عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 29-10-2008, 12:22 AM   #11
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي



***

قالت أرمانوسة: وما بعد ذلك دليلْ على أنكِ تتهيئين أن تكوني مسلمة يا مارية!

فاستَضحَكَتَا معاَ وقالت مارية: إنما ألقيتِ كلاماَ جاريتُكِ فيه بحَسَبِه، فأنا وأنت فكرتان لا مسلمتان



قال الراوي: وانهزم الرومُ عن بُلبيس، وارتدُّوا إلى المقوقس في (مَتف)، وكان وحيُ أرمانوسةَ في ماريةَ مدةَ الحِصار-

وهي نحو الشهر- كأنه فكر سكَنَ فكراَ وتمدد فيه; فقد مر ذلك الكلامُ بما في عقلها من حقائق النظر في الأدب والفلسفة، فصنع

ما يصنعُ الموّلفُ بكتاب ينقحه، وأنشاً لها أخْيِلَةً تُجادلها وتدفعها إلى التسليم بالصحيح لأنه صحيح، والموّكد لأنه موّكَّد.

ومن طبيعة الكلام إذا أثر في النفس، أن ينتظم في مثل الحقائق الصغيرة التي تُلقَى للحفظ; فكان كلامُ أرمانوسة في عقل مارية

هكذا: المسيحُ بدء وللبدء تَكمِلة، ما من ذلك بد. لا تكون خدمةُ الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غيرَ سموّها. الأمةُ التي تبذل

كل شيء وتستمسكُ بالحياة جُبْناً وحرصاً لا تأخذ شياً، والتي تبذل أرواحَها فقط تأخذ كل شيء.

وجعلتْ هذه الحقائقُ الإسلاميةُ وأمثالُها تُعزب هذا العقلَ اليوناني; فلما أراد عمرو بن العاص توجيهَ أرمانوسةَ إلى أبيها،

وانتهى ذلك إلى ماريةَ قالت لها: لا يَجمُلُ بمن كانت مثلَكِ في شرفها وعقلها أن تكون كالأخِيذة، تَتَوَجًهُ حيث يُسارُ بها;

والرأي أن تبدئي هذا القائدَ قبل أن يبدأكِ; فأرسلي إليه فأعلميه أنك راجعة إلى أبيك، واسأليه أن يُصْحِبَك بعضَ رجاله;

فتكوني الآمرةَ حتى في الأسر، وتصنعي صُنْعَ بناتِ الملوك!.

قالت أرمانوسة: فلا أجد لذلك خيراً منكِ في لسانكِ ودَهائك; فاذهبي إليه من قِبَلي، وسيَصحبُك الراهبُ (شطَا)، وخُذي معك

كوكبة من فرساننا



قالت ماريةُ وهي تقصُ على سيدتها: لقد أديتُ إليه رسالَتَكِ فقال: كيف ظنها بنا؟

قلت: ظنُّها بفعلِ رجل كريم يأمره اثنان: كرمُه، ودينُه. فقال: أبلغيها أن نبينا ص قال: اسْتَوْصُوا بالقبطِ خيراَ فإن لهم فيكم

صِهْراَ وذِمة. وأعلميها أننا لسنا على غارة نُغيِرُها، بل على نفوس نُغيِّرُها. قالت: فَصِفيهِ لي يا مارية.

قالت: كان آتياً في جماعة من فرسانِه على خيولهم العِراب، كأنها شياطينُ تحمل شياطينَ من جنس آخر; فلما صار بحيث

أتبيَّنُه أوّماً إليه الترجُمَانُ- وهو (وَردانُ) مولاه- فنظرتُ، فإذ هو على فرَس كُمَيْت أحَمَّ (أحمر ضارب للسواد) لم يخلُص

للأسْوَدِ ولا للأحمر، طويلِ العنق مُشْرِف له ذُوّابة أعلى ناصيته كطُرَّةِ المرأة، ذيَّال يتبختر بفارسه ويُحَمْحِمُ كأنه يريد أن

يتكلم، مُطهَّم...

فقطت أرمانوسة عليها وقالت: ما ساْلتكِ صفةَ جوادهِ...

قالت مارية: أما سلاحُه...

قالت: ولا سِلاحه، صِفيه كيف رأيتهِ (هو)!

قالت: رأيتُه قصيرَ القامةِ علامةَ قوة وصلابة، وافرَ الهامةِ علامةَ عقل وإرادة، أدعجَ العينين...



فضحكتْ أرمانوسة وقالت: علامة ماذا؟...

... أبلجَ يُشْرِقُ وجهُه كأن فيه لألاء الذهب على الضوء، أيِّداً اجتمعتْ فيه القوّةُ حتى لتكاد عيناه تأمران بنظرهما أمرأ...

داهيةً كتِبَ دَهاوّه على جبهته العريضة يجعل فيها معنىً يأخذ من يراه; وكلما حاولتُ أن أتفرَسَ في وجهِه رأيتُ وجهَه لا

يُفسّرُه إلا تكررُ النظر إليه..

وتضرَجتْ وجنتاها، فكان ذلك حديثاَ بينها وبين عينَيْ أرمانوسة. !.

وقالت هذه: كذلك كل لذة لا يفسرها للنفس إلا تكرارُها...

فغضت ماريةُ من طَرفِها وقالت: هو واللّه ما وَصَفْت، وإني ما ملأتُ عيني منه، وقد كدتُ أنكر أنه إنسان لما اعتراني من

هيبته...

قالت أرمانوسة: من هَيبته أم عَينيه الدعجاوين...؟



ورجعتْ بنتُ المقوقس إلى أبيها في صحبة (قَيس)، فلما كانوا في الطريق وَجَبَت الظُّهر، فنزل قيس يُصَلي بمن معه والفتاتان

تنظران; فلما صاحوا: الله أكبر...! ارتعش قلبُ مارية، وسألت الراهبَ (شطا): ماذا يقولون; قال: إن هذه كلمة يدخلون

بها صلاتَهم، كأنما يخاطِبون بها الزمنَ أنهم الساعةَ في وقت ليس منه ولا من دنياهم، وكأنهم يعلنون أنهم بين يدي من هو أكبر

من الوجود; فإذ أعلنوا انصرافَهم عن الوقت ونزاع الوقت وشَهَواتِ الوقت، فذلك هو دخولُهم في الصلاة; كأنهم يَمْحُون

الدنيا من النفس ساعةً أو بعضَ ساعة; ومَحْوُها من أنفسهم هو أرتفاعُهم بأنفسهم عليها; انظري، ألا تَرَيْنَ هذه الكلمة قد

سَحَرَتهم سِحْراَ فهم لا يلتفتون في صلاتهم إلى شيء; وقد شملتهم السكينة، ورَجَعوا غَير مَن كانوا، وخشَعوا خشوع أعظم

الفلاسفةِ في تأمُلِهم؟.

قالت مارية: ما أجملَ هذه الفطرةَ الفلسفية! لقد تَعِبَت الكتبُ لتجعلَ أهلَ الدنيا يستقرّون ساعةَ في سكينةِ اللّه عليهم فما أفلحتْ،

وجاءت الكنيسة فهَوّلت على المُصلين بالزخارف والبخوَر والتماثيل والألوان، لتُوحِيَ إلى نفوسهم ضرباَ من الشعور بسكينة

الجمال وتقديسِ المعنى الدّيني، وهي بذلك تحتال في نقلهم من جوّهم إلى جوّها; فكانت كساقي الخمر; إن لم يُعطك الخمرَ

عَجَزَ عن إعطائك النشْوة. ومن ذا الذي يستطيع أن يحملَ معه كنيسة على جواد أو حمار؟



قالت أرمانوسة: نعم إن الكنيسةَ كالحديقة; هي حديقة في مكانها، وقلما تُوحي شياَ إلا في موضعها; فالكنيسةُ هي الجدرانُ

الأربعة، أما هوّلاء فمعبدهم بين جهات الأرض الأربع.

قال الراهب شطا: ولكن هوّلاء المسلمين متى فُتِحَتْ عليهم الدنيا وافتتنوا بها وانغمسوا فيها - فستكون هذه الصلاةُ بعينها ليس

فيها صلاة يومئذ.

قالت مارية: وهل تُفتَح عليهم الدنيا، وهل لهم قُوّاد كثيرون كعَمْرو..؟

قال: كيف لا تُفتح الدنيا على قوم لا يُحاربون الأمم بل يحاربون ما فيها من الظلم والكفر والرذيلة، وهم خارجون من

الصحراء بطبيعة قوية كطبيعة الموْج في المد المرتفع; ليس في دَاخلها إلا أنفُس مندفعةٌ إلى الخارج عنها; ثم يقاتلون بهذه

الطبيعة أمماَ ليس في الداخل منها إلا النفوسُ المستعدّةُ أن تهربَ إلى الداخل...!

قالت مارية: واللّه لكأننا ثلاثَتَنا على دِين عَمرو....

وانفتل قيس من الصلاة، وأقبل يترحَل، فلما حاذَى ماريةَ كان عندها كأنما سافر ورجع; وكانت ما تزال في أحلام قلبها;

وكانت من الحُلم في عالَم أخَذَ يتلاشى إلا من عَمرو وما يتصل بعمرو. وفي هذه الحياةِ أحوال! ثلاث يغيب فيها الكونُ

بحقائقه: فيغيبُ عن السكران، والمخبول، والنائم; وفيها حالةٌ رابعة يتلاشى فيها الكون إلا من حقيقة واحدة تتمثل في إنسان

محبوب.

وقالت مارية للراهب شطا: سَلْهُ: ما أرَبُهم من هذه الحرب، وهل في سياستهم أن يكونَ القائدُ الذي يفتح بلداً حاكماَ على هذا

البلد...؟

قال قيس: حَسْبُكِ أن تعلمي أن انرجل المسلم ليس إلا رجلاً عاملاً في تحقيهت كلمةِ اللّه،أما حظ نفسهِ فهو في غير هذه الدنيا.

وترجَمَ الراهبُ كلامَه هكذا: أما الفاتحُ فهو في الأكثر الحاكم المقيم، الحربُ فهي عندنا الفكرةُ وأما المُصلِحَةُ تريد أن تَضربَ

في الأرض وتعمل، وليس حظّ النفس شياً يكون من الدنيا; وبهذا تكون النفسُ أكبر من غرائزها، وتنقلب معها الدنيا برُعونتها

وحماقاتها وشَهَواتها كالطفل بين يديْ رجل، فيهما قوةُ ضبطِه وتصريفِه. ولو كان في عقيدتنا أن ثوابَ أعمالنا في الدنيا،

لانعكس الأمر.

قالت مارية: فسَلْهُ: كيف يصنعُ (عمرو) بهذه القِلة التي معة والرومُ لا يُحصَى عَدَدُهم; فإذا أخفقَ (عمرو) فمَن عسى أن

يستبدلوه منه; وهل هو أكبرُ قُوّادِهم، أو فيهم أكبرُ منه؟

قال الراوي: ولكن فَرَسَ قيس تمَطَر وأسرع في لِحَاقِ الخيل على المقذَمة كأنه يقول: لَسْنا في هذا...



وفُتحتْ مصرُ صُلْحاً بين عمرو والقِبط، وولى الرومُ مُصْعِدين إلى الإسكندرية، وكانت ماريةُ في ذلك تستقرىء أخبارَ الفاتح

تطوفُ منها على أطلال من شخص بعيد; وكان عمرو من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملكُ إلا حُبهُ أن يأخذَها;

وجعلت تذوي وشَحَبَ لونُها وبدأت تنظر النظرةَ التائهة: وبان عليها أثر الروح الظمْأى; وحاطها اليأسُ بجوّه الذي يُحرق

الدم; وَبَدَت مجروحةَ المعاني; إذ كان يتقاتلُ في نفسها الشعوران العَدُوّان: شعورُ أنها عاشقة، وشعورُ أنها يائسة!

ورقَّتْ لها أرمانوسة، وكانت هي أيضاَ تتعلق فتًى رومانيّاَ، فسَهِرَتا ليلةَ تُديران الرأي في رسالة تحملها ماريةُ من قبلها إلى

عمرو كي تصلَ إليه، فإذا وصلتْ بلَّغت بعينيها رسالةَ نفسها... واستقرّ الأمرُ أن تكون المسألةُ عن ماريةَ القبطية وخبرها

ونسلها وما يتعلَقُ بها مما يطول الإخبارُ به إذا كان السوّالُ من امرأة عن امرأة. فلما أصبَحَتا وقعَ إليها أن عمراً قد سار إلى

الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفُسْطاطه أن يُقَوّضَ أصابوا يمامةً قد باضت في أعلاه، فأخبروه فتال: قد

تَحَرَّمَتْ في جوارنا، أقِرواً الفسطاطَ حتى تطيرَ فِرَاخُها. فأقَرّوه!



ولم يمضِ غيرُ طويل حتى قضت ماريةُ نحبها، وحَفِظت عنها أرمانوسةُ هذا الشعر الذي أسمته: نشيد اليمامة.

على فُسطاطِ الأمير يمامة جاثمة تَحْضن بَيْضَها.

تركها الأميرُ تَصنعُ الحياة، وذهب هو يَصنعُ الموت!

هي كأسعد امرأة; تَرَى وتلمسُ أحلامَها.

إن سعادةَ المرأة أولُها وآخِرُها بعضُ حقائق صغيرة كهذا البيض.

على فسطاط الأمير يمامةْ جاثمةٌ تحضن بيضَها.

لو سُئِلَتْ عن هذا البيض لقالت: هذا كَنزي.

هي كأهنأ امرأة، مَلَكَت مِلكها من الحياةِ ولم تفتقِر.

هل أُكلف الوجودَ شياً كثيراَ إذا كلفتُهُ رجُلاً واحداً أحبه!



على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضَها.

الشمسُ والقمرُ والنجوم، كلُها أصغرُ في عينها من هذا البيضِ.

هي كأرق امرأة; عرفت الرقَّةَ مرتين: في الحب، والولادة.

هل أُكلف الوجود شياً كثيراً إذا أردتُ أن أكون كهذه اليمامة!


على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضَها

تقول اليمامة: إن الوجودَ يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى

مرةً حبيباً كبيراً في رَجُلها، ومرة حبيباً صغيراَ في أولادها

كلُّ شيء خاضغ لقانونه; والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها



أيتُها اليمامة، لم تعرفي الأميرَ وتركَ لكِ فسطاطَه

هكذا الحظ: عدل مضاعفٌ في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى
.
احمدي اللهَ أيتُها اليمامة، أنْ ليس عندكم لغات وأديان، عندكم فقط: الحب والطبيعةُ و الحياة

على فسطاط الآمير يمامة جاثمة تحضن بيضاً

, يمامة سعيدة , ستكون في التاريخ كهدهد سليمان

نـُـسب الهدهدُ الى سليمان , وستنسب اليمامة لعمرو ... واها لك ياعمرو !!

ما ضر لو عرفت اليمامة الأخرى ..!!


__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس