عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-10-2008, 07:05 PM   #5
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي




وتقدم فادغَمَ (انضم) في الجماعةِ وقال لهم: أنا ابنُ المدير. فنظروا إليه جميعاً، ثم نظرَ بعضهُم إلى بعض، وسَفَرت (بدت)

أفكارُهم الصغيرةُ بَين أعينِهم، وقال منهم قائل: إن حذاءَه وثيابَه وطربوشَه كلها تقول إِنَّ أباهُ المدير.

فقال آخر: ووجهُه يقول إِن أمَهُ امرأةُ المدير....

فقال الثالث: ليسَت كأمك يابعطيطي ولا كأم جُعلُص!

قال الرابع: يا ويلك لو سمع جُعلص، فإن لَكَماتِه حينئذِ لا تتركُ أمك تعرفُ وجهَك مِنَ القفا!

قال الخامس: ومن جُعلصُ هذا؟ فليأتِ لأرِيَكم كيف أُصارِعُه، فأجتذبُه فأعصِرُه بين يدي، فأعتقلُ رِجلَه برجلي، فأدفعُه،

فيتخاذل، فأعرُكُه، فيخِرُّ على وجهِه، فاأسمره في الأرضِ بمسار!

فقال السادس: هاها! إنك تصفُ بأدق الوصفِ ما يفعلُه جُعلصُ لو تناولَك في يدهِ...!

فصاحَ السابع: ويلَكم! هاهو ذا. جُعلص، جُعلص، جُعلص!

فتطَايَر الباقونَ يميناً وشِمالاَ كالوَرقِ الجاف تحت الشجرِ ضرَبتهُ الريحُ العاصف.

وقهقهَ الصبي من ورائِهم، فثابوا إلى أنفسِهم وتراجعوا. وقال المُستَطيلُ منهم: أما إني كنتُ أُريدُ أن يعدوَ جعلصُ ورائي،

فأستطرِدُ إليه قليلا أُطمِعُه في نفسي، ثم أرتدُ عليه فآخذُه كما فعل “ماشيست الجبار” في ذلك المنظرِ الذي شاهدناه.

وقهقهَ الصبيانُ جميعاً...! ثم أحاطوا (بعصمت) إحاطةَ العشَاقِ بمعشوقة جميلة، يحاولُ كلُّ منهم أن يكونَ المقربَ

المخصوصَ بالحظوة، لا من أجلِ أنهُ ابنُ المدير فحسبُ، ولكن من أجل ان ابنَ المديرِ تكونُ معه القروش… فلو وجدَتِ

القروشُ معَ ابن زبالِ لما منعه نسبُه أن يكون أميرَ الساعةِ بينهم إلى أن تنفَدَ قروشُه فيعودَ ابن زبال...!

وتنافسوا في (عصمت) وملاعبتِه والاختصاصِ به، فلو جاءَ المديرُ نفسُه يلعبُ مع آبائِهم ويركبُهم ويركبونه، وهم بين نجارِ

وحداد، وبناءِ وحمال، وحوذي وطباخ، وأمثالِهم من ذوي المهنةِ المُكسِبَةِ الضئيلة- لكانَت مطامعُ هؤلاء الأطفالِ في ابن

المدير، اْكبرَ من مطامعِ الاَباءِ في المدير.



وجرتِ المنافسةُ بينَهم مجراها، فاَنقلبت إلى مُلاحاة (جدال)، ورجَعت هذه الملاحاةُ إلى مشاحنة، وعاد ابنُ المدير هَدَفاً. للجميعِ

يُدافعونَ عنه وكأنما يعتدونَ عليه، إذ لا يقصدُ أحد منهم أحداً بالغيظِ إلا تَعمدَ غيظَ حبيبِه، ليكونَ أنكأَ له وأشد عليه!

وتظاهرَوا بعضُهم على بعض، ونشأت بينهمُ الطوائل، وأفسدَهم هذا الغنيُ المتمثلُ بينهم. وياما أعجبَ إدراكَ الطفولةِ

وإلهامَها! فقدِ اجتمعَت نفُوسهم على رأي واحد، فتحولوا جميعاً إلى سفاهةٍ واحدةِ أحاطَت بِابنِ المدير، فخَاطره أحدُهم في اللعبِ

فَقمرَه (خسره في المقامرة)، فأبى إِلا أن يعلوَ ظهرَه ويركبَه، وأبى عليه ابنُ المدير ودافَعه، يرى ذلك ثَلماً في شرفِهِ ونسبِه

وسَطوةِ أبيه، فلم يكذ يعتل بهذه العلةِ ويذكُرُ أباه ليعرفَهم آباءَهم… هاجت حتَى كبرياؤُهم، وثارَت دفائنُهم، ورقصَت شياطينُ

رؤوسِهم، وبذلك وضَع الغبيُّ حِقدَ الفقرِ بإزاءِ سُخريةِ الغِنى، فألقى بينهم مسألةَ المسائلِ الكبرى في هذا العالم، وطرَحَها

للحل....!

وتَنفشُوا (تهيئوا للمبارزة) للصولةِ عليه، فسخِرَ منه أحدُهم، ثم هزأ بهِ الآخر، وأخرجَ الثالثُ لسانَه، وصدمَه الرابعُ بمنكبِه،

وأفحشَ عليه الخامس، ولكَزهُ السادس، وحثا السابعُ في وجهِه التراب!

وجهِدَ المسكينُ أن يفر من بينِهم فكأنما أحاطوه بسبعةِ جُدرانٍ فبطَلَ إقدامُه وإحجامُه، ووقفَ بينَهم ما كتبَ اللّه… ثم أخَذتُه أيديهم

فانجدَل على الأرضِ، فتجاذبُوه يُمرغونَه في التراب!



وهم كذلك إذِ انقلب كبيرُهم على وجهِه، وَأنكفأَ الذي يليه، وأُزيحَ الثالث، ولُطِمَ الرابعُ، فنظروا فصاحوا جميعاَ: “جُعلُص،

جعلص! ! وتواثبوا يشتدون هَرباً. وقام (عصمت) يَنتَخِلُ الترابُ من ثيابِه وهو يبكي بدمعِه، وثيابُه تبكي بترابِها...! ووقفَ

ينظرُ هذا الذي كشفَهم عنه وشردَتهم صَولتُه، فإذا جُعلصُ وعليه رَجَفَانْ مِنَ الغضب، وقد تَبرطمَت شفتُه، وتَقَلضَ وجهُه، كما

يكونُ “ماشيست” في مَعاركِهِ حين يدَفعُ عنِ الضعفاء.

وهو طفل في العاشرةِ من لدات (عصمت)، غير أنه مُحتَنكٌ في سن رجل صغير، غليظْ عَبلٌ شديدُ الجِبلةِ متراكِبْ بعضُه على

بعض (مفتول العضلات مكتنز اللحم)، كأنَّه جِنيّ مُتقاصِر يَهم أن يطولَ منه المارد، فأنِسَ به (عصمت)، واطمأن إلى قوتهِ،

وأقبلَ يشكو له ويبكي!

قال جعلص: ما اسمُك؟

قال: أنا ابن المدير...!

قال جعلص: لا تبكِ يا أبنَ المدير. تعلم أن تكون جَلْداً (قويا صبورا)، فإِن الضربَ ليس بذُل ولا عار، ولكن الدموعَ هي

تجعلُه ذلا وعاراً، إِن الدموعَ لَتجعلُ الرجلَ أنثى. نحن يا ابنَ المديرِ نعيشُ طولَ حياتِنا إما في ضربِ الفقرِ أو ضربِ الناسِ،

هذا من هذا، ولكنك غني يا ابنَ المدير، فأنتَ كالرغيفِ (الفِينو) ضخمٌ مُنتفخٌ ، ولكنهُ ينكسرُ بلمسة، وحَشوُهُ مثلُ القطن!

ماذا تتعلمُ في المدرسةِ يا ابنَ المديرِ إذا لم تعلمك المدرسةُ أن تكونَ رجلاً يأكلُ مَن يريدُ أكلَه، وماذا تعرفُ إذا لم تكن تعرفُ

كيف تصبرُ على الشر يومَ الشر، وكيف تصبرُ للخيرِ يومَ الخير، فتكونَ دائماً على الحالتينِ في خير؟

قال عصمت: آهِ لو كان معي العسكري!

قال: جعلص: ويحكَ؟ لو ضربوا عنزاً لما قالت: آه لو كان معي العسكري!

قال عصمت: فمن أين لك هذه القوة؟

قال جعلص: من أني أعتمِلُ بيدي (أخدم نفسي بنفسي) فاْنا أشتدّ وإذا جعتُ أكلتُ طعامي، أما

أنت فتسترخي، فإذا جعتَ أكلَك طعامُك، ثم من أني ليس لي عسكري..!

قال عصمت: بل القوةُ مَن أنك لستَ مثلَنا في المدرسة؟

قال جعلص: نعم، فأنت يا ابنَ المدرسةِ كأنك طفل من وَرَقٍ وكراساتٍ لا من لحم، وكأن عظامَك من طَباشير! أنت يا ابنَ

المدرسةِ هو أنتَ الذي سيكونُ بعدَ عشرينَ سنةً، ولا يعلمُ إِلا اللهُ كيف يكون، وأما أنا ابنُ الحياة، فأنا منَ الآن، وعلي أن

أكونَ “أنا” من الآن!

أنتَ…



وهنا أدركهما العسكريُ المسخرُ لابن المدير، وكان كالمجنونِ يطيرُ على وجهِهِ في الطرقِ يبحثُ عن (عصمت)، لا حُبا فيه،

ولكن خوفاً من أبيه، فما كاد يرى هذا العَفَرَ على أثوابِهِ حتى رنت صفعتُه على وجهِ المسكينِ جُعلص.

فصعَّر هذا خدَهُ (مال بخده تكبرا)، ورشقَ عصمت بنظرِه، وانطلق يعدو عَدوَ الظَّليم (ذكر النعام)!

يا للعدالة! كانتِ الصفعةُ على وجهِ ابنِ الفقير، وكان الباكي منها ابنَ الغني..!



وأنتم أئها الفقراء، حسبُكمُ البطولة، فليس غِنى بَطَلِ الحربِ في المالِ والنعيم، ولكن بالجراحِ والمشقاتِ في جسمِه وتاريخِه.


__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس