تجاوز التنظيم دون الصدام معه
امتلك القرضاوي المفاتيح السابقة ولكنه لم ينفرد بها بل ربما شاركه فيها آخرون بقدر يزيد وينقص، أما المفتاح الذي انفرد به فهو القدرة على صياغة علاقة فريدة مع التنظيم تتجاوزه دون أن تصطدم به. وقد نجح القرضاوي في ذلك بسبب توفره على جملة صفات خاصة وبسبب استراتيجيته التي اتبعها في علاقته مع تنظيم الإخوان.
لقد حسم القرضاوي أمره مبكرا وطوال علاقته بالحركة بالانتماء للخط العام في الحركة والولاء لقيادتها الشرعية المجمع عليها دون الارتباط في مشروعات جانبية يمكن النظر إليها باعتبارها تمثل "جيوبا" تنظيمية أو تيارات مخالفة للجماعة، التزم القرضاوي بهذا الانتماء مهما كان تقديره لكفاءة هذه القيادة مادامت شرعية ومجمعا عليها، ولم يتورط في مشروعات جانبية مهما كان اتفاقه مع أفكارها وتقديره لها.
لقد التزم القرضاوي هذا حين وقعت الأزمة الشهيرة عام 1954 واختلفت الجماعة حول شخص المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي، فرغم أن القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار المشايخ والأزهرية المعارض للهضيبي وسياساته (يمثله الشيوخ محمد الغزالي وسيد سابق وعبد المعز عبد الستار..) فلم يصل الأمر بالقرضاوي إلى الانضمام إلى هذه الجبهة حين انشقت على الجماعة أو احتجت على قرار فصلها. بل التزم القرضاوي ما انتهت إليه القيادة الممسكة بدفة التنظيم، وعاش معها فترة السجن والتزم بأوامرها وتكليفاتها دون أن يعلن خلافه معها أو رفضه لقيادتها رغم وقع السجن وهول التعذيب وسعي جمال عبد الناصر ونظامه لضرب وحدة الإخوان التنظيمية.
تكرر الأمر كذلك مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إليه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة المرشد الثاني، فرغم أن القرضاوي كان متعاطفا مع هذا المشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة – جيل الوسط؛ ورغم أن أصحاب المشروع الحزب أكدوا في ورقته المذهبية تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي ( جواز التعددية الحزبية، وفكرة الإسلام الحضاري) إلا أن القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا المشروع خاصة بعدما انتقل من محاولة تجديدية إلى خصومة تنظيمية مع جماعة الإخوان والقيادة الشرعية لتنظيمها الشرعي.
مثلما حسم القرضاوي انتماءه وولاءه للخط العام الحركي للإخوان فقد وضح حسم انتمائه أيضا للتيار العام الفكري الوسطي للحركة والذي أسسه مؤسس الجماعة، وهو التيار الذي يعرف بالتيار البناوي (نسبة للشيخ حسن البنا). ولم يعرف عن القرضاوي ارتباطه بأي اتجاهات فكرية أخرى فرعية تخرج به عن هذا التيار، بل لقد خاض مبكرا مواجهات "فكرية" ضد هذه التيارات خاصة المتشدد منها وكان من أبرز من تصدّوا لها خاصة المتشدد منها.
برز ذلك في خروج آخر ولكنه أكبر وأشد تأثيرا على التيار البناوي في الجماعة، وهو التيار القطبي (نسبة إلى الشهيد سيد قطب). لقد تأثرت جماعة الإخوان بدءا من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
ربما وباستثناء رسالة (دعاة لا قضاة) التي تنسب للمرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي لم تقدم الجماعة نقدا جديا مؤسسيا لأفكار سيد قطب، بل كان الغالب أنها استحضرت أفكاره وكتاباته في بنيتها الفكرية والتربوية في مراحل مختلفة، خاصة بعد إعدامه وتحوله رمزا للحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم وأكاد أجزم بأن الشيخ القرضاوي كان من أوائل من تجرؤا على نقد سيد قطب وسعوا إلى استعادة الإخوان للمنهج البناوي.
في الثمانينيات من القرن الفائت وأثناء علو الخطاب القطبي وسطوته كتب القرضاوي مقالة في جريدة الشعب المصرية القريبة من الحركة الإسلامية في كانت الأولى في نقد بعض أفكار سيد قطب. ثم خصص فيما بعد مساحات كبيرة في الجزء الثالث من مذكراته لاستكمال هذا النقد بما أثار عليه ثائرة عدد كبير من الكتاب والقيادات الحركية الإسلامية حتى من داخل جماعة الإخوان نفسها.. فكانت واحدة من المعارك الفكرية الإسلامية المهمة في الأعوام الأخيرة.
ومثلما جسد القرضاوي للحركة خط الدفاع عن تيارها العام في مواجهة أفكار وافدة تمددت في فراغ غياب المؤسس مثلما حدث مع سيد قطب، فقد جسد القدرة على تمثيل الخط العام للحركة فكريا وفقهيا لكن من دون الجمود عليه بل مع إعطائه طاقة تجديدية، فرغم أنه صار يمثل امتدادا فقهيا وفكريا وتربويا للإمام المؤسس للبنا إلا أنه لم يكن امتداد المقلد المتبع بل المجدد القادر على مخالفة إمامه ولكن خلاف التلميذ مع شيخه وليس خروجا عليه تماما كما فعل في رفضه لما ذهب إليه البنا من منع المرأة من حقوقها السياسية، أو رفضه لموقف البنا الرافض للأحزاب والحزبية، أو خلافه مع ما ذهب إليه البنا من إمكان تلبس الجن بجسد الإنسان. والقرضاوي يسوق اجتهاداته في هذا الصدد في سياق المجتهد الذي يكمل على خطى شيخه ولكنه يخالفه في بعض اجتهاداته دون أن يمنعه ذلك من الإقرار له بالفضل والتقدمة.
إدراكه لموقعه في الحركة
أما أكثر ما تميز القرضاوي به في سياق صياغته لعلاقته مع الإخوان فهو قدرته المذهلة على تحديد موقعه المناسب له في الحركة وتطوير هذا الموقع وفق تطوره الشخصي وبحيث يتناسب مشروعه الخاص مع مشروع الحركة العام.
ثم للرجل قدرة تثير الإعجاب على أن يحدد وبدقة متى يبدأ التنظيم والعمل التنظيمي ومتى ينتهي في حياته وأين يلتقي معه وأين يبتعد عنه، وهو قادر على استشعار التغيرات التي تطرأ أو التي يجب أن تتم على علاقته بالتنظيم حضورا وغيابا قربا وبعدا.
لذا لم يتردد الرجل الذي بدأ حياته في جماعة الإخوان واعتقل بسببها مرتين أن يرفض منصب المرشد العام مرتين إحداها وهو في مقتبل حياته الدعوية وقبل أن يسطع نجمه. لقد رفض القرضاوي- حتى قبل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس- منصب المرشد حين عرض عليه عام 1976 الذي كان قد خلا بعد وفاة المرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي، وبقيت الجماعة مدة عامين من دون مرشد..
ثم عاد وجدد الرفض مرة ثانية عام بعد وفاة المرشد الخامس مصطفى مشهور حين عرض عليه المأمون الهضيبي التنازل عن المنصب له إذا ما قبل قيادة الجماعة، ولم يكن القرضاوي يقارب الأمر من منطق براجماتي بقدر ما كان يقدر بدقة موقعه المفترض من الجماعة ويستشعر التغيرات التي تطرأ عليه وتلزمه.
وقد استطاع القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة لكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي، لذا فقد ظل الجميع يعرفون القرضاوي كواحد من جماعة الإخوان دون أن يسألوا عن موقعه التنظيمي أو وضعيته قبولا ورفضا من قيادة التنظيم.. ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة.. لذلك تحول القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
كما امتلك القرضاوي كذلك القدرة على تجاوز الإطار التنظيمي وعقباته ولكن دون الوقوع في مأزق الاضطرار للخروج عليه ومن ثم الاصطدام به، فهو استطاع انجاز انتقال هادئ من المركز إلى التخوم ومن التخوم إلى خارج التنظيم بتدرج ودون صدام، لذلك لم يعرف عنه خروج تنظيمي رغم أنه حدث، ولم يتطرق جمهور الإخوان إلى السؤال عن علاقته بالتنظيم رغم أنه خارج التنظيم فعلا، بل وربما اكتشف الإخوان- فيما بعد- أنه من الأفضل عدم إثارة هذا السؤال الذي يسيء لمن يطرحه ولن يترتب عليه أي فعل أو موقف من الرجل إيجابا ولا سلبا.
باحث مصري متخصص بالحركات الاسلامية
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جريدة الغد الأردنية 30/10/2007
__________________
ابن حوران
|