[
أخبر الزعيم زوجته وأولاده أنه سيستقبل حوالي ستين شخصا في منزله اليوم، وهم لجنة ممثلي العشائر، فعليهم أن يتهيئوا في عمل القهوة (السادة) وتجهيز ما يلزم لمثل هذا الاجتماع، وعليهم أن ( يبيضوا وجهه) أمام المدعوين.
لم يحضر أعضاء لجنة الممثلين (الخمسين) في آن واحد، وهي عادة معروفة في كل الاجتماعات. فمنهم من يعتقد أنه إن حضر مبكرا فإنه سيضع نفسه في موضع المتلهف لمثل تلك الاجتماعات، كما أن عليه أن يقوم من مكانه عدة مرات ليصافح من يأتي بعده، أو يفسح المجال لغيره للجلوس بمكانه، وهي إشارة ستفضح مكانة الرجال وتراتبهم فيما بينهم، وقد يكون التبكير في نظره مجالا لفتح أحاديث والإجابة عن تساؤلات من يصادفهم قبل حضور الكل، وبذلك سيجعل من نفسه مكشوف النوايا أمام أشخاص لا يريد أن يعلموا طبيعة موقفه من المرشحين.
ومنهم من يجعل من تبكيره في الحضور مصدرا لمنافع عدة، فاحتلال مقعد في الصدارة ورصد ما سيقول الحضور منذ بدء الاجتماع أو ما يسبقه من تصريحات لأشخاص يحاولون تقديم أنفسهم على أنهم أشخاص يعلمون ما لا يعلمه غيرهم، كلها مزايا تفيد ولا تضر.
(7)
التفت أبو محمد وهو رجل في السبعين من عمره يسرة ويمنى، وفرك (مسبحته) بين راحتيه، وتساءل: هل يطول انتظارنا؟ فأجابه الزعيم: لا إننا ننتظر السيد واثق، وقد أخبرني قبل دقائق بواسطة الهاتف أنه قادم في الطريق.
سارع أبو محمد في تقليب (مسبحته) بين يديه، وابتسم ابتسامة مقتصدة، وروى قصة قصيرة جدا مفادها أن قيادة الأسود للجماعات أفضل من قيادة الثعالب. ابتسم الدكتور حسن ولم يعلق على قصة أبي محمد.
ما هي إلا دقائق قليلة، حتى حضر السيد واثق، فقام الجميع بوجهه عدا أبو محمد الذي اعتذر لعدم قدرته على الوقوف بسهولة، ابتسم واثق له وقبل اعتذاره بعد أن طبع قبلة على جبينه.
بعد أن جلس واثق، وقدم له أحد أبناء الزعيم فنجانا من القهوة السادة، وحياه من كان يجلس في الصالة تحية المجاملة، انتبه واثق لململة أبي محمد، وقبل أن يعلن أبو محمد عن ضجره، بادر واثق بالطلب من أبي محمد أن يبدأ الحديث. لم يعتذر أبو محمد عن قبول تلك المهمة بشكل صريح، حتى لا يفهم الآخرون أنه فوض السيد واثق بها. لكنه بادر بالتساؤل عن سبب وجود المجتمعين، أليس للاهتداء لطريقة توفيقية يختارون فيها مرشحا يمثل هذا التجمع العشائري الذي تزيد أًصوات من ينتمون إليه عن خمسة عشر ألف صوتا.
(8)
ساد جو يكثر فيه الحديث دون تنظيم، فأحدهم يقول: يا جماعة دعونا نتسامح ونختار شخصا كفؤا يمثلنا ونتوكل على الله. فيرد أبو محمد ويقول: لماذا نحن هنا؟ أليس لعمل ما تطلب؟ ولكننا نريد أن (نبرجم) وكان يقصد (نبرمج) عملنا.
يخرج صوت من زاوية، لماذا لا يكون لكل عشيرة صوت واحد، ونقترع على المتقدمين الثمانية.
يجاوبه أحدهم من طرف آخر: هذا ليس عدلا، فلا يجوز أن تتساوى عشيرة لديها آلاف الأصوات مع عشيرة تكاد أصوات أبنائها لا تصل الى المائة صوت.
يعترض آخرٌ كان لا ينوي الحديث: وما بال أصحاب المائة صوت؟ ألا يكفيكم أنهم وقفوا معكم في كل المعارك الانتخابية ك (مصفقين) دون مزاحمتكم، حتى على عضوية مجلس بلدي، هل تستكثرون عليهم أن يكون لكل عشيرة منهم صوت يصوتون به لكم ( ويقصد هنا العشائر الأكثر عددا).
التقط (واثق) المداخلة الأخيرة، وحاول بسرعة استثمارها، فوافق عليها بصوت عال أسكت فيه كل المتكلمين، وجاءت أصوات التأييد من محبي ومؤيدي واثق لتتحول طريقة تمثيل كل عشيرة بممثل ـ بغض النظر عن عدد أصوات أبنائها ـ إلى نهج سيباشر فيه فورا.
هناك من همس لمن بجانبه، أن هذا سيناريو معد مسبقا من (واثق) ومن معه، فكل المداخلات التي صرح بها أصحابها كان متفقا عليها.
(9)
دخل الشيخ (صالح) ومعه خمسة رجال يشهد لهم بالنزاهة الى داخل غرفة، وتم استدعاء المندوبين واحدا تلو الآخر ليقترعوا على واحد من ثمانية تقدموا لترشيح أنفسهم مبدئيا، وقد أقسموا أغلظ الأيمان أمام الجميع أنهم سيقبلون بهذا التصويت المبدئي وسيقفون الى جانب من يقع عليه الاختيار بكل ما أوتي أحدهم من قوة.
كان (ناهي) ابن عم (واثق) أحد المرشحين الثمانية، ولدى عشيرتهما أكثر من ألف صوت، وهو أحد أهم ثلاثة رجال في إحدى الوزارات، وقد طلب التقاعد لنفسه ليتفرغ لحملة الانتخابات.
كما كان الى جانبه من بين الثمانية، رئيس بلدية قديم لم ينه فترة رئاسته للبلدية بل فر لاجئا سياسيا الى إحدى الدول العربية قبل ثلاثين عاما، وكان مشهورا بقوة حجته وطرافة ما يسوق من كلام. وكانت أصوات عشيرته لا تزيد عن ثلاثمائة صوتا.
كما كان (غانم) من بين المرشحين،وهو مساح في دائرة الأراضي، طلب إحالته على التقاعد، ليرتب سفرا الى دولة خليجية. كانت أصوات عشيرته أكثر من أربعمائة صوت بقليل، لكن تلك العشيرة تكرر القول أن أقاربهم في القرى التابعة للدائرة الانتخابية تفوق أي تجمع عشائري.
وكان هناك خمسة مرشحين، تزيد أصوات عشيرة كل منهم عن ألف صوت، أما الباقون فلم يكونوا مثيرين للانتباه.
( 10)
عدّل الشيخ (صالح) من وضع عباءته، بعد أن خرج من غرفة الاقتراع، وابتسم وسلم وبسمل ثم أعلن النتيجة: إن من اختاره الخمسون كان (غانم).
تعالت أًصوات الاحتجاج من أطراف متعددة، ولكن الوزير المتقاعد الوحيد الذي خرج من تلك البلدة (في وقتها) أنقذ موقف الشيخ (صالح) وأعلن تأييده لاختيار الجميع لغانم، كانت كلمته طويلة بعض الشيء، وكان يستغل ما برصيده من هيبة ليبقي الجو هادئا ريثما ينهي كلمته على الأقل.
انتبه (مقبل) وهو واحد من السياسيين الذين يمقتون هذا النمط من العمل الجماهيري بشكله البدائي، وقام وأعلن تبرعه بألفي دولار، فأحدث صدمة كبيرة للحاضرين، فارتبك الناس بين متبرع -حتى لا يوصف بالبخل أو عدم التأييد-وبين صامت خصوصا أولئك الذين أعلنوا اعتراضهم على الفور، وانفض الاجتماع عن تسجيل تبرعات بما يقارب عشرين ألف دولار.
__________________
ابن حوران
آخر تعديل بواسطة السيد عبد الرازق ، 09-09-2008 الساعة 10:39 PM.
|