حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   خيمة القصـة والقصيـدة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=69)
-   -   بإحدى محطات ميترو باريس‏ (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=82834)

إيناس 04-02-2010 12:37 AM

بإحدى محطات ميترو باريس‏
 


كنت في طريقي إلى منزلنا بعدما قضيت عدة ساعات في مقر جمعيتي، وهي جمعية تنشط جاهدة لمحاربة العنصرية، حيث نمارس النضال من أجل الحق، واستحلاب الحلول لمشاكل الأجانب في بلد يرفع شعار الأخوة والمساواة والحرية.. شعارات ثورة انسحبت منهزمة من الشارع إلى دفات الكتب، وكل هم هذه الجمعية وأخواتها ليس إلا إرجاع هذه الشعارات إلى موطنها الأصلي، شوارع فرنسا ودروبها. فرنسا التي ما كان أحد ليتصورها تمنع عن أحد أبنائها وظيفة أو سكنا، فقط لأن إسمه محمد أو خديجة.

وأنا جالسة على مقعدي أنتظر مقدم الميترو جلست بجواري امرأة فرنسية عجوز يكاد عمرها يجاوز الثمانين، وبعد أن إستوت على مقعدها أخذت تقلب نظرها يمينا وشمالا، وشمالا ويمينا، وبين النظرة والأخرى تطلق همهمات وزفرات تعبر عن تأفف بالغ.
حاولت أن لا ألتفت إليها، ولا أحيد نظري عن كتابي.. لكن الزفرات والهمهمات تطورت إلى كلمات وتعابير، وفهمت أنها ساخطة على هذا الازدحام وغاضبة من كل هذه الأمواج البشرية، والضغط الذي تعرفه محطات الميترو الباريسية كلما عانق عقرب الوقت ساعته السادسة.

وطبيعي أن أرأف لحالها، وأن يحنو قلبي على عجوز مثلها. حينها قررت أن أشاركها الشعور وأفعل شيئا لأجل التخفيف عنها، ولو كانت كلمة بلهاء تصدر مني دون أن أعني بها شيئا ذا شأن.
قلت :
ـ لا تنزعجي سيدتي فإنه ازدحام عادي، إنها الساعة السادسة والنصف مساءا، وهي ساعة العودة إلى الأوكار.
أهديتها ابتسامة وفي داخلي سمعت صوتا هاتفا مني إلي :
ـ "وما أخرجك أنت يا امرأة من وكرك، في هذا العمر وفي هذه الساعة ؟"

وفيما بدا وكأنها سمعت صمتي، أجابتني بإحتقان شديد :
ـ "أعرف أنها السادسة مساءا وأعرف أنها ساعة خروج العاملين والموظفين والطلاب"...
سكتت لحظة، وإذا بها تهم بتشريح تفاصيل وجهي بتلك النظرات الفاحصة، وبعد أن فرغت من سكرنتي، رمتني بنظرة حادة، يا لهذا السكانير الفاضح، ونتائجه السيئة المحزنة.
وأخيرا استجمعت ما تبقى فيها من قوة وبأس وقالت بفرنسيتها البورجوازية تخاطبني :
ـ "انظري هناك، وأخبريني ماذا ترين ؟" وأشارت بأصبعها.
نظرت يمينا، ولكني لم أر شيئا، لا شيء يستحق الانتباه، كل الأمور عادية هنا، جمع من الناس ينتظرون الميترو.
إلتفت ناحيتها وقلت في استغراب :
ـ "لا أرى شيئا غير أناس ينتظرون مثلنا".
وفجأة، وبدون سابق إنذار صرخت في وجهي :
ـ "ماذا ؟ أناااس ؟"
قلت في ثقة مصطنعة : نعم،"أناس".
وعدت إلى هذا البركان الذي يستعد للثورة في داخلي، كم أكره أن لا أفهم شيئا، أن لا أفهم ما هو حولي، وهذه العجوز التي تصرخ بجواري، أتراها ترى ما لا أرى، أم رفع عنها الحجاب، الثمانينية الغريبة. أهي هلاوس العجائز أم أنها تتجاوز المنظور وما تراه عين فتاة مسكينة مثلي.

انتشلني صوتها من عالم تخيلاتي وهلوساتي وسألتني مرة ثانية، وهذه المرة كانت تشير بأصبعها ناحية الشمال.
ـ "ماذا ترين ؟"
حدقت في عينيها كأنني أود الاطمئنان على عقلها قبل أي شيء آخر، ثم التفت شمالا لأرى.
وكما كان الأمر على يميني، لم أر إلا حشدا من الناس ينتظرون الميترو.
ترددت قبل أن ألتفت إليها، وأصف ما أرى، لعلها تقصد نقطة تختبئ بين تفاصيل المشهد وثنايا الأحداث الصغيرة التي تعرفها محطة ميترو باريس. في البدء كنت خائفة من صفعات نظراتها، لكنني في لحظة إستجمعت كل قواي، وقلت متفادية التحديق المباشر إليها.. وبنبرة خجولة خرج صوتي :
ـ "حتى هنا لا أرى إلا أناس ينتظرون"
وفيما بدا على السيدة الانزعاج، طأطأت رأسي، وخفظت نظراتي هربا إلى ملجأي الآمن، بين دفتي كتاب يستريح على يدي، وذلك حتى لا تعيرني بضعف نظري أو أي شيء آخر، ولكنها اختارت هذه المرة أن تردد في استهزاء :
ـ "أناااس.... أناااس... وهل هؤلاء أناس ؟"
وبدون شعور رفعت رأسي أنظر إليها وأنا لا أفهم ما تقصد.
فأستطردت تقول في سخرية قاتلة :
ـ "وهل تعتبرين هؤلاء السود ـ مشيرة يمينا ـ أناس ؟
وهاته الرؤوس العربية ـ مشيرة شمالا ـ أناس ؟

أنظري يا آنستي الصغيرة، أنا أكره السود، وأكره العرب، وأكره الأجانب."
ثم نظرت إلي وأضافت قائلة :
ـ "وأنت ...؟"

جحظت عيناي من العجب، والاستنكار الشديد يحيلني إلى موجة غضب، وكم تمنيت لو أنهما تتحولان إلى رصاصتين تستقران في رأس هذه العجوز.

ـ "وأنت ؟"
لقد كانت ثواني معدودة، ولكني أحسستها تختلف عن أية ثواني أخرى، ما لهذا السؤال لا يكف عن قض مضجع هدوئي ولحظتي، ويطنطن في رأسي حتى أكاد لا أسمع إلا صداه، وكل خلايا هذا الجسد تهتف مستنكرة.
وأكتشف أن الثمانينية تستعجل الجواب، ولحظتها، لا أدري أية قوة خارقة أنجدتني وقامت بفتح فمي، قلت لها :
ـ أنا فرنسية وأكره فرنسيتك.

وتعالى صوت صفارة، ودون تفكير ركضت مع الناس لأركب الميترو..
وإنطلق هذا الميترو.
وأنا أنظر عبر النافذة الزجاجية، من على مقعدي داخل الميترو، أرى العجوز وحيدة لم تبرح مكانها.
ولا تزال تنظر يمينا وشمالا.




أميرة الثقافة 04-02-2010 12:21 PM

اذن لسنا وحدنا المتخلفين في هذا العالم والحمد لله:)

هذه دعوة من مدينة الجمال والأحلام الى العالم الثالث بالتفاؤل :thumb:

الوطنية الموصوفة بالأنانية والقتامة اصبحت نوعا من التخلف


يبدو ان باريس المدينة التي لا تشيخ لم ترحم شيخوخة هذه العجوز

ووضعتها في صندوق باريسي معتم لا ترى امامها غير جدرانه السوداء


بصراحة ...لم احزن على هذه العجوز

ربما لأنني لم اعش بطولتها مثلك .....ربما :rolleyes:

عصام الدين 04-02-2010 12:33 PM

بطولتها باطلة أختاه أميرة الثقافة، فليس بمنتصر من بقي وحيدا وملتصقا بمكانه، بينما القافلة ـ الميتروـ تسير.
وليس المتفرج ـ يمينا وشمالا ـ بمنتصر، تأكدي يا إيناس، إنما الذي يسمو وكل الطريق مسافة داخلية، العين تنتقل من الكتاب إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الكتاب، وعين أخرى تافهة تتيه بين يمين ويسار ولا أناس أمامها، ولا تكاد تبرح المكان.
ستبقى العجوز وحيدة، في مكانها، وثمانينيتها ستنطفئ عما قريب، لتترك المجال لشباب حالم بغد واعد.
استمر في التقدم، أيها المترو.
واستمري إلى الأمام..
يا راكبة الميترو.


تحياتي للقصة الجميلة واليراع الأجمل.

الفجر الجديد 04-02-2010 12:40 PM

أولا أختي إيناس أريد أن أحييك على هذا السرد القصصي المشوق المحكم الرائع من البداية إلى النهاية :)
ثانيا أحييك و أشكرك على بلاغتك الرائعة و انت تعيشين في فرنسا :thumb:
ثالثا و للأسف أختي هذه هي نظرة الغرب للعرب و دول العالم الثالث بصفة عامة لا تخلو من عنصرية حاقدة و يبدو لي خاصة عند كبار السن و شكرا على القصة تحياتي

إيناس 04-02-2010 03:28 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة أميرة الثقافة (المشاركة 681892)
اذن لسنا وحدنا المتخلفين في هذا العالم والحمد لله:)








هذه دعوة من مدينة الجمال والأحلام الى العالم الثالث بالتفاؤل :thumb:

الوطنية الموصوفة بالأنانية والقتامة اصبحت نوعا من التخلف


يبدو ان باريس المدينة التي لا تشيخ لم ترحم شيخوخة هذه العجوز

ووضعتها في صندوق باريسي معتم لا ترى امامها غير جدرانه السوداء


بصراحة ...لم احزن على هذه العجوز


ربما لأنني لم اعش بطولتها مثلك .....ربما :rolleyes:


الميز العنصري أميرة عند الغرب متجدر تلقنوه من فلسفاتهم إبتدأً من أفلاطون الذي تحدث عن أفضل صيغ الديموقراطية في عصره بما عرفناه بالمدينة الفاضلة، عندما قسم الجنس البشري إلى طبقات وعدد في مدينته الفاضلة مواصفات معينة للحط من شأن الفرع الدوني البشري ومنها بأن يكون ًإمرأة أو غريبا ....ً
وفولتير كذلك عندما قال، وهو يعتبر من أعمدة فكر التنوير الفرنسي والأوربي " جنس السود نوع بشري مختلف كلية عن نوعنا البشري ..."

أضيفي إلى ذلك طبعا غزوات المستعمر الأبيض لأنحاء المعمورة في تاريخنا الحديث والذي كان يعتبر نفسه طبعا سيد الجنس البشري، و Henry Morton Stanley وهو باحث وصحفي بريطاني معاصر مات في أواخر 1903 عندما قال في أحد مقالاته عن الأفارقة السود " إن لم يكونوا أنصاف حيوانات، فهم على الأقل كائنات دون ثقافة ولهذا يصبح قتلهم عملا حضاريا ويشير إلى الرشاش كأداة حضارية...

يعني العجوز هذه، لم تبرح مكانها ليس فقط من ثمانين سنة، بل سمرت فيه منذ عقود وقرون، ومثلها مع الأسف كثيرون وكُثر، رغم إختلاف المسميات والمناطق الجغرافية والثقافات ....
وكما قال عصام الدين، لحسن الحظ أن هناك دائما أمل في جيل جديد حالم بغد واعد

وإستمر في التقدم أيها الميترو

إيناس 04-02-2010 05:04 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة عصام الدين (المشاركة 681894)
بطولتها باطلة أختاه أميرة الثقافة، فليس بمنتصر من بقي وحيدا وملتصقا بمكانه، بينما القافلة ـ الميتروـ تسير.

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة عصام الدين (المشاركة 681894)

وليس المتفرج ـ يمينا وشمالا ـ بمنتصر، تأكدي يا إيناس، إنما الذي يسمو وكل الطريق مسافة داخلية، العين تنتقل من الكتاب إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الكتاب، وعين أخرى تافهة تتيه بين يمين ويسار ولا أناس أمامها، ولا تكاد تبرح المكان.

ستبقى العجوز وحيدة، في مكانها، وثمانينيتها ستنطفئ عما قريب، لتترك المجال لشباب حالم بغد واعد.

استمر في التقدم، أيها المترو.

واستمري إلى الأمام..

يا راكبة الميترو.



تحياتي للقصة الجميلة واليراع الأجمل.





مع أنها كانت تحمل حقيبة يد يظهر منها كتاب

لكنني متأكدة أن عجوزتي من محبي Jean Tulard

وكتابه : NAPOLEON ET LA NOBLESSE D'EMPIRE

أو كتاب ل Jules Cesar الشخصية المفضلة لدى هيتلر ...




سيبقى تشجيعك هذا أخي عصام الدين عالقا بالذاكرة

إيناس 04-02-2010 10:04 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة الفجر الجديد (المشاركة 681896)
أولا أختي إيناس أريد أن أحييك على هذا السرد القصصي المشوق المحكم الرائع من البداية إلى النهاية :)

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة الفجر الجديد (المشاركة 681896)

ثانيا أحييك و أشكرك على بلاغتك الرائعة و انت تعيشين في فرنسا :thumb:
ثالثا و للأسف أختي هذه هي نظرة الغرب للعرب و دول العالم الثالث بصفة عامة لا تخلو من عنصرية حاقدة و يبدو لي خاصة عند كبار السن و شكرا على القصة تحياتي



في الغرب وكما قلت أختي الفجر الجديد طبقة كبيرة جدا تحقد على العرب وعلى السود وعلى كل من لا ينتمي للعم سام، والمصيبة أن العنصرية لم تعد مقتصرة على العجزة أو قدامى الغرب، على الأقل سنقول أن هؤلاء رضعوا وتشبعوا من الحقبة الإستعمارية وثقافتها الإستعبادية ضد هاته الشعوب ...أملنا في إنقراضهم ميعادهم القريب مع عزرائيل،
لكن اليوم أوروبا وأمريكا وكذلك روسيا تعرف إزدهار حركات متطرفة عنصرية سياسية إيديولوجية أغلب المنخرطين فيها شباب وتوصف بالنازية وتسمى أيضا بالفاشية الجديدة التي نشطت مؤخرا في في هاته الدول والتي ينتمي غالبية سكانها من البشرة البيضاء
ومن بينها منهج فكري يحمله جماعات ما يسمون بحليقي الرؤوس يجهرون بمعاداة كل من هو ليس أبيض البشرة و يعيش في بلدانهم مدعين أنهم يهددونهم بتغيير طبيعة مجتمعاتهم الأمر الذي قد يؤدي أيضاً لانقراضهم :rolleyes:
وهذه فقط واحدة من بين عشرات الحركات التطرفية والعنصرية التي تعلن وتمارس إيديولوجياتها علنا غير آبهة لا بقوانين حقوق الإنسان ولا يحزنون، وقد تأدى منها المئات من الضحايا ومن الملونين كما يحبون أن يطلقون عليهم

لكن مارأيك نترك عجوزتي وحلقي الرؤوس ونركب ميترو فجر جديد لا بد له وأن يسطع مهما طالت العتمة ..... :thumb:


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.