ببعض جسده وفر إلى الرملة" وسقطت الرملة في يد المسلمين ولكن لبضعة أيام…..
غير أن الإفرنج كانوا أكثر تنظيما وأحسن تنسيقا، فدرات الدائرة على الفاطميين، وألحق بهم الإفرنج هزيمة ساحقة، وظلوا يطاردونهم حتى وصلوا إلى عسقلان…و كانت الهزيمة الثانية.
ووقعت المعركة الثالثة حول أسوار عكا، وهي المدينة التاريخية الشهيرة، وكانت عكا بحكم مركزها الجغرافي مفتاح ديار الشام، مَنْ ملكها فقد ملك ديار الشام، حسب تعبير المؤرخين الإفرنج والعرب….ودارت هذه المعركة، متقطعة عبر عامين متعاقبين.
وكان أن بدأت المعركة في ربيع عام 1103، بأن قام الملك بلدوين بمحاصرة المدينة، ولكنه لم يستطع الاستيلاء عليها لمناعة حصونها واستبسال أهلها في الدفاع، مع أن بلدوين حسب قول ابن الاثير، "ضيق عليها وكاد يأخذها"…ولكنه اضطر إلى أن يرفع الحصار عنها ونكص على أعقابه.
وأطل حزيران مرة أخرى، وأطلت معه الهزيمة ….ففي الأول من حزيران من عام 1104 عاد الملك بلدوين إلى عكا وضرب عليها الحصار مرة ثانية، وكان حاكم عكا في تلك الفترة زهر الدولة الجيوشي، فلم يستطيع الصمود أمام الحصار، "وقاتل حتى عجز" وهو أبلغ تعبير خلفه لنا التاريخ العربي عن أنباء تلك المعركة الطاحنة.
وسقطت عكا، وأصبح مفتاح ديار الشام في يد الإفرنج!!
وكانت المعركة الرابعة وهي آخر معركة كبرى في تلك الحقبة، في صيف 1105، وقد وقعت هذه المعركة في سهول الرملة، حيث التقت قوات الفاطميين بالإفرنج وكانت نتيجتها، أن حلت الهزيمة بالفاطميين وتمزقت قواتهم شر ممزق.
وهكذا فقد انتصر الإفرنج على العرب في أربع معارك خلال أربع سنوات (1101-1105) وكانت الهزيمة الكبرى على أسوار عكا، وفي شهر حزيران…شهر الهزائم و الأحزان.
لماذا انهزمنا في المعركة تلو المعركة…والأمة العربية قبل ثلاث قرون من تلك الهزائم قد حققت انتصارات باهرة ؟
الأسباب أولا: إن إقليم الجليل كان موضع نزاع بين دقاق ملك دمشق، والخلافة الفاطمية في القاهرة، أهو تابع للقاهرة أم لدمشق.
وبسبب هذا الخلاف، خرج هذا الإقليم من سلطة حكام القاهرة، ودمشق معا، واستولى عليه الإفرنج بسرعة فائقة، ونزح عن أهله كما نزحوا عنه اليوم، على رغم قلة المقاتلين الإفرنج….كما أكد هذه الحقيقة أكثر المصادر التاريخية الغربية.
والأسباب ثانيا: إن قادة الفاطميين في معارك الرملة، لم يكونوا متحدين على خطة واحدة، فقد كان الانقسام والانفصال ديدنهم، ومن ذلك ما رواه لنا ابن الأثير من أن قائد القوة البحرية وأميرها "تاج العجم" رفض أن يسند قائد القوة البرية، وأميرها القاضي ابن قادوس، أثناء المعركة….وقد ترك لنا ابن الأثير وصفا مروعا لما دار بين القائد البحري والقائد البري، ووصف لنا كيف رفض تاج العجم معاونة ابن قادوس قائلا له "ما يمكنني أنزل إليك إلا بأمر الأفضل-الوزير بالقاهرة-ولم يحضر عنده ولا أعانه، فأرسل القادوسي إلى قاضي عسقلان وشهودها وأعيانها وأخذ خطوطهم، بأنه أقام على يافا عشرين يوماً، واستدعى تاج العجم فلم يأته ولا أرسل رجلاً.
وليت لنا من يرسم اليوم، كاريكاتوراً لهذه الكوميديا التراجيدية: القوات البحرية تخذل القوات البرية.
ويقول مؤرخ عربي، إكمالا للمأساة، إن الوزير الأفضل قد طلب من شمس الملوك دقاق، ملك دمشق، أن ينجد المسلمين على الإفرنج في تلك المعركة، ولكن شمس الملوك "اعتذر عن ذلك ولم يحضر" وهذا كلام المؤرخ ابن ميسر".
والأسباب ثالثا: إنه في معركة الرملة، كذلك، كان شقيق دقاق ملك دمشق، قد لجأ إلى الملك بلدوين بسبب خلافات عائلية على السلطة، ولما نشبت معركة الرملة قاتل شقيق دقاق، ومعه ماية من رجاله إلى جانب الإفرنج، وظل معهم إلى النهاية، حتى النصر… نصر الإفرنج على المسلمين.
والأسباب رابعا: إن الفاطميين قد تركوا عكا محاصرة، تقاتل وحدها من غير نجدة حقيقية، ويقول مؤرخنا وهو يكظم غضبه ويكتم حزنه عن المعركة مع الإفرنج "وقاتلهم أهل عكا حتى عجزوا، لقصور المادة بهم، وكان أهل مصر لا يمدونهم بشيء، فسلموا (عكا) إليهم (الإفرنج) وقتلوا منهم خلقا كثيرا .
هذه الأسباب وغيرها، كان من نتيجتها أن الأمراء المحليين في فلسطين والشام، لم يجدوا أمامهم إلا أن يجعلوا "هدنة" بينهم وبين الإفرنج ، كاتفاقية الهدنة العربية الإسرائيلية، ووقف إطلاق النار، المعروفة في هذا الزمان.
ويعود المواطن العربي ليسأل في نبرة ونفرة….كيف وقعت الأمة العربية الشجاعة الباسلة فريسة هذه الهزائم؟
والجواب الصادق الأمين، يقدمه لنا الصادقون الأمناء، الثوار الأبرار، وهم المؤرخون المسلمون.
ويقول أبو المحاسن، في سياق كلامه عن سقوط البلاد الإسلامية على يد الإفرنج، في عهد الخليفة الفاطمي، " كان الخليفة متناهيا في العظمة ويتقاعد عن الجهاد حتى استولت الفرنج على غالب السواحل وحصونها في أيامه ….ولم ينهض لقتال الفرنج البتة، وإن كان أرسل مع الأسطول عساكر، فهو كل شيء".
ثم يذهب أبوا لمحاسن، في غضبه وثورته، يصف ملك حلب، فيقول "كان بخيلا شحيحا، قبيح السيرة، ليس في قلبه رأفة ولا شفقة على المسلمين، وكانت الفرنج تناور وتسبي…ولا يخرج إليهم..
|
|
|