وربما لم تتفجر قضية تهم الأمة أو الحركة الإسلامية إلا ووقف فيها القرضاوي محرضا يقدم وقود المعركة، فعل ذلك في أثناء الغزو والاحتلال السوفيتي لأفغانستان واستمر في حشد التأييد للمجاهدين حتى انسحاب السوفيت منها. وفعل ذلك في الغزو الأميركي للعراق فكان أعلى الأصوات وأكثرها تأثيرا في رفض الحملة الأميركية على أراضيه فأفتى بوجوب الجهاد لمقاومة الغزو الأميركي ثم لمقاومة هذا الاحتلال، وجر موقفه هذا عليه حملات إعلامية من بعض المنابر الإعلامية التي اتهمته بدعم الإرهاب.
تكرر الأمر في أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم فوقف القرضاوي محرضا للشارع المسلم على الغضب احتجاجا على إهانة الرسول الأعظم وقاد معركة الاحتجاج ضد الدنمارك.
أما الوجه الذي لم يغب دائما للقرضاوي وكان شريكا في كل وجوهه الأخرى وكان حاضرا في كل أدواره داخل الحركة الإسلامية فهو وجه الشاعر، فمنذ شرخ شبابه وشعر القرضاوي حاضرا بين أبناء حركة الإخوان، كتب مبكرا ولم يزل طالبا في المرحلة الثانوية مسرحيته الشهير (عالم وطاغية) التي يمجد فيها من مقاومة العلماء – في نموذج سعيد بن جبير- لظلم الحكام الطغاة – في نموذج الحجاج بين يوسف، فكان أبناء الحركة الإسلامية خاصة في أوساط الشباب الجامعي يؤدون هذه المسرحية في مناسباتهم وفاعلياتهم. كما اشتهرت قصيدته النونية التي كتبها في السجن الحربي يصف فيها الأهوال التي عاناها مع معتقلي الإخوان في هذا السجن المرعب، وتعد - مع قصيدة أبتاه للشاعر هاشم الرفاعي- من أهم قصائد السجون التي اشتهرت بين أبناء الحركة الإسلامية في نصف القرن الأخير.
وللقرضاوي ديوانان من الشعر (نفحات ولفحات، والمسلمون قادمون) مثلت قصائدهما وقودا لشباب الحركة الإسلامية يبثه روح الثورة والرغبة في الانعتاق من الظلم ويلهمه معاني التضحية والفداء من أجل أمته.
حركة موازية تتكامل ولا تتعارض
لا تفهم خصوصية العلاقة الفريدة بين الشيخ يوسف وحركة الإخوان المسلمين إلا بالتوقف عند ملمح مهم وهو اتساع خريطة أفكار الشيخ القرضاوي واهتماماته ونشاطاته وتطابقها مع مثيلتها لدى الحركة حتى يكاد يمثل وحده حركة موازية لها دون تعارض معها.
لقد اشتغل القرضاوي في قضايا الدعوة والتربية، وقضايا الفقه والتفسير، وقضايا الاقتصاد والتنمية، وقضايا الثقافة والفكر، وفي العمل الخيري والإغاثي، وفي قضايا السياسة... وكان في كل حركته يتقاطع فكرا ومنهجا مع حركة الإخوان إن لم يتطابق معها.. ليس هذا فحسب، بل إن كتاباته تأتي دائما إما لتقدم الأساس الفكري والشرعي لعمل الحركة أو لتفكك قضايا الالتباس ومساحات التوتر التي تعوق حركتها.
إبان الحقبة الناصرية في الستينيات وحين كانت الحركة تواجه تحديا على مستوى مشروعها الإسلامي الذي صار موضوعا للنقد والتحدي من قبل أنصار المشروع الاشتراكي كان اهتمام القرضاوي بالدفاع عن هذا المشروع وحمايته من موجة النقد التي كادت تعصف به فكتب وقتها سلسلته الشهيرة عن حتمية الحل الإسلامي (الحل الإسلامي فريضة وضرورة، الحلول المستوردة وماذا جنت على أمتنا، بينات الحل الإسلامي، أعداء الحل الإسلامي..).
وفي إبان انبعاث الصحوة الإسلامية في السبعينيات انصب جهد القرضاوي على قضية ترشيد الصحوة الوليدة فكتب سلسلة رسائل وكتب مهمة في هذا الموضوع: ظاهرة الغلو في التكفير، أين الخلل؟، فقه الأولويات، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، والصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ومن أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة.
ثم لما تعددت تيارات الصحوة والجماعات العاملة لها بما فتح باب التنافس بينها والتصادم في بعض الأحيان حاول القرضاوي وضع أسس للتعاون بين جماعات الدعوة والعاملين في حقلها، فكتب عن: شمول الإسلام، والمرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، وموقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤى ومن التمائم والكهانة والرقى، والسياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، وكيف نتعامل مع التراث والاختلاف والتمذهب... وكانت كتاباته في هذا الموضوع- في مجملها- شرحا وتطويرا للأصول العشرين التي وضعها الإمام حسن البنا كأصول للمشروع الإسلامي الحركي الأول (الإخوان المسلمين)، ولكن بصياغة جديدة وأكثر مناسبة للتعددية التي صارت إليها الصحوة الإسلامية.
ثم لما صارت الحركة الإسلامية في تحدي سؤال الدولة؛ سواء نظريا أو واقعيا كما جرى في بعض البلدان التي تولت فيها الحركة السلطة اتجه القرضاوي إلى بيان شكل الدولة "الإسلامية" التي يتصورها، وسعى للإجابة على إشكالات هذه المرحلة فكتب: ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده، وشريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، الأقليات الدينية والحل الإسلامي، جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة.
ولما انفتحت الحركة على سؤال العولمة والانفتاح على الآخر كان له سبق الاشتباك مع أسئلة اللحظة، فكتب: المسلمون والعولمة، خطابنا الديني في عصر العولمة، الإسلام والمسلمون وعلوم المستقبل على أعتاب القرن القادم، المسلمون والتخلف العلمي، ورعاية البيئة في شريعة الإسلام، وحقوق المسنين من منظور إسلامي، الغرب والإسلام ، وربما افتقدت بعض كتاباته في هذه في قضايا مثل العولمة وحوار الأديان والحضارات الإحاطة اللازمة بموضوعاتها نظرا لطبيعتها الفكرية المعقدة والسن الذي بلغه الشيخ (كتب في ذلك بعد السبعين) إلا أنه كان رائدا في توجيه الحركة والاتجاهات الإسلامية إلى أهمية الاشتباك مع مثل هذه القضايا.
كما نوّع الشيخ القرضاوي في بناء مشروعه بين الجهد الفردي وبناء المؤسسات؛ حتى بدا أقرب إلى مؤسسة متكاملة. فقد نجح القرضاوي في بناء شبكة عالمية تتصل بكل أنشطته واهتماماته وتغطيها حتى يكاد لا يستثني مؤسسة من مؤسسات العمل الإسلامي بتخصصاته المختلفة في أنحاء العالم تقريبا منها إلا كان له بها صلة وثيقة.
يتبع
__________________
ابن حوران
|