الدولة تاريخيا في ذهنية العرب :
تمتزج المفاهيم مع مرور الوقت، فتبتعد عن حقيقتها المجردة ، وتصطبغ بصفة أقرب لموروث (تراثي). وعند مقاربتها مع المفاهيم السائدة، يتصارع الموروث (بتفاصيله غير الواضحة) مع علمية الوظيفة للمفهوم، وتتيه الفكرة لتتحول الى شظايا فكرية تكون عصية على التحول الى حزمة أو حزم فكرية ، كان القصد من تجميعها كي تكون في خدمة تطور المفهوم، فيحال المصطلح الى دواوين أكاديمية أو ثقافية فيفقد دوره العضوي في خدمة مصلحة القضية التي أُثير من أجلها، وهذا شأن مفهوم الدولة في تراثنا العربي ..
لقد طغى تطور الدولة في أوروبا منذ القرن السادس عشر الى القرن العشرين على الخلفية التي تُناقش فيها مسألة الدولة في مختلف بقاع العالم، وحيث أن العلوم السياسية التي يتم تدريسها في المدارس والجامعات في مختلف بلدان العالم لا بد لها من المرور على التجربة الأوروبية، فإن مساحة التأثر بفكرة الدولة (أوروبيا) كان ولا يزال يحتل مساحة كبيرة أو (طاغية) في مناقشة قضية الدولة..
وقد تأثرت مدارس الفكر الأوروبي بإيقاع التطور الصناعي والمالي الذي كان يرافق عصور النهضة والحداثة، فكان أصحاب الفكر الليبرالي يؤكدون على علاقة مفهوم الدولة بفكرة السيادة وبحقوق المواطنة، وقد استكمل رواد الفكر (الديمقراطي) الحديث هذا التوجه بالتركيز على أهمية فكرة المسئولية السياسية. ومن ناحية أخرى اتجه الفكر الماركسي الى إبراز صلة الدولة بالهيكل الطبقي وعلاقاته ودورها كأداة للضبط الاجتماعي والقهر السياسي في ظروف اجتماعية معينة *1..
لقد تناغم النشاط الفكري مع النشاط الاقتصادي والعلمي في أوروبا، بحيث كانت الأفكار المطروحة أولا بأول تتماشى مع الحاجة للضوابط التي تنظم الحريات العامة مع إرادة الدولة كممثل للمجموع، فكان تطورها مفهوما عند المفكرين والمثقفين ومقبولا أو مفسرا عند عموم أبناء الشعب.
في حين لم يكن لدينا (نحن العرب) مثل تلك الخصائص العامة، فلم تحسم النخب التي تستلم الحكم أو تعترض على الحكم أمرها في الشكل الذي تريده من الهيئة الظاهرة للدولة، والتي تكون قابلة للفهم من قبل الجمهور حول دور الدولة ووظائفها العامة. فإن كان فلاسفة الغرب (في شأن الدولة) يمثلون معالم فكرية متتابعة وتشكل مراجعا لعلامات التطور في مفهوم الدولة، فإن تحدثوا أو استشهدوا بما قال (هيجل) بشأن الدولة وما قاله ماركس وما وصل إليه نيكولاس بولانتزاس أو جرامشي فإنهم قد تعرفوا على هؤلاء في أدبياتهم واستطاعوا أن يؤشروا على نقاط النقص أو الثغرات فيما قالوا أو وصلوا إليه فكريا، فيكون الجهد في معالجة النواقص قائما في كل مرحلة، بينما يبحث أحدنا (كعرب) في صفحات التاريخ عن فيلسوف أو مفكر يتواصل مع من سبقه ليوصل الى من يليه، فلا يجد ضالته بسهولة، بل يجد مفاهيم ضبابية تاهت بين الترحم والأسى والتمني ..
مقارنات برؤية عربية
لم يكن للعرب دولة واضحة قبل الإسلام، بل كان لهم أشباه دول، ولكنهم ـ بعد الإسلام ـ واتساع دولتهم في العهدين الأموي والعباسي، تم اعتبارهم ورثة كل الدول التي سبقتهم في حكم المناطق التي بسطوا نفوذهم عليها، وبقيت حتى اليوم محسوبة على أنها (بلدان عربية)، فليس هناك من يستطيع أن ينافس العرب على أنهم ورثة الفراعنة أو السومريين أو الكنعانيين أو السبأيين. ولكن ذاكرة العرب السياسية لا تتخطى الحد الذي يفصل بين الدعوة المحمدية وما قبلها، فليس هناك تشبث بالكيفية التي كانت تُدار بها الدولة في اليمن قبل الإسلام أو الدولة الفرعونية أو الدولة الحثية الخ ..
لذلك جاءت الصورة عن الدولة مهزوزة أو مرتجة وغير واضحة المعالم في ذهنية العربي كما يصفها (محمد جابر الأنصاري) في كتابه التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام .. ولو لخصنا ما قاله في الكتاب لخرجنا بما يلي:
1ـ إن الدولة عند العرب لغويا (مرتجة و مهزوزة) من تداول الحديث، وهكذا دواليك، وتلك الأيام نداولها بين الناس، في حين الدولة عند الغرب مأخوذة من
Statusأي الصخرة الصلبة ، فأصبحت State ..
2ـ الدولة جغرافيا وتاريخيا عند العرب غير واضحة المعالم، لا هي و مواطنيها، ففي حين نعتبرها من الأندلس الى الصين، ونعتبر أن مفكريها وأعلامها هم من أبناء عمومتنا أو أجدادنا من زهير بن أبي سلمى الى أبي القاسم الشابي واحمد شوقي و جميل صدقي الزهاوي .. نجد أن هناك مجلس أمة في الأردن ومجلس أمة في الكويت الخ .. فالارتجاج واضح جغرافيا وتاريخيا عند العرب، في حين أن الصين مثلا، هي التي تقع داخل حدود سور الصين ..
3ـ الدولة مرتجة اجتماعيا، ارتبطت الدولة العربية أو حتى تلك الدول التي سبقت الإسلام بعائلة أو عشيرة، فهذه دولة الفراعنة وهذه دولة الأمويين وحتى يحدث تخصيص مطلق فيقولون دولة الرشيد أو دولة فلان .. ولا زال هذا الوضع قائما فيرتبط اسم الدولة باسم عائلة .. وهنا يبرر الكاتب عدم حرص المواطنين للدفاع عن دولة فلان أو العائلة الفلانية .. في حين لا نجد تلك الظاهرة في فرنسا أو ألمانيا مثلا ..
حقائق تاريخية اجتماعية
من أكثر ما يواجه النشاط الفكري العربي فيما يخص الدولة عند العرب، هو ما يخص الرؤية الإسلامية (السياسية) في الفكر الحديث، فكل يوم نسمع ونقرأ من يدعو الى العودة الى الماضي لنضمن العودة الى بواطن القوة، فهناك من يرفع شعار الإسلام هو الحل، وكأن هذا الشعار يطرح لأمة غير مسلمة، علما بأن سكان البلدان العربية غالبيتهم المطلقة من المسلمين. ومع ذلك سنحترم هذا الطرح الذي لا خلاف عليه وسنناقشه وِفق رؤية ثبتها (محمد عابد الجابري) في كتابه (الدين والدولة وتطبيق الشريعة) وسندرج الحقائق التي توصل إليها الكاتب:
1ـ لقد كان النظام السياسي الاجتماعي في مكة والمدينة (يثرب) قبل الإسلام، نظاما جماعيا قبليا لا يرقى الى مستوى الدولة التي قوامها أرض ذات حدود معلومة وجماعة من الناس تسكن هذه الأرض وسلطة مركزية تنوب عنهم في تدبير شؤونهم الجماعية وفق قوانين وأعراف.
2ـ مع البعثة المحمدية، بدأ المسلمون يمارسون الدين الجديد ليس كموقف فردي إزاء الرب (المعبود) بل أيضا كسلوك جماعي منظم، انسلخوا فيه عن انتماءاتهم القديمة( مجموعة الهجرة الى الحبشة، كانت من مختلف القبائل ولكنها تصرفت كمجموعة منضبطة وفق انتماء عقائدي جديد غلب انتماءاتها القديمة) ..
رفض الرسول صلوات الله وتسليمه عليه أن يسمى حاكما أو ملكا، رغم أنه كان يقود مجتمع المسلمين سياسيا وعسكريا واقتصاديا وتنظيميا، يبعث الرسل ويوزع الغنائم الخ
3ـ إذا كان الدين هو وحي من الله لا يمكن أن يرثه أحد من الرسول، ولا أن يخلفه فيه، فإن التنظيم السياسي الاقتصادي الاجتماعي الذي نما بنمو الدعوة وانتشارها يحتاج الى من يرعاه ويدبره ويسهر على حسن سيره بعد وفاة الرسول صلوات الله عليه .. ولم يكن هذا التنظيم السياسي الاقتصادي الاجتماعي يحمل اسما سياسيا، فلقد رفض الرسول أن يُسمى ملكا، ولم يكن في قاموس اللغة العربية مصطلح آخر للرئاسة غير الملك، وهو مصطلح رفضه الإسلام وشجبه باعتبار أن (الملك) الوحيد هو الله .. من أجل ذلك استعاض الصحابة بمصطلح (الأمر) .. وهكذا صارت عبارة من سيتولى هذا الأمر؟ تدل على ما تدل عليه عبارة من سيرأس الدولة؟
يذكر المؤرخون أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، أثار المسألة مع علي بن أبي طالب عندما كان النبي مريضا مرضه الأخير، إذ قال له: (أدخل على النبي واسأله إن كان الأمر لنا بينه، وإن كان لغيرنا أوصى بنا خيرا) وتقول الرواية أن عليا امتنع لأنه خاف أن تكون النتيجة سلبية إن هو سأل النبي، فيحرم الهاشميون من الخلافة الى الأبد .. وتدل هذه الواقعة أن الصحابة كانوا يشعرون أن الدعوة المحمدية قد تطورت فعلا الى دولة..
4ـ رغم أن القرآن قد تحدث عن الأمة الإسلامية مرارا، وتحدث عن الأوامر والنواهي والحلال والحرام، إلا أنه خلا من ذكر النظام السياسي .. إلا إشارة (أولي الأمر منكم) والتي لم يتفق ـ حتى الصحابة ـ على تعريفها بشكل متطابق فاختلفوا ـ أو كادوا ـ في سقيفة بني ساعدة .. وبقيت بذور الاختلاف تعلو وتهبط حتى طغى الخلاف السياسي على قوة التطابق العقائدي (الديني).
5ـ يبدو أن مسألة علاقة الدين بالدولة لم تأخذ حقها من النقاش لا في زمن النبي صلوات الله عليه ولا في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم .. فكانت مبايعة أبي بكر تختلف عن مبايعة عمر وتختلف عن مبايعة عثمان، لتبدأ بذور الفتنة في السنوات الأخيرة لحكم عثمان وتتعمق في حكم علي ..
لقد وضعنا تلك المقاربة، لنناقش موضوع الدولة سياسيا، بعيدا عن الاجتهادات العقائدية، على قاعدة أن الغالبية من مواطني الأمة هم من المسلمين الذين، لم يتحزبوا الى وجهة نظر عقائدية ضد أخرى، سيما أن هذا الخلاف قد وقع بين أطهر المسلمين من الصحابة ومنهم مبشرين بالجنة، فالرجوع إليه يدخلنا بمتاهات سجالية لا تقدم ولا تؤخر ..
يتبع
هوامش
ــ
*1ـ يمكن الرجوع الى : العرب ومشكلة الدولة/ نزيه نصيف الأيوبي/دار الساقي/ بيروت/ الطبعة الأولى 1992
*2ـ التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام(مكونات الحالة المزمنة) / محمد جابر الأنصاري/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت 1995ط1
*3ـ الدين والدولة وتطبيق الشريعة/ محمد عابد الجابري/ مركز دراسات الوحدة العربية/ بيروت/1996 ط1
__________________
ابن حوران
|