حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   مكتبـة الخيمة العربيـة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=70)
-   -   عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=85347)

المشرقي الإسلامي 14-06-2011 06:01 AM

(156)

وإذا كانت كل نماذج التدوير التي عرضنا لها -ومعظم نماذج التدوير في القصيدة الحرة عمومًا-من النمط الموسيقي البسيط -الذي تتألف وحدة الإيقاع فيه من تفعيلة واحدة -فإن هناك محاولات كثيرة لاستخدام التدوير أيضًا في إطار النمط المركب ، وبخاصة القسم الثاني منه الذي تتركب وحدة إيقاع بحوره من ثلاث تفعيلات ، ومن هذه المحاولات ما فعله أدونيس في أكثر من قصيدة فعله أيضًا الدكتور أحمد سليمان الأحمد في ديوانه "بستان السحب " الذي استخدم فيه التدوير في قصيدتين من نفس البحر -الخفيف - وهما قصيدتا "برلين-المهرجان"(139) ،و"قراءت شعرية حرة في كتاب الإنسان والطبيعة والموت"(140)،اللتان اشتملت كل واحدة منهما على مجموعة من الأبيات المدورة ، "فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن" أي أنه يتألف مما يزيد على خمسة أيبات متصلة من قصيدة "قراءات شعرية حرة.."

قدر الزرع أن تهيم به الأرض كأنثى غنية الوعد ،
والصوت على دفئه تماوجت الألوان،نسغ الأشجار
كالدم يغلي ، الوجة أحلى الأقمار تنسدل السحب لثاما
عليه ، إني أراني داخلاً عبرها شهيق شعاع أبعدوه
عن مواطن الأضواء
فهذه السطور كلها بيت واحد مدور من الخفيف يتألف من ثماني وحدات من وحدة إيقاع الخفيف"فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن" أي ما يعادل أربعة أبيات متصلة من الخفيف الموروث في صيغته التامة ، ويتضح لنا هذا حين نحلل البيت عروضيًا :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(139) :ديوان "بستان السحب" .منشورات وزراة الإعلام العراقية.بغداد1975،ص 73
(140) : السابق .ص 73

المشرقي الإسلامي 14-06-2011 06:02 AM

(157)


قدر الزر\ع أن تهيــ \ــم به الأر
فاعلاتن \ متفعلن \ فاعلاتن
ض كأنثى \غنية الــ\وعد والصو\ ،
فعلاتن \ متفعلن\ فاعلاتن
ت على دفـ\ئه تما\وجت الألــ\
فعلاتن \متفعلن\ فعلاتـــــن
وان نسغ الــــــــ\أشجار كالد\دم يغلي \....إلخ
فاعلاتـــن \ مستفعلن\ فعلاتـــــن

وهكذا تتوالى وحدات الإيقاع بدون توقف إلى نهاي البيت الذي لا ينتهي إلا مع نهاية وحدة الإيقاع الثامنة .
على أية حال فإن التدوير في القصيدة الحرة ما يزال في طور التجريب ، والقليل جدًا من نماذجه فقط هو الذي استطاع أن يضيف غلى البناء الموسيقي للقصيدة العربية الحديثة شيئًا ذا بال حتى الآن.

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:05 AM

(158)



الفصل السابع

البناء الدرامي في القصيدة الحديثة

تتجه القصيدة العربية الحديثة اتجاهًا واضحًا نحو الدرامية ، سواء في مضمونها النفسي والشعوري والفكري ، أو في بنائها الفني . وقد تعرفنا فيما سبق على طبيعة التركيب في الرؤية الشعرية الحديثة التي تتألف من مجموعة العناصر النفسية والشعورية والفكرية التي تتفاعل وتتحاور وتتصارع فيما بينها وينشأ عن تفاعلها وحوارها وصراعها وتعدد مستوياتها ما سميناه سمة "التركيب"في القصيدة الحديثة .
وقد حاول الشاعر العربي الحديث في بداية الأمر أن يعبر عن تعدد الأبعاد والمستويات الشعورية والنفسية في رؤيته الشعرية ، وعن الحوار والتفاعل بين هذه الأبعاد ، بأدوات شعرية خالصة كموسيقى الشعر ، فوجدنا شاعرًا كجبران خليل جبران يستغل البناء الموسيقي وإمكاناته للتعبير عن تعدد الأصوات في بعض قصائده ، وتصوير الصراع بينا لأبعاد المختلفة في رؤيته الشعرية ، كما فعل في قصيدته المطولة "المواكب"التي يصور فيها الصراع بين بساطة الفطرة ونقائها وعفويتها كما تتمثل في الغاب ، وبين تعقد الحياة المعاصرة والتوائها ، وقد لجأ جبران إلى وسيلة موسيقية بارعة للتعبير عن هذين البعدين من أبعاد رؤيه الشعرية حيث أعطى كلاً من الصوتين المتحاورين-اللذين يمثلان بساطة الفطرة وتعقد المدينة المعاصرة- وزنًا موسيقيًا مختلفًا عن الوزن الذي أعطاه للآخر ، أما صوت الطبيعة والفطرة فقد أعطاه وزنًا بسيطًا عذب الإيقاع لا تعقد فيه ولا تركيب وهو "مجزوء الرمل" بينما أعطى الصوت الآخر وزنًا معقدًا مركب الإيقاع وهو وزن "البسيط" الذي تتألف وحدة الإيقاع فيه من تفعيلتين .وهكذا وفق جبران أولاً في اللجوء إلى حيلة تعدد الأوزان في القصيدة ،ووفق ثانيًا حين أعطى كل صوت الوزن الملائم له ، فحين يرتفع الصوت المعبر عن تعقيد الحياة المعاصرة والتوائها بإيقاعه المعقد :

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:09 AM

(159)

وما الحياة سوى نوم تراوده
أحلام من بمراد النفس يأتمر ُ
والسر في النفس حزن النفس يستره
فإن تولى فبالأفراح يستتر ُ
والسر في العيش رغد العيش يحجبه
فإن أزل تولى حجبه الكدر ُ


يجاوبه الصوت الثاني المعبر عن عن بساطة الحياة في الغاب وعفويتها ، بكل ما في إيقاعه من بساطة وعذوبة :
ليس في الغابات حزن
لا ، ولا فيها الهموم
فإذا هب نسيم
لم تجئ معه السموم
أعطني الناي وغن
فالعنا يمحو المحن
وأنين الناي يبقى
بعد أن يفنى الزمن(141)
وهكذا يستمر الصراع على امتداد القصيدة الطويلة بين هذين البعدين من أبعاد رؤية الشاعر ،والحوار بين الصوتين المعبرين عنهما ، وإن كان تحيز جبران المسبق إلى أحد هذين البعدين -وهو الغاب - قد سطح الصراع في القصيدة ، وجعله صراعًا معروف النتيجة سلفًا.ولكن يظل لمحاولة جبران هذه-الذي كررها بصورة أخرى في قصائد أخرى- فضل أنها من المحاولات الرائدة في شعرنا العربي الحديث لاستغلال الإمكانات الشعرية الخالصة في التعبير عن تعدد أبعاد الرؤية الشعرية الحديثة ، والصراع الدرامي بين عناصرها.
_____________________
(141): جبران خليل جبران : الموكب. دار صادر .بيروت 1950ص8

أود لفت الانتباه هنا إلى أنني -أحمد راشد- عند نقلي هذا الكتاب إلى الفضاء الإلكتروني قد أفدت من خاصية الألوان ودلالاتها وكذلك الخطوط في التأكيد على ما يرمي إليه المؤلف بخصوص هذا السياق

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:11 AM

(160)

وقد طور بدر شاكر السياب هذه المحاولة للتعبير عن لون جديد من ألوان الصراع بين الأبعاد المختلفة للرؤية الشعرية ، حيث مزج بين الشكل الموسيقي الموروث والشكل الحر للتعبير عن الصرا ع بين حركتين نفسيتين تمثلان البعدين الأساسيين من أبعاد رؤيته الشعرية في قصيدة"بورسعيد"(142)على حين كانت محاولة جبران بوزنيها في إطار الشكل الموروث .
وقد كتب السياب هذه القصيدة عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ،والنسيج الشعوري في هذه القصيدة يتركب من الصراع بين حركتين نفسيتين متقابلتين ، تتمثل أولاهما في الاعتزاز بصمود المدينة الباسلة وانتصارها لى قوى ىلعدوان ، بينما تتمثل الثانية في الإحساس الأليم بمدى فداحة التضحيات التي قدمتها المدينة ثمنًا لهذا النصر ، وقد اختار الشاعر للتعبير عن الحركة الأولى وزنًا كلاسيكيًا جهير الإيقاع هو وزن البسيط واختر الشكل الحر ليعبر من خلاله عن الحركة الثانية ،فحين يغلب على رؤيته الإحساس الأول بما يفيض به من شموخ واعتزاز وحماس يهدر إيقاع البسيبط بما فيه من حماس :

من أيما رئة .. من أي قيثار ِ
تنهل أشعاري ؟
من غابة النار ؟

___________________
(142): ديوان "أنشودة المطر".ص 181

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:13 AM


(161)



أم من عويل الصبايا بين أحجار ِ
منها تنزّ لدماء السود واللبن المشوي كالقار
من أي أحداث طفل فيك تغتصب ؟
من أي خبز وماء فيك ما صلبوا ؟
من أيما شرفة ؟ من أيما دار ِ؟
تنهل ّ أشعاري

وهكذا يستمر الصراع بين هذين البعدين حتى نهاية القصيدة ، حيث يندجمان ليصبحا إحساسًا واحدًا يمتزج فيه الاعتزاز بالأسى ، ويصبح الشعور بفداحة التضحية باعثًا من بواعث الفخار بالنصر ،ويختار الشاعر الشكل الموروث -بنبرته القوية -ليصوغ فيه هذا الشعور الجديد الذي امتزج فيه البعدان تعبيرًا عن غلبة نغمة الشموخ والاعتزاز في النهاية :

يا قلعة النور .. .. تدمى كل نافذة
فيها ، وتلظى ، ولا تستسلم الحُجَرُ
أحسست بالذل أن يلقاك دون دميال
شعري ،وأني بما ضحيت أنتصرُ
لكنها باقة أسعى إليك بها
حمراء ، يخضل فيها من دمي زهر ُ

وقد تأثر بمحاولة السياب هذه أكثر من شاعر من شعرائنا المعاصرين ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل السابق .
ولكن الرؤية الشعرية ازدادت تشابكًا وتركيبًا ، وأصبحت أبعادها ومستوياتها في بعض الأحيان أكثر تنوعًا من أن تستطيع الوسائل الشعرية منفردة التعبير عنها ، ومن ثم لجأ الشاعر إلى تكنيكيات فنية مخلتفة للتعبير عن تعدد الأبعاد هذا في القصيدة الحديثة .
اخترع بعض الشاعر بعض هذه التكنيكات كالرمز التراثي والمفارقة التصويرية ، بما فيهما من تصوير للحوار والصراع بين الأبعاد المختلفة في رؤية الشاعر ، فالرمز التراثي-والرمز عمومًا-يعكس التفاعل والحوار بين الدلالة التراثية أو الواقعية للرمز وبين دلالته الرمزية ، والمفارقة التصويرية تعكس الصراع والحور بين طرفيها بشتى الصور والأنماط التي تصرو التناقض بين هذين الطرفين . ولم يكتف الشاعر بهذه التكنيكات الفنية التي ابتكرها ، وإنما لجأ إلى الفنون الأخرى يستعير من أدواتها وتكنيكاتها الفنية ما يعبر به عن تعدد الأبعاد وتفاعها في رؤيته الشعرية الحديثة .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:16 AM

(162)

الفصل الثامن

التكنيكات المسرحية في القصيدة الحديثة

صلة القصيدة بالمسرح :
لعل المسرحية هي أوثق الفنون الأدبية بالشعر ، فقد بدأ الشعر مسرحيًا ، أو بدأ المسرح شعريًا ، وكان مصطلح "الشعر" في التراث اليوناني محضورًا في إطار المسرحية الملحمة ،وظل كذلك حتى ابتدأ القصيدة الغنائية -منذ الحركة الرومانتيكية - تنازع المسرحية هذا المصطلح - بعد أ، انقرضت الملحمة كشكل أدبي-حتى انتزعته منها، وأصبح مصطلح "الشعر " منفردًا ، ولكن الصلة لم تنقطع أبدًا بين المسرح والشعر ، فظلت المسحرية تكتب في الكثير من نماذجها شعرًا ، على حين ابتدأت القصيدة بدورها تستعبر من المسرحية بعض تكنيكاتها وسائلها الفنية للتعبير بواسطتها عن الطبيعة الدرامية للرؤية الشعرية الحديثة .
ومن التكنيكات التي استعارتها القصيدة من المسرحية :
1- تعدد الأصوات والأشخاص :
تعددت الأبعاد في الرؤية الشعرية الحديثة ، وأخذت بعض هذه الأبعاد أصواتًا مستقلة مما نشأ عنه ما يمكن أن يسمى "تعدد الأصوات " في القصيدة ، وقد رأينا كيف حالو الشاعر المعاصر في البداية أن يعبر عن تعدد الأصوات-التي تمثل الأبعاد النفسية والشعورية المختلفة لرؤيته الشعرية-بوسائل شعرية خالصة كالموسيقى ، ولكنه لم يقف عند هذا الحد في محاولته إضفاء لون من الدارمية على رؤيته الشعرية ، وإنما تجاوز ذلك إلى تجسيد بعض أبعاد رؤيته الشعرية في صورة أشخاص تتصارع وتتحاور ، ومن خلال تصارعها ينمو بناء القصيدة وتبرز دراميتها ، وقد تعرفنا على نموذج من هذا في قصيدة "حوارية العار" للشاعر الفلسطيني سميح القاسم ، حيث مزج الشاعر بين الأصوات الشعرية الخالصة كتعدد الأوزان ، والأدوات والتكنيكات المسرحية كتعدد الشخصيات والصراع بينها ،للتعبير عن تعدد أبعاد رؤيته الشعرية ، والتفاعل بين هذه الأبعاد .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:18 AM

(163)


ونماذج تعدد الأشخاص في القصيدة الحديثة غير قليلة ، وهذه الأشخاص في الغالب تعبر عن أبعاد فكرية وشعورية متصارعة من أبعاد رؤية الشاعر أكثر مما تعبر عن أحداث درامية تتطور وتنمو ، أي أن هذه الشخصيات المتحاورة المتصارعة هي بمثابة رموز لأفكار الشاعر وأحاسيسه ؛ففي مقطع أسماه الشاعر -ولي اعتراض على هذه التسمية -"تصادم الأقدار(143) مثلاً من قصيدة "عن الحسن بن الهيثم" المطولة للشاعر محمد عفيفي مطر تطالعنا ثلاث شخصيات متحاورة هي شخصية "الحاكم بأمر الله" وشخصية "داعي الدعاة" وشخصية "الحسن بن الهيثم " . وهذه الشخصيات الثلاث ترمز إلى بعض أبعاد رؤية الشاعر في القصيد ةوتجسدها ، فالحاكم بأمر الله رمزالسلطة الباطشة التي تريد أن تبسط سلطانها على كل شيء ، وأن تخضع كل مظاهر الوجود لأمرها وإرادتها ، فهو يريد أن يفرض الصمت والموت على كل ما في الحياة من كائنات حتى لا يُسمع في الوجود صوت غير صوته ، ولكن ما يضنيه هو إحساسه بأنه حتى وإن استطاع أن يفرض الصمت على كل شيء فإنه لم يستطع أن يفرض إرادته أو احترامه حتى على مظاهر الحياة التي فرض عليها الجمود ولاصمت ، فكل شيء يسخر منه :

_________________
(143) : محمد عفيفي مطر : كتاب الأرض والدم .منشورات وزارة الإعلام العراقية.بغداد1972.ص61

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:19 AM

(164)




هذه الأرض اللعينة
بعد أن علقت في أبوابها القفل ، وأحكمت الرتاج
وانتظر الزمن الصارخ أن يصبح صمتًا وسكينه
علني أسمع صوتي المنفرد
.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..
غير أن الأرض حبلى بالشقوق
كل شق قبضة غاضبة ، أو حنجرة
فأرى حتى جذوع الشجرة
أوجهًا تضحك مني

أما شخصية"داعي الدعاة" فهي نمط آخر من شخصية "السادن" في حوراية العار ، إذا ما عتبرنا شخصية "الحاكم" هنا نمطًا من شخصية "السلطان" هناك ، فالداعي هنا هو صوت السلطان وسوطه ، ووسيلته لفرض سلطانه على الناس والحياة ، وهو يردد ما يرضي الحاكم من أقوال ،والحاكم من وجهة نظره المعلنة على الأقل "متأله مغترب.بين شعب كل من فيه قميء ونبات متطفل " وهو يحاول أن يفرض سلطان الحاكم على هذا الشعب ، فينفخ فيهم من وجيه آبة بعد آية ، فيراهم يسجدون لجلال الحاكم ، ويلجم ألسنتهم بالخوف ولكنه لا يلبث أن يراهم :

..يمضون فرادى ، يلتقون
بين أسنانهم الخوف لجام حجري ومقاود
فإذا هم يضحكون
ويحيلون الدم النازف والموتى حكاية
والمآسي نكتة ضاحكة ، والرعب خيلاً خيول الثرثرة

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:22 AM

(165)

أما الحسن بن الهيثم فهو رمز للإنسان الباحث عن الحقيقة ، الذي يرى في بكاء النهر-الذي قطع الحاكم رأسه ولسانه-لونًا من الغناء ، ويعرف ما كان وما سوف يكون ، حيث يدور بينه وبين الحاكم هذا الحوار :
الحسن بن الهيثم :
سيدي عفوًا ، فقد جئت لكي أسمع هذا النهر في الليل يغني
الحاكم :
هو يبكي
الحسن : هذه الطينة موال مجمد
فهو يبكي ليغني
وأنا أعرف ما كان .. وما سوف يكون

الحاكم :
أيها الضيف .. انتصب ، قل لي :أتدري لغة النهر
الحسن :
أجل ، أعرف ما ينطقه الماء ، وما تكتمه الأرض الحزينة
وأرى في كل شيء قائم غربة ما سوف يكون

.. .. .. .. .. .. .. .. .. .. ..

وهكذا يزداد ألم الحاكم وضناه لأن الطبيعة تمنح أسرارها شخصًال عاديًا ليس له سلطانه ولا أدوات بطشه ، ولأنه هو لم يستطع أن ينال بسلطانه وعسفه من هذه الطبيعة إلا نظرات الازدراء الصامت العميق ، وقد استخدم الشاعر هذا التكنيك المسرحي -مع التكنيكات الشعرية الأخرى في هذا المقطع وفي بقية المقاطع للتعبير عن تعدد الأبعاد والمستويات في رؤيته الشعرية ، وعن الحوار والتفاعل بين هذه الأبعاد والمستويات .

___________________
مرة أخرى تجدر الإشارة ها هنا إلى أن خاصية النقل عبر الفضاء الإلكتروني سهلت على كل من ناقل الموضوع والقارئ استيعاب المقصود من خلال تغيير الألوان المعبرة عن الأصوات ، فاللون الأخضر يعبر عن صوت ما بينما الأحمر يعبر عن الصوت الآخر ، وسوف يستمر استخدام هذه المزية في الصفحات المقبلة.

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:26 AM

(166)



2-الحوار :
والحوار تكنيك مسرحي آخر ، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتكنيك تعدد الشخصيات في القصيدة ، حيث يفترض الحوار وجود أكثر من صوت أو أكثر من شخصية في القصيدة ، ومن ثم فهو في الغالبب يستخدم كتكنيك إضافي مع تعدد الأصوات أو الشخصيات ، ولكنه في بعض القصائد يستخدم باعتباره تكنيكًا اساسيًا ، ويتضاءل دور تعدد الشخصيات إلى جواره ، ففي قصيدة "حوارية مع رجل يكرهني " (144) للشاعر سميح القاسم يكاد يكون الحوار هو التكنيك الأساسي ؛فالقصيدة كلها عبارة عن حورا بين صوت الشاعر وصوت آخر يمثل وجهة نظر العدو ، ويريد أن يفتّ في عضد الشاعر وثقنعه ، بأنه لا جدوى من نضاله وغنائه لشعبه الذي لا يفهم هذا الغعناء ، ولكن الشاعر يرد على كل ما يحاول الصوت الخر أن يلقيه في روعه ، والمهم أن الحوار في القصيدة هو الذي يقوم بالدور الأول على حين لا يكون لتعدد الشخصيات أو الأصوات دور يّذكر بجانبه ، وتبدأ القصيدة على هذا النحو :

- روما احترقت يا مجنون
*روما أبقى من نيرون
-روما لن تفهم أشعارك
*روما تحفظها عن غيب
-روما ستقطع أوتارك
*ألحاني تصعد من قلبي
___________________
(144): دمي على كفي . ص109

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:30 AM

(167)
وواضح هنا أن الحوار يكاد يكو نكل شيء في القصيدة ، وحتى الكنيكات الشعرية الأخرى كالصور والرموز يتضاءل دورها إلى جانب دور الحوار ، وحيث تبدو الرموز على قدر من البساطة والسذاجة كالرمز بروما إلى فلسطين، ونيرون إلى العدو على امتداد القصيدة ، ويبدأ صوت الشاعر يغدو أكثر إيجابية ، حيث لا يعود دوره مجرد الرد على حجج الخصم ، وإنما يطرح من خلاله الرد نفسه وجهة نظره هو الخاصة الإيجابية ، وحججه العادلة في النضال :

- ماذا في كفك ؟
*حفنة قمح
-ماذا في صدرك ؟
*صورة جرح
-في وجهك لون البغض
* في وجهي لون الأرض
-فاسبك سيفك محراثًا
*لم تترك لي من أرضٍ ميراثا .. .. إلخ
فإذا كان من حجج الصوت الآخر أن السلام والتعمير والعمل من أجل استمرار الحياة أجدى من الحرب فإن الشاعر يرد على الحجة ردًا فنيًا بارعًا ، فهو إذا كان لا يترك النضال ويسبك سيفه محراثًا كما يطالبه العدو ، فما ذلك إلا لأن العدو لم يترك له من أرضه ميراثًا يحرثه ويعمر فيه ، وهكذا استطاع الشاعر من خلال "الحوار" أن يعبر عن رؤيته الشعرية ببعديها المتصارعين ، ولقد كان الحوار هو أنسب التكنيكات الفنية للتعبير عن مثل هذه الرؤية ،ولعل الشاعر حين جعل عنوان هذه القصيدة "حوارية .." أراد أن يلفت النظر إلى دور الحوار الأساسي فيها .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:31 AM

(168)
3-الكورس :
والكورَس- أو الجوقة- هم جماعة المنشدين والمغنيين في المسرحية الإغريقية القديمة ، وقد كان للكورَس شأن كبير في مرحلة نشأة المسرح ، وقبل أن يتعدد الأبطال في المسرحية ، كانت مهمة الحورس شرح الأحداث والتعليق عليها ، والإشارة إلى بعض الأحداث التي لا يمكن تقديمها على المسرح . وقد استعار الشاعر المعاصر وظيفة الكورَس هذه في بعض القصائد ليكون بمثابة صوت آخر خارجي يراقب المسار العام للقصيدة ، ويعلق على ما يجري ، وفي بعض القصائد كان الشاعر نفسه يقوم بوظيفة الكورَس فيعلق بصوته الخاص على بعض الأحداث والأفكار التلي يتألف منها المحتوى العام في القصيدة ، ومن النماذج الجيدة لهذا النمط من أنماط الاستعارة وظيفة الكورَس المقطع الخامس من قصيدة "مذكرات الملك عجيب بن الخصيب" (145) لصلاح عبد الصبور الذي يدين فيه الشاعر موقف الأديب المعاصر-وصاحبالكلمة المعاصرة عمومًا- في تهافته على تملق السلطة ومداهنتها من خلال تصويره لموقف شعراء مملكة الملك عجيب بن الخصيب في حادثة وفاة أبيه وتوليه الملك مكانه ؛فالشاعر في هذا المقطع يقوم بدور الكورَس في المسرحية الإغريقية من التعليق على موقف هؤلاء الشعراء وشرحه وإدانته ، وقد جمع الشاعر إلى هذه الوسيلة الفنية المسرحية وسيلة أخرى للتفرقة بين صوته هو الخاص-الممثل لصوت الكورَس-وصوت الشعراء المتملقين ، حيث اختار لصوته هو وزن المتدارك في صيغته الحرة ، واختار لصوت الشعراء وزن الطويل في صيغته الموروثة ، وقد استعار عبد الصبور بيتًا من التراث ارتبط بهذا الموقف المداهن الذي يجمع التهنئة والتعزية وهو بيت ابن نباتة :

هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزن حتى تبسما
__________________________
(145) : ديوان "احلام الفارس القديم " . دار الآداب . بيروت 1964.ص97

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:34 AM

(169)
ليجعله مدخلاً لموقف شعراء مملكة الملك عجيب ، وليصوغ على منواله مجموعة من الأبيات التي تسير في نفس الاتجاه ويسوقها على لسان هؤلاء الشعراء ويقوم هو-ممثلاً للكورَس- بالتعليق عليها بعد مقدمة قصيرة يمهد بها لهذا المشهد :
"مات الملك الصالح "
"مات الملك الغازي "
صاحت أبواق مدينتنا صيحًا ملهوفًا
وقف الشعراء أمام الباب صفوفًا
وتدحرجت الكلمات ألوفًا
تبكي الملك الطاهر حتى في الموت
وتمجد أسماء خليفته الملك العادل
وتراوح في نبرات الصوت :
(صوت حيران)
هناء محا ذاك العزاء المقدما
(صوت فرحان)
فما عبس المحزون حتى تبسما
(صوت ريان)
فأنت هلال أزهر اللون مشرق
(صوت أسيان)
وكان أبوك البدر يلمع في السما

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:34 AM

(169)
ليجعله مدخلاً لموقف شعراء مملكة الملك عجيب ، وليصوغ على منواله مجموعة من الأبيات التي تسير في نفس الاتجاه ويسوقها على لسان هؤلاء الشعراء ويقوم هو-ممثلاً للكورَس- بالتعليق عليها بعد مقدمة قصيرة يمهد بها لهذا المشهد :
"مات الملك الصالح "
"مات الملك الغازي "
صاحت أبواق مدينتنا صيحًا ملهوفًا
وقف الشعراء أمام الباب صفوفًا
وتدحرجت الكلمات ألوفًا
تبكي الملك الطاهر حتى في الموت
وتمجد أسماء خليفته الملك العادل
وتراوح في نبرات الصوت :
(صوت حيران)
هناء محا ذاك العزاء المقدما
(صوت فرحان)
فما عبس المحزون حتى تبسما
(صوت ريان)
فأنت هلال أزهر اللون مشرق
(صوت أسيان)
وكان أبوك البدر يلمع في السما

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:37 AM

(170)




وهكذا تستمر أصوات الشعراء متراوحة بين تهنئة الملك وتعزيته في وفاة أبيه ، والشاعر يتدخل لوصفها والتعليق عليها ، حتى يضجر من التكرار الممل لهذه النغمة الميمية الرتيبة ، ويحس أنها لن تننهي :
(صوت مبسوط حتى قٌرب القافية الميمية )
فحييت من سبط سليل أشاوس
كرام سجاياهم وبورك من نما .
.إلخ
(ما أضجر هذه القافية الميمية)
( لن يسكت هذا الشاعر حتى يفنيَ حرف الميم )
ولكن الشاعر كثيرًا ما يستعير الكورس أو الجوقة باسمها ووظيفتها معًا ، وكثيرًا ما تقوم القصيدة على نوع من الحوار بين "الجوقة "وبعض الأصوات المنفردة ، أو بين الجوقة والخط الأساسي في القصيدة ، وقد تنوعت وظيفة الجوقة تنوعًا كبيرًا ، وأصبحت في بعض القصائد تمثل أداة رئيسة من أدوات بنائها ، ففي قصيدة "الحداد يليق بقطر الندى" للشاعر أمل دنقل مثلاً (146) تقوم الجوقة بدور جوهري ، حيث تعبر عن صوت الحقيقة الأليمة التي تتمثل في سقوط "قطر الندى" -التي يرمز بها الشاعر إلى الأرض العربية التي وقعت في أسر العدو- بينما أبوها "خماروية" راقد على بحيرة من الزئبق ، على حين يتمثل المسار العام للقصيدة في تصوير حالة الترق التي يعيشها خمارويه ، ويسير الحوار في القصيدة بين الصوت والجوقة على النحو التالي :
_________________________
(146): ديوان : تعليق على ما حدث .وقطر الندى هي بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ، وقد تزوجها الخليفة العباسي العاضد .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:39 AM

(171)


صوت :
كان خمارويه راقدًا على بحيرة الزئبق
وكانت المغنيات والبنات الحور
يطأن فوق المسك والكافور

.. .. .. .. .. .. .. .. ..
وتتدخل الجوقة لتعلن :
قطر الندى يا عين
أميرة الوجهين

ويأتي الصوت من جديد ليعلن عن موكب قطر الندى المهيب :
هودجها يخترق الصحراء
تسبقه الأنباء
أمامه الفرسان ألف ألف
وخلفها الخصيان ألف ألف
تعبر في سيناء

وتتدخل الجوقة لتعلن سقوط قطر الندى في الأسر :
قطر الندى يا ليل
تسقط تحت الخيل
قطر الندى يا مصر
قطر الندى في الأسر

وعلى هذا النحو يستمر الحوار بين الجوقة والصوت - الذي يمثل المسار العام للقصيدة- إلى النهاية حيث يتحد الصوتان في صوت واحد حزين ينشد مخلصًا للأميرة الأسيرة ، يخلصها من أسرها بأية وسيلة :

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:43 AM


(172)

الصوت والجوقة :

كان خمارويه راقدًا على بحيرة الزئبق
في نومة القيلولة
فمن يرى ينقذ هذه الأميرة المغلولة ؟
من يا ترى ينقذها ؟
من يا ترى ينقذها ؟
بالسيف .. أو بالحيلة ؟!



4-الوثائق التسجيلية :

والاعتماد على الوثائق التسجيلية تكنيك من أهم تكنيكات "المسرح التسجيلي" وهو واحد من التيارات الحديثة في المسرح المعاصر يعتمد في مادته الدرامية -كما يقول واحد من رواده وهو الكاتب الألماني بيتر فايس-على "السجلات والمحاضر والبيانات الإحصائية ، ونشرات البورصات والتقارير السنوية للبنوك والشركات الصناعية ، والبيانات الحكومية الرسمية ، والخطب والمقابلات والتصريحات التي تدلي به الشخصيات المعروفة ، والريبورتاجات الصحفية والإذاعية " (147) ..إلخ
قد شاع استخدام هذا التكنيك في شعر المقاومة الفلسطيني بشكل محدود ، وبالذات لدى الشاعر سميح القاسم والشاعرة فدوى طوقان ، ومن نماذج استعارة هذا التكنيك قصيدة "كوابيس النهار والليل" (148) لفدوى التي تضمنها بيانين تسجيليي نثريين ،أحدهما عبارة عن خبر قرأته في إحدى صحف القدس عن استيلاء السلطة الصهيونية على أراضي بعض العرب الفلسطينيين في بيت مسكاريا ،والثاني نص شكوى مرفوعة من أحد الذين تم الاستيلاء على أرضهم إلى وزير الحرب الإسرائيلي ، والقصيدة طويلة نجتزئ منه بالمقطع الذي اشتمل على هذين البيانين:
____________________
(147) بيتر فايس :دراسة عن المسرح التسجيلي .ترتجمة د.يسري خميس ، وقد نشرت الدراسة كمقدمة لمسرحية "أنشودة أنجولا" لفايس التي ترجمها د .يسري خميس ، ونشرتها وزارة الإرشاد والأنباء في سلسلة "من المسرح العالمي" .الكويت 1970ص19.
(148) ديوان "على قمة الدنيا وحيدًا" دار الآداب .بيروت 1973.ص21.
* من الممكن -لاحقًا- عمل إدراج صوتي يعبر عن هذا المقصد استفادة من إمكانات النقل الإلكتروني.

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:45 AM

(173)

استيلاء السلطة الصهيونية على أراضي بعض العرب الفلسطينيين في بيت سكاريا ، والثاني نص شكوى مرفوعة من أحد الذين تم الاستيلاء على أرضهم إلى وزير الحرب الإسرائيلي ، والقصيدة طويلة نجتزئ منه بالمقطع الذي تشتمل على هذين البيانين :
في صحف القدس اليومية أرمي عيني
أقرأ خبرًا كالأخبار :

"بيت لحم : فوجئ المزارعون في خربة ببيت سكاريا بمجموعة من الجرافات خرجت من مستعمرة كفار عصيون وشرعت في قلع المزروعات في أراضي تلك البلددة . "
أقرأ شكوى مرفوعة لوزير الحرب :
"إبراهيم عطا الله من بيت سكاريا شمال كفار عصيون –قضاء بيت لحم . الموضوع : مصادرة أراضي زراعية تخصني ، أحيطكم علمًا .. .. "إلخ

ذات الأخبار
لا شيء جديد في الأخبار
لا شيء مثير

على أنه ينبغي الإشارة إلى أن هذا التكنيك بالذات لم يستطع أن يحقق رواجًا يذكر في القصيدة الحديثة ، ولعل السبب في ذلك هو افتقاره لروح اللغة الشعرية التي تعتمد على التركيز والتكثيف ، فضلاً عن خلوه من عنصر من أهم عناصر الشعر وهو الموسيقى .
__________________
وهذا ما دفعني -أحمد راشد -ناقل الموضوع إلى عدم تلوين الجمل غير الشعرية باللون الأخضر الدال على الشعرية .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:49 AM

(174)

5-القالب المسرحي بكل تكنيكاته :
لم تقف استعارة القصيدة الحديثة من المسرحية عند حدود استعارة التكنيكات المسرحية الجزئية ، من تعدد شخصيات ، وحوار، وكورس ، وغير ذلك من الأدوات المسرحية ، وإنما تجاوزت ذلك إلى استعارة القالب المسرحي بكل عناصره ومقوماته ، بما في ذلك التوجيهات المسرحية التي يكتبها المؤلف لرسم المشهد ، وقد شاع استخدام هذا القالب المسرحي في ديوان "المسرح والمرايا" لأدونيس ، كما استخدمه كثير من الشعراء العرب المعاصرين ، ومن النماذج الجديد ةلاستخدام هذا القالب قصيدة "حين قال سامر لا في مواجهة الأولى" (149) للشاعر محمد القيسي ، وسامر في هذه القصيدة هو المناضل الذي لا يلين لأي ترغيب أو ترهيب ، والذي يرفض كل محاولات الاحتواء ، وهناك إلى جانب صوت سامر في القصيدة صوت "المرأة " رمز القوى التي تحاول احتواء سامر بالترهيب أو الترغيب، وصوت الجوقة ، وصوت الصدى الذي يردد بعض مقاطع صوت سامر بهدف تأ:يدها وإبرازها .

ويبدأ الشاعر القصيد ببعض التوجيها ت المسرحية المعتادة يحدد بها أبعاد المسرح الذي تجري فوقه الأحداث ويعلن دخول الشخصيات –كما يفعل الكاتب المسرحي- وهو يقدم هذه التوجيهات في صيغة شعرية ، وليس في صيغة نثرية كما يفعل عادة من يستخدم هذا التكنيك من الشعراء :

(أرض واسعة كخلاء
أشبه بالمسرح
يتجمهر خلق . وإضاءة
فوضى أصوات متداخلة . خطوات المرأة
تملأ أرجاء المطرح ..)
____________________
(149) ديوان : "رياح عز الدين القسام ".منشورات وزارة الإعلام العراقية بغداد 1974ص23 .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:52 AM

(175)

وتبدأ (المرأة) حديثها ، ولكن الجمهور يحتج ويعترض لإحساسه بما في كلامها من زيف وافتعال ، ويعلن المؤلف –بنفس الطريقة التي أعلن بها عن دخول المرأة- عن خروج سامر من بين صفوف الجماهير لمحاورة المرأة :

(..يخرج من بين الجمهور
سامر ، كالرمح نحيلاً ، ومضيئًا بالحب
يتوقف في دائرة النور )

سامر :
إني أنشل نفسي من بئر الأخطاء
وأحاكمها
وأدينك باسم سنابلنا الظمآنة
والشجر ا لمقصوف

ثم يعلن الشاعر –بطريقته السابقة ذاتها- عن صوت الجوق ةالتي ل ايظهر أفرادها ، وتترد أغنية للجوقة معلقة على الأحداث ، وممثلة للطرف الثالث في الحوار ، وتحاول المرأة في البداية أ، تحتوي سامرًا بالإغراء والترغيب ، ولكنه لا يستجيب ، ثم بالنصح . ولكنه لا يستجيب أيضًا ، فتعمد في النهاية إلى أسلوب الترهيب حيث تتحول إلى شرطي بهرواة تنذر سامرًا .

المرأة (الشرطي): حاذر ، حاذر
واضبط أعصابك يا سامر

لكن الجوقة تدخل لتحض سامرًا على الصمود ، التمسك بموقفه وكلمته الثائرة ويتمسك سامر بموقفه مهما كانت التضحية ، يعلن في وجه المرأة :

وجهك يا سيدتي يتلون ، يكلح ، يصفر
ويطالبني بالصمت
لكني أختار الموت


وهكذا تستمر القصيدة في تطورها ونموها من خلال هذا القالب حيث يسجن سامر ، وحيث تنعكس تضحيته على الجوقة المحايدة السلبية فتقرر في النهاية أن تحطم المسرح وتثور ، وتنتهي القصيدة ونهر الأصوات الغضبى يهدر ، وتدق الأجراس ، وتسمع في الظلمة أصوات مقاعد تتحطم ، إذ ينفض الناس .
وعلى هذا النحو نجد الشاعر قد استعار الشكل المسرحي بكل عناصره وتكنيكاته مما يضفي على القصيدة طابعًا دارميًا واضحًا ، ويزيل كثيرًا من الفوارق بينها وبين المسرحية .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:56 AM

(176)


الفصل التاسع


التكنيكات الروائية في القصيدة الحديثة


علاقة القصيدة بالرواية :
علاقة القصيدة بالرواية علاقة قديمة جدًا ، ترجع إلى ما قبل استقرار الرواية كجنس أدبي مستقل بقرون طويلة ، حيث كانت الرواية مجرد حكايات خيالية ساذجة ليس لها أسس فنيه مستقرة ، فقد استعارت القصيدة من الرواية –منذ هذه المرحلة المبكرة جدًا في تاريخها- عنصر "القص" أو "الحكاية " الذي كان هو جوهر الرواية أو القصة في ذلك الحين . ولكن صل ةالقصيدة بالرواية لم تقف عند هذا الحد ، فبعد أن نضجت الرواية وأصبحت جنسًا من أهم الأجناس الأدبية ، وتعددت اتجاهاتها وتياراتها ، وتعددت تبعًا لذلك تكنيكاتها الفنية ، ابتدأت القصيدة تستعي رمن الرواية أخص تكنيكاتها وأحدثها ، وبخاصة تلك الاتجاهات كاتجاه "تيار الوعي" وسواه ، وإن لم نقطع علاقاتها حتى بأشد تكنيكات القصة تقليدية وقدمًا ، ولا نريد هنا أن نستقصي التكنيكات والأدوات التي استعارتها القصيدة الحديثة من الرواية ، وإنما نريد فحسب أن نمثل لهابتكنيكين شاعا في القصيدة العربية الحديثة لنعرف من خلالهما كيف استطاع الشاعر أن يحول الأدوات الروائية الخالصة إلى أدوات شعرية ، وهذان التكنيكان هما "الارتداد flash bac " و"المونولوج الداخلي monologue interieure " .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:57 AM

(177)


والارتداد في الرواية هو قطع التسلسل الزمني للأحداث ، والعودة من اللحظة الحاضرة إلى بعض الأحداث التي وقعت في الماضي ، وقد يتم هذا الارتداد على لسان الراوي ، أو من خلال وعي أحد الأبطال لأغراض فنية مقصودة ، كإضاءة اللحظة الحاضرة التي يتم منها الارتداد وما أشبه ذلك . وقد استعار الشاعر هذا التكنيك من الرواية وطوعه لطبيعة البناء الشعري ، واستخدمه لأغرض شبيهة بتلك التي يستخدتمه من أجلها كاتب الرواية ، وقد يكون الارتداد في القصيدة من اللحظة النفسية الحاضرة إلى لحظة نفسية أخرى سباقة عليها في الزمن ، وقد يكون من حدث إلى حدث آخر –كما هو الشأن في الرواية – وتتضح لنا طبيعة توظيف الشاعر لتكنيك الارتداد من النموذج التالي- وهو من قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " للشاعر أمل دنقل : (150)
.. لشد ما أنا مهان
لا الليل يخفي عورت ، ولا الجدران
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها
ولا احتمائي في سحائب الدخان
تقفز حولي طفلة وساعة العينين .. عذبة المشاكسة
(كان يقص عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادق
فنفتح الأزرار في ستراتنا ونسند البنادق
وحين مات عطشًا في الصحراء المشمسه
رطب باسمك الشفاه اليابسه
وارتخت العينان
فأين أخفي وجهي المتهم المدان ؟
والضحكة الطروبة ضحكته
والوجه ، والغمازتان

___________________________
(150): ديوان "البتكاء بين يدي زرقاء اليمامة "ص 25

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 12:58 AM

(178)


والمتحدث في القصيدة واحد من الجنود الذين نجوا من معارك 1967 وعاد يحمل جراحًا في جسمه وقلبه ، وإحساسًا ثقيلاً بالعار لا يستطيع أن يتخلص منه أو يخفيه ، فلا الليل يستر هذا العار ولا الجدران ، ولا محاولاته اليائسة – التي جسدها في صور مادية-لإخفائه عن أعين الآخرين ، ويزداد إحساسه بالعار ثقلاً وكثافة حين يرى طفلة أحد رفاقه في الميدان من الذين استشهدوا عطشًا في الماضي –الذي يتم من خلال وعي الجندي – من هذه اللحظة ؛ فرؤيته للطفل تذكره بأبيها الشهيد ، فيسترجع ما كانت تمثله هذه الطفلة بالنسبة له ، ولهم جميعًا – من خلاله- حيث كان حديث الأب عنها يتحول إلى نيسم وديع يهب النسيم ، ويسندون بنادقهم ، وحتى عندما استشهد والدها عطشًا في الصحراء المشمسة كان آخر ما تلفظ به لسانه –بل آخر ما رطب به شفتيه اليابستين- يرجع الحديث إلى اللحظة الحاضرة وقد ازداد إحساس الجندي بالعار ثقلاً وفداحة ، وزادت معالم المأساة عمقًا وكثافة ، فكل شيسء من ملامح الطفلة يذكره بأبيها ويدينه بأنه لم يشاركه في مصيره ، ويذكره بالمأساة الأليمة بكل تفاصيلها التي يحاول التهرب منها سدى .
وكثيرًا ما يستخدم أسلوب الاتداد في القصائد التي تتبنى على مفارقة تصويرية ، وبخاصة تلك المفارقات التي يكون للزمن أثر في تناقض الطرفين فيها .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:01 AM

(179)
1- المونولوج الداخلي :
والمونولوج الداخلي تكنيك من أبرز تكنيكات اتجاه (تيار الوعي) في الرواية الحديثة ، هذا الاتجاه الذي يهتم بمحتوى وعي الأبطال الداخلي و"يركز أساسًا على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي ، بهدف الشكف عن الكيان النفسي للشخصيات (151) وكتاب هذا الاتجاه يستخدمون عدة تكنيكات لتقديم محتوى وعي أبطاله مقبل أن يخضع للمراقبة والتنظيم ، وأهم هذه التكنيكات هو "المونولوج الداخلي" لدرجة أن البعض يخلط بينه وبين مصطلح "تيار الوعي " ذاته (152) والمنولوج الداخلي هو "ذلك التكنيك المستخدم في القصص بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية ، والعمليات النفسية لديها – دون التكلم بذلك على نحو كلي أو جزئي – وذلك في اللحظة التي توجد فيها هذه العمليات في المستويات المختلفة للانضباط الواعي قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام على نحو مقصود "(153).
وقد استخدم الشاعر الحديث هذا التكنيك الروائي في تقديم بعض العمليا تالنفسية التي تتم في وعي شخصيات قصائده –كما في قصيدة أمل دنقل السابقة- أو في وعيه هو الخاص كما في قصيدة "في المدينة الهرمة" (154) للشاعرة فدوى طوقان ؛ حيث تستخدم الشاعرةهذا التكنيك الروائي لتقدم من خلاله بعض التداعيات التي تتم في وعيها . و "رحلة التداعلي في هذه القصيدة – كما تقول الشاعرة في تقديمها لها – تجري بين شارع أوكسشفرود في لندن وسوق العطارين في نابلس (بلدها ) . الرحلة تبدأ عند غشارة الضوء الأ؛مر ، وتنتهي عند إشارة الضوء ا لأخضر. والقصيدة تبدأ والشاعرة منجرفة مع المد البشري الذي يزدحم به الشارع دون أن يكون هناك أي تواصل بين عناصره :
_________________
(151) : روبرت همفري : تيار الوعي في الرواية الحديثة . ترجمة الدكتور محمد الربيعي . دار المعارف . مصر 1974ص22.
(152):السابق . ص 24 ، ص44 .
(153) : السابق . ص 46
(154) : فدوى طوقان . ديوتان "على قمة الدنيا وحيدًا " .ص 7 .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:06 AM

(180)

أمارس حمل الخطيئة ، معصيتي أنني غرسة أطلعتها جبال فلسطين من مات أمس استراح ،
(أشك ، لعل بقاياهمو في القبور تئن وتلعنني حين أفسح في السوق دربًا،
لتعبر نصف مجنزرة ثم أمضي بغير اكتراث)
رسالة عائشة تستريح على مكتبي
ونابلس هادئة ، الحياة تسير كماء النهر
يبادلني خاتم السجن صمتًا فصيحًا
(يقول لها حارس السجن إن الشجر
تساقط ، والغابة اليوم لا تشتعل
ولكن عائشة ما تزال تصر على القول إن الشجر
كثيف ومنتصب كالقلاع .. )إلخ

ولا يقطع رحلة التداعيات هذه في وعي الشاعرة إلا اخضرار ضوء الإشارة واندفاع المد البشري عبر الشارع من جديد :
ويخضر ضوء الإشارة ، يجرفني المد ، تهرب ذاكرتي ،
والخفافيش تهوى إلى قاع بئر عميقه
يغر ظل طريقه
يتابع ظلي ، يوازيه ، يمتد جسر .. إلخ
وعلى هذا النحو يحول الشاعر الحديث التكنيكات الروائية المختلفة إلى تكنيكات شعرية ، يصور من خلالها تعدد المستويات النفسية والشعورية لرؤيته الشعرية وتفاعلها وتصارعها في داخله .

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:09 AM

(181)


الفصل العاشر والأخير

التكنيكات السينيمائية في القصيدة الحديثة
لم تقف استعارة القصيدة الحديثة من الفنون الأخرى عند حدود الفنون الأدبية –كما سبقت الإشارة إلى ذلك- وإنما تجاوزت الفنون الأدبية إلى كل الفنون الجميلة الأخرى تستعين بتكنيكاتها وأدواتها الفنية في التعبير عن الرؤية الشعرية ا لمعاصرة . ومن الفنون التي استعارت القصيدة الحديثة بعض تكنيكاتها ووسائلها في التعبير فن السينيما ، حيث استفادت ببعض تكنيكاته الأساسية كالمونتاج والسيناريو وسواهما من أساليب صناعة الفيلم السينيمائي .
1-المونتاج السينيمائي :
المونتاج السينيمائي يعني ترتيب مجموعة من اللفطات السينيمائية على نحو معين بحييث تعطي هذه اللقطات – من خلال هذا الترتيب- معنى خاصًا لم تكن لتعطيه فيما لو رتبت بطريقة مختلفة ، أو قدمت منفدرة ، والمونتاج بهذا المعنى يعد في نظر البعض "هو القوة الخلاقة في الحقيقة السينمائية ، وأن الطبيعة تمدنا فقط بالمادة الخام التي يعتمد عليها هذا التركيب (155) السينيمائي هو الذي يعيد ترتيب هذه المادة الخام وتركيها بحيث يصبح لها دلالة خاصة ، وعملية المونتاج في السينيما لا تتم وفقًا للتسلسل الطبيعي للحدث وإنما وفقًا للأثر الذي يريد المخردج أن يحدثه في المتفرج ، وعلى هذا الأساس يقول المخرج الروسي" إيزنشتين "أحد رواد فن المونتاج الكبار "بدلاً من ربط اللقطات وراء بعضها في سلاسة يجب أن يركب الفيلم من مجموعة من الصدمات ، وأن كل قطع يجب أن يثير خلافًا بين اللقطتين اللتين يصل بينهما حتى يكون له وقع جديد في ذهن المتفرج"(156).
______________
(155):انظر : كاريل رايس : فن المونتاج السينيمائي . ترجمة أحمد لاحضري . المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر . القاهرة 1965 . ص 15 .
(156):السابق . ص 53،54

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:11 AM

(182)


وعلى هذا فإن للمونتاج السينيمائي مجموعة من الأساليب والطرق التي يتم تنفيذه بها ، وفقًا للتأثير المستهدف إحداثه في المشاهد ؛فقد يتم المونتاج على أساس التناقض : بمعنى تركيب لقطة مع لقطة أخرى متناقضة معها ، أو على أساس التوازي : بمعنى تقديم حدثين متوازيين متداخلين بحيث تقدم لقطة من هذا ولقطة من ذاك على التبادل .، أو على أساس التماثل :بمعنى تقديم حدثين متماثلين وإن لم يكن هناك علاقة بينهما ، أو على أساس الترابط : بمعنى تقديم مجموعة من اللقطات المتتالية التي ترتبط بموضوع واحد ، وتحدث في مجموعها تأثيرًا معينًا ، أو على اساس التكرار : بمعنى تكرار لقطة معينة للإلحاح على الفكرة التي تحملها (157).. أو بغير ذلك من الطرق والأساليب التي يستهدف مركب الفيلم من ورائها إحداث تأثيرات خاصة في المشاهد .
وقد استعار الشاعر المعاصر هذا التكنيك بأنماطه وأساليبه المختلفة ، وبخاصة تلك الأساليب التي لم يكن لديه من وسائله الشعرية الخاصة ما يؤدي مهمتها ؛ فإذا كانت" المفارقة التصويرية" تؤدي في القصيدة الحديثة الدور الذي يؤديه المونتاج القائم على التناقض في الفيلم ، وإذا كان "التكرار اللغوي "يؤدي الدور الذي يؤديه المونتاج القائم على التكرار ، فإن الشاعر لم يتردد في الاستعانة بالأسلوبين الباقيين من أساليب المونتاج التي سبقت الإشارة إليها، بل لم يتردد في الإفادة حتى من الأساليب الثلاثة الأخرى في صياغة أدواته الفنية الخاصة التي تماثلها ، وإذا كحنا قد تعرفنا فيما سبق على دور كل من "التكرار " و"الصورة التشبيهية " و "المفارقة التصويرية" في القصيدة الحديثة فإنه يكفينا هنا أن نتعرف على طبيعة استعانة الشاعر المعاصر بالنمطين الباقيين من أنماط المونتاج الخمسة السالفة ، وهما الموناج على أساس الترابط ، والمونتاج على أساس التوازي .
____________________
(157) : انظر : رودلف آرنهيم : فن السينيما .ترجمة عبد العزيز فهمي . وصلاح التهامي .المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر . القاهرة ص 95 97

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:13 AM

(183)
1- المونتاج على أساس الترابط :
كثيرًا ما يلجأ الشاعر إلى تقدي ممجموعةمن الصور أو العاصر المختلفة التي تؤلف في مجموعها إطارًا عامًا لرؤيته الشعرية ، أو تحدث تأثيرًا متكاملاً لم تكن هذه الصور أو العناصر – أو لنقل اللقطات بالمصطلح السينيمائي- لتحدثه لو قدمت منفصلة ، أو مرتبة على نحو آخر . ففي المقطع الأول من قصيدة "تقرير تشكيلي عن الليلة الماضية "(158) للشاعر صلاح عبد الصبور يلجأ الشاعر إلى ما يمكمن أن نسميه "المونتاج علي أساس الترابط " في إداث تأثير معين في القارئ . وعنوان هذا المقطع هو "عناصر الصورة" ، ويقول الشاعر فيه :
لون رمادي ، سماه جامة
كأنها رسم على بطاقة
مساحة أخرى من التراب والضباب
تنبض فيها بضعة من الغصون المتعبة
كأنها مخدر في غفوة الإفاقة
وصفرة بينهما كالموت ، كالمحال
منثورة في غاية الإهمال
(نوافذ المدينة المعذبة)
ولاشك أن ترتيب هذه العناصر أو هذه اللقطات على هذا النحو قد أحدث تأثيره المطلوب ، وترك إحساسًا عميقًا بالوحشة والكآبة والذبول ، وهي المعاني التي أراد الشاعر إثارتها في نفس القارئ ، وواضح أن الشاعر -بالإضافة استفادته من الفن التشكيلي عمومًا -اعتمد على ترتيب هذه اللقطات في رسم الجو النفسي الذي يريد رسمه وفق أسلوب المونتاج المبنى على أساس الترابط بين اللقطات ، لأن كل لقطة من هذه اللقطات السينيمائية في هذا الأسلوب من أساليب المونتاج - بحيث لا ينتهي القارئ من استيعاب هذه اللقطات حتى يكون قد ارتسم في نفسه انطباع متكامل عن هذا الجو بشتى أبعاده .
_______________________
(158):صلاح عبد الصبور : ديوان "شجر الليل" . دار الوطن العربي للطباعة والنشر 1972ص 59

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:15 AM

(184)

2-المونتاج على أساس التوازي :

وقد استعار الشاعر المعاصر هذا الأسلوب أيضًا واستخدمه ببراعة في شعره ، ومن النماذج الجيدة لهذا اللون من استخدام هذا الأسلوب من أساليب المونتاج قصيدة "مشاهدات في مدينة تاريخية " (159) للشاعر أحمد عنتر مصطفى ، التي يتصور فيها الشاعر أن "جوهر الصقلي " قد عاد إلى القاهرة الحديثة مخفيًا ليُصدم بما آل إليه أمرها ، وليحس فيها –وهو منشئها- بالضياع والغربة والحزن العميق ، ولينتهي أمره فيها بالقبض عليه متهمًا مجموعة وافرةمن التهم . وقد استخدم الشاعر في هذه القصيدة مجموعة من التكنيكات الشعرية البارعة من بينها أسلوب "المونتاج على أساس التوازي" . والعنصران المتوازيان في القصيدة هما "جوهر الصقلي" الضائع الحزين لما آل إليه أمر مدينته ، ومظاهر الحياة في القاهرة الحديثة ، وهو يقدم ملامح – أو لقطات – متتابعة من الحدثين على أساس التوازي ، فتبدأ القصيدة بجوهر – الذي لم تتضح لنا شخصيته بعد- :

_______________________
(159):أحمد عنتر مصطفى : مشاهدت في مدينة تاريخية . مجلة الثقافة العراقية كانون الثاني 1975 ص 128

المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:19 AM

(185)
وكان يعبر الطريق عابسًا مضطربًا
مرتديًا عباءة خضراء ، سيفه المدلى
يثير دهشة الرجال والنساء حين يمر في عيونهم مغتربا
لمحته في موقف الترام ، في زحام الناس ، حينما تهل مركبه
يزاحمونه ويدهمون جسمه النحيل .. ..

ويترك الشاعر جوهرًا في حيرته وضيقه في موقف الترام ليعرض لنا ملمحًا من ملامح العنصر الآخر ، فتاة تودع حبيبها المقاتل المسافر ، وأصداء صوت أمها تتردد قاسية في سمعها :

لا تعلقي بحبه ، فربما يجيء نعيه غدا
ولتعشقي إن شئت يا صغيرتي أميرا
يجيء في ثيابه المعطره
على جواد النفط ، يغزل القصور ، ينسج المنى حريرا


وينتقل بنا الشاعر مرة أخرى إلى جوهر في موقف الترام وهو :
.. .. لم يزل مرتقبًا وصول مركبة
وحينما أتت تدافعت ألسنة النيران تزحم الأبواب والمقاعدا
وكان صامتًا يجفف الجبين
والعرق الناري وابتسامة حزينة
ثم يعود بنا مرة ثانية إلى العنصر الموازي فيقدم لنا ملمحًا آخر ، أو لقطة أخرى متمثلة في امرأة تزاحم الراكب لتحتل مقعدًا من مقاعد المركبة المزدحمة باسمة :

ثم انثنت بنظرة أنيقة
للسلم الخلفي (خلفت عليه خادمة
تضم طفلها وما اشترت من البضائع الثمينة .. )
ويعود بنا مرة ثالثة إلى جوهر وهو :
.. ..لم يزل مضطربا
مددت من حروفي الخضراء نحوه يدا
خير لنا أن نقطع الطريق
وبرهة تجمدا
وعاد من ذهوله ، تدفقت على طريقنا الخطى

وهنا فقط نكتشف حقيقة جوهر –والذي لم نكن نعرفه حتى الآن – حيث يكشف للشاعر شخصيته بعد أن أنس إليه :
وحينما تصافح القلبنا في حدثينا المرتجل المسلي
فاجأني : "إذن فقد عرفتني " . وأبرز الهوية
وكان جوهر الصقلي
وها فقط –أيضًا – يبدأ الحدثان المتوازيان في الامتزاج والاندماج –شأن المونتاج السينيمائي- القائم على أساس التوازي – حيث يمتزج جوهر ومعه الشاعر بمظاهر الحياة في القاهرة الحديثة ، معلنًا إنكاره لكل ما يراه وغضبه منه ، وينمو بناء القصيدة بعد ذلك من خلال مجموعة من التكنيكات الشعرية البارعة التي تمثل في مجموعها مفارقة فادحة بين ما بنى جوهر القاهرة لأجله وما آل إليه أمرها ، لتنتهي القصيدة بجوهر مقبوضًا عليه :
راحلاً ، والقيد في المعصم كاللص ، وفي عينيه أفكار سجينه
ربما يلعنه الناس ، وتجري خلفه الصبية في هذه المدينه
ربما تحدوه ألفاظ الدعاء المستكينه
من عيون خلف ثقب الباب ترنو .. في الجسوم –القوقعه
ربما لو زرته أعرض عني .. ربما الحراس ألقوني معه
كشريك في الجريمه
ربما كنت شريكًا في الجريمه


المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:29 AM

(186)
السيناريو :
والسيناريو السينيمائي هو عملية إعداد القصة لتصبح فيلمًا ، وتحويلها إلى مناظر ، ولقطات ، وتحديد التفاصيل بكل لقطة من ديكورات ، وتوقيت وغير ذلك مما تستلزمه من عملية تحويل القصة من عمل مقروء إلى عمل مشاهد .
وكثيرًا ما يلجأ الشاعر المعاصر إلى أسلوب السيناريو السينيمائي في قصيدته الشعرية ، حيث يحولها إلى مجموعة من المشاهد واللقطات أو اللوحات بحيث يمكن تحويلها إلى سيناريو سينيمائي ، بل إن ثمة قصائد حاولت بالفعل أن تستعير حتى الشكل السينيمائي ذاته كما في قصيدة "حلم في أربع لقطات " (160) للشاعر بلند الحيدري ، التي يستخدم فيها حتى المصطلحات السينيمائية ، والقصيدة أشبه ما تكون بسيناريو سينيمائي قصير في أربع لقطات ، وتقدم اللقطة الأولى منها بسمة إنسانية قريرة تنثر البهجة والاخضرار في كل مكان ؛ حيث :
__________________
(160):بلند الحيدري : ديوان "أغاني الحارس المتعب". دار العودة .بيروت 1947


المشرقي الإسلامي 15-06-2011 01:30 AM

(187)
تفترش الشاشة عينان
انفجرت شفتان
ابتسمت .. لمعت عدة أسنان
ويغور اللون الأخضر في كل مكان
أما اللقطة الثانية فتقتدم لنا مصرع هذه البسمة الإنسانية الوادعة القريرة ؛ حيث :
رجلان تجوسان الليل بلا صوت

الظلمة توحي بالموت

.. .. .. .. .. .. ..

لا شيء سوى قطرة دم

ويغور اللون الأحمر في كل مكان

وتكشف لنا اللقطة الثالثة عن حقيقة القاتل والمقتول ، بل عن حقيقة كل أبطال الفيلم وصانعيه : المخرج ، والمنتج ،والمتفرج ، إنهم جميعًا شخص واحد ، أو عدة أشخاص في شخص : هو الإنسان ؛ فالمخرج ، والمنتج ، والمتفرج "أنت .. أنا .. هم " أما القاتل والمقتول فليسا سوى الشاعر نفسه .
وتأتي اللقطة الرابعة –وهي تصوير من الخارج كما يسميها الشاعر – لتصور لنا سقوط الفيلم ، وفرار المخرج من الباب الخلفي ، وبصق المتفرج في كف الشاعر –الذي هو المخرج والمتفرج والمنتج – وإصراره على البقاء انتظارًا للدور الثاني . وتنتهي القصيدة و "الصالة خالية إلا من رجل نائم " تعبيرًا عن إصراره على الإبداع مهما صادف من فشل وإحباط .
وبعد :
فهكذا يلجأ الشاعر المعاصر إلى كل الأساليب والتكتيكات التي يحس أنها قادرة على مساعدته في توصيل رؤيته الشعرية –بكل أبعادها- إلى المتلقي .
وهكذا تتعانق في إطار "القصيدة الحديثة" كل الفنون الجميلة ، وتضيق المسافة بين الشعر وبين كل هذه الفنون .
وآمل أن يكون هذا الكتاب قد نجح في تحقيق بعض ما استهدفته من كتابته ، وآمل أن يكون الجهد المخلص الذي بذل فيه قد نجح في أن يمد جسرًا من الجسور بين القارئ والقصيدة الحديثة ، أو أن يكون قد نجح في تضييق الهوة الواسعة الممتدة بينهما ، والتي تحتاج إلى كثير من الجهود المتضافرة لإزالتها ، ومساعدة القارئ العربي على ولوج عالم القصيدة الحديثة بنوع من الاطمئنان والثقة ، ومساعدة الشاعر الحديث ذاته –وهذا شديد الأهمية – على ألا يزيد بشطحاته غير الواعية ، وغير المسؤولة ، من عمق هذه الهوة واتساعها .
والحمد لله أولاً وأخيرًا


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.