حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   دواوين الشعر (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=33)
-   -   موضوعات ابن حوران التاريخية والأدبية . (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=63075)

رنـا 10-10-2006 01:23 AM

رائع أخي الغالي إبن حوران،
وننتظر التتمة :)

حبيبتي أوراق، هي هيدي حال الدني
بس زكرى..... ولاشيئ يعود كما كان
دمتم بخير :)

جنات عدن 13-10-2006 04:52 PM

تابع .. للرفع

ابن حوران 25-10-2006 05:31 AM

الأخت الفاضلة أوراق الخريف
الأخت الفاضلة أوركيدا

أشكر لكما المرور الكريم

ابن حوران 25-10-2006 05:36 AM

( 20)

هناك أمور يحير بها المرء كثيرا .. فعندما ترى رجلا يكدح ليلا نهارا، من أجل أن يؤمن لقمة لطفل صغير ويحرم نفسه من الكثير من الأشياء، فإنك تحير بذلك السلوك .. وعندما ترى طيرا يهيم على وجهه ليلتقط رزقا يضعه في فم مخلوق صغير ينتمي له، وأمه ترقد معرضة نفسها لهجوم الضواري والأفاعي فإنك ستحير أيضا، والكثير من تلك الظواهر التي يستسلم لها المرء في النهاية ليقول إنها إرادة الله ويصمت .

في كثير من الظواهر الأخرى التي لا تنتمي الى النوع الأول، تكون الأعراف أو العادات أو الضرورات الحياتية هي ما تكمن كمسببات وراء تلك الظواهر، فلماذا يتخصص القط بملاحقة الفأر ولماذا يتخصص الكلب في ملاحقة القط، فهذه ستكون من مهام العلماء المتخصصين في تلك الشؤون ..

أما أن يقوم الإنسان على خدمة الحيوان، ويبذل قصارى جهده في تلك الخدمة فهذا ما لم أعرف سره كما لن يعرف سره من يعيش في أيامنا هذه، قد يتعجل أحدنا عندما يقرأ مثل هذا الكلام ويجيب على الفور إجابات لم يبذل بها أي جهد، أو أنه لم يجرب مراقبة هذا النوع من الخدمات في حياته ..

في بعض القرى الجبلية واللواتي لا تكون ملكيات المواطنين فيها من السعة بمكان، قد يصدف أحدنا فلاحا يحرث مساحة لا تزيد عن 500متر مربع هي كل ما يملك، وتكون وسيلة الحرث بواسطة حمارا ضئيل الحجم، ولو توقفنا بجانب ذلك الفلاح، وسألناه : كم تتوقع أن يأتيك ناتجا من هذه المساحة، لتردد وتعصب قبل أن يجيب ، ولكن على السائل أن يتحلى بالصبر ويكرر على الفلاح السؤال، فإنه سيحصل على إجابة بأن الناتج لن يغطي كلفة اقتناء الحمار لمدة شهر، وإن واجهنا الفلاح بما استخلصنا من عدم جدوى اقتناءه لبادر بطردنا على الفور .

في العتيقة لم تكن تمر ساعة دون أن يكون للحيوانات ذكر في الأوامر أو القصص أو العمل نفسه، ومن يتفحص مكونات ذلك الاهتمام لاستنتج على الفور عبثية تلك العلاقة .

فكنا نسمع أسئلة رب المنزل لذويه : هل أسقيتم (الَطرشَات ) وهي كلمة تدلل على الحيوانات المنزلية من أبقار و خيل وحمير وغيرها .. هل (كربلتم ) التبن للطرشات ، أي هل أزلتم التراب والشوائب من التبن لتقدموه للحيوانات .. هل نظفتم تحت الطرشات .

هذا بالإضافة الى أن الآبار التي تكون في ساحات المنازل، لا يشرب أهل المنزل منها، لأنها تلوثت ببقايا روث الحيوانات، وعليه فإنه يتوجب أن يحضروا ماء شربهم من مكان لم يتلوث ببقايا الحيوانات، صحيح أنهم سيستخدمون الحيوانات لنقل الماء، لكن لولا وجود الحيوانات لوفروا هذا الجهد وتناولوا ماءهم عن قرب ..

وإذا جاءت سنين قحط (محل) فإن قسم من السقوف ستزال من مكانها، وسيؤخذ التبن لتغذية تلك الحيوانات، ومن الطبيعي أن طبقة بسمك نصف متر تقريبا قبل ضغطها والتي كانت توضع بالسقوف ستحل مشكلة تغذية الحيوانات لعدة أسابيع، وعلى أصحاب تلك الحيوانات أن يعيدوا ترتيب السقوف في وقت لاحق ، وهو جهد لولا الحيوانات لن يحدث ..

هناك حالة أخرى كنا نراها عند تغذية العجائز لصيصان ( صغار الطير) في حالات الديك الرومي، فتشوي العجوز بيضا و تخلطه ببعض القمح المجروش، وتغذي تلك الكائنات الحية به، في حين يجلس الأطفال يسيل لعابهم دون أن يحصلوا على مثل هذا الغذاء الخصوصي ..

في أيام (الدراس ) أي سحق القش لاستخلاص الحبوب منه، يقضي الفلاحون مدة شهرين وأكثر حتى ينجزوا تلك العملية. صحيح أنهم كانوا يستخدمون الحيوانات في تلك العملية، لكن كل أو معظم ناتج تلك العملية ستأكله الحيوانات نفسها، فمن المستفيد بالدرجة الأولى ؟ إنها الحيوانات .. ومن يستخدم من ؟ إنها الحيوانات التي كانت تستخدم الإنسان، ولكنه كان يخدمها دون أن يسأل أو حتى يفكر .. هكذا وجدوا آباءهم !

ولو نفق حيوان ( مات) فإن الحزن عليه سيفوق الحزن على أحد أعضاء المنزل من البشر، وسيكون حديث الناس لعدة أيام هو كيف أن فلان قد فقد حماره بالموت، ولكنهم لم يعملوا له بيت عزاء، وهو أمر لن يعترضوا عليه لو بادر أحدهم ذات يوم واخترع مثل هذا التقليد ..

كانت الأدوات وحتى المفردات اللغوية المختصة بالحيوانات تفوق تلك التي تستخدم للبشر، ففي حين لم تكن تجد طبيبا واحدا للبشر في عشرين قرية، كنت تجد في كل قرية بيطارا يهتم بصحة الحيوان. وستجد من يفصل لها الرسن والجلال ( غطاء الظهر) والمرشحة ( للخيل) و غيرها ..

لو قدر لأحدنا أن يعثر على أحد أبناء ذلك الجيل، والذي أظنه امتدادا لأجيال تصل الى آلاف السنين، وكان هذا المعمر قد رأى مدى التطورات التي حدثت في البلاد على كل الصعد، وتوجه أحدنا إليه بالسؤال أو بتلك الملاحظات التي أوردناها، وطلب منه تفسير للحكمة من كل هذا الحجم من الوفاء للحيوان، لضحك بصوت عال .. ولكنه لن يجيب ..

*سهيل*اليماني* 25-10-2006 07:18 AM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة ابن حوران
( 20)

هناك أمور يحير بها المرء كثيرا .. فعندما ترى رجلا يكدح ليلا نهارا، من أجل أن يؤمن لقمة لطفل صغير ويحرم نفسه من الكثير من الأشياء، فإنك تحير بذلك السلوك .. وعندما ترى طيرا يهيم على وجهه ليلتقط رزقا يضعه في فم مخلوق صغير ينتمي له، وأمه ترقد معرضة نفسها لهجوم الضواري والأفاعي فإنك ستحير أيضا، والكثير من تلك الظواهر التي يستسلم لها المرء في النهاية ليقول إنها إرادة الله ويصمت .

في كثير من الظواهر الأخرى التي لا تنتمي الى النوع الأول، تكون الأعراف أو العادات أو الضرورات الحياتية هي ما تكمن كمسببات وراء تلك الظواهر، فلماذا يتخصص القط بملاحقة الفأر ولماذا يتخصص الكلب في ملاحقة القط، فهذه ستكون من مهام العلماء المتخصصين في تلك الشؤون ..

أما أن يقوم الإنسان على خدمة الحيوان، ويبذل قصارى جهده في تلك الخدمة فهذا ما لم أعرف سره كما لن يعرف سره من يعيش في أيامنا هذه، قد يتعجل أحدنا عندما يقرأ مثل هذا الكلام ويجيب على الفور إجابات لم يبذل بها أي جهد، أو أنه لم يجرب مراقبة هذا النوع من الخدمات في حياته ..

في بعض القرى الجبلية واللواتي لا تكون ملكيات المواطنين فيها من السعة بمكان، قد يصدف أحدنا فلاحا يحرث مساحة لا تزيد عن 500متر مربع هي كل ما يملك، وتكون وسيلة الحرث بواسطة حمارا ضئيل الحجم، ولو توقفنا بجانب ذلك الفلاح، وسألناه : كم تتوقع أن يأتيك ناتجا من هذه المساحة، لتردد وتعصب قبل أن يجيب ، ولكن على السائل أن يتحلى بالصبر ويكرر على الفلاح السؤال، فإنه سيحصل على إجابة بأن الناتج لن يغطي كلفة اقتناء الحمار لمدة شهر، وإن واجهنا الفلاح بما استخلصنا من عدم جدوى اقتناءه لبادر بطردنا على الفور .

في العتيقة لم تكن تمر ساعة دون أن يكون للحيوانات ذكر في الأوامر أو القصص أو العمل نفسه، ومن يتفحص مكونات ذلك الاهتمام لاستنتج على الفور عبثية تلك العلاقة .

فكنا نسمع أسئلة رب المنزل لذويه : هل أسقيتم (الَطرشَات ) وهي كلمة تدلل على الحيوانات المنزلية من أبقار و خيل وحمير وغيرها .. هل (كربلتم ) التبن للطرشات ، أي هل أزلتم التراب والشوائب من التبن لتقدموه للحيوانات .. هل نظفتم تحت الطرشات .

هذا بالإضافة الى أن الآبار التي تكون في ساحات المنازل، لا يشرب أهل المنزل منها، لأنها تلوثت ببقايا روث الحيوانات، وعليه فإنه يتوجب أن يحضروا ماء شربهم من مكان لم يتلوث ببقايا الحيوانات، صحيح أنهم سيستخدمون الحيوانات لنقل الماء، لكن لولا وجود الحيوانات لوفروا هذا الجهد وتناولوا ماءهم عن قرب ..

وإذا جاءت سنين قحط (محل) فإن قسم من السقوف ستزال من مكانها، وسيؤخذ التبن لتغذية تلك الحيوانات، ومن الطبيعي أن طبقة بسمك نصف متر تقريبا قبل ضغطها والتي كانت توضع بالسقوف ستحل مشكلة تغذية الحيوانات لعدة أسابيع، وعلى أصحاب تلك الحيوانات أن يعيدوا ترتيب السقوف في وقت لاحق ، وهو جهد لولا الحيوانات لن يحدث ..

هناك حالة أخرى كنا نراها عند تغذية العجائز لصيصان ( صغار الطير) في حالات الديك الرومي، فتشوي العجوز بيضا و تخلطه ببعض القمح المجروش، وتغذي تلك الكائنات الحية به، في حين يجلس الأطفال يسيل لعابهم دون أن يحصلوا على مثل هذا الغذاء الخصوصي ..

في أيام (الدراس ) أي سحق القش لاستخلاص الحبوب منه، يقضي الفلاحون مدة شهرين وأكثر حتى ينجزوا تلك العملية. صحيح أنهم كانوا يستخدمون الحيوانات في تلك العملية، لكن كل أو معظم ناتج تلك العملية ستأكله الحيوانات نفسها، فمن المستفيد بالدرجة الأولى ؟ إنها الحيوانات .. ومن يستخدم من ؟ إنها الحيوانات التي كانت تستخدم الإنسان، ولكنه كان يخدمها دون أن يسأل أو حتى يفكر .. هكذا وجدوا آباءهم !

ولو نفق حيوان ( مات) فإن الحزن عليه سيفوق الحزن على أحد أعضاء المنزل من البشر، وسيكون حديث الناس لعدة أيام هو كيف أن فلان قد فقد حماره بالموت، ولكنهم لم يعملوا له بيت عزاء، وهو أمر لن يعترضوا عليه لو بادر أحدهم ذات يوم واخترع مثل هذا التقليد ..

كانت الأدوات وحتى المفردات اللغوية المختصة بالحيوانات تفوق تلك التي تستخدم للبشر، ففي حين لم تكن تجد طبيبا واحدا للبشر في عشرين قرية، كنت تجد في كل قرية بيطارا يهتم بصحة الحيوان. وستجد من يفصل لها الرسن والجلال ( غطاء الظهر) والمرشحة ( للخيل) و غيرها ..

لو قدر لأحدنا أن يعثر على أحد أبناء ذلك الجيل، والذي أظنه امتدادا لأجيال تصل الى آلاف السنين، وكان هذا المعمر قد رأى مدى التطورات التي حدثت في البلاد على كل الصعد، وتوجه أحدنا إليه بالسؤال أو بتلك الملاحظات التي أوردناها، وطلب منه تفسير للحكمة من كل هذا الحجم من الوفاء للحيوان، لضحك بصوت عال .. ولكنه لن يجيب ..



اخي ابن حوران .. تقبل الله منك صالح العمل وتجاوز عن سيئه وكل عام وانت بخير ..
اكرمك الله باكرامنا وجزاك عنا كل خير ومعروف .. لما كنت بيننا اخا كريما .. ومعلما حليما ..
واجبرتني مع العيد ان اشارك في نصيبك وبديع ارجاءك .. وابدأ بموافقتك بمقولة اهل الابل عن ابلهم انها .. الفقر المحبوب ..
كما ان غالبية اهل البادية من الذين لايزالون بها او نزلوا المدن لايستغنون عنها ولابد ان يكون لاغنامهم منزال آخر يكرمونها فيه .. ويسمونها ( الحلال ) .. فترى احدهم يتركها بداية .. ومايلبث ان يعود لها وينزلها حول منزاله باحد نواحي مدينته .. ليتنفس الصعداء بها ويزين لونه ويشرق جبينه ويتهلل .. وينطلق بالبشرى اليها في كل مرة .. له بها جمال الصباح وطمأنينة المساء .. ان كان موظفا اضافها الى مصروف ابنائه .. وان كان غير ذلك يبارك الله له بها .. وكلما مر عليه ضيف اكرمه منها .. وهي قد لاتتجاوز اصابع اليد اوضعفها .. ولكنها ارتبطت بحياتهم كالماء والهواء .. كما ان اغلب من يحرم منها ولاتسمح الظروف له باقتنائها .. تجده متعكر المزاج متزايد الاوجاعه بسبب فقده لما كان يسليه ويمتع قلبه ويبهج اساريره .. كما ان الغنى عند العرب غنى النفس والسؤدد لايشترى بمال والعزة حريتهم فمابقي اذن ..
ونحن نغبطهم الان وليتنا كنا نملك الوقت لذلك ولو ملكنا الوقت لخدمنا غبارها واكرمنا نزلها .. لانها في خير ليس في شر .. كيف ونحن نرى ان اغلب الذين لايجدون مايشغلهم او يسليهم .. يمنيهم الشيطان ويزين لهم اسباب الخسران .. ولو كان عندهم ماكان عند آبائهم من حيوانات يخدمونها .. لما خدموا باموالهم اشر من الحيوانات .. وظلموا انفسهم ..
واعجبتني كثيرا هذه العجملة في قولك ..
لو قدر لأحدنا أن يعثر على أحد أبناء ذلك الجيل، والذي أظنه امتدادا لأجيال تصل الى آلاف السنين، وكان هذا المعمر قد رأى مدى التطورات التي حدثت في البلاد على كل الصعد، وتوجه أحدنا إليه بالسؤال أو بتلك الملاحظات التي أوردناها، وطلب منه تفسير للحكمة من كل هذا الحجم من الوفاء للحيوان، لضحك بصوت عال .. ولكنه لن يجيب ..
( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) ...

اخي الكريم ابن حوران اعلم انني لم اضف لك شيئا تجهله .. ولكني اجدك كريما في تقبل اخوتك دائما ..

ابن حوران 11-11-2006 08:38 PM

استقالة العقل العربي :

( في الموروث القديم )


( 3 )

لقد كان لتفاعل الفلاسفة وتلاقح الاعتقادات الأثر الأهم في ما جعل أجيال الفلاسفة والمفكرين التي تلت عصر التدوين عند العرب أن تتأثر بهذا التلاقح .

ولعلى أوفى دراسة عن الهرمسية هي تلك التي قام بها الفرنسي المقتدر (فيستوجيير Festugere) والتي حقق فيها النصوص الهرمسية القديمة وترجمها في أربعة مجلدات للغة الفرنسية، ثم أردفها بأربعة مجلدات أخرى وضع بها دراسة عامة للفكر الأوروبي، وبالرغم من أن تلك الدراسات قد ربطها المفكر الفرنسي بالمركزية الأوروبية وبإفلاطون تحديدا، إلا أنها تعتبر دراسة قيمة .

ولتعديل الصورة يجب ذكر (أفاميا) تلك المدينة التي تقع جنوب أنطاكيا في سوريا ، وهي تسمى اليوم (قلعة المضيق) فقد كان لها دور يساوي دور الإسكندرية أو يزيد، وتكتسب أهميتها من أنها ملتقى لمعارف فلسفية كثيرة، فقد انتقلت إليها من الشرق معارف (فارس و العراق) ومن الشمال (أنطاكيا وآسيا الصغرى) حيث مدرسة (فرجاموس Pergame ) ومن الجنوب (فلسطين والإسكندرية) حيث شهدت (أفاميا) انتقال معظم محتويات مكتبة الإسكندرية، في عهد السلوقيين (خلفاء الإسكندر المكدوني ) في بلاد الشام، في حين كان (البطالسة) في مصر .. وقد وصل عدد سكان (أفاميا) في ذلك العهد زهاء (120) ألف نسمة ..

وقد ولد في (أفاميا) التي بقي أثرها حتى القرن الرابع الميلادي، مجموعة من الفلاسفة زاوجوا بين الفلسفية الشرقية والفلسفة الإغريقية فنشأت نمطية جديدة من التفكير العقلي والفلسفي، ثم أضيف مؤثر خارجي على أداء (أفاميا) هو احتكاك رجال اللاهوت اليهود والمسيحيين من فلسطين (جنوب أفاميا) .. وكان من أبرز من ولد بها من فلاسفة ( بوزيدنيوس) الذي يعتبر مصدرا رئيسيا (للهيلينيستية) التي غلب عليها الطابع الشرقي .. و ( سيردون) الفيلسوف السوري و آخرون.

وهكذا وبعد أن أصبحت أفاميا مركزا وقبلة للفلاسفة من مختلف الجهات، ولأكثر من أربعة قرون .. فقد تسللت الأفكار التي تجسدت من النشاط الفلسفي فيها الى حين ابتدأ النشاط الفلسفي (الفكري والعقلي) عند المسلمين في نهاية الدولة الأموية والدولة العباسية ..

وباستطاعتنا تلخيص المعتقدات الفلسفية والفكرية، التي تحاذت مع النشاط الديني المسيحي، وتعاملت مع بناه فلاسفة البراهما (الهنود) والمجوس وقدماء المصريين والعراقيين والتي كانت تتعامل مع فكرة ( الهرمسية ) بما يلي :

إقامة ثنائية حادة بين الإله والمادة، بين الخير والشر، باعتبارهما من طبيعتين مختلفتين تماما، وقد عبر تلك الثنائية خير تعبير (نومنيوس) كالآتي :

1ـ تصوير الإله الواحد كمدبر وهو الإله المتعالي وهو مصدر كل الخير وهو المنظم للكون .. ولكنه لا يدخل في علاقة ما مع الكون، بمعنى أنه منزَه عن الكون نفسه ..

2ـ بالمقابل هناك في الطرف الآخر (المادة) وهي مصدر النقص والشر، بل هي الشر نفسه، وباعتقاد أصحاب الرأي بأن تلك المادة قديمة جدا وهي لم تصدر عن مصدر الخير (الإله المتعالي) لأنها نقيض للخير، فلا يعقل أن يصدر الشر عن الخير ..

3ـ كان لا بد من طرف ثالث عند أصحاب هذا الاعتقاد، وهو ما وجد في النصوص الهرمسية : وهو (الإله الصانع) .. وعلاقته بالإله المتعالي حسب رأي أصحاب الاعتقاد : بأنه كالعلاقة بين مالك الحديقة والبستاني الذي يغرس الأشجار، فالإله المتعالي بذر البذور وأوجد الخلق والإله الصانع يتولى غرسها وإعادة توزيعها .. والإله الصانع عند هؤلاء أصبح وكأنه والعالم شيئا واحدا أمام الذات الإلهية العليا ..

إن هذا الشكل من التفكير والذي كان يسمى (الغنوصية) قد تسلل الى نفوس أو (عقول) الكثير من رجال الدين في الديانات (حتى السماوية) منها .. واحتل مكانا عند بعض الطوائف الإسلامية ولا يزال .. وهو يشكل دافعا إبستمولوجيا قويا لتصنيف الكثير من المواقف الدنيوية والتي تلف بطابع ديني بظاهرها ، إلا أن الجذور الفلسفية الغنوصية تظهر لمن يريد التأمل بكثير من هذا السلوك .. والذي أصبح يتسلل الى صانعي القرار السياسي في كثير من بلدان العالم من الولايات المتحدة حتى إيران ..

ابن حوران 12-11-2006 04:49 PM

أخي الفاضل سهيل اليماني

أشكرك جزيل الشكر على المرور وإثراء تلك الوصلة بعمق الرؤية التي لا نختلف عما ورد بها .. ولكن الإثراء الأهم هو أن هناك من يتابع تلك الشطحات بعين فاحصة وهو على قدر كبير من الاحترام

احترامي و تقديري

ابن حوران 12-11-2006 04:50 PM

(21)

عندما يتكلم أطفال الابتدائية بالسياسة، ويتسمع إليهم من يعتقد أنه يستطيع الإجابة على تساؤلاتهم، فإنه يغوص في بحر تساؤلاتهم، من زاوية يحن للطفولة ومن زاوية أخرى يتفقد ما تبقى من تلك الطفولة حاضرا وجاهزا في أعماقه رغم تقدم العمر، فتخبو لديه الرغبة بالتطوع لإجابتهم عن تساؤلاتهم، كما أنه لا يستطيع دوما الانتصار على الطفل السابت الحاضر في نفسه.

من تلك التساؤلات، كيف يستطيع حاكم البلاد أن يسيطر على كل تلك المساحات الشاسعة، والمدن بعماراتها العالية وذات الشقق الكثيرة، والقرى والأرياف والأزقة، والبوادي، فيجيب طفل آخر أحيانا إن تلك القدرة هي لله وحده وأنه يهبها من يشاء و ينزعها ممن يشاء.

كان من يتسمع لهذا الحوار الصغير والتساؤلات الفتية، يهم أن يقول لمن يتساءل، إنها رغبة واستعداد الأغلبية لتقبل ذلك، حيث يتركوا تلك المهمة لمن هم فيها طوعا أو قسرا، ولا يريدوا أن يفسدوا رتابة حياتهم اليومية في مناقشة مثل تلك التساؤلات ..

لكن هناك من يعتقد بعدم أحقية من في الحكم، وأن بالاستطاعة التخلص من أي حكم مهما بلغت قوته، في حالة ضبط خطط التخلص من ذلك الحكم، وقد يبالغ البعض في تسهيل مهمة التخلص من الحكم وأنها تتلخص بالإرادة فقط.

كما قد تبالغ بعض الحكومات في تضخيم أفعال بسيطة وتعتبرها أخطارا، لا بد من مواجهتها بقوة، كما فعلت الحكومة العثمانية مع فتى اسمه (عمر الفاخوري) من لبنان عندما ألف كتابا أو (كتيب) بعنوان (كيف ينهض العرب) وكان قد قرأ للفيلسوف (جوستاف لوبون) الذي كان متخصصا في الكتابة ضد اليهود وتأثر به ، فاعتقدت الحكومة العثمانية أن هناك خطرا قادما من تلك البقعة فحاصرت طرابلس وقامت بحملات شنق وصلت عدة مئات في حلب ودمشق وبيروت وطرابلس، حتى اكتشفوا في النهاية أن هذا الفتى لا يزيد عمره عن ستة عشر عاما إلا قليل ..

في العتيقة ظهرت فئة تشبه ما كان عليه عمر الفاخوري من احتقان وحماس، كانت الفئة لم تكمل منهاجها الثقافي في الفصيل السياسي الذي تنتمي إليه، حتى لم تنهي المراحل الأولى من ذلك المنهاج، فظهر على أفكارها خلط بين أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وقد استغلت تلك الفئة أنباء إنشاء حلف (بغداد) والمظاهرات التي سارت في شوارع بعض المدن العربية، فخرجت للتظاهر بشوارع العتيقة وكان يتقدمها شخص تلقب بالفوهور ومع ذلك كان محسوبا على الخط الأممي، فكان يرتقي (مقرص) ويخطب من فوقه ثم يقفز على طريقة أبطال الكاوبوي، وكان الأطفال من خلفه يهتفون : فلان راكب طيارة .. وعلان راكب حمارة .. فلان يفصم بزر .. وعلان يلقط قشر .. هذه أهم الهتافات التي كان يرددها المتظاهرون ..

استمرت المظاهرات عدة أيام بشكلها الصبياني، ثم قرر (الفوهور) أن ينقل القارمة التي تقول حدود الدولة ووضعها في طرف بين الدولة وحدود العتيقة، وفرض رسوم عبارة عن (100فلس) لكل سيارة تدخل (جمهورية العتيقة الديمقراطية) .. وقد ورد خبر عاجل في الإذاعة البريطانية التي كانت تبث من قبرص عن نشوء تلك الجمهورية التي لو انتبه أهالي العتيقة لأدخلوها في موسوعة (جينيس) كأقصر فترة حكم جمهوري بالتاريخ ..

فقد كان أحد المتطوعين من العشائر المتخاصمة قد انتهى من توصيل تقريره للعاصمة لتتحرك القوات البرية يتقدمها المشاة زاحفة زحف (النمرة و القردة) لمسافة خمس كيلومترات، متوقعة أن تلقى دفاعا صاروخيا من تلك القرية، وقد ورد لمسامعي أن اللواء الذي كان يقود تلك القوات بعد مرور ثلاثين عاما، أنه كان لديه أوامر أن يقصف العتيقة بالمدفعية قبل دخولها، لكن الخطة قد تغيرت بآخر لحظة!

جمع قادة الوحدات العسكرية الذين سيطروا بسرعة على القرية، وجوه العشائر وأمروهم أن يصطفوا بصفين مواجهين لبعضهم، ثم أمروا كل واحد أن يبصق في وجه من يقابله .. ومن يرفض كان يتعرض للضرب ..

أما الشباب (الثُوَار) فقد انهزموا الى قطر عربي مجاور، كلاجئين سياسيين، وكانوا يزيدون عن مائة ، بقي في المهجر، قسم منهم حوالي عشرين عاما، كما قد انهزم معهم من ليس له أي علاقة، عندما رأوا كم هو البطش الذي يحل بمن في سنهم عندما يلقى القبض عليه..

كان من بين الفارين شخص أشقر طويل عيناه واسعتان لكنه يغمض إحداهما نصف إغماضا، وقد اعتبره كل رجال الإعلام والصحافة الذين تجمعوا ليسألوا القادمين عما جرى في الدولة المجاورة، وما هي أخبار (جمهورية العتيقة الديمقراطية). فاختاروا ذلك الطويل الأشقر، حيث لم يعد هناك من يدَعِي بأنه على رأس الثورة، ولم يمانع الواقفون من تنصيب هذا الأشقر ناطقا بلسان الثورة، رغم معرفتهم بأنه أقرب للحمقى منه للعاقلين. وعندما توجه إليه أحد الصحفيين بالسؤال، رد على الفور بأنه في حالة جوع شديد، فجيء بطعام على الفور (له وحده) .. فطلب كوبا من الشاي فأحضروا له كوبا، فطلب لفافة تبغ، والصحفيون ينتظروا ما سيدلي به الناطق بلسان الثورة من تصريح .. ولما انتهت طلباته، وكرروا عليه السؤال أجاب: (طعة وقايمة) يعني أعلن عن عدم فهمه عما جرى .. فخرجت العناوين : وامتنع الناطق بلسان الثورة عن التصريح ..

ابن حوران 17-11-2006 03:12 PM

(22)

في كتابة العقود بين المتعاقدين، يتولى كتابة العقد محامي يظن أنه ملم بالقوانين، أو مأذون في حالات عقد الزواج، ومن أراد التملص من العقد أو التحايل عليه، قد يستعين بمحامي، أو يتفحص نقاط الجزاء في حالة المخالفة حتى يدفعها أو يتفاوض من أجلها لينهي فترة التعاقد ..

في عقود الزواج، التي يعبئها المأذون ويوثقها لدى دوائر عدلية تثبت حالة العقد وتعتبره نافذا، في الغالب يكون العقد مكونا من صفحة والقليل من التفاصيل، بل يشمل المهر المقدم والمؤجل والأثاث و مكانا لتوقيع الشهود، وليس للعقد أهمية إلا شرطيته الشرعية والقانونية..

ولكن لا توجد في عقود الزواج، شروطا تبين نسبة الملح في الطعام ولا ارتفاع صوت المرأة أو الرجل، ولا من سيحلب البقرة، ولا من سيفتح الباب إذا طرقه طارق .. ومئات الألوف من الحركات اليومية التي لا تستطيع مجلدات أن تحويها ..

في العتيقة كانت المرأة لها دور لم تنص عليه المواثيق المكتوبة، ولم يتطرق إليه خطباء الجمعة، ولم يذكره الناس في مجالسهم، لكنه تم انتشار تفاصيله مع الهواء وامتزج بدخان المواقد و(الطوابين) والتصق على جدران الحارات، وحفظه أبناء البلدة كما تحفظ صغار (السحالي) طرق المناورات من الأعداء الخارجيين، ولا أظنها أنها ( أي السحالي) قد تخرجت من جامعة أو معهد لكي تتعلم مهاراتها في فن البقاء ..

لم تكن هناك حركة نسائية مناضلة لتوصل النساء الى ما وصلت إليه، ولم تكن تتذمر النساء من وضعها، كما لم يكن الرجال يحتاجون لقطع يكتبونها على صدورهم تقول (هنا رجل) ولا النساء تحتاج الى مثل تلك القطع..

عندما كانت حاجات الإنسان معروفة ولكل سلعة وظيفة وضرورة، كان الناس يتعاملون مع تلك السلع في محلاتهم التجارية وفق تلك الضرورة والوظيفة، فالتجار كونهم من الناس، كانوا يحضرون ما يلزم للناس و يتلاءم مع إمكانياتهم، دون أن توزع غرف التجارة و روابط رجال الأعمال قوائم بتلك الحاجات، لكن لما غزت السلع الأسواق و فرضت على المشترين التعامل مع تلك السلع (كمحور محرك لحركة الاقتصاد)، كيَف الناس أوضاعهم وفق تلك السلع، فارتبكت اعتيادية وانسيابية حياتهم، فظهرت التشوهات الاقتصادية والاجتماعية حتى تشوهت معه حالة ثبات وثبات نمو وتطور المجتمع.

لم تكن المرأة تضع في فهارسها طلبات لم يكن لها ضرورة ووظيفة حياتية تتعلق بدور المرأة التي لم تكن عنصرا إضافيا، بل كانت عنصرا أساسيا ليس مكملا لدور الرجل، بل ملتحما في دوره التحام وجهي ورقة النقد، تفقد الورقة النقدية دورها إذا تلف أحد وجهيها أو تشوه .. وكان الإقرار من كل المجتمع بهذه العلاقة الصميمية والعضوية ..

لم يكن يعتدي الرجل على دور المرأة، فعندما يتم سؤاله من قبل أبناءه عن شيء هو من اختصاص والدتهم، سيحيله فورا لها، كما كانت المرأة تحيل ما يناط بالرجل للرجل، تماما كما هي الحالة في دور لاعب الدفاع في كرة القدم، ودور حارس المرمى، فإن أمسك لاعب الدفاع الكرة بيده فإنها مخالفة قد تعرض الفريق لضربة جزاء ..

كانت المرأة معنية بتربية كل ما هو داخل أسوار الدار، ابتداء من صغار الطيور الى الأبقار و الإبل و حتى رجل البيت، فهي تعني برعاية كل هؤلاء وتغذيتهم وجعلهم يظهرون للآخرين بأبهى صورهم، ليعود الفخر والمجد منسوبا لها في النهاية، وكان الرجل كالمقاول الذي يزود (معلم البناء) بمواد البناء، وما يتبقى يعود للأخير ..

وفوق ذلك كانت تذهب للحقول لتزود البيت بمواد الطعام من (خبيزة وعكوب وبعض ما تخرجه البراري) لتقدمه كوجبات لمن في البيت، وكانت تحضر معها أعواد (المكانس) وأعواد الحطب .. وعليها أن تقتصد في موجودات البيت من مؤن، حتى يمضي العام على خير، لا بل وتحتاط تحسبا لقدوم عام من القحط لا غلال فيه .. وكانت ترثي ما يتمزق من الملابس .. وفي أوقات فراغها ونزهتها تقوم بغزل وحياكة الصوف، لتعمل منه رداءا جميلا يلتصق بجسم طفل أو رجل ليترك بصمات روح الأسرة لأطول فترة ممكنة، أو تقوم بتلوين عيدان القش من القمح لتعمل منه أداة منزلية يحفظ بها الخبز أو تحمل بها الحبوب ..

وكانت توفر على الاقتصاد الوطني ما تتحمله الآن الدول من استيراد (حليب أطفال مجفف) .. لترضع أبنائها كل عوامل القوة والتلاحم الوراثي بين الأجيال.

هكذا كانت المرأة، قبل أن يلقى عليها قوائم من طلبات أو غايات، تعرف قسما منها وقسم آخر لا تعرفه .. لتدخل في صراع مع نفسها و مع الرجل، وتدخل الأمة في صراع من أجل البحث عن مسارات لا تمت لواقعنا بصلة ..

ابن حوران 05-12-2006 06:55 PM

( 23 )

لو راقب أحدنا نفسه أثناء عمليات الاقتراع (التصويت)، لأدهشه سلوك غريب، قد يتشابه عند كل الناس، فهو إن كان مرشحا في تلك الانتخابات التي يجري لها التصويت فإنه سيضع اسمه أول اسم، حتى وإن كان له حلفاء في نفس القائمة والذين سيدرجهم بعد كتابة اسمه، وإن لم يكن هو المرشح، وكان له قريب أو صديق فإنه سيضع اسمه في رأس القائمة، ثم يكتب أسماء المرشحين الذين ألزم نفسه بهم أدبيا !

يتساءل البعض: لماذا هذا السلوك العفوي؟ هل يخشى صاحب هذا السلوك أن يأتي زلزالا يمنعه من كتابة اسمه بالأول، أو أن أوامر مفاجئة تأتي من قوة ملزمة بالتوقف عن الكتابة .. ولو أخضعت هذه الأسئلة للمنطق، لما وجد لها مبرر إطلاقا، فما فائدة كتابة اسم المرشح إن أتى زلزال أو قمعت العملية الانتخابية ؟

إن تلك المسألة تتعلق باعتبار الفرد ولحظات حياته كمحور لعملية التاريخ، ففلان أكبر مني بخمسة سنوات باعتباري نقطة للمقارنة واشتريت ذلك القميص عندما ذهبت للمدينة الفلانية، باعتبار حركتي هي نقطة مقارنة الأحداث ..

عند الجماعات المغلقة أو شبه المغلقة يكون التاريخ، يرتبط بحدث يتذكره الجميع، فعندما يذكر تاريخ زواج أحد أفراد مجموعة، سواء كانت عشيرة أو قرية، فإنهم يختارون حدثا حادا للمقارنة معه، فيقولون تزوج بعد أن قتل فلان، خصوصا إن كان مقتل فلان قد طبع بصمة قوية في ذاكرة المجموعة ..

في قديم الزمان كان عرب الجنوب (اليمن) يؤرخون بأحداث وطنية معينة، كأن يقولوا بعد هدم سد مأرب بمائة وخمسين عاما، وأصبح عرب مكة ومن يحيط بها يؤرخون بعام الفيل .. وهكذا حتى استقر التأريخ الهجري، واستعمل معه التاريخ الميلادي ..

بعض الموظفين في أيامنا يضعون على مكاتبهم مفكرة مكتبية يكتبون عليها ملاحظات ثم يقلبونها لليوم الذي يلي اليوم الذي كتبوا عليها الملاحظات، ولا أدري على وجه التحديد كيف سيستفيدون من الملاحظات التي كتبوها على الأوراق السابقة .. لكنها أصبحت تقليد عند معظم الموظفين ..

كان الحاج فالح يواظب على كتابة معلومات معينة على (مفكرة جيب)، وقد استمر على تلك العادة لمدة سبع وسبعين عاما متواصلة، وكانت آخر عشرين مفكرة جيب كتبت بخط مهزوز نتيجة الرجفة التي أصابته بعد تعرضه لجلطة بعمر الثمانين ..

وكان يتمتع بتلك الميزة، عندما يأتي إليه طرفان قد تراهنا على مسألة ما، متى كان يوم ولادة فلان أو زفافه ومتى توفي فلان، فكان يبتسم وأحيانا يضحك حتى تنزل بعض الدمعات من عينيه لتضيع بين شعرات لحيته البيضاء، ومن يدري لما كان يضحك، هل لأنه يريد التباهي بخصلته النادرة، أم لتندره بتعذيب السائلين لبعض الوقت، وهو يسأل هذا: وأنت ماذا تقول ؟ ثم يعود للطرف الآخر ليسأله عن رأيه، وبعد جهد يأمر أحد أبناءه أن يأتي بسلم ويصعد الى (طاقة) في أعلى جدار (المضافة) ليحضر له عشرة مفكرات، حصر فيها وقت الحادثة التي سئل عنها .. ويأخذ بالقراءة بصوت مسموع، أمام مجموعة تستمع إليه، ولا يذهب الى ما سئل عنه فورا، بل يسمعهم تواريخ وفيات لأشخاص مهمين، أو لتواريخ معينة.. فتسمع من حوله تنهدات وعبارات ( يا الله) أو (الله يرحمه).

كان الحاج فالح يهتم بتاريخ الوفاة وعقد القران والأمانات التي تودع عند معارفه، وأحوال الطقس، وأسعار اللحم والتبن والقمح وبقية الحبوب، وتتبع أخبار المسافرين، حيث سافر أخي محمد الى حمص ويبقى لا يزال أخي محمد بحمص، ذهبت لتفقد الزرع الشرقي، كان طول الزرع أربعة أصابع، ثم يتابع في اليوم الذي يليه (رهام خفيف) أي مطر قليل .. وينتقل لليوم الذي يليه، لا زال أخي محمد بحمص، طقس بارد جدا( حورة .. أي صقيع) .. وينتقل الى اليوم الذي يليه سعر كيلو لحم الخروف عشرين قرشا ولحم الجمل 18 قرشا، سعر حمل تبن العدس 60 قرشا ( الحمل حوالي 150كغم) .. حضر أخي محمد من حمص وقد اشترى بغلا ..

ثم ينتقل، ليوم آخر ( صلينا على جنازة محمود الأشقر) .. ويتابع .. رفس البغل الذي أحضره أخي محمد، رفس ابراهيم وشج رأسه .. وبعدها بعدة أيام تجده يكتب: ذهب أخي محمد الى فلسطين لبيع البغل .. وتتكرر الأمور اليومية، عن الطقس والزرع والوفيات .. مع تأكيد كل يوم أن (أخي محمد لا يزال بفلسطين) .. حتى يصل الى عاد أخي من فلسطين ومعه البغل ..

كان الحاج فالح يتعامل مع المفكرة كما يتعامل ناس اليوم مع الشيكات، فلا شطب ولا مسح ولا غيره .. وقد اطلعت على قضية طريفة حيث كان قد سجل في مفكرته ( توفي اليوم سعيد الحامد) .. وقد سجَل الحاج فالح وفاته بناء على خبر سمعه من آخرين .. ولكن سعيد الحامد عندما حفروا له قبره، وغسلوه ونقلوه الى المقبرة استفاق فجأة وعاد الى الحياة .. والغريب أن الحاج فالح الذي كان يكره الذهاب للمآتم، لم يعلم بحالة استفاقة سعيد الحامد، وقد صدف ووجد الحاج فالح ذلك الميت الذي بُعِثَ مبكرا عند محل لبيع اللحم (قصاب) .. فسأله الحاج فالح: الست سعيد الحامد؟ فأجاب سعيد (بدلال) : آه والله يا حاج. فسأله الحاج فالح : ألم تمت قبل شهور؟ فأجابه : بلى والله .. وتوقع سعيد أن يأخذه الحاج فالح بالأحضان .. ولكن الحاج فالح بادره : (تضرب في شكلك) أهي لعبة أولاد صغار؟ والله لن أشطبك ..


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.