عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 23-11-2007, 01:59 PM   #10
ابن حوران
العضو المميز لعام 2007
 
الصورة الرمزية لـ ابن حوران
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 4,483
إفتراضي

(6)




لم يسبق لخالد أن طرق باب بيت قبل تلك المرة، فقد اعتاد أن يدخل بيوتا مفتوحة الأبواب تملأها حركة ساكنيها، وتذيب حرج الدخول، الذي لم يكن معروفا سابقا في العتيقة .. ولم تكن الأبواب تغلق أصلا، إلا بعد العشاء حيث تكف أرجل الناس وحيواناتهم عن الحركة ..

خرج مطيع على صوت طرقات قبضة خالد على باب البيت، وطلب من خالد التريث في الدخول الى البيت، ريثما يهيئ له دخولا غير محرج لأهل البيت..

كان البيت الذي استأجره والد مطيع (الموظف الحكومي) وأضاف عليه بعض التحسينات، تعود ملكيته لرجل توفى ولم يترك من يجعل لبقائه بالبيت مبررا.

مر من جانبه رجل غريب، يدفع بعربة خضراء لها ثلاثة عجلات، وتتسع لحمولة نصف طن من التراب، لكنها كانت فارغة، والرجل يصيح : (من عنده عتيق للبيع ) ..

دخل خالد برفقة مطيع الى داخل البيت، وجلسا على كرسيين من (الخيزران)، وبعد أن تبادلا كلمات أشبه ما يكون بفترة إدارة محرك سيارة (ديزل) في الشتاء، تجولت عينا خالد في الغرفة، فلاحظ أن ترتيب الأثاث في الغرفة يختلف عما في بيتهم .. لم يكن هناك قطعة من قطيفة بصدر الغرفة، ولم يكن هناك صورة لأبي زيد الهلالي أو فاطمة المغربية .. ولم يكن هناك رف خشبي له حافة متعرجة تربض فيه أواني النحاس التي خرجت مع عرس أمه ..

دخلت فتاة تصغرهما بأربع سنوات، لم تكن تغطي رأسها ب (الشمبر ) الأسود كبقية فتيات البلدة، ومعها (صينية) عليها (إبريق) شاي من (الصيني) وقدحين وصحن به بعض (الكعك) .. نظر خالد الى هذه الصينية وما عليها، نظرة قط شبعان لفأر أصبح بتناول يده .. فكان يمد أطراف أصابعه ليتحسس المواد المصنوعة منها تلك الأدوات وما عليها ..

وبعد أن تناولا قدحين من الشاي، دخل عدة أطفال من إخوة مطيع (الذكور) .. توقفت خطوط نظر خالد على أحدهم وكانوا ثلاثة، فوجد أن رأسه أكبر من أن يكون لجسمه.. عاد وتفحصه مرة أخرى، وكأنه خبير قطع أوراق نقد، شك بتزييف واحدة، انتقل بنظره الى الطفل الثاني فأحس بأن إحدى ذراعيه أطول من الأخرى .. نهض الطفل الثالث فتهيأ له أن إحدى ساقيه أكثر طولا من الساق الأخرى .. شعر بانقباض في نفسه واعتذر للشاب صديقه من عدم قدرته على إطالة المكوث .. وخرج ..

كان الرجل الذي يدفع بالعربة متوقفا أمام بيتهم، ووالدة خالد تحضر له أواني النحاس لتبيعها له، ورجل من بعيد قادم ومعه (حواة) وهي قطعة محشوة بالقش توضع على رقبة البغل لتربط بها أعواد الحرث أو عربات الجر .. ولكن الرجل عندما وصله استنكف عن شراءها لتيقنه من أن أحدا لن يشتريها منه ..

دفع صاحب العربة الخضراء عربته واستأنف المناداة : (من عنده عتيق للبيع) .. دخل خالد للبيت، وكان الوقت قبل الغروب، فوجد والده متمددا على (فرشة) رقيقة موجها ظهره جهتها ووجهه نحو السقف وواضعا ذراعيه خلف رأسه، ليرتفع رأسه فوق الوسادة، رفع أحد ساقيه فوق الأخرى بعد أن قرب قدمه الثابتة ليكون بهيئة من يجلس في الدرجة الممتازة بقطار قديم .. كان يحرك أصابع قدمه المرفوعة، ليماطل الوقت .. فلم يفلح بذلك، ثم أخذ يدندن بموال ( يا عيال قصوا جدايلكو .. وتولفوا للكريكات ) ( ملعون أبو اللي يعيركو من بعد قبض الليرات) ..

اختفى من البيت صوت ثغاء النعاج، كما اختفت أصوات الكلاب، واختفى معها إزعاج الدجاج الذي يراقص ربات البيوت ليتسلل الى داخل الغرفة ليلتقط حبة سقطت من يد امرأة أو بعض فتات الطعام، كما اختفت طيور (السنونو) التي كانت تحوم داخل الغرف لتزق صغارها المقيمة في ثنايا جسور السقوف التي كانت تحمل أعواد قصب السقف ..

لم يرق لخالد منظر أخواته الإناث التي اكتنزت أجسادهن بالشحم نتيجة قلة الحركة فكان قوام شقيقة مطيع أكثر رشاقة من قوام أي من أخواته، كما لم يستطع والده المتمدد على ظهره أن يخفي بروز كرشه وهو مستلقي

خيم الفراغ على الأسرة وأصبحت أجواءها مملة، فلم يعد والده يتابع من يسقي (الطرشات) أي حيوانات البيت، فقد تم بيعها كلها، ولم يعد صغار الأسرة يكلفون بأي مهمة، ولم تعد والدته تعجن وتخبز و تهيئ (فرن التنور) لإعداده لليوم التالي ..

ما الذي سيملأ أكياس الوقت بعد أن فرغت، ما الذي سيشغل رجال البلدة الذين كرسوا كل وقتهم للحديث عن نقاوة البذار أو عن جودة الموسم؟ ما الذي سيثير انتباه النساء بعد أن زادت ساعات يومهن من أربع وعشرين ساعة ممتلئة الى أربع وعشرين ساعة خاوية؟ وما الذي سيهد حيل الأطفال الذين كانوا يجبروا على النمو وتحمل المسئولية بسرعة؟

أسئلة كثيرة دارت برأس خالد الذي أخذ عن جده مخلف الأصالة، فكان وعيه لا يختص بإعادة تكوين صور الماضي، بل تخطاها للتنبؤ بما سيرتسم من صور للمستقبل ..
__________________
ابن حوران
ابن حوران غير متصل   الرد مع إقتباس