عرض مشاركة مفردة
غير مقروءة 08-10-2007, 08:46 PM   #32
*سهيل*اليماني*
العضو المميز لعام 2007
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2006
المشاركات: 1,786
إفتراضي

وفي مجال الشعر يقرضونه في شتى الأغراض، ويسلكون به مسالك العرب الأوائل مفاخرين ومنافرين ومادحين وقادحين ومشببين وواصفين .. يقرضونه على السليقة لا يتعلمون في صنعته، ولا يشتطون في تدبيجه، يرسل أحدهم – ممن تتوفر لديه الشاعرية – العنان لقريحته، فتتنفس عن رائعة يستوفي فيها غرضه، قد تبلغ الثمانين بيتًا وربما أكثر وربما أقل .. فتسير أوساطهم وتتناقلها رواتهم، وتبلغ مبلغها من الانتشار والرواية .. يغذون بهذا الشعر أسمارهم، ويستشهدون به على أحداثهم، ويسجلون وقائعهم، ويتغنون به على ظهور المطي، في مجالات أفراحهم، ومناسبات انتصاراتهم .. ولهذا الشعر حديث طويل وضعت فيه كتابًا أسميته "الأدب الشعبي في جزيرة العرب" ألم بالخطوط الرئيسية لهذا اللون من الشعر .
والشاهد هنا هو أن هذا الشعر تسمعه من أفواههم ، وتقرؤه في مدوناتهم .. فلا يخامرك شك في أنه شعر عامي أفسد الفصحى وكدر صفوها.. ولكن إذا أخذت نموذجًا منه وحللته خرجت بنتيجة مذهلة، واكتشفت مجهولاً وعثرت على حقيقة، وهي أنك تجده شعرًا فصيحًا موزونًا مقفي، لا تعوزه القوة ولا ينقصه الإبداع، ولا يمارى في متانته وسموه.
ولنأخذ – مثلاً – هذه النماذج منه :
قال الشاعر محسن الهزاني الذي عاش في حوالي منتصف القرن الحادي عشر الهجري ببلدة ( الحرف ) من اليمامة :
غنى النفس معروف بترك المطامع وليس لمن لا يجمع الله جامع
نرجع به إلى الفصحى فإذا هو بنفسه :
ويمضي :
إذا ما انقضى النيروز فيها وخوضت مطافيل غزلان المها كل خايـع
سقاهـا الحيـا في ليـلة بعد ليلة من المزن هتاف حقوق الروامع
ومنها :
ولا عـز إلا فـي لقي كل متعب بسمر القنـا والمرهفات القواطع
دع الناس من لا يبتدي منك رقة فما الناس إلا من حسود وشانع
نرجع ذلك إلى الفصحى فإذا هو نفسه .
وللشاعر الشعبي راشد الخلاوي من أهل القرن الثاني عشر:
مقام الفتى في منصب العز ساعة ولا ألف عام يصحب الذل صاحبه
فـلا بالتمني تبلغ النفس حظها ولا بالتأنـي فـاز بالصيد طالبه
ومنها :
فلا يد إلا يد اللـه فوقها ولا غالب إلا له اللـه غالب
نرجع ذلك إلى الفصحى فإذا هو .
ولأبي حمزة العامري من أهل القرن العاشر تقريبًا :
تأبى عن الطمع الزهيد نفوسنا وفروجنا تأبى عن الفحشاء
نرجعه إلى الفصحى فإذا هو .
ولماجد القباني من أهل القرن الثالث عشر الهجري:
نديب على الدنيا شقا لو نديبه على الدين ما مس النفوس عذاب
يجيء هكذا .
وله :
فما الناس إلا من تراب معادن وما طاب من تلك المعادن طابا
اقرأه هكذا .
وهكذا كثير من هذا الشعر يتحول من اللهجة العامية إلى شعر فصيح صحيح، وبعضه تدخله اللهجات والتسهيل والتسكين، وإذا قوم استقام .
فمما تدخله اللهجات قول أحدهم:
يا مرحبا بش وبهلش وبالجمل الذي حملش
يقصد : يا مرحبا بك وبأهلك وبالجمل الذي حملك.
على لهجة الكشكشة لربيعة، وهي إبدال الكاف شينًا، وهي الآن لغة " يام " بجميع أفخادها .
وقول عبد الله بن رشيد:
سلم عليه ولا تقل له مقالة إلا أن نشد عن حالتي أو عنى سال
فقوله : " عنى " بالتخفيف جاءت لغة القائل :
أيها السائل عنهم وعنى لست من قيس ولا قيس منى

فسلامة اللغة لدى عرب الجزيرة في البادية خصوصًا هو الأصل، والدخيل فيها قليل جدًّا، والعامية التي تخضع للهجات، واللهجات في قلب الجزيرة كثيرة جدًّا، وتخضع أيضًا لعوامل مناخية ، فالجوار والاحتكاك والمداخلة في المراتع لها دخل في ذلك، ولذا نجد لغة شمر وعنـزة وحرب، وما جاورهم من القبائل متشابهة، ونجد لغة عتيبة، وهذيل، وعدوان، والشلاوي، والبقوم، وثقيف ، وقريش وسفيان، وثمالة، وسليم .. وما جاورهم فيها كثير من الشبه .. ونجد لغة يام بجميع فروعها، وقحطان بجميع فروعها أيضا متجانسة. وعرب اليمامة، سبيع، والسهول، ومطير، والقرينية ونزائع وبطون من عرب آخرين .. لغتهم متجانسة .. وهكذا وبالجملة. فاللهجات العربية في قلب الجزيرة العربية كثيرة، وكلها ترجع إلى أصل واحد هو العربية الفصحى، ولا ضير ولا غضاضة من تعدد هذه اللهجات؛ فقد كانت منذ الجاهلية أيام كانت الفصحى في قمة مجدها وتكامل شخصيتها، ونزل القرآن بها وأدخلها في فصاحته المتناهية .. وبلاغته المعجزة .. فبالتتبع والاستقراء نجد أن القرآن أخذ من لهجات القبائل كل لهجة بطرف، فأخذ من لهجة كنانة، وهذيل وأزد شنوءة، وخثعم، ومذحج، وقيس عيلان، وسعد العشيرة، وكندة ، وعذرة، وحضرموت، ومزينة، ولحم، وجذام، وحنيفة.. وغيرهم مما يبلغ نحوًا من خمسين لهجة ..، ولا ينافي هذا ما ورد من أن القرآن كتب بلهجة قريش، فالرهط الذين عهد إليهم الخليفة عثمان بن عفان رضي اللـه عنه بنسخ المصاحف هم زيد بن ثابت، وعبد اللـه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث .. قال الخليفة للرهط القرشيين: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه نزل بلسانهم.. ومعنى هذا أن القرآن وإن نزل بلسان قريش فإنه لم يغفل سائر اللهجات .. بل ورد بها وأيدها، وإذًا فلا ضير في أن تبقى هذه اللهجات كما كانت في عهد مجد اللغة العربية وازدهارها .. وحتى لو حاولنا توحيد هذه اللهجات في لهجة واحدة، فإن ذلك من الصعوبة بمكان.
ويتجه التفكير إلى أن أقرب وسيلة للتخلص من بلبلة اللسان العربي بين العامية والدخيل واللهجات المرتبكة .. هي محاولة الرجوع إلى الفصحى؛ بأن نلتزم قبل كل شيء في مدارسنا المتوسطة والثانوية والجامعية بالتخاطب بالفصحى، وكذلك في دور الثقافة والصحافة والإعلام، والسينما والمسرح، والمطارات، والطائرات، والأندية، والجمعيات، وكل جهة تجمع .. ونصر على تطبيق ذلك، ونلح ونتابع ولا نيأس. فهي الوسيلة الوحيدة – في نظري – التي هي أسلم وأقوم .
بقي أن نتساءل عما جرى الحديث عنه هنا من بقاء عنصر الفصحى متمكنًا في قلب جزيرة العرب. هل من سبيل لاستغلاله كمنطلق من منطلقات الرجوع إلى الفصحى ومحاولة تهذيبه وتشذيبه، وتنميته. فإن فيه إلى جانب واقعه الفصيح أنه فصيح بالملكة والسليقة، لا بالرياضة والتلقين والتعليم، وهذا جانب مهم جدًّا في أن ترجع سليقة العربي إليه، وأن تعود به تدريجيًّا إلى سابق عهده وزاهر مجده.
ولا أعني بما قلته الدعوة إلى استعمال اللغة العامية .. وإنما قصدت أن أوضح جانبًا ذا أهمية كبيرة لدارس اللغة العربية، والمعنيين بالحفاظ عليها .. وهو أن اللهجات في قلب الجزيرة العربية تمت إلى العربية الفصحى بأقوى الأسباب، بخلاف اللهجات الأخرى المنتشرة في مختلف الأقطار العربية؛ إذ من المعلوم أن هذه اللهجات ترجع بأصولها إلى أرومة عجمية كالفارسية والتركية وغيرهما من اللغات .. ففي استعمال اللهجات في قلب جزيرة العرب، أو محاولة التقريب بينها، وتنميتها، محافظة على اللغة العربية وخدمة لها .
إنها فكرة أعرضها على مجمعنا الموقر، ولعلها تلقى من القبول والاهتمام ما يتواءم مع أهميتها .. واللـه المستعان.


(*) ألقي هذا البحث في الجلسة الثانية من مؤتمر الدورة 7 من مارس سنة 1977م.

* * *
__________________
*سهيل*اليماني* غير متصل   الرد مع إقتباس