إن الغزالة في الاصطلاح الصوفي كناية عن الوصول إلى الحقيقة، أو الكشف الإلهي، أو هي: ((صورة من صور تجلي المحبوب))(15). وتتخذ دلالة الغزالة لدى البياتي، مساراً آخر، إذ يرمز بها إلى المحبوبة الغائبة عائشة/ عشتار، أو إلى لحظة تحقق الثورة/ الحرية.
وفي قصيدته (رسائل إلى الإمام الشافعي) يمتاح البياتي الكثير من المعاني والرموز والاصطلاحات الصوفية، ليصور من خلالها معاناته هو في البحث عن محبوبته، وانتظاره لحظة الإشراق أو التجلي، التي تتحقق فيها آماله، وتظهر فيها محبوبته عائشة/ الثورة. لكنّ هذا الترقّب لا يؤدي في النهاية إلى شيء، إذ تتوارى المحبوبة، وتحتجب عنه، مما يعني استمرارية المعاناة، وتواصل الألم الممزوج باليأس، من قدوم الذي يأتي ولا يأتي، يقول البياتي(16):
صرخت في منازل مقفرةٍ، دارت بها الرياح
أكلت برتقالة الشمس، وفي دمي توضأتُ، وصلّيت إلى الصحراء
عمودُ نور لاح لي، وواحة خضراء
يرتع في قيعانها سِرب من الظباء
وعندما فوّقت سَهمي كي أصيبَ مقتلاً منها، ومن بقية الأشباح
توارت الواحة والظباء في السراب
وارتفع النور إلى السماء
واكتنفتني ظلمةٌ، وصاح بي صوت من القيعان أتيتَ قبل موعد الوليمة
تنتظر الموت لكي تموت.
وتتبدى فاعلية التناص في المقطع الشعري السابق، من خلال استحضار مصطلح (النور) من المعجم الصوفي، الذي يعني عند الصوفية: ((كل وارد إلهي يَطردُ الكون عن القلب))(17)، وبحيث يكون قلب الإنسان في حالة شهود دائم، أو أن تكون الحقيقة في حالة تجلٍ دائم ونجد مفردات: الواحة الخضراء، الظباء، مقتل، سهم، أشباح.. وهي كلها مفردات من المعجم الصوفي. ويشير قول البياتي:
توارت الواحة والظباء في السراب وارتفع النور إلى السماء
واكتنفتني ظلمة وصاح بي صوت من القيعان
أتيت قبل موعد الوليمة.
إلى حالة الحجب التي تعني عند الصوفية: ((كل ما ستر المطلوب عن العين))(18)، أو: ((انطباع الصور الكونية في القلب، المانعةِ لقبول تجلي الحقائق))(19). فالبياتي قد حُكم عليه بألا يرى محبوبته نهائياً، ولذا بات ينتظر الموت المحقق.
وتغصّ قصيدة البياتي (مقاطع من عذابات فريد الدين العطار) بالمصطلحات والمفردات الصوفية، التي تعبّر عن حالة الاتحاد بالمطلق، التي يصل إليها الصوفي بعد المجاهدة والمكابدة، يقول البياتي(20):
بادرني بالسكر وقال: أنا الخمر وأنت الساقي،
فلتصبح ياأنتَ أنا محبوبي،
يرهن خرقته للخمر،
ويبكي مجنوناًبالعشق،
عراه غبارٌ،
قلبي من فرط الأسفار إليك ومنك،
فناولني الخمر،
ووسَّدني تحت الكرمة مجنوناً ولتبحثَ عن
ياقوت فمي،
تحت الأفلاك السبعة،
ولتُشعِل بالقبلات الظمأى،
في لحم الأرض حريقاً.
مرآة لي كنتَ فصرتُ أنا
المرآة،
أعرِّيك أمامي وأرى عُريي.
أبحث في سكري عنك وفي صحوي،
ما دامت أقداح الساقي تتحدث دون لسانْ.
وواضح أن المقطع الشعري السابق يعبر عن تجربة صوفية خالصة، إذ تزدحم فيها المفردات الصوفية: السكر، الخمر، الساقي، الخرقة، العشق، فرط، تشعل، الصحو، أقداح.. ويمثل المقطع السابق مقدمة، يحاول البياتي من خلالها إعطاء صورة لحالات القلق، والوجد، والهيام التي مرَّ بها فريد الدين العطار ومن بعده البياتي، غير أن ما يريد البياتي أن يعبر عنه، من خلال استحضار تجربة العطار الصوفية، يكمن في المقاطع التي تلي ذلك المقطع، يقول البياتي في القصيدة السابقة(21):
أقول: سيأتي عصر أو زمن يصبح فيه الإنسان
سديماً لأخيه الإنسانْ
أقول: سيأتي لكن الريح
وراء الأبواب تراقص أجساد الأشجار العارية الصفراء
وتلقي بمصابيح الشعراء
في قاع الآبار.
البياتي يطمح، بل ينشد عالماً آخر مغايراً تماماً لهذا العالم الفاسد، هو يريد عالماً يصبح فيه الإنسان سديماً لأخيه الإنسان، عالماً يشعر فيه الإنسان بذاته، بإنسانيته. ويلحظ المتلقي أن البياتي سرعان ما ينكفئ، لأنه يدرك أن حلمه بذلك العالم لا يلبث أن يذهب أدراج الرياح، وسرعان ما تذوب أحلامه الذهبية. لكنّ البياتي، الذي ظل يناضل في سبيل حرية الإنسان وكرامته، لا يفقد الأمل، بعد كل هذا اليأس، ويبقى مصراً على متابعة الطرق الذي بدأ، حتى تتحقق آماله في انتصارالإنسان، يقول البياتي في قصيدته السابقة(22):
لن أهزم حتى آخرِ بيت أكتبه،
فلنشرب في قبة هذا الليل الزرقاء
حتى يدركنا الليل الأبدي ونغفو في بطن الغبراء.
ويحاول البياتي إخضاع تجربة جلال الدين الرومي الصوفية لتجربته هو، إذ تغدو عائشة البياتي/ رمز الحب الأبدي عنده محبوبةَ جلال الدين الأثيرة، التي تأخذ عليه لبه وعقله، وتجعله في حالة من الوجد، والعشق، يغيب بسببها عن الوجود، مما يثير شفقة عائشة عليه، فتطلب له الخلاص من هذا الحب،يقول البياتي في قصيدته (قراءة في ديوان شمس تبريز)(23):
قالت عائشة للناي الباكي:
مَنْ يقتل هذا الشاعر أو يعتقه
من نار الحب الأبدية.
هاهو ذا أوغل في السكروأصبح بي مجنوناً،
وأنا أصبحت به... أيضاً.
وكلانا مجنون سكرانْ
يبحث عن وجه الآخر في الحان.
ويلحظ المتلقي غلبة المفردات الصوفية: الناي، نار، الحب، السكر، مجنون،ألحان.
ولعل ما ذهبنا إليه من أن حالة الكشف عند الصوفي/ البياتي مرتبطة بتجلي المحبوب/ عائشة/ عشتار، يظهر أكثر ما يظهر في قصيدته (قصائد حب إلى عشتار)، حيث تتجلى عشتار على البياتي مَلاكاً، يحمل تباشير الخير والخصب والوصال (في الاصطلاح الصوفي)، ويركن الصوفي/ البياتي إلى السكينة والطمأنينة، بعد حالة الكشف تلك، فيذوق خمرة المحبوب، وتتحقق له رؤية الذات العلية في اليقظة والمنام، ويصل إلى حالة الشهود الحقّة، وذلك كله كان لن يتحقق ما لم تظهر عشتار، بعد طول غياب، يقول البياتي في تلك القصيدة(24):
من تُرى ذاق،
فجاعت روحه حلوَ النبيذ
وروابي القارة الخضراء
والمطاطَ والعاجَ
طعمَ الزنجبيل
وعبيرَ الورد في نار الأصيل
ورأى الله بعينه،
ولم يملك على الرؤيا دليل
فأنا في النوم واليقظة من هذا وذاك
ذقت لمّا هبطت عشتار في الأرض ملاك.
ولعلنا من كل ما سبق نستنتج ما يلي:
1ـ ينحصر التصوف الذي يتمثّله البياتي في قصائده، بالتصوف الإسلامي، ولا وجود للتصوف البوذي أو المسيحي أو غيرهما لديه.
2ـ يتخذ البياتي في استحضاره للشعر الصوفي أو الشخصيات الصوفية إحدى طريقتين:
أ- استحضار شخصيات صوفية من خلال الحديث عنها، أو التحدث إليها، أو عن طريق القناع.
ب- استحضار نصوص صوفية نثرية أو شعرية، سواء عن طريق الاقتباس أم الامتصاص.
3ـ لعل أكثر المواضيع ظهوراً من خلال استحضار البياتي للشخصيات الصوفية أو مأثوراتها، موضوعا المعاناة والألم، الناشئان عن حالة الترقب وانتظار الذي يأتي ولا يأتي، والبياتي ذو النزعة الماركسية لا يترقب الكشف بالمعنى الصوفي لـه، وإنما يترقب عشتار/ ا لثورة/ الخصب.
لقد استطاع البياتي أن يستوعب ملامح التجربة الصوفية ودلالتها، وأن يستخلص السمات الدالة والفاعلة في هذه التجربة، وأن يتمثلها جيداً في شعره، محملاً إياها بعض جوانب تجربته الشعرية الخاصة، كما كان تصوف البياتي انعكاساً لاستمرارية الغربة والنفي، وانكفاءً إلى الذات، التي طالما انتظرت الخلاص من هذا الواقع، وبحثت عن عالم الضياء، الذي تتحقق فيه كرامة الإنسان وحريته، وتسود فيه العدالة. وقد استطاع البياتي من خلال قصائده الصوفية المكتنزة بالدلالات الروحية أن يتحرر من ربقة الجسد، ليصل إلى عالم المطلق، وأن يتجاوز المرئي إلى اللامرئي، وأن يتحرر من قيد الذات، ليصِلَ همَّه بهموم الآخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي :
(1) عبد الصبور، صلاح (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، ط1، 1969، ص119.
(2) يردّ إحسان عباس تلك المظاهر، إلى اثنتي عشرة، وقد حاولنا ذكر أبرزها. ينظر: عباس. إحسان (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) دار الشروق، عمّان، ط2، 1992، ص 159 ـ 160.
(3) البياتي، (تجربتي الشعرية) ص19.
(4) الديوان 2/ 238.
(5) ابن عربي. محيي الدين (ترجمان الأشواق) دار صادر، بيروت، ط1، 1966، ص 9 المقدمة.
(6) الديوان 1/ 485.
(7) الرومي. جلال الدين (المثنوي) ترجمة وشرح ودراسة: محمد عبد السلام كفافي، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت. ط1، 1، 1966/ 73 ـ 74.
(8) إسماعيل. عز الدين (الشعر العربي المعاصر) ص 221.
(9) الديوان 2/ 15.
(10) الحلاج. الحسين بن منصور (الديوان) صنعه وأصلحه أبو طريف الشيبي. كامل بن مصطفى بن محمد حسين الكاظمي المكي العبدري، منشورات الجمل، ألمانيا، ط1، 1997، ص 62.
(11) المصدر السابق، ص63.
(12) الديوان 2/ 427.
(13) الديوان 2/ 239.
(14) الديوان 2/ 239.
(15) صبحي. محيي الدين (الرؤيا في شعر البياتي) ص 370.
(16) الديوان 2/ 254.
(17) ابن عربي. محيي الدين (اصطلاح الصوفية) ضمن كتاب (رسائل ابن عربي)، دار إحياء التراث العربي، بيروت (نسخة مصورة عن نسخة حيدر أباد الدكن 1948) د. تا ص 14.
(18) المصدر السابق، ص 13.
(19) الكاشاني، عبد الرزاق (معجم اصطلاحات الصوفية) تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1992، ص 81.
(20) الديوان 2/ 413.
(21) الديوان 2/ 414.
(22) الديوان 2/ 415.
(23) الديوان 2/ 451.
(24) الديوان 2/ 208.
المصادر والمراجع:-
ـ إسماعيل. عز الدين (الشعر العربي المعاصر) دار الثقافة، بيروت، بلا تاريخ.
ـ البياتي. عبد الوهاب (تجربتي الشعرية) منشورات نزار قباني، بيروت، 1968.
ـ الحلاج. الحسين بن منصور (الديوان) تح. أبو طريف الشيبي كامل بن مصطفى الكاظمي العبدري، منشورات الجمل، ألمانية، 1997. ـ الرومي. جلال الدين (المثنوي) ترجمة وشرح ودراسة: محمد عبد السلام كفافي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1966.
ـ صبحي. محيي الدين (الرؤيا في شعر البياتي) اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1986.
ـ عباس. إحسان (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) دار الشروق، عمّان، ط. ثانية، 1992.
ـ عبد الصبور. صلاح (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، 1969.
ـ ابن عربي. محيي الدين (ترجمان الأشواق) دار صادر، بيروت، 1966.
-(الرسائل) دار إحياء التراث العربي، بيروت نسخة مصورة عن طبعة حيدر آباد الدكن 1948).
ـ الكاشاني. عبد الرزاق (معجم اصطلاحات الصوفية) تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، 1992
|