مسألة في حال عدم القدرة على جهاد الدفع ما هي الحلول الشرعية : هذه الحلول الشرعية مأخوذة من قاعدة الأخذ بأخف الضررين ومن ذلك :
1- الصلح معهم ولو ببعض التنازلات كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية .
2- الدخول تحت حماية عدو كافر أكبر وأقوى من العدو المعتدي لدفع عدوانهم على المسلمين كما دخل النبي صلى الله عليه وسلم تحت حماية المطعم بن عدي ليمنعه من صناديد قريش فلما توفي أبو طالب وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الله لم يستطع الرجوع إلى مكة خوفًا من أهل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي وهو من رءوس الكفار واستنصر به في تبليغ دعوة الله واستجار به فأجاره ودخل في جواره .
3- دفع الأموال لهذا العدو المعتدي لدفع شره عن بلاد المسلمين ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصَارِ فِي غَزْوة الخَنْدَقِ: " إِنِّيْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ الحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوْهُ تَمْرَ المَدِيْنَةِ فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا حَتَّى تَنْظُرُوا فِيْ أَمْرِكُمْ بَعْدُ " . قال الهيثمي( 6/191): رواه البزار والطبراني ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات . أ.هـ .
4- إذا تحقق المسلمون من عدم القدرة على مقامة العدو وتيقنوا الفتنة بالدين وانتهاك النفس الأعراض وجب عليهم الفرار من العدو المعتدي إلى مكان لا يصل إليهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ " وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين للدخول تحت حماية ملك نصراني هرباً من بطش كفار مكة .
مسألة متى تكون نصرة المسلمون لإخوانهم المسلمين غير واجبة عليهم إذا اعتدي عليهم الكفار :
1- إذا كان المسلمون عاجزين عن نصرة إخوانهم فلا يلحقهم أثم بترك النصرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك نصرة كثير من المستضعفين من أصحابه في مكة لعدم قدرته على نصرتهم .
2- إذا كان هناك معاهدة وميثاق بين المسلمين وهؤلاء الكفار المعتدين ومن أدلة ذلك ما يلي :
أ- قال الله تعالى: (( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) الأنفال:72 ففي الآية أنه إذا قاتل الكفار بعض المسلمين الذين يعيشون في دولة منفصلة عنهم فليس لمن كان له عهد مع هؤلاء الكفار أن يقاتلهم إذا لم ينقضوا عهدهم معه .
قال الشيخ صالح الفوزان ( شرح نواقض الإسلام:167 ): لا يجوز نقض العهد إلا إذا كان فيه شرطٌ: أنكم إذا قاتلتم المسلمين فإنه ينتقض العهدُ الذي بيننا وبينكم (( وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) . اهـ .
ب - روى البخاري في صحيحه عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قِْصةَ الحُدَيْبِيَةِ فِي حَدِيثٍ طَويْلٍ وفِيْه أن من الشروط التي وضعها الكفار ورضي بها النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لاَ يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلاَّ رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَأَجِزْهُ لِي " قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ: " بَلَى فَافْعَلْ " قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا جَنْدَلِ بْنَ سُهَيْلٍ يَوْمَئِذٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا " وفي سياق نفس القصة " فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ " .
ففي هذا الحديث تسليم بعض المسلمين للكفار إذ كان ذلك مقتضى ميثاق المصلحة وهذا أعظم من مجرد ترك نصرتهم إذا قوتلوا .
ج - روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُـوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا ؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ . فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: " انْصَرِفَا نَفِيْ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ " مع أن حال حذيفة وأبيه رضي الله عنهما ينطبق عليهما قاعدة أهل العلم فيمن حضرا الصف فيكون القتال في حقهما واجباً وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم هو من يقود هذه المعركة ومع عظم هذه المعركة الفاضلة الفاصلة التي يتوقف عليها مصير الإسلام والمسلمين قدّم صلى الله عليه وسلم عليها الوفاء بالعهد .
3- ألا يكون قتال المسلمين للكفار قتالاً دينياً لإعلاء كلمة الله إنما يكون القتال لمقاصد دنيوية : كقتال الكفار لأجل الأرض أو لأجل العصبية القبلية لا يلتفت المقاتلون فيه لتحقيقهم التوحيد في أنفسهم و لا في بلادهم بل ربما عادوا التوحيد وأهله أو كان لتحقيق طموح سياسي لا للدين .
ففي مثل هذه الحالات تكون النصرة لهؤلاء غير واجبة لقولـه تعـالى: (( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ )) الأنفال:72 فجعل علينا النصر إذا كان القتال دينياً .
- إذن: فعدم نصر المسلمين بعضهم لبعض بسبب عجزٍ أو بسبب ميثاق مع الكفار أو بسبب عدم أرادة الدين بالقتال لا يعني أن من ترك نصرة أخيه منهم قد أساء وظلم بكل حال أو ظاهر الكفار وتولاهم .
مسألة أربعة مواضع يصبح فيها جهاد الكفار فرض عين:
1- إذا التقى وتقابل المسلمون والكفار في ساحة المعركة حرم على من حضر الانصراف لقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ )) الأنفال:15.
2- إذا أمر ولي الأمر بالجهاد عموم الناس أو قوماً محددين وجب عليهم النفير لقول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ )) التوبة:38 وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا استنفرتم فانفروا " .
3- إذا احتاج ولي الأمر شخصاً بذاته في القتال كمن لا يعرف الطريق إلا هو أو لا يعرف سلاحاً معيناً سواه .
4- إذا غزا الكفار ببلد مسلم تعين على أهله قتالهم ودفعهم بالشروط السابقة .
شبهتان والجواب عليهما :
الشبهة الأولى: أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة في حال القوة والضعف ويحتجون بما روي عن النبي بأسانيد ضعيفة " الجِهَادُ ماضٍ إِلَى يَومِ القِيَامِةِ " وبما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "
فقالوا هذا يدل على وجوب استمرار الجهاد على المسلمين أو طائفة منهم بكل حال وتحت أي ظرف دون مراعاة لضوابط الجهاد .
الجواب: أن هذا القول يناقض النصوص الشرعية فقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة صلح الحديبية وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم " سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا " وأمر صلى الله عليه وسلم بالفرار من الدجال " مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ " فدلت هذا النصوص أن لا جهاد في هذه الأزمان .
إذا يكون المعنى: أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة بالسنان في حال قوتهم ، فإن تعذر فبالحجة والبرهان واللسان ثم بالقلب في حال ضعفهم ، وهذا الذي فهمه كبار الأئمة كالبخاري .
الشبهة الثانية: أن إذن الإمام لا يجب في الجهاد لقصة أبي بصير ومن معه رضي الله عنهم:
الجواب على هذه الشبهة : أن أبا بصير رضي الله عنه كان تحت سلطة الكفار عندما سلمه صلى الله عليه وسلم لهم فتخلص منهما ثم ذهب إلى الساحل الغربي وخرج بعض المستضعفين من مكة فلحقوا به إذا لم يكن في بلاد المسلمين أو تحت قبضة ولي الأمر فهو لم يخرج من تحت سلطة الرسول لقتال الكفار .
والله أعلم
اللهم اغفر لي ولإخواني فإننا نحب الحق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محبكم في الله
د . عباس رحيم
__________________
abbasraheem200@msn.com
|