الوطنية يا أعزائي ليست دجاجة مقلية كما كان يقول سيدي سما البولاندي دام ظله الشريف.. هل تعلمون أنه في إسبانيا تنظم عند نهاية غشت من كل سنة إحتفالات صاخبة تتخللها تمثيليات ورقصات تجوب الشوارع والأزقة ويستفيد المشاركون من عطلة رسمية حتى يتفرغوا لهكذا مناسبة.. والمناسبة التي أتحدث عنها هي إحتفالات moros y cristianos حيث تصرف البلديات مبالغ طائلة وتفرش الزرابي في الساحات ويمر الخيالة في لباس عربي ومسيحي والمشاة في أزياء جميلة جدا ومطرزة على النسق العربي الإسلامي وعمامات موشاة بالجواهر وسيوف مستقيمة ومعقوفة وصلبان مرفوعة وجيوش بين كر وفر.
والمناسبة، تخليد ذكرى طرد العرب والمسلمين من الأندلس.
إن خلف هذا الإحتفال آلة جبارة ترسخ في أذهان الكبار والأجيال الصاعدة الرواية الرسمية لطرد المسلمين.. والوطنية والإعتزاز بالانتماء والتشبث بالهوية يتم غرسها في الأجيال الصاعدة عن طريق إعطاء التاريخ وانتصاراته قيمته الحقيقية ليشكل قوة الشعب.
يتم هذا كل سنة ومنذ قرون.. سواء زار ملكهم سبتة أم لا، سواء زار ملكنا الصحراء أم لا.
أما نحن، فقد طردنا الإسبان من الصحراء بشكل جعل مدريد تحس بالإهانة خصوصا وأن الطرد تزامن مع احتضار فرانكو وظلت منذ ذاك تنفث سموم الدعم لجرذان صحراويين وصراصير مرتزقة بوليساريو لا قيمة لهم ولا وزن وما كلامهم سوى فقاعات صابون نتلهى بها عن قضايا أهم. ما علينا.. بل ولا تزال المسيرة الخضراء تشكل عقدة العقد عند الإسبان بعد ما شاهد العالم صور هروب جنودهم المسلحين ويخجل تلفزيوننا من إعادة بثها لنا في المناسبات فنرفع رؤوسنا مرة. فماذا صنعت الدولة بهذا الإنتصار غير ملاحم غنائية تمجد القيادة الحكيمة وتتغنى بعبقرية الملك العظيم، تقريبا لا شيء. وهاهي ذكرى المسيرة الخضراء تمر بين تلاميذ يلعبون الكرة أو موظفون نائمون ذلك اليوم.
وهاهو بطل الأبطال عبد الكريم الخطابي لاتزال منطقة الريف معقل مقاومته مهمشة لا طرق فيها ولا حياة كريمة. يعاني أهلها تبعات أمراض السرطان ولا تسمح الدولة بطرح قضيتهم لا في الداخل ولا الخارج ضد إسبانيا التي أستخدمت ضدهم قنابلها الكيميائية والحارقة لأول مرة في التاريخ.
ويوسف ابن تاشفين الذي لا يملك ضريحا ولا يعرف مكانه.
والمعتمد ملك إشبيلية السكير الخائن الذي حصد كل التمجيد وأجمل ضريح في أغمات فقط لأنه قال : لرعي الجمال خير من البطاطا ومطيشة.
إن الوطنية الحقيقية ليست عضبة عابرة وليست ردة فعل تحدث تحت الطلب ولا تحتاج لحدث خارجي حتى تتحرك في الإنسان وليست بيانا متشنجا يتم إرساله أو تذكر سفير يجب استدعاءه. الوطنية شعور عميق يتم رعايته والاعتناء به على مدار الأيام والسنين والعقود والأجيال. وعلى هؤلاء الذين يطلبون اليوم منا أو نكون وطنيين من طبقة السياسيين الذين يطلون من التلفزيون أن يكونوا وطنيين هم أنفسهم أولا.
جميل أن يدعو بعض البرلمانيين أو المسؤولين للاحتجاج أمام مبنى السفارة الإسبانية لكن الأجمل منه كان سيكون هو أن يحمل ويسلم للإسبان مظروفا كبيرا يضع فيه أوسمة إيزابيلا الكاثوليكية التي تسلمها في مدريد قبل سنوات كل من الجنرال العنيكري وحسني بنسليمان ومزيان بلفقيه وفاضل بن يعيش وغيرهم من المنعم عليهم بوسام يرتبط اسمه بملكة كانت وراء طرد المسلمين.
إن قبول مغربي مسلم لوسام إيزابيلا لهو أشبه بقبول يهودي بوسام يحمل إسم هتلر.
وعلى كل السياسيين الذين يحملون الجنسية الإسبانية أن يتخلوا عنها ويكتفوا بمغربيتهم وآنذاك سيكون لكلامهم الإعلامي معنى. أما أن يمثل بعضهم أمامنا دور الوطني المدافع عن مغربية سبتة ومليلية في النهار، وفي الليل يطير إلى إحدى المدينتين ليستمتع في باراتها بنبيذها الأحمر وشطائر الخامون المجفف فهذا ما لا يقبله الوطنيون الصادقون.
هذا لا يعني التخلي عن المطالبة بسبتة ومليلية ولكن يجب العمل أولا على تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والرقي بمستوى العيش واحترام كرامة المواطن والحق في العمل والعلاج والتعليم.
وإنه لمخجل أن نطالب بسبتة ومليلية وفي الوقت نفسه نرسل نساءنا ليلدن في مستشفياتها وأطفالنا ليدخلوا خيرياتها وتتوقف الطوابير الطويلة كل يوم لتسول خبزها اليومي في الكونطربوند ونشاهد يوميا آلاف النساء يتعرضن على أيدي الموروس والكريستيانوس في شرطة الحدود إلى الإذلال والابتزاز والقهر من أجل علبة حليب مهربة تحت الثياب.
كل عربي مسلم صادق سيشعر بالحزن ويذرف الدموع وهو يزور الخيرالدة وجامع قرطبة الكبير ولكن ماذا يفعل من ذرفها منذ زمان.
ذكرى لازلت أحملها معي وأنا في السنة الأولى الثانوية، حيث استعرت رواية من مكتبة الثانوية وكان عنوانها moros y cristianos من تأليف Lourdes Miquel y Neus Sans وبدأت أقرأ فيها عن سنين القمع العربي في الأندلس ومعاناة الإسبان من الوحشية الإسلامية وكيف أنها كانت سنينا رهيبة.. ويمجد الإسبان ويحتقر المسلمين.. كتاب كهذا في قلب مكتبة ثانوية بن رشد التي درست بها ودفعت رسم تسجيلي حتى أنعم بكتب كهذه.. ويأتي أحدهم بعد سنين، ليحدثني عن الوطنية.
الوطن يا أعزائي ليس ترابا وحجارة.
وطني... أنا والماروخا..
وبشرى.