ومن القواعد المقررة: أن المطلق يحمل على المقيد ، فإذا جاءت نصوص مطلقة ، وجاءت نصوص أخرى متحدة معها في الحكم والسبب ، فإنه يحمل النص المطلق على المقيد. والأحاديث التي جاءت تبين أن دخول الجنة وتحريم النار معلق على شهادة "أن لا إله إلا الله" ، وهذه الأحاديث المطلقة جاءت أحاديث أخرى تقيدها. ففي بعضها:
« من قال: لا إله إلا الله مخلصًا ...» ، وفي بعضها: « مستيقناً بها قلبه . .» وفي بعضها: « صدق لسانه .. » ، وفي بعضها: « يقولها حقا من قلبه ..». . الخ.
وكذلك علقت الأحاديث دخول الجنة على:"العلم بمعنى لا إله إلا الله" ونصوص أخرى تبين الثبات على هذه الكلمة ، ونصوص أخرى تدل على وجوب الخضوع لمدلولها. . الخ.
ومما سبق كله استنبط العلماء رحمهم الله تعالى شروطًا لابد من توافرها، مع انتفاء الموانع، حتى تكون كلمة "لا إله إلا الله" مفتاحًا للجنة ، وهذه الشروط هي أسنان المفتاح ، ولابد من أخذها مجتمعة ، فإن شرطًا منها لا يغني عن سائر الشروط .
ولعل هذه الشروط تكون واضحة من الإشارات التي سنشير إليها في هذه العجالة ،
فاحرص عليها - أيها المسلم - وتحقق بها ، لئلا تقف أمام باب الجنة فترد ، لأنه لا يفتح لك!
1- إن لكل شيء حقيقة ، ولكل كلمة معنى ، فينبغي أولاً: أن تعلم معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" علمًا منافيًا للجهل بها ، في النفي والإثبات ، فهي تنفي الألوهية عن غير الله تعالى وتثبتها له سبحانه ، فلا معبود بحق إلا الله ، وقد سبق ذلك وافيا في بيان "مفتاح الجنة"سابقًا .
ومن الأدلة على هذا الشرط: قول الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [سورة محمد:19].
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ } [ آل عمران/18] { إلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86 ].
وأخرج مسلم عن عثمان رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة » .
ويكتمل هذا الشرط بما يليه ، وهو الشرط الثاني .
2- اليقين المنافي للشك: ومعنى ذلك أن تستيقن يقينًا جازمًا بمدلول كلمة التوحيد ، لأنها لا تقبل شكًا ، ولا ظنًا ، ولا ترددًا ولا ارتيابًا ، بل ينبغي أن تقوم على اليقين القاطع الجازم. فقد قال الله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين:
{إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15 ].
فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لابد من استيقان القلب، والبعد عن الشك، فإن لم يحصل هذا اليقين فهو النفاق، والمنافقون هم الذين ارتابت قلوبهم، قال الله تعالى: {إنَّمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45].
وقد سبق آنفًا حديثان في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيهما: »أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد ، غير شاك فيهما إلا دخل الجنة« وفي رواية « فيحجب عن الجنة» . « ومن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه.. » .
3- وإذا علمت، وتيقنت، فينبغي أن يكون لهذا العلم اليقيني أثره، فيتحقق الشرط الثالث وهو: القبول لما اقتضته هذه الكلمة ، بالقلب واللسان : فمن رد دعوة التوحيد ولم يقبلها كان كافرًا ، سواء كان ذلك الرد بسبب الكبر أو العناد أو الحسد ، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين ردوها استكبارًا {إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * ويَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ؟} [الصافات:35 - 36].
أما المؤمنون الذين قبلوا هذه الكلمة و عملوا بمقتضاها فلهم النجاة عند الله تعالى ، وعدًا منه ، لا يخلف الله وعده: { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقاًّ عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ} [يونس:103].
وهم أصحاب المثل الطيب ، الذين ينتفعون بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من الهدى والعلم. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قال: « مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكان منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » .
4- أما الشرط الرابع : الانقياد للتوحيد الذي دلت عليه هذه الكلمة العظيمة ، انقيادًا تامًا ، وهذا الانقياد والخضوع هو المحك الحقيقي للإيمان وهو المظهر العملي له .
ويتحقق هذا ويحصل بالعمل بما شرعه الله تعالى ، وبترك ما نهى عنه ، وذلك هو الإسلام حقيقة ، إذ هو: أن يسلم العبد ويستسلم بقلبه وجوارحه لله تعالى ، وينقاد له بالتوحيد والطاعة ، كما قال سبحانه: { ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} [لقمان:22].
وأقسم سبحانه وتعالى بنفسه أنه لا يؤمن المرء حتى ينقاد لحكم الله وحكم رسوله: { فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ، وحتى ميول الإنسان وما يهواه ، ينبغي أن يكون من وراء ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتابعًا له: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به » ، وهذا هو تمام الانقياد وغايته .
5- الشرط الخامس: الصدق في قول كلمة التوحيد ، صدقاً منافيًا للكذب والنفاق ، حيث يجب أن يواطئ قلبه لسانه ويوافقه ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، ولكن لم يطابق هذا القول ما في قلوبهم ، فصار قولهم كذبًا ونفاقًا مخالفًا للإيمان ، ونزلوا في الدرك الأسفل من النار: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } [الفتح:11] {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8-10]. . في آيات كثيرة وسور بمجملها في القرآن الكريم تتحدث عنهم .
وفي الصحيحين: « ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله . . صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار » فاشترط الصدق من القلب ، كما اشترطه في قوله لضمام بن ثعلبة: « إن صدق ليدخلن الجنة » .
6- المحبة ، وهي الشرط السادس؛ فيحب المؤمن هذه الكلمة ، ويحب العمل بمقتضاها ويحب أهلها العاملين بها ، وإلا لم يتحقق الإيمان ولم تكتب له النجاة ، ومن أحب شيئًا من دون الله فقد جعله لله ندًا: {ومِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لِّلَّهِ} [البقرة:165].
و علامة حب العبد ربه تقديم محابه وإن خالفت هواه ، وموالاة من والى الله ورسوله ، ومعاداة من عاداه واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- واقتفاء أثره وقبول هداه ، وهذه كلها شروط في المحبة لا تتحقق إلا بها ، و هي مؤشر على حب الله للعبد بعد ذلك .
ومتى استقرت هذه الكلمة في النفس والقلب ، فإنه لا يعدلها شيء ، ولا يفضل عليها ، فإن حبها يملأ القلب فلا يتسع لغيرها ، وعندئذ يجد حلاوة الإيمان: « ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواه ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار » .
وحتى لو تحققت تلك الشروط السابقة كلها ، ولكنها فقدت الروح فيها وفقدت سبب القبول عند الله ، فإنها لا تنفع صاحبها ما لم يحقق سبب ذلك القبول ،
وهو الشرط السابع .
7- الإخلاص ، و معناه: صدق التوجه إلى الله تعالى وتصفية العمل بصالح النية ، من كل شائبة من شوائب الشرك وألوانه.
وقد تواردت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ، تؤكد هذا الشرط ، وتجعله سببًا لقبول الأعمال عند الله تعالى. قال الله سبحانه وتعالى: {ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة:5] {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } [الزمر:2].
وفي حديث عتبان بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- « إن الله حرم على النار من قال:لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله عز وجل » .
والآيات والأحاديث في الإخلاص كثيرة جدًا ، فهو سبب القبول عند الله عز وجل ، فلا يقبل الله تعالى من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه وموافقًا لشرعه .
8-ومع هذه الشروط مجتمعة ، لابد من الإقامة على هذه الكلمة ، ليختم للعبد بها ختامًا حسنًا ، فإنما الأعمال بالخواتيم ، ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة » .
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، عند الشيخين « . . فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها » .
وقد أمر الله تعالى بالإقامة على الإسلام والتوحيد: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [ آل عمران:102].
وقد جاءت الأحاديث الشريفة تبين هذا المعنى: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار » وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة .
وفي حديث أبي ذر: « ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة » .
فاحرص أيها المسلم على كلمة التوحيد بشروطها تلك ، واحذر من كل ما ينافيها ، فإن ما ينافيها ويوقع في الشرك قد يكون أخفى من دبيب النمل.
قال ابن القيم رحمه الله ، في قصيدته النونية ، مشيرًا إلى أسنان هذا المفتاح الذي تفتح به أبواب الجنة ، وهي العمل بشرائع الإسلام ، وتحقيق تلك الشروط السابقة ، فقال :
هذا ، وفتحُ الباب ليس بمـمـكن إلا بمـفـتـاح عـلـى أسـنـان
مفتاحه بشهادة الإخلاص والتو حيد ، تلك شـهادة الإيمان
أسنانه الأعمال،و هي شرائع الـ إسلام ، والمفـتاح بالأسـنـان
لا تـلـغـين هذا المـثـال فـكم به من حل إشكال لذي العرفان
منقول من موقع (أنا مسلم)
|