عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 14-10-2008, 06:31 PM   #3
ياسمين
مشرفة Non-Arabic Forum واستراحة الخيمة
 
الصورة الرمزية لـ ياسمين
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2008
الإقامة: المغرب
المشاركات: 2,102
إفتراضي



الطفولتان

مصطفى صادق الرافعي



(عصمت) ابنُ فلان باشا طفل مُترَف يكادُ ينعصرُ لِيناً، وتراهُ يَرِف رَفيفاَ مما نشأَ في ظلالِ العز، كأن لروحِهِ مِنَ الرَقةِ مثلَ

ظل الشجرةِ حول الشجرة. وهو بين لِداتهِ (أصدقائه) منَ الصّبيانِ كالشَوكةِ الخضراءِ في أمُلودِها (غصنها) الريان

(الطري)، لها منظرُ الشوكةِ، على مِجسةِ لينة ناعمةٍ تكَذّبُ أنها شوكةٌ إِلَا أنْ تَيبسَ وتَتَوَقَّح.

وأبوهُ “فلان “ مديرٌ لمديريةِ كذا، إذا سُئلَ عنه ابنُه قال: إنه مديرُ المديرية. لا يكادُ يعدو هذا التركيب، كأنه من غُرورِ النعمةِ

يأبى إِلا أن يجعلَ أباه مديراً مرَتين… وكثيراً ما تكونُ النعمةُ بذيئةً وَقَاحاً سيّئةَ الأدب في أولادِ الأغنياء، وكثيراً ما يكون الغِنى

في أهلهِ غِنى مِنَ السيئاتِ لا غير!

وفي رأي (عصمت) أن أباه من عُلُو المنزلةِ كأنهُ على جَناحِ النسرِ الطائرِ في مَسبَحِهِ إلى النجم، أما آباءُ الأطفالِ مِنَ الناسِ

فهم عنَدهُ من سُقوطِ المنزلةِ على أجنحةِ الذبابِ والبَعوض!

ولا يغدو ابنُ المديرِ إلى مدرستِهِ ولا يَترَوَحُ منها إلا وراءَهُ جُنْديٌ يمشي على أثرِهِ في الغَدوةِ والروحةِ إذْ كانَ ابنَ المدير، أي

ابنَ القوّةِ الحاكمة، فيكونُ هذا الجنديُ وراءَ الطفل كالمَنبَهةِ له عندَ الناس، تُفصِحُ شارتُهُ العسكريةُ بلغاتِ السابِلَةِ (المارة)

جَمعَاءَ أن هذا هو ابنُ المدير. فإذا رآه العربي أو اليونانيُ، أو الطليانيُ أو الفرنسيُ، أو الإنجليزي أو كائن مَن كانَ من أهلِ

الألسنةِ المتنافِرةِ التي لا يَفهَمُ لسانْ منها عن لسانٍ - فهموا جميعاً من لغةِ هذه الشارةِ أن هذا هو ابنُ المدير، وانهُ منَ الجندي

الذي يَتبعُهُ كالمادةِ منَ القانونِ وراءَها الشرحِ...!

ولقد كان يجبُ لابنِ المديرِ هذا الشرفُ الصبياني. لو أنهُ يومَ وُلِد لم يولْد ابنَ ساعتِه كأطفالِ الناس، بل وُلِدَ ابنَ عشرِ سنينَ

كاملةِ لتشهَد له الطبيعةْ أنه كبير قدِ آنصَدعت (جائت) به مُعجزة! وإلا فكيف يمشي الجنديُ من جنودِ الدولةِ وراءَ طفل

ويخدمُهُ ويَنصاعُ لأمِره (يطيعه)، وهذا الجنديُ لو كان طَريدَ هَزيمةِ قد فرَ في معركةِ منَ معارك الوطن، وأريدَ تخليدُه فى

هزيمتِهِ وتخليدُها عليه بالتصوير- لما صُورَ إلا جنديّاً في شارتِهِ العسكريةِ منقاداً لمثلِ هذا الطفلِ الصغيرِ كالخادم، في صورةٍ

يُكتَب تحتها: “نُفَايَة عسكرية!”.



ليس لهذا المنظرِ الكثيرِ حدوثُه في مصرَ إِلا تأويلٌ واحد: هو أن مكانَ الشخصياتِ فوقَ المعاني، وِانْ صَغُرت تلك وجَلًت

هذه، ومِن هنا يكذبُ الرجلُ ذو المنصب، فيُرفَع شخصُه فوقَ الفضائلِ كلها، فيكبُر عن أن يكذبَ فيكونَ كَذِبُه هو الصدق، فلا

يُنكَرُ عليه كَذِبُه أيْ صِدقُه...! ويخرجُ من ذلك أنْ يتقرَر في الأمةِ أن كَذِبَ القوةِ صدق بالقوة!

وعلى هذِهِ القاعدةِ يُقاسُ غيرُها من كل ما يُخذَلُ فيهِ الحق. ومتى كانتِ الشخصياتُ فوقَ المعاني الساميةِ طَفِقَت (بدأت) هذِهِ

المعاني تموجُ مَوجَها محاوِلةً أن تعلو، مُكرَهَة على أن تنزل، فلا تستقيمُ على جهةٍ ولا تنتظمُ على طريقة، وتُقْبِلُ بالشيءِ على

موضعِه، ثم تَكُرُ كَرَها فتُدبِرُ بِهِ إلى غيرِ موضعِه، فتضل كل طبقةِ منَ الأمةِ بكُبرائها، ولا تكونُ الأمةُ على هذه الحالةِ في كلً

طبقاتِها إِلا صغاراَ فوقَهم كبارُهم، وتلك هي تهيئةُ الاْمةِ للاستعبادِ متى أبَتُلِيَت بالذي هو أكبرُ من كبارِها، ومن تلك تَنشأُ في

الأمةِ طبيعةُ النفاقِ يحتمي بهِ الصغَرُ من الكِبَر، وتنتظمُ به ألْفةُ الحياةِ بينَ الذلةِ والصولة (الغلبة و القهر)!



وتخلَفَ الجنديُ ذاتَ يوم عن موعدِ الرواحِ مِنَ المدرسة، فخرج (عصمت) فلم يجدْه، فبدا له أن يتسكَّعَْ (يتجول على غير

هدى) في بعضِ طرقِ المدينةِ لِينطلقَ فيه ابنُ آدمَ لا ابنُ المدير، وحن حنينَه إلى المغامرةِ في الطبيعة، ولبسَتِ الطرقُ في

خيالِهِ الصغيرِ زينتَها الشعريةَ بأطفالِ الأزقةِ يلعبونَ ويَتهوَشون ويَتعابَثون ويتشاحنون (يتشاجرون)، وهم شتَى وكأنهم أبناءُ

بيتٍ واحدِ مستْ بكل منْ كل رَحِمٌ ، إذ لا ينتسبونَ في اللهو إِلا إلى الطفولةِ وحدَها.

وانساقَ (عصمت) وراءَ خيالِه، وهرَبَ على وجهِهِ من تلكَ الصورةِ التي يمشي فيها الجندي وراءَ ابنِ المدير، وتَغَلْغَلَ في

الأزِقةِ (توغل) لا يُبالي ما يعرفُهُ منها وما لا يعرفُه، إِذ كان يسيرُ في طرقٍ جديدةٍ على عينهِ كأنَما يَحلُمُ بها في مدينةٍ من مدنِ

النوم.

يتبع

__________________



" كان بودي أن آتيكم ,, ولكن شوارعكم حمراء ,,

وأنا لا أملك إلا ثوبي الأبيض ",,

* * *

دعــهــم يتــقــاولــون

فـلــن يـخــرج الـبحــر

عــن صمته!!!

ياسمين غير متصل   الرد مع إقتباس