حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   صالون الخيمة الثقافي (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=9)
-   -   قصص من زمن الحرب (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=50801)

محمد العاني 13-02-2006 11:29 AM

قصص من زمن الحرب
 
بسم الله الرحمن الرحيم


بعد أن كتبت العنوان بقليل، تأملته فوجدته لا يحمل من الصحة الكثير. حيث أن المقصود من موضوعي هذا هو أن أكتب لكم بعض القصص التي حدثت في الحرب التي جرت عام 2003 في العراق. ولكني بعد أن كتبت العنوان، رأيت أن الحرب لم تنتهي بعد..فنحن لم نزل في زمن الحرب.

بعض القصص التي سأوردها -إن شاء الله- عشتها بنفسي. و البعض الآخر أخذته من لسان أقرباءٍ و أصدقاءٍ مرّوا بهذه القصص.
لا أقصد بهذه القصص أن أروي المجرى العام للحرب و كيف بدأت و كيف لم تنته، بل أقصد أن أروي بعض الأحداث الصغيرة التي ضاعت تحت سُرف الدبابات و بين أشلاء القتلى و ذابت في دموع الأمهات و تهاوت بين ما تهاوى من العراق. كثيرٌ منكم سمع بقصصٍ مشابهة و سأكون مدلّساً إذا ما وعدتكم بغير الدم و الخراب في هذه السلسلة. ما أريد نشره في هذه الحلقات هو تلكم القصص الصغيرة..و التأثير غير المنظور للحرب على حياة هذه الملايين من الناس.

و من الله العون.


محمد العاني

أسعد المصري 13-02-2006 06:15 PM

فكرة رائعة أخي محمد ..

فضحايا الحروب من عامة الناس لا يجدون من يسلط الضوء على معاناتهم ومآسيهم ..

وكأن أرواح الألوف منهم لا قيمة لها .. أما روح الرئيس فلان أو الوزير فلان فهي تساوي

الكثير الكثير ..!!

بانـتـظـار قصصك أخي محمد ..


تحياتي .

محمد العاني 14-02-2006 10:30 AM

شكراً لمرورك العاطر أخي أسعد..فهو لا يزيد صفحتي إلا جمالاً..

محمد العاني 14-02-2006 10:56 AM

قبل الحرب بعدة أيام..
 
بسم الله الرحمن الرحيم


كنّا قد تعودنا دائماً على سماع التهديدات الأمريكية بالحرب حتى أصبحت لا تؤثر فينا. و استمريت بنقاشاتٍ طويلةٍ عريضةٍ مع أصحابي بموضوع الحرب. و لم أتوقف عن إفهام أصدقائي بأن هذه الحرب مستحيلة الحدوث و أن الأمريكان سيكونون مصابين بمسٍّ من الجنون إذا ما قرروا إحتلال العراق. و حتى إن صارت الحرب فلن يستطيعوا إحتلال العراق. سنخرج لقتالهم و لو بالأحذية (عفواً على سوء التعبير). و لكني كنت دائماً أتحدث بعاطفةٍ جيّاشةٍ و أغض الطرف عن المنطق في هذا الموضوع.
الجميع يعلم أن حرباً أخرى مع أمريكا تعني نهاية العراق. كلنا يعلم أن القوات العراقية تقاتل بأسلحة الحرب العالمية و بروحٍ متسائلةٍ ((هل أُقاتل و أموت ليبقى صدام في الحكم؟؟))
إن الموت الذي تعرّض له الجيش العراقي عند إنسحابه من الكويت لا يزال يُضرّج عقول القادة العسكريين بدماء من قُتلوا و هم ينسحبون. "طريق الموت" هذا كان إسم الطريق السريع بين البصرة و بغداد الذي سارته القوات العراقية المنسحبة. لم يكُن إلا طريقاً للموت لأن القاصفات من نوع بي 52 كانت تطير فوق رؤوس القوات العراقية و تُمطرهما بالقنابل و اليورانيوم المنضّب الحارق. كثيرون لم يبقَ منهم سوى بعض الشحم كان العراقيون يمثلون على أنفسهم أنهم يدفنون قتلاهم بدفن هذه الكُتل غير المعروفة من الشحم و الدماء.

يوم الإثنين هذا تأكد الجميع أن الحرب واقعةٌ لا محالة. لأن السيّد البشوش صاحب الأخبار الطيّبة كوفي عنان صرّح بسحب فريق المفتشين عن أسلحة الدمار الشامل و سحب كل موظفي الأمم المتحدة من العراق. عندئذٍ فقط أدرك الجميع قرب وقوع الحرب. و كُنّا نردد مقولة رأفت الهجّان "كده تبئه طبّلت".
و كذلك صرّح جورج بوش بخطابه الشهير "صدام حسين و أبناؤه يجب أن يُغادروا العراق خلال الساعات الثمانية و الأربعين القادمة" كأنه يهدد زوجته لتذهب إلى بيت أهلها. كأن لا دولة وجدت ولا حكومة ولا جمهورية.
في يوم الإثنين هذا كنت و مجموعةً من أصحابي في إحدى المقاهي الواقعة في شارع أبي نؤاس المطل على نهر دجلة في بغداد. كنّا نجلس صامتين لا نعرف ماذا نقول. إذ إنها قد تكون آخر مرةٍ يرى فيها أحدنا الآخر..!!
كان الوقت لا يمر..يُمعن في إعلامنا أنها الساعات الأخيرة لنا سويّاً..
ما أن صارت الساعة التاسعة مساءاً حتى تبادلنا الأحضان و الدموع..لم يرَ أحدنا الآخر يبكي من قبل، و لكنّ أحداً منا لم يستطع حبس دموعه لأننا كنّا ندرك أن هذا الجمع لن يعود مرةً ثانية..و بالفعل..حتى هذا اليوم..لم يعُد الجمع أبداً..

أسعد المصري 14-02-2006 07:39 PM

عندما بدأت الولايات المتحدة تطلق التصريحات النارية على صدام حسين وتمطر العراق

بوابل من التهديدات كلما طاب لها وذلك أثناء حربها على طالبان والقاعدة في أفغانستان

كان النقاش بيني وبين أصدقائي يدور حول هل ستدخل أمريكا إلى العراق أم لا ..

كنتُ من القلائل الذين راهنوا على أن أمريكا ستهاجم العراق عاجلاً أم آجلاً .. وكنت على

اقتناع تام بأن دخول أفغانستان لم يكن سوى بداية المشروع الاستعماري الجديد ..

وليلة اندلاع الحرب كنت وحيدا في غربتي متمسمرا أمام نشرات الأخبار .. ورغم اتضاح

الصورة تماما بأن الحرب قادمة لا محالة .. شرعت أدعو الله أن يُـخسرني رهاني ويسلم

العراق وأهله من ويل حرب لن تبقي ولن تذر ..

وبدأت السماء تمطر قنابلها على أرض العراق فيتفجر قلبي بشظايا الحزن والأسى ..

ليلتها حاولت أن أصمد أمام الحزن فلم أجد ما أقاتل به أسايَ سوى القلم .. فكتبت كلمات

أودعتها بعضا من علقم الفاجعة وهول الأسئلة.. ( وطالما تذكرتها الآن فسأنشرها قريبا باذن

الله في هذه الخيمة ) ..

تابع سردك أخي العزيز محمد .. تابع فقلوبنا المتصحرة بحاجة شديدة لغيث الدموع ...


أجمل تحية .

محمد العاني 15-02-2006 12:10 PM

اليوم الأول
 
أطلق لها السيف..لا خوفٌ ولا وجلُ
أطلق لها السيف..وليشهد لها زُحلُ..


مطلع القصيدة التي بدأ بها صدام حسين خطابه الأول فجر يوم الخميس 20-3-2003. فجر اليوم الذي بدأت فيه الحرب.

في الساعة الرابعة فجراً بتوقيت بغداد من صباح ذلك اليوم إنتهت المهلة التي رصدها جورج بوش لرحيل صدام حسين و أبناءه عن العراق. غريبةٌ هي هذه المهلة..!!
بعد مرور عدة ساعات على بداية هذه المهلة أطل علينا جورج بوش ليصرح: "سنهاجم العراق حتى لو خرج صدام"...!!!
باللغة العراقية العامّية يسمّى ذلك بالـ"مزعطة". ومعناها أنها تصرفات تصدر من طفلٍ خفيف العقل و جاهل. لماذا إذن أعطيت المهلة؟؟ ربما كان لقناة فوكس نيوز مجالٌ فارغٌ في الأخبار فطلبوا من سيادة الرئيس أن يُلقي بكلمة لسد الفراغ.

قبل الخامسة فجراً بقليل..صحوتُ مفزوعاً على صوت صافرة الإنذار تدوي في سماء المدينة الهادئة لتشقّ آخر لحظات الهدوء التي شهدتها بغداد منذ ذلك اليوم. حيث أنني و أهلي نسكن في إحدى المناطق الواقعة غرب بغداد قريبةً على مطار بغداد (مطار صدام في وقتها) و على الطريق المؤدي إلى "أبو غريب" لم يكُن القصف الواقع في اليوم الأول قريباً علينا.
كان القصف في اليوم الأول مركّزاً على القصر الجمهوري و وزارة التخطيط و بعض المناطق الرئاسية الأخرى. توقّع الأمريكان حسب إدعائهم أن يكون صدام حسين متواجداً في إحدى هذه الأماكن و ذلك ليُنهوا الحرب قبل أن تبدأ.

كانت جدّتي -حفظها الله لنا- تخاف من صوت القصف و الإنفجارات كما كنا نخاف جميعاً ولكن بنسبٍ متفاوتة. حيث والدي الذي قاتل في الحرب العراقية الإيرانية لا نتوقع منه أن يخاف من صوت الإنفجارات أو ما شاكل ذلك.
لقد عشنا أياماً عصيبةً في حرب إيران والقصف العشوائي الذي كانت تقوم به على بغداد. و أياماً أشدّ و أقسى في حرب عام 1991 عندما دمر القصف الأمريكي كل البنى التحتية للعراق. و قصفاٌ آخر أقل وقعاً عام 1998 على يد صاحب مونيكا. لكنّ هذه الحرب، و منذ يومها الأول، كانت تبدو مختلفة..
ربما لأننا كنا نعلم يقيناً أنها لن تنتهي..

أطل علينا صدام حسين في التلفزيون في صورةٍ مشوشةٍ لم يظهر بمثلها من قبل. فصدام مثلاً كان دائماً يقوم بصبغ الشيب في شعره و شواربه باللون الأسود..و هذه المرة لم يفعل..و نظاراته السميكة التي لم يكُن يرتديها علناً من قبل..و صوته الذي لم تبدو به الثقة التي إعتاد أن يبدوَ بها..
"ترى ما الذي سوف يحدث" ؟؟
سؤالٌ يدور في ذهن الجميع..
فصدام لم يستدعِ قوات الإحتياط..و لم يُعلن النفير العام..؟؟!!!
و نحن نعلم واقع الجيش العراقي و أن في كتيبة الدروع دبابةً واحدةً تعمل و تدفع الباقيات حتي يشتغلن بسبب عدم وجود البطاريات..
الصواريخ العراقية التي تستطيع الوصول إلى القوات الأمريكية قد تم تدميرها على يد المخابرات الأمريكية، عفواً قصدت فريق مفتشي الأمم المتحدة لأسلحة الدمار الشامل..

في اليوم الأول..كانت معنوياتنا جميعاً هابطةً و بشدة. فنحن نعلم مدى قوة السلاح الأمريكي و عدم تواريهم عن فعل أي شئ. و بدأنا بتوقّع وصول الأمريكان إلى بغداد خلال ثلاثة أيام أو أربعة.
ذهبنا للنوم ليلاً كلٌّ في غرفته كأن شيئاً لم يكُن. فلم نسمع خلال اليوم قصفاً أو شيئاً من هذا القبيل. و ليتنا استطعنا النوم في هذا الوضع المتفاقم.
صباح يوم الجمعة..
إستيقظت على الصوت العالي للراديو في البيت..كانت إذاعة البي بي سي اللندنية يتحدثون فيها عن صمود و مقاومة القوات العراقية في "أم قصر"..
يا إلهي..أم قصر..لا تتعدى مساحتها مساحة الحي الذي نسكن فيه..!!
"مقاومة شديدة تعيق تقدم القوات الأمريكية و البريطانية"..هذا ما يقولونه في الأخبار.
إنتابتني نشوةٌ عنيفةٌ هزّتني..هنالك أمل..؟؟!!
هل سنخرج من هذه الحرب بوجوهٍ بيضاء؟؟
إذا ما قاومت القوات العراقية القواتِ الأمريكية بشدّة و كبّدتها الخسائر فسوف يوقف الأمريكان الحرب. فقد بدأ الأمريكان الحرب و في وجوههم أطياف حرب فيتنام..فإذا ما تكبدوا خسائر فادحةً سيوقفون الحرب. و ستكون بطولة القوات العراقية صفحة لا ينساها التاريخ..
و المشكلة أن صدام حسين سيصبح فرعوناً أكثر مما تفرعن هو أصلاً..
فماذا هو التصرف الصحيح؟؟

محمد العاني 16-02-2006 12:36 PM

هبّت سِراعاً و سلّت سيف بلوانا
ريحٌ أقلّت من الأرزاء ألوانا
ريحٌ أتاحت لها الصحراء مرحلةً
فسخّرت من جمال البدو قطعانا
و سخّرت من جحور الشرق ما ادّخرت
لفتنةٍ حاصرتْ بالأمس عُثمانا
و جرّعت قبلهُ الفاروق كأس ردى
و طالَ خنجرُها الكرّار إمعانا
ريحٌ نُحرنا مراراً في ملاعبها
فملّ تيارها الدامي ضحايانا


الجمعة الأولى من الحرب كانت ليلةً عنيفةً جداً تلقّت فيها بغداد وحدها ألف صاروخ، نعم..و ليس هذا كلامي بل كلام القادة الأمريكان. صرح البريكادير جنرال "فنسنت بروكس" من قاعدة السيلية في الدولة العربية المسلمة الشقيقة قَطَر يوم السبت بالتالي "لقد قمنا بقصف مواقع حيوية في بغداد الليلة الماضية بألف صاروخ مختلفة الأحجام أغلبها من صواريخ كروز".
كانت ليلةً عصيبةً حقاً..
كانت قاصفات بي 52 تدور و تدور..كم هي مخيفةٌ..كانت إذا ما طارت فوقنا تبدأ الأرض تحتنا بالإهتزاز. ثم لا نفتأ نسمع صوت القنابل تتداعى على صدر بغداد الحبيبة فتقتل من تقتل و تدفن من تدفن و تُيتّم من تيتّم دون أن نقوى على منعها من أفعالها الشنيعة.
كانت الهواتف لا تزال تعمل حتى مساء الجمعة في بغداد و حتى بين بغداد و المحافظات و لكن ليلاً كان جزءٌ مما قُصف البدّالتان الرئيسيتان اللتان تربطان إتصالات الكرخ بالرصافة و بالمحافظات.
إتصلت بمن استطعت أن اتصل به من أقاربي و أصدقائي لأرى من منهم حيّ و من منهم أخذته الصواريخ الألف.
كانت الأخبار من راديو البي بي سي البريطاني و راديو مونتي كارلو الفرنسي تقول أن القوات البريطانية و الأمريكية قد سحقت المقاومة في أم قصر و هم الآن على حدود البصرة..!!
و الأخبار العراقية تقول أن المقاومة لا تزال عنيفة جداً في أم قصر. بكُل عنفوان و عنجهية كنا نرفض أن نصدق الأخبار الخارجية و نصدق و بكل حسن نية الأخبار العراقية، والتي تبين فيما بعد صدقها برغم ما تقوله السي إن إن و الفوكس نيوز. و في الحلقات القادمة سأروي لكم بعض القصص الفكاهية عن الإعلام الأجنبي خلال الحرب.

أم قصر..ذلك الميناء الضيق على الخليج..كانت صغيرةً جداً قبل الحرب..ولكن بعد هذا الصمود و القتال فقد صارت كبيرةً جداً..كبيرةً في قلوبنا جميعاً و كبيرةً في حلوق الأمريكان و البريطانيين و من صاحبهم. قنّاصٌ عراقيٌّ بطل..قتلَ من البريطانيين الكثير..كلما إقترب أحد منهم أخذ نصيبه من الإطلاقات في رأسه النتن. جاء أمرٌ ميدانيٌّ بالتراجع من مجموعة بنايات مواجهة لميناء أبو فلوس على الخليج و تراجع الجميع إلى البنايات التالية..إلا هذا البطل..يا ليتني أعلم إسمه. لم يستطع الجبناء مواجهته كالرجال..فأوعزوا إلى طائرةٍ أمطرتْ هذه البنايات بوابلٍ من القنابل ليقتلوا هذا البطل الوحيد عسى أن يقبله الله بين الشهداء.
شهدت أم قصر..تلك الصغيرة الكبيرة قصصاً للبطولة و الفداء لم تشهدها المدن الكبيرة.
إنّه من الجنون أن يتخيل الأمريكان و من سيجاورهم في جهنّم بإذن الله أنهم سيُستقبلون في العراق بالورد و أغصان الزيتون. ذلك ما زيّنه لهم العملاء و الخونة ممن كانوا يسمون أنفسهم بالمعارضة العراقية. هؤلاء القذرون ممن كان ينعم بحضن أمريكا و لندن بالرواتب من السي آي أي و الإم آي 5. مجموعةٌ من الحُثالة التي تنوء الأرض بحملها و سخّروا الشيطان الأمريكي لخدمتهم مقابل أن يبيعوه حياتهم. ذلك صنو من لا يجد له مكاناً فوق الأرض لأنه ببساطة لا يساوي غير محتويات المجاري التي يعيش فيها.

maher 16-02-2006 02:37 PM

كتبت فأغصصت فأدمعت فأبكيت و أصبت في مقتل أخي محمد

واصل رعاك الله و حفظك و أجارك من بطش الغادرين


اللهم إغفر لكل قتلانا المؤمنين الموحدين في عراقنا و إبعثهم شهداء سعداء عندك
اللهم و إنصر من يقاتل المحتل إبتغاء وجهك الكريم و سدد اللهم رميه
اللهم لا إله إلا أنت أجر إخواننا في العراق من القوم الظالمين


اللهم إحفظ أخي محمد و أدمه بخير حال
اللهم متعنا به
اللهم متعنا به
اللهم متعنا به

محمد العاني 16-02-2006 08:48 PM

شكراً لمرورك أخي الحبيب ماهر..
إنما لا زلنا في البدء فاختزل دموعك..


أخوك
محمد

محمد العاني 18-02-2006 11:19 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
صدق الله العظيم

من الآية (2) من سورة الحج

ريح عاصفةٌ و تُرابٌ شديد ساد الأجواء بعد عدة أيام من بدء الحرب حتى ان مدى الرؤيا أصبح 3 إلى 4 أمتار فقط. مما زاد من الروح المعنوية للعراقيين و أخذنا نتذكر كيف أن الله سُبحانهُ و تعالى نصر المسلمين على الكفّار في أكثر من موقف و أكثر من معركة و إن كان المسلمون أقل عدداً و عدّة.
في خضمّ هذه الأيام العصيبة، إلتفت قوات الأمريكان و البريطانيين حول أم قصر ليستطيعوا الوصول إلى البصرة. و كان خط الإمداد الآخر يمتد برّياً من الكويت إلى مدينة البصرة. و بدء الأعداء بحصار مدينة البصرة. و كان التكنيك العراقي في المعركة يعتمد على وضع القوات على أطراف المدن لأن حماية المساحات الواسعة غير المأهولة عملية صعبة و غير مجدية تترك القوات العراقية بدون غطاء جوي أمام الطائرات و القاصفات الأمريكية. و في هذه الأثناء كان القصف الأمريكي متواصلاً على بغداد و غيرها من المحافظات و خصوصاً البصرة. حيث أن هنالك مقولة مضحكة مبكية يقولها أهل البصرة لكثرة ما تعرّضت البصرة للحروب و القصف، يقولون أنه "لو تحدث حرب في بحر البلطيق فإن البصرة تُقصف".

دارت معارك طاحنة قرب مدينة الناصرية وسط العواصف و التراب. و كان على ما أذكر الفيلق الرابع من القوات العراقية متمركزاً هناك لحماية الناصرية. و روى لنا أحدى الأصدقاء قصصاً كثيرةً عن أخيه الذي كان أحد الأطباء المرافقين للفيلق الرابع في الناصرية. روى قصصاً عن جنودٍ أمريكان يُصابون بالهلع لأنهم فجأةً يرون رؤوس أصحابهم تتدحرج بالقرب منهم بعد أن قُطعت على يد "فدائيو صدام". و المُتفجرات التي تُزرع قرب مهاجع الأعداء دون أن يرَو من زرعها بسبب إنعدام مدى الرؤيا.
و غير ذلك كان استبسال القوات العراقية في منع القوات المعتدية من دخول المدينة. و يُروى أن تقريباً كل الفيلق الرابع قد استُشهد أو على الأقل جُرح في المعركة هذه. رحمة الله على الشهداء الذين استبسلوا في الدفاع عن أعراض المسلمين.

و بالتأكيد كانت المعارك مستمرةً في البصرة أيضاً ولكن بحدّةٍ أقل. ذلك أن البصرة مدينة كبيرة مقارنة بالناصرية. و إحتلالها سيتطلب بقاء عدد كبير من القوات فيها و معارك كثيرة لإحتلال المدينة بالكامل. لذلك إكتفى الأمريكان و البريطانيون بحصار البصرة و الإستمرار بقصفها لإضعاف إمكانية القوات العراقية المتمركزة هناك على الكرّ و الفرّ كما كانوا يفعلون.

و في هذا الوقت كانت بغداد تتعرض للقصف العنيف. و قرر والدي العزيز -حفظه الله لنا- أن نجتمع كلنا ليلاً في غرفتي لأنها كانت تقبع في زاوية المنزل البعيدة عن الشارع الرئيسي و أقلها إمتلاكاً للنوافذ. فأخذنا نفترش الأرض للنوم ليلاً جميعاً في غرفتي.
و سأروي لكم الإجرائات الإحترازية التي قمنا بها لتقليل أثر القصف. قمنا بلصق زجاج النوافذ بشكل حرف x لغرض تقليل آثار تكسّر النوافذ إذا ما قرر احد الصواريخ الأمريكية الذكية جداً الهبوط بالقرب من دارنا. و بالرغم من الريح و التراب الذي أخبرتكم عنه كنا نضطر لفتح الأبواب و النوافذ لتقليل أثر العصف الناتج من الإنفجار عليها. و إمعاناً في الإستعدادات في غرفتي قمنا بتثبيت الستائر بالمسامير على الحائط حتى إذا ما صار انفجار قريبٌ و تكسر زجاج النوافذ لا نُصاب بالشظايا أو على الأقل نقلل من الإصابات. و لم تزل آثار المسامير هذه في الستائر و في الحائط و في قلبي..
كنّا جميعاً نعلم أنّ "ما أخطأك لم يكُن ليُصيبك و ما أصابك لم يكُن ليُخطئك". ولكنك لا تستطيع أن تُقنع طفلاً صغيراً بأن لا يخاف من الإنفجار و أنه إذا ما مات فسوف يذهب إلى الجنّة..!!!

هذه كانت حياة الليل في بغداد..القصف و الإنفجارات و الدماء..و .. المزيد من الدماء..

فلأحدثكم عن حياة النهار قليلاً..
صدر أمرٌ من القصر الجمهوري (من ديوان الرئاسة) بأن تظلّ المخابز مفتوحةً ولا تُقفل. و كذلك محطات الوقود. كان الناس يخرجون للتسوق و شراء ما يحتاجون وبالتأكيد كانت الأسعار تزيد كل يوم. و من أدلة كلامي عدد المدنيين الذين قُتلوا (رحمة الله عليهم أجمعين) في منطقة "الشعب" في بغداد عندما إهتدى أحد الصواريخ الأمريكية الذكية (كرئيس أمريكا) إلى سوقٍ شعبيّةٍ فقتل منها ما يزيد على المئة شخصٍ حسب روايات الشهود. و غيرها الكثير من حوادث القصف "الذكي" جداً للمدنيين في وضح النهار.
في الأيام الأولى من الحرب، كانت صافرة الإنذار تنذر الناس ببدء الغارات نهاراً ليعودوا إلى بيوتهم ثم تعود لتعلن نهاية الغارة لتكمل الناس أعمالها. و بعد عدة أيام كانت صافرة الإنذار تعلن بداية الغارات و لا تعلن نهايتها، ثم تطوّر الوضع جداً فلم نعُد نسمع صوت صافرة الإنذار إطلاقاً..!!

كانت جدتي -أطال الله عمرها بخير- ترفض أن يخرج أيٌّ منا ليأتي بالخبز من المخبز..و ذلك لم يكُن خوفاً علينا فحسب، بل كانت تبرره بعصبية "لا زلت أستطيع المشي، عندما لا أتمكن من المشي يوماً إذهبوا أنتم إلى المخبز". و كم من مرةٍ تخرج فيها جدتي الحبيبة إلى المخبز ثم يبدأ القصف بعد ذلك فنخرج جميعاً باحثين عنها. و لطالما وجدناها تتسامر مع إحدى الجارات عن غلاء الأسعار يوماً بعد يوم.
نعم..
فقد تعود العراقيون على الحرب..حتى أصبحوا لا يُبالون بالقصف الأمريكي..!!!

الصمصام 18-02-2006 08:25 PM

كم نحن بحاجة لمثل هذه القصص النازفة من بين ثنايا الحرب
من من عايشوها حقيقة لا سماعا كي ندرك بعض الهول الذي كانوا فيه
ولن نصل أبدا إلى عمق آلامهم مهما سكبنا من الدموع وتأثرنا
فليس من رأى كمن سمع

إيه يامحمد
إنزف علنا نصحو
إنزف وحرك القلوب الميتة

إنزف ليعلم الناس أن من بكى ليس مثل من تباكى

محمد العاني 19-02-2006 09:29 AM

إذا اشتبهت دموعٌ في عيونٍ...تبيّن من بكى ممن تباكى..

بوركت على هذا المرور العاطر أخي الصمصام..

محمد العاني 19-02-2006 12:04 PM

الشمس شمسي و العراقُ عراقي
ما غيّر الدُخلاءُ من أخلاقي


ثوانٍ معدودةٌ فصلت بيني و بين الموت..
كنتُ واقفاً في حديقةَ المنزل في إحدى الصباحات المتفجرة للحرب..و هممتُ بالدخول إلى المنزل و تحركت فإذا بي أسمع صوتَ سقوط شظيّةٍ لا تزال ملتهبةً من بُقيا صاروخ مضاد للطائرات من عيار 57 ملم الذي صُنّع للحرب العالمية الثانية و العراقيون يُقاومون به الطائرات الشبح و الإف-18 هورنيت و الإف-14 تومكات. مشهورةُ بصوتها الرخيم عند الإطلاق، كُنّا دائماً ما نجد شظاياها في باحة المنزل أو في الحديقة أو حتى على سطح المنزل. ذلك أن أحد المدافع التي كانت تُطلقها كانت تقبع ليس ببعيدةٍ عن منزلنا. و في ليلةٍ نوّرها الأمريكان بالقصف المتواصل إستمر هذا المدفع بإطلاق الصواريخ لفترةٍ طويلةٍ لأن الطائرات كانت تحوم فوق المنطقة أعتقد لضرب أحد القصور الرئاسية القريبة من المطار. و بعد فترةٍ من الإطلاق المتواصل..سمعنا صوت صاروخ قريبٍ جداً تلاهُ صوت انفجارٍ قريبٍ هزّ المنزل..و لم نسمع بعدها صوت الصواريخ المضادة للطائرات، فأدركنا أن البطل رحمة الله عليه قد استُشهد و موقع المدفع قد دُمِّر.
في كل مناطق بغداد، كان حزب البعث قد حفر الخنادق و وزّع البدلات العسكرية و الأسلحة الخفيفة على أعضاء الحزب و على أي شخص كان يرغب بحمل السلاح لمحاربة الأمريكان. فللحصول على سلاح خلال الحرب لم يكُن عليك سوى التوجه إلى أقرب منظّمة حزبية أو مقر لحزب البعث للحصول على رشّاش كلاشينكوف (أي كَي 47) و علبة رصاص للسلاح. و كان أعضاء الحزب يقبعون في الخنادق 24 ساعةً في اليوم في أول أيام الحرب. و كان أهل المنطقة يزودوهم بالطعام الحار في وقته و الماء و كل ما يحتاجون.

"القوات الأمريكية تحاصر مدينة النجف و تتوجه إلى كربلاء" هذا ما كان يُذاع في الأخبار. و من طرائف الأخبار التي لن أنساها ما حييت، هو الخبر بخصوص وصول القوات الأمريكية إلى كربلاء.
جاء الخبر أول ما جاء ( و قد كان الخبر كاذباً في حينه) أن "القوات الأمريكية تحكم الطوق على كربلاء الواقعة 75 كم جنوب بغداد". و بعد ما يقارب ستة ساعات أذيع الخبر "القوات الأمريكية تحاصر كربلاء الواقعة 60 كم جنوب بغداد". و أخيراً أذيع الخبر بعد عدة ساعات "القوات الأمريكية تحاصر كربلاء الواقعة 35 كم جنوب بغداد". ما أجمل هذه النكتة، فالظاهر أن كربلاء بدأت تزحف باتجاه بغداد..و بسرعةٍ كبيرةٍ أيضاً..!!!
كانت الأخبار التي تذيعها الإذاعات و القنوات الغربية أبعد ما تكون عن الصحة. و بالرغم من كثرة الحديث عن محمد سعيد الصحاف و عن كذبه و صدقه، فإن الأخبار التي كان يحملها كانت أقرب ما يُذاع إلى الحقيقة. كانت أخباره تحيد عن الحقيقة أحياناً لأنه لم يُبلغ بصورةٍ صحيحةٍ عما يحدث ولكنه كان الأقرب إلى الحقيقة من كل أبواق الإعلام الغربي.

في خضم تقدم القوات الأمريكية بإتجاه بغداد من الشمال و الجنوب..كانت هنالك بطلةٌ على موعدٍ مع الشهادة إن شاء الله. تلك بطلةٌ فجّرت نفسها في نقطة تفتيش أقامها الأمريكان بين بغداد و كربلاء قبل إحتلال بغداد. كانت -رحمة الله عليها- حاملاً. و آثرت الجهاد في سبيل الله على الحياة الدنيا.
كان العراق يهدد و يتوعد بحربٍ غير تقليدية. تلكم الكلمة التي تشدّق بها بوش محاولاً إفهام العالم أن العراق يملك أسلحة دمار شامل. إستخدم الجيش العراقي و قوات الحرس الجمهوري و الحرس الخاص كل الأساليب الممكنة لمواجهة الأمريكان..و سنأتي إن شاء الله بحلقةٍ عن معركة المطار و ما حدث فيها. إستخدم العراقيون حتى سيّارات الإسعاف لنقل القوات و مواجهة الأمريكان. لذلك أصبح الأمريكان يخافون من ظلالهم.

كانت بغداد تتحول شيئاً فشيئاً إلى مدينة أشباح..الكثير الكثير من سكان بغداد غادرها. بعضهم غادر قبل الحرب إلى سوريا أو الأردن. و البعض الآخر غادر قبل الحرب و أثنائها إلى بعض محافظات العراق الأقل عرضةً للخطر مثل محافظة الأنبار في وقتها و الموصل أو حتى الحلّة أو النجف و كربلاء و الكوفة. من كان له أهلٌ في محافظةٍ أخرى ذهب إليهم. و أكثر سكان المنطقة التي نسكنها ذهب إلى الأنبار إلى المدن البعيدة عن الحرب في وقتها مثل الفلوجة و البغدادي و آلوس و عانه و حديثة و عامرية الفلوجة.
رفض أبي أن يُغادر البيت إلى الأنبار. و قال:"إن شئتم فاذهبوا جميعاً و اتركوني". و لكننا لم نكن نقبل بكل حال من الأحوال أن نفترق. فإن كان الله سبحانه و تعالى قد كتب لنا الموت فسوف يُدركنا أينما نكون.
كنت أفقد أعصابي شيئاً فشيئاً. و كانت تمر عليّ أوقاتٌ لا أحتمل فيها الإستمرار بالعيش بهذه الطريقة. قتل و دماءٌ و إنفجارات. و لكني كنت أعود إلى رَشَدي و أقول "قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

كان الحزن يُقطّعني كلما رأيت بنايةً او مكاناً دُمّر بالقصف. لطالما أحسست أن بغداد جزءٌ من روحي. فإينما كان يحل القصف كانت الصواريخ تسقط على روحي..و ليس لي أن أمنع نفسي من البكاء على نفسي...

*سهيل*اليماني* 19-02-2006 03:51 PM

كان الحزن يُقطّعني كلما رأيت بنايةً او مكاناً دُمّر بالقصف. لطالما أحسست أن بغداد جزءٌ من روحي. فإينما كان يحل القصف كانت الصواريخ تسقط على روحي..و ليس لي أن أمنع نفسي من البكاء على نفسي...

بغداد جزء كالدم يجري بكل مجريات اجسادنا .. فلا تظن اننا اخي لم نابه ببغدادنا .. فوالله اننا بالاحساس فقنا من عاش فيها ولم يألم بجراحها ..
دلِلّول .. يا الوَلَد يابني .. دلِلّول ...
تَمَنّيتُ أنْ أُغَنيَها لَهُ وهوَ حي... و لكِنْ بَعدَ أنْ قَتَلَهُ الحِصارُ ... لَمْ يَبقَ لي إلا أنْ أُغَنيَها لَهُ و هوَ مَيّتْ ... لم تفارق خيالنا ايها العاني .. ولن تفارقه ابدا ؟؟

حسبنا الله ونعم الوكيل ..

محمد العاني 19-02-2006 10:11 PM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة *سهيل*اليماني*
بغداد جزء كالدم يجري بكل مجريات اجسادنا .. فلا تظن اننا اخي لم نابه ببغدادنا .. فوالله اننا بالاحساس فقنا من عاش فيها ولم يألم بجراحها ..

لا أظنّ هذا أبداً أخي..
فبغداد لم تكُن يوماً بغداد العراقيين فقط..بل هي بغداد الإسلام و العروبة .. و ستبقى دوماً هكذا..
و لعنةُ الله على الظالمين..

و شكراً لك على مرورك أخي الحبيب..



أخوك
محمد

محمد العاني 20-02-2006 11:12 AM

الخونة
 
بِسم اللهِ الرحمنِ الرحيم
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
صدق الله العظيم

من سورة الحج، الآية 38


إن الله لا يحب كل خوّانٍ كفور..
فلنتحدّث اليوم عن الخونة..ولا أقصد بذلك ما ذهب إليه الجميع من خيانات في القيادة العسكرية. لأن ذلك سنتحدث عنه في حلقة يوم إحتلال بغداد.
الكثير منكم سمع عن أجهزة الهاتف التي تعمل على الأقمار الإصطناعية و لها الكثير من الأنواع أشهرها (الثريا). ذلك الهاتف الذي يعمل على القمر الإصطناعي و فيه خدمة تحديد المكان (جي بي إس). كان عنصراً فعالاً في المعركة أيضاً. فقد إستخدمه الأمريكان على يد مجموعة من الخونة أقل ما يقال عنهم أنهم فئران.
في أكثر من حادث، كان الأحداث تسير بالتسلسل التالي: يقوم أحد الخونة بالمشي بشكل طبيعي قرب الهدف. ثم يقوم بالضغط على زر تحديد الموقع الـ(جي بي إس GPS) و يبقى واقفاً في المكان لوقت قصير ليتم تحديد الموقع. ثم يقوم بالإبتعاد عن الموقع بشكل طبيعي إلى مكان قريبٍ يستطيع فيه الإتصال بدون أن يراه أحد. ثم يتصل بالرقم المُعطى له في أي مكان بالعالم (و الذين قُبض عليهم وجدت بحوزتهم أرقام هاتف كويتية كانو يتصلون بها) ليعطي الإحداثيات.
بالتأكيد هذا التكنيك لم يكُن هو كل ما يلجأ له الأمريكان لأنهم يستطيعون رؤية الأهداف من صور الأقمار الإصطناعية و لكنه كان عنصراً مهماً لإثبات أن صواريخهم "الذكية" تضرب أهدافها فقط.
و من المهمات الأخرى التي أُنيطت بالخونة هي التأكد من دمار الأهداف بعد قصفها و التوجيه بقصفها مرة ثانية إذا لم تُدمّر بالكامل.
قُبض على الكثير من الخونة أثناء الحرب، أكثرهم أُعدم مباشرةً و القليل منهم نفذ بجلده لأنه لم يُعدم قبل إحتلال بغداد. و سأروي لكم إحدى أهم قصص الخيانة كما سمعتها من أحد كبار ضباط جهاز الأمن العراقي السابق.
سنبدأ القصة من قبل الحرب لنعرف عمّن نتحدث. نتحدث عن التكية الكسنزانية التي تقبع غرب بغداد بين حيّ الجامعة و حيّ السفارات. تلك التكية ذات ليالي الدَروَشة و ما إلى ذلك من ما لا أؤمن به شخصياً. و يُذكر أن من أهم رواد هذه التكية كان نائب الرئيس المدعو عزّت إبراهيم الدوري...!!
نعم..كان نائب الرئيس عندما يدخل على شيخ التكية يدخل زاحفاً على ركبتيه محني الرأس يُقبّل يد الشيخ بكل تواضع. لا حول ولا قوة إلا بالله. و أما إذا أراد أحد المساس بهذه التكية أو التقرب منها. فمجرد إتصال هاتفي صغير إلى مكتب السيد النائب سوف تقلب الدنيا عاليها سافلها. هو نفسه عزّت الدوري الذي الآن يُلقّبه البعض بالبطل المجاهد و يدّعون أنه يقود مجموعات المقاومة التابعة لحزب البعث. ألا بئس المقاومة إن كان هذا قائدها.
في أحد أيام الحرب، كانت إحدى الوحدات الفنية من جهاز المخابرات تلتقط إشارات لاسلكية مشابهة لأتصالات الأقمار الصناعية من المنطقة التي توجد بها التكية. و بسبب العلاقة الطيبة بين طاهر جليل الحبوش التكريتي رئيس جهاز المخابرات في وقتها و السيد النائب تُركَ هذا الموضوع إلى جهاز الأمن لأنه يُعتبر شأن أمن داخلي و هو ليس من إختصاص جهاز المخابرات.
في هجومٍ كبير على التكية، طوّقت قوات الأمن التكية و إعتقلت كل من هو موجود بها و من ضمنهم "نهرو" إبن شيخ التكية الذي هددهم بالإتصال بالسيد النائب. و أما ما وجد في التكية فكان مجموعة كبيرة جداً من هواتف الأقمار الإصطناعية تقارب المئة. و خريطة بغداد مخبّأة و مؤشر عليها بالدبابيس الملونة كل الأماكن التي قُصفت..!!!
و ما هو مُحزنٌ فعلاً أنّ هذا الـ"نهرو" لم يُقتَل قبل إحتلال بغداد. بل تم الحفاظ عليه للنظر في قضيته لاحقاً بسبب قربه من السيد النائب و خوف مدير جهاز الأمن في وقته من أن يصنع قتله مشكلةً مع السيد النائب إذ أقل ما يُمكن أن تفعله هذه المشكلة أن يُطرد مدير الأمن من كرسيّه العزيز إن لم يُسجن. و إمعاناً في الخلل..فقد صار "نهرو" الآن مناضلاً و شارك كمرشّح في الإنتخابات الأخيرة..!!!
لكنّ ذلك ليس بغريب..فأغلب من عاش خارج العراق بإسم المعارضة العراقية خان العراق و أخذ رواتب من CIA. كل هؤلاء خونة. كل من رضي بالمحتل. كل من خرج ليرمي الورد على دبابات داست أوّل ما داست كرامتنا قبل أن تدوس أطفالنا و عراقنا...

على رسلك 20-02-2006 12:43 PM

أخي العاني ..

والله عندما أقرأ ما كتبت أقول أين نحن من كل ما يحدث لكم.

ما هذا السبات الذي طال حتى عواطفنا ومشاعرنا .جزاك الله خير

فلعل ما تكتب يعيد الاحساس إلينا ولو للحظات .نحن معك ......

محمد العاني 20-02-2006 01:10 PM

شكراً على مرورك أختي العزيزة على رسلك..
و مُتابعتكِ لموضوعي هذا دليلٌ على شعوركم بما نمرُّ به أختي..

محمد العاني 22-02-2006 10:38 AM

أول ليالي المطار
 
أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ . . . بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً . . . وليس كآخَرَ يَسترحِم
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع . . . أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين . . . أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا


الخميس 3-4-2003 يومٌ لن أنساهُ ما حييت. كنت جالساً في حديقة المنزل أستمتع بالهواء الطلق و أصوات القصف المتواصل منذ الصباح. و فجاْةً تحول صوت القصف إلى صوت إطلاقاتٍ نارية من أسلحةٍ رشاشة..!!!!
هل تعلمون ماذا يعني ذلك؟؟ يعني أننا صرنا في ساحة المعركة. خرجتُ من البيت إلى الشارع الرئيسي و رأيتُ منظراً لن أنساه ما حييت..
رجالٌ و نساءٌ يركضون بملابس البيت يحملون أطفالهم و يركضون في الشارع الرئيسي المؤدي إلى "أبو غريب" مبتعدين عن "أبو غريب". كانوا يركضون حفاةً و يصرخون "لقد أتو..لقد أتو". كان هنالك بعض الجنود هم من حزب البعث و كانوا يرتدون البدلات العسكرية يركضون هاربين أيضاً يخلعون الملابس العسكرية في الشارع و يرمون أسلحتهم ورائهم في الخنادق..!!!
و المشهد الأكثر بشاعةً كان سيّارتان نوع "بيك أب" تحمل جثثاً لجنودٍ من الحرس الخاص الذين نمّيزهم من المثلث الأحمر على أكتاف بدلاتهم..كانت السيارتان ملئى بالجثث و متوقفتان أمام شارع بيتنا. كانت هاتان السيارتان متوقفتين بانتظار سيارات الإسعاف التي كانت تأتي ليرموا فيها عدداً من الجثث و تذهب..
كان المنظر بشعاً لدرجةٍ منعتني من التفكير..ظللت واقفاً في الشارع لا أعلم ما أفعل..
هل أذهب لأساعدهم؟؟ هل أعود للبيت و أخبر أهلي؟؟ هل أهرب مع الهاربين؟؟
لن أنسى وجوه الناس و الأطفال وهم يبكون كأنّ جهنّم تركض ورائهم..
بعد عدّة ثوانٍ بدت كأنها الدهر كله عدت إلى البيت راكضاً و أخبرت أبي بما رأيت و تجمّد الدم في عروقي و بدأت بفقدان أعصابي لشدّة خوفي على والدتي حبيبة (حفظها الله لنا) و أخي الصغير. توسّلتُ بأبي أن نرحل عن بغداد..ولا أعلم إلى أين ولكن المهم أن نرحل..لكن أبي رفض أن يرحل هو و قال "إن شتم إرحلوا أنتم". و حتى إن قررنا الرحيل فالطريق إلى الجهة الغربية أي محافظة الأنبار هو نفس الطريق الذي حدث فيه الإنزال قبل قليل..!!!
المعركة لا تزال متواصلةً في الخارج و لم نزل لا نعلم ما نفعل في الداخل. أخيراً قررنا البقاء في البيت و ما يحدث فليحدثْ فإننا لن نُغيّر ما كتب الله. إستمرت القتال الليل كلّه و لم يتوقف حتى ساعات الصباح الأولى من يوم الجمعة.
إتصلنا بخالي الذي يسكن في نهاية شارعنا في منتصف الليل و لم نجد أحداً..كان خالي قد أخذ زوجته و طفلتيه إذ كانت إحداهما رضيعةً و حاول الخروج من بغداد ولكنه لم يستطع.
لم تزل أصوات المدافع الرشاشة في دبابات البردالي ترنّ في رأسي و كنت أتخيل أن مع كل ضربةٍ تضربها شخصٌ يموت..!!!
عند فجر يوم الجمعة أصبت بالإرهاق الشديد و نمت لفترةٍ قليلةٍ و صحوت صارخاً من كابوسٍ كان يُلازمني طول فترة الحرب و هو أن صاروخاً سيضرب بيتنا و سأكون أنا الناجي الوحيد. كان كابوساً مرعباً حقاً. فلم يكُن لدي مانعٌ من الموت..و لكن أن أكون الناجي الوحيد..كان هذا كابوساً فعلاً.
ساد بعض الهدوء صباح يوم الجمعة بعد ليلةٍ عاصفةٍ بالقنابل و الطلقات. خرجتُ مع أخي الصغير إلى بيت أحد أقاربنا في آخر الشارع لنرى إن كانوا لا يزالون أحياءاً أم لا لأنهم لم يُجيبوا الهاتف.
كانت الخنادق الملئى بالحزبيين فارغةً...!!!
أين ذهب المقاتلون؟؟
رأيت المنظمة الحزبية التي سمّي عليها شارعنا في العامرية فارغةً و بابُها مُقفل. كل البيوت و المحال مُقفلة. لقد جدّ الجدّ و صارت الحرب حقيقةً نراها لا نسمع بها فقط. شاهدتُ قَطَعات الحرس الجمهوري المدرعة و جنود الحرس الجمهوري بين البيوت و في كل الشوارع الفرعية.
كل هذا الذي حدث كان أن القوات الأمريكية قامت بإنزال كبير على مطار بغداد و طريق "أبو غريب" و القوات العراقية لا تزال في مواجهات متواصلة معها. كانت الأحداث تتفاقم بسرعة. و كان التصور السائد أن الأمريكان ليحتلوا بغداد فسوف يمحوها جزءاً جزءاً لأن الجيش العراقي لن يستسلم بسهولة. كانت الطائرات الأمريكية من نوع أيه-10 (A-10) تحوم بين الفينة و الأخرى و تقصف الدروع العراقية لأنها طائرة مضادة للدروع. و أسقطت الدفاعات العراقية بعضاً منها لأنها تطير بارتفاعات منخفضة.
فجأةً بعد عدةِ ساعاتٍ من الهدوء عادت المعركة لتتفجّر بعنفٍ و يُصاحبها صوت المدفعية الثقيلة التي لا تستخدم إلا في ساحة المعركة و عاد صوت مدافع "البيكيتا" الرشاشة إلى قتل العراقيين.
كان أحد أصحابي جندياً في معارك بغداد يصف لي كم كان مدفع البيكيتا عنيفاً بوصفٍ غريب. قال لي:"تخيّل أنك ملئت برميلاً بالحصى الصغير جداً. ثم قلبت البرميل على الأرض. هكذا هي سرعة البيكيتا في أخذ الأرواح". رواها لي بعد أن قُتل كل من كان مشاركاً معه في إحدى معارك بغداد.
عُدتُ إلى البيت أكثر رُعباً مما كنت لأنني أدركتُ بما لا يقبل الشك أن هذه الليلة ستكون حافلة..و ربما تكون الأخيرة..!!!

محمد العاني 16-03-2006 01:00 PM

عذرأ أخواتي و أخوتي على هذا الإنقطاع..
إنما تحتم علينا الظروف ما لا نريد..
سأعود لأكمال القصص بإذن الله قريباً..



أخوكم
محمد

أسعد المصري 19-03-2006 08:49 AM

دوماً نحن بانتظارك ..

لنذرف معك تلك الذاكرة المالحة ..


تحياتي لوجعك الذي ينبض في صدورنا .

محمد العاني 20-03-2006 10:15 AM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة أسعد المصري
دوماً نحن بانتظارك ..

لنذرف معك تلك الذاكرة المالحة ..


تحياتي لوجعك الذي ينبض في صدورنا .

أخي العزيز أسعد..
شكراً لكلماتك التي تعتصر ألماً..

محمد العاني 20-03-2006 11:25 AM

لاحت رؤوس الحرابِ..تلمع فوق الروابي
هيّا لحفظ المبادي..هيّا فتوّة للجهادِ..
هيّا .. هيّا .. هيّا..
هيّا فتوة للجهاد


هذه الأنشودة الحماسية كانت الإشارة التي تبث في الإذاعة إلى فدائيي صدام للتجمع في مواقعهم. بالرغم من إرتباطها بالذكريات الأليمة سواءٌ في حرب عام 1991 أو في هذه الحرب، لكنني كنت و ما زلت أحب هذه الأنشودة..
سأروي لكم الآن معركة المطار كما رواها لنا أحد أفراد حماية صدام حسين..و العهدة على الراوي..
إقتباس:

في منتصف ليلة السبت 5-4-2003 كان هنالك اجتماع لصدام حسين بمن تبقّى من قادة الحرس الجمهوري الخاص في جامع أم الطبول (حالياً ابن تيمية) في منطقة اليرموك في بغداد و الواقع على نهاية طريق المطار و بداية طريق القادسية السريع المؤدي إلى القصور الرئاسية.و صار القرار أن يكون الزحف باتجاه المطار صباح السبت و بمساندة عدد قليل من فدائيي صدام. إلا أن فدائيو صدام رفضوا أن يشارك بعضهم فقط في المعركة و أبَوا إلا أن يشتركوا جميعاً. فكان القرار بذلك.
و توجّه الحرس الخاص و الفدائيون بالباصاتٍ لنقل المشاة لأنه لم يتبقّ لدى الجيش العراقي العدد الكافي من ناقلات الجنود لنقل كل جنوده . و كذلك للتمويه عن الجنود.
و عندما اقتربت القوات العراقية و بدأت المواجهة. كان الجنود العراقيون يُدركون أنهم ذاهبون إلى حتفهم و حاول سوّاق الباص برفع معنوياتهم بتشغيل أغنيةٍ وطنية لهم هي:
لا..لا..لا..
لا والله يا صدام..
نوكع زلم فوق الزلم..
و لا ما نطخ الراس..
هاذي الكاع ما تنداس..
و بدأت الإشتباك بين قوات الحرس الخاص و الأمريكان و بدأ الفدائيون بالإشتباك أيضاً مع قوات العدو بشكل غير مسبوق..فقد كان الفدائي يركض و سط الرصاص في الأرض الحرام باتجاه العدو حاملاً سيفاً و مجموعة صغيرة من القنابل اليدوية..و يعود بعد عدة دقائق إلى جهة القوات العراقية حاملاً رؤوس عدة أمريكان..!!!!
أخذت الحرس الخاص الحميّة و الغيرة فقرروا الدخول بقوةٍ..و استمرت المواجهات لعدة ساعات تراجع فيها الأمريكان بسبب شدة الهجمة العراقية و استمرار القصف المدفعي العراقي على القوات الأمريكية.
كان جزء من القوات العراقية قبل الإنزال الأمريكي قريباً من الحدود الخارجية للمطار كجزء من خطة تطويق بغداد لمنع إختراقها. شاركت هذه القوات أيضاً في إحكام الطوق على الأمريكان.
و بعد تكبّدهم خسائر كبيرة..قام الأمريكان باستدعاء الطائرات المروحية "Chenoke" لتأخذهم إلى خارج المطار..و من لم يستعجل في الهروب من الأمريكان كان نصيبه قطع الرأس على يد فدائيي صدام..!!
و عند منتصف اليوم شاهدت بأم عيني سيّاراتٍ للشرطة العراقية تدور في الشوارع و فيها فدائيو صدام يحملون حرباتٍ معلّقٌ بأعلاها رؤوسٌ الجنود الأمريكان..!!!
كانت سيارات الشرطة تعزف إحدى الإغاني الوطنية التي حُفرت فينا منذ الصغر بصوتٍ عالٍ جداً..
"و تظلي دايماً فوق..منصورة يا بغداد..
و نشوفك بعز دوم..منصورة يا بغداد.."

يا إلهي..
إننا نسحقهم..

ثم جاءت شاحنةٌ كبيرةُ محملة بالأسرى من الامريكان..!!!
دارت هذه الشاحنة بصحبة سيّارات الفدائيين في المناطق الغربية من بغداد و توقّفت عند جامع "المُلا حويش" في حي الجامعة و أخذ الناس يرمون الأسرى بالحجارة..
يا الله..
يا الله..
النصر مُمكن؟؟

و في هذه الأيام..و في مكانٍ آخر من العراق..في الجنوب..
كانت قيادة عمليات الجيش سُلّمت إلى شخصٍ لا علاقة له بالحرب و لا بالجيش..قصي صدام حسين.
كان قصي صدام حسين قبل الحرب مديراً لجهاز الأمن الخاص. الذي يُعني بالأمور الأمنية ذات الأهمية العالية. و لم يكُن قصي كثير الظهور مثل أخيه الأكبر عدي الذي كان يظهر كل يوم على شاشات "تلفزيون الشباب" الذي كان هو مالكه.
كان قصي أبعد ما يكون عن الحرب و قيادة الجيش. و كان الجيش العراقي يحارب هذه الحرب من دون غطاءٍ جوي و بتفوق جوي ملحوظ للأمريكان. و كل ما كان يفعله قصي هو إرسال الجيش ذهاباً و جيئةً بين محافظات الجنوب..و بين محافظات الجنوب و بغداد..مما كان يسبب بخسائر كبيرة جداً في الجيش نتيجة الزيارات غير المنقطعة لقاصفات بي-52 للجيش العراقي أثناء نقله.
كانت هذه التصرفات من جانب قصي صدام حسين تصرفاتٍ غير مدروسة كانت من الأسباب الكثير لخسارة الحرب. فعندما يسمع المقاتلون أن فيالقاً كاملةً في الجنوب العراقي سُحقت عن بكرةِ أبيها لا يستطيعون أن يُقاتلوا بعد. كان الجميع يعلم أن هذه الحرب لم تكُن حرب ككل حرب. إنما كانت هذه الحرب حربَ إرادات. فأما أن تتفوق نفسياً..أو تخسر الحرب.

خرجنا إلى الشوارع..رأيت وجوه الناس مبتسمةً مرّةً أخرى..لم تزل الحرب مستمرة..إلا أنك لا تستطيع أن تخفي فخرك بما فعلته القوات العراقية في ذلك اليوم.

بعد ظهر ذلك اليوم..

كان الأمريكان لا يزالون متواجدين في منطقة أبي غريب و الطريق المؤدي لها. بدأت المدفعية الأمريكية بالقصف و التقدم باتجاه بغداد..و بدأت القوات العراقية ترد عليها بالمدفعية أيضاً..
ثم بدأت القوات العراقية بالتراجع..و القوات الأمريكية بالتقدم..
و بيتنا في وسط هذه المنطقة..!!
كنا نرى القصف الأمريكي باتجاه القوات العراقية و القصف العراقي باتجاه القوات الأمريكية..و نحن في الوسط. كان موقفاً صعباً جداً..
تملّكني خوف شديد..و لم أعلم سبب هذا الخوف..هل هو الخوف على نفسي أم الخوف أمي و أخي الصغير و بقية أهلي.
كان صوت القصف يوتّر أعصابي..
و لكن لم يكُن أمامنا حل سوى الإنتظار..دون أن نعلم ماذا ننتظر..هو ربما الموت..و ربما النصر..و ربما الهزيمة..

محمد العاني 23-03-2006 11:23 AM

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا :.:.: و حسّب المنايا أن يكُنّ أمانيا


صباح يوم الإحد..فتحت باب بيتنا، فوجدتُ أحد مدافع الحرس الجمهوري عند باب البيت..!!!
يا إلهي..لقد اقترب الوعد الحق..
توتّرت أعصابي أكثر و أكثر. كنّا نعلم أن القطعات العسكرية بين البيوت تعني المزيد من القصف. القصف الأمريكي بالصواريخ "الذكية" التي بدأت تزداد غباءاً شيئاً فشيئاً. بدأ القصف الأمريكي يحصد أرواح الناس الأبرياء. كلّما تجرّعوا المرّ من القوات العراقية كانوا يزدادون وحشيةً في قتل العراقيين الجنود و غير الجنود.

في خضم هذه الأحداث المتداعية، لم أعد أستطيع احتمال هذا الوضع أكثر. قررت أن أخرج من البيت. و طلب مني أبي أن أذهب إلى بيت أحد أصدقائي البعيدين جداً عن بيتنا و أن أبيت الليلة عنده لأن أبي لاحظ توتّر أعصابي الشديد.
خرجتُ من البيت..و بكل براءةٍ أوميت بيدي لسيارة تاكسي مرّت بين سيّارات الحرس الجمهوري..و سائق التاكسي توقّف. و صعدت معه و أخبرته أني أريد الذهاب إلى منطقة الكرّادة إلى بيت أعز أصدقائي "محمد". و في وسط القصف و أصوات المدافع..ذهبت إلى الكرادة.
و لو تعلمون الطريق الذي مررت به ذاهباً إلى الكرادة لأتهمتموني و سائق التاكسي بالجنون. فالطريق بين منطقتنا و الكرادة يمر بطريق المطار أولاً ثم بطريق القادسية السريع ثم بالقصر الجمهوري وصولاً إلى الجسر المعلّق في وسط بغداد و عبور نهر دجلة إلى الكرادة..!!!
و ربّما لا تصدقون..ولكن قبل أذان المغرب ذلك اليوم قام الجيش الأمريكي بالإنزال على كل هذه المناطق التي مررت بها و بعد مروري بها بساعات.
وصلت إلى بيت محمد صاحبي عند الساعة الحادية عشرة صباحاً. و فرح محمد برؤيتي أكثر من فرحته برؤية أي أحد بحياته. إذ إن الإتصالات بيننا انقطعت منذ فترةٍ و قد وصلته الأخبار عن إنزال المطار و ما تبعه من قصف و مواجهاتٍ عنيفة في المناطق المجاورة.
خرجنا سويّاً بسيارة محمد و قمنا بجولةٍ مجنونةٍ في بغداد بين القوات العراقية التي كانت تبدو صامدةً في وقتها. ذهبنا إلى العديد من المناطق نتفقد أحوال أصدقائنا. و عند الساعة الثالثة ظهراً سمعنا بإعلان في الراديو ينص على فرض منع التجوال إبتداءً من الساعة الخامسة عصراً في ذلك اليوم. و فيما بعد..فهمت سبب هذا القرار..
فسألني محمد إذا ما كنت أريد العودة إلى البيت أو المبيت عند محمد لأن الوقت يداهمنا و نحن نقترب من الساعة الخامسة. من الطبيعي أني قررت مخالفة طلب والدي بأن أبيت في بيت محمد صاحبي لأني لن أستطيع قضاء الليل بعيداً عن أهلي في مثل تلك الأيام العصيبة..خصوصاً مع الكابوس الذي كان يلازمني بأن بيتنا سوف يُقصف و سوف أكون الناجي الوحيد..!!!
كلما اقتربنا أكثر من بيتنا في العامرية غرب بغداد، كلما صارت أوضح و أوضح معالم القوات العراقية و المعارك الدائرة هناك..حتى وصلنا إلى بيتنا..
ترجّلت من السيارة و احتضنت محمد..و بكيت..
بكيت بشدّةٍ حتى أحسست أني لن أبكي على أحدٍ كذلك..
و كان آخر ما قلناه..
لا إله إلا الله..محمد رسول الله..

ما حدث صباح ذلك اليوم في مطار بغداد كان جريمة. جريمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فقد جرح العراقيون كبرياء الأمريكان بتحرير المطار صباح أمس..فلم يستطع الأمريكان إبتلاع الهزيمة دون رد فعلٍ قاسٍ. عندما لاحظ الأمريكان ضراوة مقاومة القوات العراقية..و بدأت القوات العراقية بتطويق الإنزال الثاني للأمريكان و بدأوا يحصدون رؤوس الأمريكان، قرر المجرمون أنهم بحاجة إلى الإمعان في الإجرام.
بعض القادة العسكريون أيّدوا القصة التالية لما حصل.
هنالك شبكة من الأنفاق تحت الأرض بين المطار و القصور الرئاسية في الرضوانية و كرادة مريم.و هذه الأنفاق كبيرة بحيث تكفي لدخول الدروع فيها. و بعد أن دخلها الأمريكان للوصول إلى القصور الرئاسية من المطار قام العراقيون بإغلاق جزء كبير من الأنفاق و قاموا بإغراقها بالمياه و بعد فترة قاموا إيصال التيار الكهربائي إلى الأنفاق..!!!
تستطيعون تصور عدد الأمريكان الذين قُتلوا في هذه العملية..
و في الخارج كانت القوات العراقية تحاصر الأمريكان حصاراً شديداً و تضربهم بقوة. بعد ذلك قام الأمريكان بالإنسحاب عن طريق طائرات Chenoke المروحية. ثم جائت الطائرات النفاثة و أظنها F-14 و قامت بقصف المطار بسلاحٍ يسمى "القنابل النووية التكتيكية". و هي قنابل نووية تغطي مساحات محدودة يمكن إستخدامها في أراضي المعركة. و البعض قال أن الأمريكان استخدموا القنابل الفراغية التي مزقت أجساد الجنود العراقيين و أبقت على البنايات. هذا بالإضافة إلى اليورانيوم المنضب الذي استخدمته القوات الأمريكية بشكل واسع في ضرب الدروع العراقية.
لا يهم نوع الأسلحة التي استخدمت..بالنسبة لي على الأقل..إنما المهم أن حصيلة هذه المعركة هي مجموعة من الكُتل الشحمية و العظام المحروقة و الدبابات العراقية المنصهرة...
هذا ما تبقى من الأبطال الذين حاربوا هناك..رحمة الله عليهم أجمعين..

و احتل الأمريكان المطار بعد ذلك..لأنه لم يبق شئٌ حي ليقاتلهم في تلك المنطقة..ولا حتى النخيل العراقي الأبي..

من هذه المعركة العنيفة..استنتجنا بما لا يقبل الشك. أن الأمريكان مستعدون أن يصلوا بهذه الحرب إلى ما هو فوق المعقول. و إن إحتلال بغداد سيكون عن طريق سحقها للأرض منطقةً تلو الأخرى.

محمد العاني 22-04-2006 11:00 AM

الشمس أجمل في بلادي من سواها..و الظلام..
حتى الظلام هناكَ أجمل..فهو يحتضنُ العراق..


يوم الإثنين 7-4-2003 كان يوماً عصيباً آخر. في هذا اليوم كانت تبدو معالم إنتهاء "النزهة" التي تمتعنا بها لفترةٍ من الحرب. و ما أقصده بالنزهة هو محطات الوقود المفتوحة 24 ساعة يومياً و المخابز و الأسواق المفتوحة طيلة أيام الحرب. في هذا اليوم العصيب، فتحت باب البيت الخارجي و رأيت قطَعات الحرس الجمهوري تتخذ مواضعاً بين البيوت و في الشوارع..لقد جدّ الجد.
منذ ساعات الصباح الأولى و نحن نسمع أصوات الإطلاقات و المدافع. كان هنالك مواجهات عنيفة جداً بين القوات العراقية و قوات العدو في الأطراف الغربية من بغداد، في العامرية و أبي غريب و حتى على الطريق الدولي الذي يربط بغداد بالأردن و سوريا و ربما كانت الأعنف هناك.
كان ذلك اليوم مليئاً بلحظات الصمت. أقصد بلحظات الصمت اللحظات التي بين أن نسمع صوت صاروخٍ قادمٍ يقترب منا فنحبس أنفاسنا لنعرف وجهة هذا الصاروخ..ولا نستطيع التنفس حتى نسمع صوت إنفجاره في مكانٍ قريب.
"لقد بدأو بالإنتحار على أسوار بغداد الإعتبارية"..."لا وجود لعلوج الأمريكان في بغداد..أبداً"..هذه كانت آخر كلمات محمد سعيد الصحاف في آخر مرة زار فيها المركز الصحفي في فندق الميريديان في بغداد. كنا نعلم يقيناً أن هذا غير صحيح..فهذه المرة نحن في ساحة المعركة..نحن نسمع أصوات الإطلاقات تمزّق أجساد الجنود..و تُحرق قلوب الأمهات.
كلنا نعرف أن ثمن الحرّية هو الدم..و لم أزل أتمنى أن تكون هذه الدماء ضاعت في مواجهة صدام حسين لا في مواجهة المحتل..حتى تبقى أرضنا عزيزة كما كانت دائماً.
كان أحد أصحابي يقول لي دائماً.."لا تحزن إذا ما احتل الأمريكان العراق..فحروب الشعوب مع المحتلين دائماً تنتهي لصالح الشعب..على مر التأريخ..بينما حروب الشعوب ضد الطغاة..لا تنتهي دائماً لصالح الشعب". عبارةٌ تبدو صحيحةً..ولكن لا شئ في العالم يمكن أن يُقنعني بالقبول بالإحتلال. فأنا عراقي..و إن كنت أرفض أن أأتمر بأمرة أخي الكبير..فهل سأأتمر بأمرة الخنزير الصليبي الذي يدّعي أنه ممثل الله في الأرض؟؟
ليل يوم الإثنين و حتى صباح الثلاثاء كان نهاراً. لم نستطع الجلوس حتى ولن أقول النوم في تلك الليلة بسبب كثرة القصف و إقترابه. بدأنا حتى بسماع أصوات قذائف الدبابات الأمريكية تمزّق جسد بغداد الحبيبة شيئاً فشيئاً. و طائرات الـA10 تحوم فوقنا تضرب كلّ ما هو متحرك.
عسكر مجموعةٌ صغيرةٌ من قوات الحرس الجمهوري عند باب بيتنا. بدل أن يُشعرنا هذا بالأمان لوجود قواتنا، كان يُشعرنا بالفزع لأننا على يقينٍ أن طائرات العدو لن تترك أحداً منهم و سوف تقصفهم. و إن قصفتهم و أصابت فتلك مصيبة و إن قصفتهم و أخطأت فالمصيبة أكبر..و الله وحده عليمٌ بمصيرنا في الحالتين.
لم نكن نملك في تلك الليلة العصيبة غير الصلاة و الدعاء و قراءة القرآن الكريم..ألا بذكر الله تطمئن القلوب. لا أعلم كيف مرّت هذه الليلة العصيبة..ولكني أتذكر أن المجموعة الصغيرة التي كانت عند باب بيتنا تحدّثوا بأشياء لم أكن أفهم منها الكثير بسبب صوت القصف..و لم أسمع إلا في النهاية قولهم "الله أكبر"..و تحركوا سريعاً إلى الشارع الرئيسي ثم سمعنا صوت إطلاقات نارية شديدة كنا نميزها بأنها صوت الرشاشات نوع كلاشينكوف العراقية..و أغلب الظن أنها كانت نفس المجموعة في مواجهةٍ مع العدو..ثم سمعنا صوت صاروخ سريعٍ و إنفجارٍ كبير جداً..هزّ أركان البيت...
ثم انقطع صوت هذه المجموعة رحمة الله عليهم أجمعين..و وجدنا بُقيا من سيّارتهم العسكرية و خوذةِ أحدهم رحمة الله عليه و قد حطّت في حديقة بيتنا.

صباح يوم الثلاثاء رأينا سيّارات الشرطة تدور مسرعةً في الأزقة و الشوارع و تحدّثنا عبر مكبرات الصوت بأن نلازم البيوت. إستمر القصف و المواجهات العنيفة حتى أذان المغرب يوم الثلاثاء..
كنّا نسمع الأخبار من إذاعة بي بي سي و إذاعة مونتي كارلو..
إنزال القوات الأمريكية في معسكر التاجي..في القصر الجمهوري.. في ابي غريب .. على الطريق الدولي غرب بغداد..في شارع الزيتون المؤدي إلى القصور الرئاسية..في قصر الرضوانية..!!!
ما الذي يحدث؟؟
هل هذا الكلام صحيح؟؟ أين القوات العراقية؟؟..؟؟

في ليل الثلاثاء حتى صباح الأربعاء..لم نسمع صوت إطلاقة..!!!
إستطعنا النوم لأول مرة منذ بدء الحرب..
نمت و في ذهني تساؤلات عديدة..ماذا يحدث؟؟
ما هي خطّة صدام حسين؟؟


و صحوت صباح يوم التاسع من نيسان..عام 2003...

محمد العاني 25-04-2006 11:23 AM

إحتلال بغداد
 
مادام يحكمنا الجنون
سنرى كلاب الصيد تلتهم الأجنة فى البطون
سنرى حقول القمح ألغاماً وضوء الصبح ناراً فى العيون
سنرى الصغار على المشانق فى صلاة الفجر جهراً يـُصلبون
ونرى على رأس الزمان عويل خنزير قبيح الوجه
يقتحم المساجد والكنائس والحـُصون


يومٌ ليس ككُل الأيام. يوم أطول من باقي الأيام و أسوأ. إنه صباح التاسع من نيسان عام 2003.
صحوت صباحاً على صوت الراديو..
"الدبابات...الدبابات الأمريكية...ها نحن نشاهد الدبابات الأمريكية في ساحة التحرير في بغداد...ساحة التحرير..الدبابات الأمريكية تطأ أرضاً لم يطأها المحتل منذ أكثر من سبعين عاماً..
أحمد صبري..بغداد..راديو مونتي كارلو"...!!!
ركضت مُسرعاً و كنت أتخيل أني لم أزل نائماً، سألت أبي:"ماذا حدث؟؟".أجباني بصوت متحشرج:"أعتقد أن الحرب انتهت".
ظللتُ واقفاً في مكاني لا أستطيع الحِراك. و والدتي لا تفتأ تقول:"بالتأكيد لم تنتهِ الحرب..هذا الذي يحدث هو جزءٌ من الخطة". ظلت والدتي تردد هذا الكلام عدة مرات و دموعها تنزل دون أن تستطيع السيطرة عليها. و استمرت الأخبار تتوالى..
سقوط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد..!!
لا أثر للجيش العراقي في أي مكان..!!!

ما الذي يحدث؟؟
أخذت أفكر أنه ربما هذا الذي يحدث جزء من خطة الجيش العراقي، مثلاً أن ينسحب الجيش من الرصافة و يتمركز في منطقة الكرخ للحرب. ذلك أن كل ما يتحدثون عنه في الأخبار يحدث في مناطق من الرصافة. ربّما ستتحول الحرب إلى حرب شوارع غير تقليدية..ربّما .. و ربّما..و ربّما...
كنت أتمنى كل ذلك و أدرك بعقلي أنه مستحيل الحدوث. بغداد محتلّة...ولا شئ من امنياتي سيغير ذلك.

خيبة الأمل..هذا هو ما يصف الشعور الغالب في نفسي. خيبة أملٍ كبيرة جدّا. ليس لأنني كنت أرى صدام حسين قائداً فذاً..فأنا عراقي و أعرف الحقيقة. و لكني كنت أتمنى أن نتخلص من صدام حسين و في جعبتنا الشئ اليسير من الكرامة، لا أكثر و لا أقل.
شعورٌ غريب..شعور بالفرحة للتخلص من صدام حسين، و شعور بالأسى لأن وطني و حبيبي الأول صار محتلاً و انتُهك و اغتُصب، و شعور بالغضب..الغضب من صدام حسين لأنه تخلى عن الوطن بسهولة، و الغضب من الأمريكان لأنتهاكهم حرمة وطني، و الغضب من نفسي لأني لم أفعل شيئاً حيال ذلك..!!
أين رجال الحرس الخاص و الحرس الجمهوري و الجيش؟؟
أين رجال حزب البعث؟؟
أين رجال جيش القدس؟؟
أين رجال فدائيي صدام؟؟
هل هرب الجميع؟؟ هل هذا العمل مخطط له سابقاً؟؟ هل نحن المشاهدون الوحيدون لهذا الفلم و كل العالم ممثلون؟؟
هل كل من مات مُدافعاً عن العراق في هذه الحرب مات لقضيةٍ خاسرة؟؟
ما ثمن هذه الدماء التي سُفكت في أم قصر و البصرة و الناصرية و الديوانية و كربلاء و النجف و الحلة؟؟
هل كان قتالهم لا داعي له لأننا سنُفقدَ بغداد عذريتها بأيدينا؟؟؟

المحتلون في ساحة الفردوس..في ساحة التحرير..في القصر الجمهوري..في المطار..في قصر الرضوانية..في الكرادة..في شارع الزيتون...
لقد احتلوا بغداد بالكامل..و تلاشت مع ذلك أحلامنا بالكرامة.

في هذه الأثناء، كان صدام حسين في الأعظمية قرب مسجد أبو حنيفة النعمان..الناس حوله يهتفون له "بالروح بالدم نفديك يا صدام"..لم يفهموا اللعبة بعد. ظهر صدام هناك مع فردٍ واحدٍ من أفراد الحماية..شخصٍ من الحماية لم نرَه قبل الحرب. ظهر مع صدام حسين في منطقة المنصور في زيارةٍ لمواضع البعثيين في أحد أيام الحرب الأولى. لستُ أدري من هو هذا الشخص..و ما قرابته لصدام حتى أنه الوحيد الموجود معه خلال وقت الأزمة.
الناس تحمل صدام على الأكتاف..و تهتف بالدفاع عنه. الطائرات المروحية الأمريكية بدأت بالتحليق في بغداد. الطائرات الأمريكية تحوم فوق الأعظمية. القوات الأمريكية تبدأ بدخول الأعظمية. مواجهات عنيفة بين ما تبقى من قواتٍ عراقية في الأعظمية و القوات المحتلة. صدام حسين اختفى..!!!

تحدّث الكثيرون عن خياناتٍ بين قيادات الجيش الكبرى و قيادات الأجهزة الأمنية مع الأمريكان. أستطيع أن أجزم أن هذا غير صحيح. و إن حدثت خيانات فقد حدثت في مستوياتٍ قليلةٍ لم تكُن لتُمكّن الأمريكان من دخول بغداد بهذه السهولة.
فهمي الشخصي لما حدث هو التالي..
حالة الإنهزام النفسي عند المقاتلين العراقيين المتسببة من تساؤل منطقي هو (هل أقاتل ليبقى صدام حسين و أموت لأجله؟؟). عندما لا تملك الإجابة لسؤالٍ معين فإن ما تفعله هو..لا شئ..
و هذا ما فعله الجنود العراقيون، عندما جد الجد و احتاجوا أن يقرروا أن يموتوا لأجل الوطن..لم يتّخذوا قراراً..و لم يفعلوا شيئاً..مرّت الأحداث و تابعوها دون أن يحدث شئ. فصار الجنود في بغداد ينزعون عنهم ثياب المعركة و يلبسون ثياباً مدنية..و الكل قال "نفسي نفسي". و تداعيات الأحداث كانت سريعة جداً بحيث تحتاج إلى أن تتخذ قراراً في ثوانٍ إما أنت تموت أو لا.
و ليس ما حدث نتيجة خللٍ في نفوس المقاتلين، فقد أثبت نفس المقاتلين بسالتهم في الحرب مع إيران. إلا أن الإرهاق النفسي و الجسدي الذي مرّ على العراقيين في السنوات الأخيرة على يد صدام حسين لم يترك فيهم حب الجماعةِ الذي كان موجوداً سابقاً. فالمقاتل حين يفكر فيما إذا مات كيف أن عائلته سوف تموت جوعاً..يتردد في التضحية لأجل الوطن..تلك التضحية التي ناتجها العرَضي بقاء صدام حسين و المزيد من الإستبداد و الطغيان و الحياة التي ليس لها من الحياة غير الإسم.
لا أحاول أن ابرر لماذا نحن الآن أحياء و لم نمُت مع الأبطال الذين ماتوا في الحرب، ولكني أحاول أن أفهم ما الذي حدث..

الشعور بالإغتصاب..هذا هو ما أحس به. فعندما يتعرض شخص للإغتصاب لا يريد أن يخبر أحداً بما حدث..ولا يريد تذكر ما حدث..ولكنه يريد أن ينتقم..و غالباً لا يستطيع لوحده..

محمد العاني 02-05-2006 10:44 AM

اليوم التالي..
 
أطفال بغداد الحزينة
في الشوارع يصرخون
جيش التتار
يدق أبواب المدينة كالوباء
ويزحف الطاعون
أحفاد "هولاكو"
على جثث الصغار يزمجرون


لا أذكر شيئاً عن تلك الليلة..!!
كانت ليلةً طويلةً جداً جداً..و قد أفلحت القنوات الفضائية و خصوصاً القنوات العربية في إظهار العراقيين بصورة السرّاق الهمجيين الذين يدمرون كل ما أمامهم. تناسى الجميع عشرين ألف مجرمٍ أطلقهم صدام حسين قبل الحرب بفترةٍ يسيرةٍ. بل لمن لا يعلم فقد قام صدام بإطلاق مرضى الإيدز أيضاً من مستشفى الحجر الصحي في منطقة الحصوة غربي بغداد.
هؤلاء المجرمون بمساعدة القنوات العربية إستطاعوا أن يُثبتوا للعالم أن العراقيين هم عبارةٌ عن مجموعة من الهمج المدمرين السرّاق. لا اريد التعرض إلى هذا الموضوع أكثر لأنني سأشير بأصابع الإتهام في كثير من الدمار إلى دولةٍ جارةٍ عربيةٍ و أخرى غير عربية.

في صباح ذلك اليوم الأليم، جائني زائراً أحد أصدقائي ممن يقطنون نفس منطقتنا. بالطبع للتنقل في بغداد في ذلك اليوم يجب أن تحمل قطعة قماش بيضاء. علامة المدنيين كما يسميها الأمريكان، و علامة الإستسلام كما أسميها. عندما رأيت صاحبي للمرة الأولى احتضنني و رحنا نبكي لفترةٍ من الزمن. إنه الإحساس بالهزيمة الذي جعلنا نبكي. ليس لأننا نحب صدام حسين أو نريد بقائه، بل لأن لا شخصاً عاقل يرضى بالإحتلال.
جلسنا أنا و صاحبي احمد دون كلامٍ لفترة، ثم أخذنا نستمع إلى الأخبار في الراديو، الأخبار لم يكُن فيها ما يسُر. أكثر خبر جذب إنتباهنا هو أن مستشفى الكندي في الرصافة تتعرض إلى السلب و النهب و المرضى فيها بأمس الحاجة إلى المساعدة. كان قد تناهى إلى مسامعي أن المستشفيين الذين لا يزالا يعملان في الكرخ هما مستشفى اليرموك و مستشفى الطفل العربي. و بعد تفكير ليس بالطويل قررنا أنا و أحمد أن نذهب إلى مستشفى اليرموك لأننا توقعنا أن هناك من يحتاج إلى المساعدة. المسافة بين العامرية و مستشفى اليرموك طويلة جداً مشياً على الأقدام، ذلك لعدم وجود السيارات في الشارع إلا ما ندر جداً.
توكلنا على الله و بدأنا بالمسير. و كلما قطعنا مسافةً مرت بنا مجموعة من القوات الأمريكية و فتّشونا بشكل مُذل. إلا أننا كنا نحتسبها عند الله لما كنا ذاهبين إليه. فما قد سمعناه في الأخبار عن خلو المستشفيات من الأطباء و الكادر الطبي و إمتلائها بالمرضى جعلنا نتحمل كلما حدث في الطريق إلى المستشفى.
في الطريق، كنا نجد السيارات المدنية المحترقة و ليس بداخلها إلا كتل فحمية لا نستطيع نَسَبها إلى جزءٍ من جسم الإنسان. اليورانيوم المنضب، نعم. اليورانيوم المنضب هو السلاح الوحيد الذي يمكن أن يُحرق البشر و المركبات بهذه الطريقة الوحشية. و كلما قطعنا مسافةً وجدنا بين الأحياء مساحاتٍ من التراب و قد استُخدمت كقبور لشهداء و كُتب فوقها (هنا قبر شهيد). و من كان يتوفر له العلم العراقي عند الدفن كان الدفّانون (جزاهم الله خيراً) يضعون العلم فوق القبر.
من مسافةٍ بعيدةٍ عن مستشفى اليرموك بدأنا نشم رائحة الجثث..!!
يا إلهي..بيننا و بين المستشفى أكثر من مئتي متر و الرائحة تقطع الأنفاس..!!!
منظر المستشفى من بعيد كان رهيباً. كانت بعض العربات و الأسرّة و فوقها الجثث في الشارع. و بُقع الدماء تغطّي الأرض..و واضحٌ أن الكثير من الجثث كانت لناسٍ نزفوا حتّى الموت في هذا المستشفى الفارغ. لم ندخل المستشفى بعد..لأننا في الشارع و أحسسنا أنفسنا داخل المقبرة..!!
بعض الجثث كانت متروكةً منذ فترةٍ طويلةٍ حتى أن الذباب و الحيوانات بدأت تأكل منها..!!!
لقد كان الموقف رهيباً.

أمام المستشفى على الجهة الأخرى من الشارع كان هنالك حدائق صغيرة تفصل بين البيوت و الشارع. قررنا أنا و أحمد أن نستخدم هذا الحدائق لندفن فيها الموتى. و كانت البيوت كلها خاوية أو بدتْ كذلك.
بدأنا بالحفر بأيدينا لأننا لم نملك ما نحفر به. و جائت مجموعة من القوات الأمريكية و طوقونا و فتشونا ظانّين اننا نزرع ربما لغماً أو شيئاً من هذا القبيل. و بعد التفتيش أدركوا أننا لا نشكل خطراً عليهم إنما نريد أن نستر هؤلاء الموتى.
بعد ذلك دخلنا إلى المستشفى لنأتي بملابس أطباء حتى يعتقد الأمريكان أننا نعمل في المستشفى فلا يزعجوننا مرةً أخرى. و كان المنظر في المستشفى اسوأ بكثير من خارجها. وجدنا عدداً قليلاً جداً من كادر المستشفى يحاولون بلا أدواتٍ أن يُنعشوا من كان فيه من الروح شئ.
خرجنا مرةً أخرى لنكمل الدفن..دفنا الكثير الكثير من الناس بعد أن صلينا عليهم حتى وصلنا إلى مرحلةٍ أخذت بها أجسامنا ترتجف و دموعنا تنزل دون أن نشعر.
شعرت بالخَدرِ في يدي..و كان ذلك أفضل..فلم أعد قادراً على الشعور بالناس الذين نواري أجسامهم الثرى. قررنا أن نتوقف..
لم أستطع الإستمرار..
أحسست أن جبلاً أُلقي على صدري فلم أعد أستطيع التنفس..
احتضنت أحمد و رحت أبكي بشدّةٍ..
تركنا المكان و نحن تفوح منّا رائحةُ الموت..
إلى هذا اليوم لم استطع نسيان ما حدث..و لا أظنني أستطيع..!!
كل ما حدث لم يأخذ أكثر من ساعتين أو أكثر بقليل ربما..إلا أنها بدت لي كألف سنة..
رغم أن نيسان في بغداد حار..إلا أنني أحسست بالبرد الشديد..أحسستُ أن بغداد لم تعُد مدينة..بل أصبحث ثلاجةً كبيرةً للموتى...

maher 03-05-2006 11:51 PM

اخي محمد حفظك الله

والله كل ما رايت اضافة جديدة لك على هذا الموضوع اقول اني لن اقرأها و في الاخر اجد نفسي لا شعوريا ادخل لموضوعك لاذرف بعض الدموع و ادعو الله عز و جل ان يفرج كربتك و كافة اخواننا المسلمين في العراق
و ابكي اسفا على حالي و حال امتنا و ما وصلنا اليه من الهوان على حكامنا
واصل اخي علك توقظنا من غفلتنا و قعادنا عن نصرتكم
واصل بابي و امي انت



اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ,لااله الا الله العلى العظيم لا اله الا الله الحليم الكريم ,سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ,الحمد لله رب العالمين .اللهم كاشف الغم مفرج الهم مجيب دعوة المضطرين اذا دعوك,رحمن الدنيا والاخره ورحيمها فارحمنا فى حاجتنا هذه بقضائها ونجاحها رحمة تغنينى بها عن رحمة من سواك .

نأسألك اللهم أن تفك كروبنا وتيسر أمورنا وتفرج همومنا وتفك كرب اخواننا المسلمين فى كل مكان وتفك اسرهم من ايدى اعادائنا اعداء الله

اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق

اللهم الى من تكلهم
إلى قريب يتجهمهم أم الى عدو ملكته أمرهم
اللهم ان لم بك غضب علينا و عليهم فلا نبالي و لكن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات
اللهم فك اسرهم و سهل امرهم و اقم فيهم من يخافك و يخشاك
الللهم لك الحمد و المنة على كل حال و سبحانك انا كنا من الظالمين

محمد العاني 04-05-2006 10:38 AM

الأخ الحبيب ماهر..
أُقسم أني قبل أن أدخل الخيمة اليوم كنت أنوي أن أبعث لك رسالةً على الخاص أستفسر بها عن أحوالك إذ إنك قد أطلت الغيبة ولو أن وجودي أنا أيضاً صار قليلاً.
كلماتك أدمعت عيني أخي الحبيب..أدامك الله بخير و حفظك و من تحب بكل خير..

لم يزَل في جعبتي الكثير الكثير ليُروى يا أخي..
إلا أني والله اشرع في الكتابة حتى أصل إلى منتصف الموضوع فلا أستطيع إكماله..و أعود بعد عدة أيام محاولاً إكماله.
شكراً لمرورك يا أيها الغالي..


أخوك
محمد

محمد العاني 27-05-2006 10:33 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون
صدق الله العظيم


لم يكُن يوماً يُمكنُ نسيانُه. و كذلك كان ليلُ ذلك اليوم. كُنّا لا نزال ننام جميعاً في غرفتي كما كنا نفعل طوال فترةِ الحرب. ربما لأننا لم نقبَل حقيقةَ أن بغداد أحتُلّت و ربما لخوفنا من إندلاع معارك شوارع فيما بعد.
كُنّا قد تجمّعنا في الغرفة محاولينَ النوم. و فعلاً نام الجميع، إلا أنا. فَلَم تزل رائحة الجثث في أنفي و وجوه كُلّ الذين دفنّاهم تلاحقني في الظلام.
فجأةً..سمعنا أصوات دبابات سريعةً تقترب من المنزل. ثم أخذت هذه الدبابات بإطلاق القذائف المتتالية بعنف..بدأت أحس بصوت القذائف داخل رأسي..و قفز كلّ أهلي من نومهم..و بدأت جدّتي بالبكاء..فهي مصابةٌ بمرض السُكّري و الصدمات و الخوف تؤذيها كثيراً..
مع القذيفة الثالثة أو الرابعةِ بدأ زجاج النوافذ بالتكسر..
كانت الدبابات تقف قريباً جداً من بيتنا و ترمي القذائف بإتجاه مجموعةٍ من البيوت في الجهة المقابلة في حي الخضراء..لا أعلم لماذا..إلا أن الرعب و الركض للإبتعاد عن النوافذ أبعد عن ذهني قليلاً أشباح المدفونين قرب مستشفى اليرموك.
إستمرت هذه الدبابات بالإطلاق لما يقارب الدقائق العشر..
ولا أذكر سوى بكاء جدّتي (حفظها الله) و صراخها ((ألم يقولوا أن الحرب انتهت..ألم تنتهِ الحرب))...
بعد انتهاء هذه الأحداث..إتصل بي أحد اصحابي، إذ إن الهواتف كانت لا تزال تعمل في منطقتنا و بعض المناطق القريبة، ليسأل فيما إذا كنا بخير لأن سمع أصوات إنفجاراتٍ قريبةٍ علينا. كان صاحبي هذا يسكن على بُعد 5 كيلومتراتٍ تقريباً و قال أن أبواب بيتهم كانت تهتز من قوة الإنفجارات..فيمكنكم تصور ما كان يحدث في بيتنا و البيوت المجاورة.

في صباح اليوم التالي، يوم الجمعة. جاء صاحبي أحمد إلي مرّةً أخرى. و مرةً أخرى إحتضنته و رحنا نبكي في صمت. بعد عدةٍ دقائق من الصمت و الدموع، روى أحدنا للآخر كيف قضى الليلة الماضية دون نوم. كان يبدو على وجوهنا التعب الشديد و عدم النوم.
عندما اقترب موعد صلاة الجمعة، قررنا أنا و أحمد أن نذهب لنؤدي صلاة الجمعة في جامع "الملا حويش" في حي الجامعة لأننا نعرف الإمام هناك و نحسبه والله أعلم من أهل العلم و الدراية بالدين. بدأنا بالمسير بإتجاه حي الجامعة.
فصلت بيننا و بين مدخل حي الجامعة ما يقارب المئة متر..تسمى تلك المنطقة نفق الشرطة.
كان الفدائيون السوريون و العرب لا يزالون في بغداد يُقاتلون الأمريكان..في منطقة نفق الشرطة و في ساحة اللقاء.
قبل أن نصل إلى نفق الشرطة..كانت دبابات أمريكية تمر من تحت النفق..و فجاءةً ركض شخصٌ ملثم فوق النفق و رمى قنبلةً يدويةً على إحدى الدبابات الأمريكية..!!!
بالتأكيد لم تؤثر القنبلة اليدوية على الدبابة. توقفت الدبابات..و تراجعت قليلاً حتى صارت بمستوى الشارع الرئيسي و بدأت بإطلاق العيارات النارية من سلاح البيكيتا. كان هنالك مجموعة قليلة من الناس في مرمى هذه الإطلاقات إلا أنهم جميعاً إنبطحوا على الأرض و لم يُصابوا إلا شخص واحد..هذا الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر.
أصيب هذا الشاب الصغير بإطلاقةٍ إخترقت رقبته و على أثر الإصابة قُذف الشاب من حافة الرصيف الأيمن إلى الجهة الثانية من الشارع..
إستمرت الدبابات ترمي..و نحن منبطحون على الأرض..و لم يزل الشاب على قيد الحياة..كنت أرى يداه و قدماه تتحركان من بعيد..كان ينزف بشدّة..و اسمع صرخاته بين صوت الإطلاقات..حاولت أن أزحف بإتجاهه إلا أن الإطلاقات كانت تنطلق بكل الإتجاهات و آثار الإطلاقات على الحيطان لا زالت موجودة حتى يومنا هذا.
بعد عدّة دقائق..توقّفت الدبابات عن الرمي أخيراً و تحرّكت إلى ما كانت ذاهبةً إليه. ركضتُ باتجاه الشاب المُصاب..كان لا يزالُ حيّاً..و ينزف..
حاولتُ أن أوقف أي سيّارةٍ مارّةٍ لتأخذه إلى المستشفى..و لم يقبل أي سائقٍ بالتوقف...
حتّى صادفتُ أحد أصدقائي يمر من هناك و الححت عليه بشدّة أن يأخذ المصاب إلى المستشفى..و أخذناه إلى السيارة..
و نحن في الطريق إلى مستشفى الطفل العربي في منطقة الإسكان في بغداد..أخذتُ أتذكر أين رأيت هذا الشاب المسجى في المقعد الخلفي و رأسه مستند على رجلي..فقد كنت ساكناً في منطقة حي الجامعة حتى سبع سنواتٍ مضت، و لم أزل أتذكر هذا الشاب عندما كان طفلاً يلعب في شوارع المنطقة.
وصلنا إلى المستشفى..و ركض نحونا الأطباء و المسعفون و أخذوا الشاب..ولا أعلم حتى اليوم إن كان نفعه الأطباء أم مضى إلى الدار الآخرة..رحمة الله عليه في الدارين.
و قفتُ في باب المستشفى مذهولاً امام أحد أكثر المناظر بشاعةً في حياتي..كان للمستشفى حديقةٌ أمامية كبيرةٌ مساحتها ما يقارب الألفي متر..لقد تحوّلت هذه الحديقة المخصصة لنقاهة المرضى إلى مقبرة..!!
فقد إنقطعت الكهرباء عن المستشفى منذ يومين و ثلاجات الموتى لم تعُد تعمل..و حتى لو كانت تعمل..فإن عدد الموتى الذين يصلون إلى هذه المستشفى أو يموتون فيها كبيرٌ جداً..
لقد تغطّت أكثر من ثلاثة أرباع هذه الحديقة الكبيرة بالقبور..!!
بعد عدّة دقائق من هذا المشهد المذهل ذهبت و صاحبي أحمد إلى أحد الأطباء داخل المستشفى و أخبرناه أننا نريد المساعدة و أخبارناه أننا لا نملك من الخبرة الطبية شئ لأننا مهندسون. أخبرنا الطبيب أن ليس هنالك ما نساعد به إلا دفن الموتى...مرّةً أخرى.
يوم آخر لا يقل صعوبةً عن سابقه. أخذنا الطبيب إلى شخصٍ كان يعمل ممرضاً حتى الأمس و بالأمس أصبح دفاناً. قال لنا:"من تجدون في جيبه هويّةً أو أي وثيقةٍ ضعوها فوق قبره و من لا تجدون له هويةً فادفنوه ولا حول ولا قوة إلا بالله".
بدأنا بدفنِ الناس..و ما كان أشد إيلاماً من دفن الموتى رحمة الله عليهم أجمعين هو الناس الذين يأتون باحثين عن أولادهم في الجثث..يقرأون الهويات و ينبشون القبر عند الوجه ليروا إذا ما كان الميت ابنهم أو أخوهم أو أحد أقاربهم..
كنت أحفر و أبكي..
و ما أبكاني أكثر..أنني دفنتُ أحد الفدائيين السوريين الذين قُتلوا على يد الأمريكان..و كان رحمة الله عليه ريحهُ المسك..والله لن أنسى ذلك أبداً..كان هذا الشهيد إن شاء الله رائحة المسك تفوح منه عندما دفناه.

جعلني هذا افكر..
هل كل من مات غير هذا الشخص و دفناه ليس بشهيد؟؟
الأبرياء الذين ماتوا .. أليسوا شهداء..؟؟
أم أننا جميعاً شركاء في الجريمة؟؟

محمد الحبشي 27-05-2006 11:44 AM

أحيانا تعجز الكلمات عن الوصف....ويعجز اللسان عن الكلام....

فوجئت بصديق لى يخبرنى أنه سعيد جدا لغزو الأمريكان للعراق...

ثم ما لبث أن قطع دهشتى مستدركا:
إن فى العراق نهاية هذه الحضارة ونهاية هذا المارد....
إن فى العراق سينهض جيل جديد يألف الحرب ولا يخشى إلا الله...
ومن العراق سيبدأ عصر جديد...لهذه الأمة بأسرها....
وفى العراق سنتحرر من الخوف...ونتحدى الطغاة....
وفى العراق...........

إن القاعدة الثابتة لهذه الأمة عبر التاريخ...فقط هذه الأمة..هى:
قبل أى قيام وظهور...يجب أن يسبقه سقوط مروع....
واسألوا صفحات التاريخ...

أخى محمد...بعد كل ما قرأت...زاد خوفى وقلقى عليك....
والله إنى كنت على وشك أن أسأل الأصدقاء عنك...
رجاءا ....لا تبتعد كثيرا مرة ثانية....

********************

وطبيب عادنى فى علتى
ومضى يكتب لى بعض الدواء...

ظن فى صدرىَ داءا هدنى
وارتضى الراحةَ لى بعد العناء....

كيف يا جراح أرضى راحةً
أنا جندىٌ على أرض الفداء....

وجراحُ الصدر لا تؤلمنى
إنما يسحقنى جرحُ الإباء

********************

محمد العاني 28-05-2006 09:20 AM

أخي الحبيب..
دُمت و من تحب بخير..
و إنما إنقطاعاتي عن الخيمة ليست بيدي..و الله أعلم بحال العراق..


أخوك
محمد

maher 04-09-2006 11:54 PM



السلام عليكم

احتل العراق منذ اربع سنوات و كان خلال كل هذه الفترة جريحا يتخبط في دمائه

و لكن رغم ذلك تخللت الاربع قرون و ليس سنين فترات تضميد جراح و تلقي الاسعافات و لكن هذه الفترات ام تتجاوز اليوم ان لم نقل سويعات

و ما انقطاعك اخي عن هذا الموضوع الا لتضميد الجراح على ما ارى ثم العودة بكتابات مدمية تقتلنا بها

وينك اخي لم ابكي منذ مدة
وينك اخي تفرغ ما في مقلتي من دموع
وينك واصل حفظك الله
اااااااه

من لك يا عراقنا
من لك يا عراقنا
من لك يا عراقنا

لك الله
لك الله
لك الله
لك الله

لك الواحد الاحد
لك الذي يمهل و لا يهمل
لك الحكم العدل
لك الجبار القهار



اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ,لااله الا الله العلى العظيم لا اله الا الله الحليم الكريم ,سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ,الحمد لله رب العالمين .اللهم كاشف الغم مفرج الهم مجيب دعوة المضطرين اذا دعوك,رحمن الدنيا والاخره ورحيمها فارحمنا فى حاجتنا هذه بقضائها ونجاحها رحمة تغنينى بها عن رحمة من سواك .

نأسألك اللهم أن تفك كروبنا وتيسر أمورنا وتفرج همومنا وتفك كرب اخواننا المسلمين فى كل مكان وتفك اسرهم من ايدى اعادائنا اعداء الله

اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق

اللهم الى من تكلهم
إلى قريب يتجهمهم أم الى عدو ملكته أمرهم
اللهم ان لم بك غضب علينا و عليهم فلا نبالي و لكن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات
اللهم فك اسرهم و سهل امرهم و اقم فيهم من يخافك و يخشاك
الللهم لك الحمد و المنة على كل حال و سبحانك انا كنا من الظالمين






محمد العاني 05-09-2006 10:31 AM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة maher


السلام عليكم

احتل العراق منذ اربع سنوات و كان خلال كل هذه الفترة جريحا يتخبط في دمائه

و لكن رغم ذلك تخللت الاربع قرون و ليس سنين فترات تضميد جراح و تلقي الاسعافات و لكن هذه الفترات ام تتجاوز اليوم ان لم نقل سويعات

و ما انقطاعك اخي عن هذا الموضوع الا لتضميد الجراح على ما ارى ثم العودة بكتابات مدمية تقتلنا بها

وينك اخي لم ابكي منذ مدة
وينك اخي تفرغ ما في مقلتي من دموع
وينك واصل حفظك الله
اااااااه

من لك يا عراقنا
من لك يا عراقنا
من لك يا عراقنا

لك الله
لك الله
لك الله
لك الله

لك الواحد الاحد
لك الذي يمهل و لا يهمل
لك الحكم العدل
لك الجبار القهار



اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ,لااله الا الله العلى العظيم لا اله الا الله الحليم الكريم ,سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ,الحمد لله رب العالمين .اللهم كاشف الغم مفرج الهم مجيب دعوة المضطرين اذا دعوك,رحمن الدنيا والاخره ورحيمها فارحمنا فى حاجتنا هذه بقضائها ونجاحها رحمة تغنينى بها عن رحمة من سواك .

نأسألك اللهم أن تفك كروبنا وتيسر أمورنا وتفرج همومنا وتفك كرب اخواننا المسلمين فى كل مكان وتفك اسرهم من ايدى اعادائنا اعداء الله

اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق
اللهم اخواننا في العراق

اللهم الى من تكلهم
إلى قريب يتجهمهم أم الى عدو ملكته أمرهم
اللهم ان لم بك غضب علينا و عليهم فلا نبالي و لكن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات
اللهم فك اسرهم و سهل امرهم و اقم فيهم من يخافك و يخشاك
الللهم لك الحمد و المنة على كل حال و سبحانك انا كنا من الظالمين






اللهم آمين اللهم آمين اللهم آمين

أخي الحبيب ماهر..
بإذن الله سأعود للكتابة في هذا الموضوع كلّما أتيح لي الوقت..إلا أننا كما يقول الشاعر:
ننسى بما جدَّ من أوجاعنا وجعاً * * * بالأمس من وطئةِ الآهات أبكانا

محمد العاني 21-11-2006 11:51 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
صدق الله العظيم
من سورة المائدة الآية (32)

بعد احتلال بغداد بعدّة أيام، بدأت الأسواق تُفتح من جديد و محلات الخدمات و المخابز كذلك. حيث أن الناس بدأوا يُحسون شعوراً كاذباً بأن أسوأ ما يُمكن أن يحدث قد حدث فعلاً في أيام المعارك الضارية و انتهت أيام المُعاناة.
خرجتُ يوماً من البيت لأذهب إلى الأسواق القريبة من بيتنا لشراء بعض الحاجيات. و في طريقي مررت على صديقٍ لي يعمل في محل حلاقةٍ لأسلم عليه لأنني لم أره منذ بدء الحرب، فإذا بي أرى جنوداً أمريكيين يجلسون في محل الحلاقة ينتظرون دورهم في الحلاقة...!!!
كانت تعليمات القيادة الأمريكية واضحةً مع القوات الأمريكية و خصوصاً "الشرطة العسكرية" و ليس المارينز هو بتشكيل صداقاتٍ مع الناس و تقديم أنفسهم كمحررين منقذين للبلد. كان الأطفال يجلسون بجانب الأمريكان في محل الحلاقة و يلمسونهم ليتأكدوا أنهم كائنات أرضية و ليسوا كائنات فضائية.
بعد ذلك في طريق عودتي إلى البيت مررت بالمخبز الذي يقع وراء بيتنا مباشرةً فوجدتُ سيارة للقوات الأمريكية واقفة أمام المخبز و أحد الجنود واقفاً في الطابور بانتظار دوره لشراء الخبز العراقي. يالَبرائتهم..
إذا كانت بغداد قد احتُلّت فإننا لم نعلم بعدُ من مات و من لم يمُت في هذه الحرب. فكنت كلّما أسمع صوت الباب ارتعش رعباً لأنني أكاد اوقن أنه قد أتى بخبر سئ عن شخصٍ عزيز أو صديق مقرّب. و كذلك كان..
جاء أحد أصدقائي إلى بيتنا وهو يبكي..تسارعت دقّات قلبي و جفّ حلقي و لم أستطع الحِراك..لم أستطع أن أفعل شيئاً غير أن أقول كلمة واحدة:"مَـن؟؟". فأجابني صاحبي وهو يُكفكفُ دموعه إنه "هشام" صديقنا منذ ايام المدرسة الثانوية..!!
أن ترى الكثير من الناس يموتون أمامك هو أمرٌ مُرعب..و أكثر رُعباً منه أن ترى أناساً بعمرك يموتون. فذلك يجعلك تُدرك أنه كان من الممكن أن تكون أنت.
هشام (رحمة الله عليه) كان من ألطف و أرقى الناس الذين مرّوا علي بحياتي حتّى هذه اللحظة. كان قد تخرّج من الجامعة مُهندساً مدنيّاً و بدأ بإكمال دراسة الماجستير قبل الحرب بستة شهور. و كان قد خطب بنتاً معه في الجامعة و كان ينوي الزواج بها بعد أن يُكمل الماجستير..إلا أنه لم يُكمل الماجستير و لم يتزوج..يا تُرى لماذا؟؟
لأنه كان و أبوه و أخوه في سيارتهم في طريقٍ يُسمى شارع الزيتون و هو أحد الشوارع الذي يرتبط بمجمع القصور الرئاسية (المسماة حالياً المنطقة الخضراء). مرّوا في هذا الشارع بنفس الوقت الذي حدث فيه الإنزال الأمريكي على مجمع القصور الرئاسية. و إحدى دبابات الأمريكان ضربت قذيفة على سيارتهم إلا أن القذيفة أخطأت السيارة و انفجرت بجانبها، فجُرح هشام و السيارة لم تعد تعمل..فنزل ابوه و اخوه من السيارة و هم يصيحون به لينزل من السيارة و يركض وراءهم إلى الأشجار المُجانبة للشارع..إلا أن إصابته و انفجار القذيفة بجانب الباب الذي بجانبه حال دون فتح الباب و نزوله قبل أن يُقرر جُندي أمريكي أن يُطلق النار عليه من سلاح "البيكيتا" الموحود فوق إحدى المدرعات الأمريكية ليُمزّق جسده بعددٍ هائلٍ من الإطلاقات و أبوه على بُعد عدّة أمتارٍ منه لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
لم يستطع أبو هشام و أخوه من أن يأخذوا جثته من السيارة إلى بعد خمسة أيام. ذلك بسبب الحرب الضارية التي نشبت في تلك المنطقة. فظلّ جسد صديقي في السيارة التي صارت فيها ثقوب الإطلاقات أكثر من الثقوب في قلبي..

كانت أم هشام و أخته خارج بغداد في أحد بيوت اقاربهم و لم يُخبرهم أبو هشام بما حدث لهشام. و عادوا إلى بيتهم في بغداد في نفس اليوم الذي ذهبنا فيه أنا وصاحبي لنُعزّي أبي هشامٍ و أخوه...
ولا كلمات تستطيع أن تصف ما يحدث للأم عندما تعلم أن ابنها البكر قد قُتل..و بتلك الطريقة الوحشية.

محمد العاني 21-11-2006 11:53 AM

بسم الله الرحمن الرحيم
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
صدق الله العظيم
من سورة المائدة الآية (32)

بعد احتلال بغداد بعدّة أيام، بدأت الأسواق تُفتح من جديد و محلات الخدمات و المخابز كذلك. حيث أن الناس بدأوا يُحسون شعوراً كاذباً بأن أسوأ ما يُمكن أن يحدث قد حدث فعلاً في أيام المعارك الضارية و انتهت أيام المُعاناة.
خرجتُ يوماً من البيت لأذهب إلى الأسواق القريبة من بيتنا لشراء بعض الحاجيات. و في طريقي مررت على صديقٍ لي يعمل في محل حلاقةٍ لأسلم عليه لأنني لم أره منذ بدء الحرب، فإذا بي أرى جنوداً أمريكيين يجلسون في محل الحلاقة ينتظرون دورهم في الحلاقة...!!!
كانت تعليمات القيادة الأمريكية واضحةً مع القوات الأمريكية و خصوصاً "الشرطة العسكرية" و ليس المارينز هو بتشكيل صداقاتٍ مع الناس و تقديم أنفسهم كمحررين منقذين للبلد. كان الأطفال يجلسون بجانب الأمريكان في محل الحلاقة و يلمسونهم ليتأكدوا أنهم كائنات أرضية و ليسوا كائنات فضائية.
بعد ذلك في طريق عودتي إلى البيت مررت بالمخبز الذي يقع وراء بيتنا مباشرةً فوجدتُ سيارة للقوات الأمريكية واقفة أمام المخبز و أحد الجنود واقفاً في الطابور بانتظار دوره لشراء الخبز العراقي. يالَبرائتهم..
إذا كانت بغداد قد احتُلّت فإننا لم نعلم بعدُ من مات و من لم يمُت في هذه الحرب. فكنت كلّما أسمع صوت الباب ارتعش رعباً لأنني أكاد اوقن أنه قد أتى بخبر سئ عن شخصٍ عزيز أو صديق مقرّب. و كذلك كان..
جاء أحد أصدقائي إلى بيتنا وهو يبكي..تسارعت دقّات قلبي و جفّ حلقي و لم أستطع الحِراك..لم أستطع أن أفعل شيئاً غير أن أقول كلمة واحدة:"مَـن؟؟". فأجابني صاحبي وهو يُكفكفُ دموعه إنه "هشام" صديقنا منذ ايام المدرسة الثانوية..!!
أن ترى الكثير من الناس يموتون أمامك هو أمرٌ مُرعب..و أكثر رُعباً منه أن ترى أناساً بعمرك يموتون. فذلك يجعلك تُدرك أنه كان من الممكن أن تكون أنت.
هشام (رحمة الله عليه) كان من ألطف و أرقى الناس الذين مرّوا علي بحياتي حتّى هذه اللحظة. كان قد تخرّج من الجامعة مُهندساً مدنيّاً و بدأ بإكمال دراسة الماجستير قبل الحرب بستة شهور. و كان قد خطب بنتاً معه في الجامعة و كان ينوي الزواج بها بعد أن يُكمل الماجستير..إلا أنه لم يُكمل الماجستير و لم يتزوج..يا تُرى لماذا؟؟
لأنه كان و أبوه و أخوه في سيارتهم في طريقٍ يُسمى شارع الزيتون و هو أحد الشوارع الذي يرتبط بمجمع القصور الرئاسية (المسماة حالياً المنطقة الخضراء). مرّوا في هذا الشارع بنفس الوقت الذي حدث فيه الإنزال الأمريكي على مجمع القصور الرئاسية. و إحدى دبابات الأمريكان ضربت قذيفة على سيارتهم إلا أن القذيفة أخطأت السيارة و انفجرت بجانبها، فجُرح هشام و السيارة لم تعد تعمل..فنزل ابوه و اخوه من السيارة و هم يصيحون به لينزل من السيارة و يركض وراءهم إلى الأشجار المُجانبة للشارع..إلا أن إصابته و انفجار القذيفة بجانب الباب الذي بجانبه حال دون فتح الباب و نزوله قبل أن يُقرر جُندي أمريكي أن يُطلق النار عليه من سلاح "البيكيتا" الموحود فوق إحدى المدرعات الأمريكية ليُمزّق جسده بعددٍ هائلٍ من الإطلاقات و أبوه على بُعد عدّة أمتارٍ منه لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
لم يستطع أبو هشام و أخوه من أن يأخذوا جثته من السيارة إلى بعد خمسة أيام. ذلك بسبب الحرب الضارية التي نشبت في تلك المنطقة. فظلّ جسد صديقي في السيارة التي صارت فيها ثقوب الإطلاقات أكثر من الثقوب في قلبي..

كانت أم هشام و أخته خارج بغداد في أحد بيوت اقاربهم و لم يُخبرهم أبو هشام بما حدث لهشام. و عادوا إلى بيتهم في بغداد في نفس اليوم الذي ذهبنا فيه أنا وصاحبي لنُعزّي أبي هشامٍ و أخوه...
ولا كلمات تستطيع أن تصف ما يحدث للأم عندما تعلم أن ابنها البكر قد قُتل..و بتلك الطريقة الوحشية.

السمو 22-11-2006 06:56 AM

ياسبحان الله كيف غاب عني هذا الموضوع كل هذه المدة
وللأسف لأول مرة أشاهده ..

ويالله كم علقت في حلقي غصة تلو غصة ؟؟!!
وكم أصاب قلبي من لوعة وحرقة ؟؟!!
وأنا مجرد أقرأ !! فكيف بالله على من عاش تلك الأحداث ؟!
ولاينام إلا على قصف القنابل والصواريخ !!

أخي محمد
لا أقول إلا اللهم ياقوي وياعزيز بقوتك وجبروتك انتقم من الأمريكان
وأخرجهم من العراق أذلة صاغرين ..

وكان الله في عونكم أخي ..

محمد العاني 22-11-2006 10:42 AM

إقتباس:

المشاركة الأصلية بواسطة دايم العلو
ياسبحان الله كيف غاب عني هذا الموضوع كل هذه المدة
وللأسف لأول مرة أشاهده ..

ويالله كم علقت في حلقي غصة تلو غصة ؟؟!!
وكم أصاب قلبي من لوعة وحرقة ؟؟!!
وأنا مجرد أقرأ !! فكيف بالله على من عاش تلك الأحداث ؟!
ولاينام إلا على قصف القنابل والصواريخ !!

أخي محمد
لا أقول إلا اللهم ياقوي وياعزيز بقوتك وجبروتك انتقم من الأمريكان
وأخرجهم من العراق أذلة صاغرين ..

وكان الله في عونكم أخي ..

اللهم آمين اللهم آمين اللهم آمين..

لا أراك الله مكروهاً في عزيزٍ تحبهُ أو وطنٍ تُجلهُ بإذنه و رحمته إنهُ الكريم الحفيظ..

maher 05-07-2007 11:59 AM

أحس برغبة قاتلة في البكاء
لم أجد أحسن من هذا الموضوع أدفن فيه جراحي
فإذا به تنفجر علي
و تزيد استفحالا

لنا الله حسبنا هو ونعم الوكيل

اوراق الثريا 05-07-2007 12:07 PM

رحمه الله وجعل الجنة مثواه
أعرف أن كلماتي و مفردات اللغة جميعها على الرغم من غناها وتنوعها ستقف عاجزة عن التخفيف من حدة أحزانك
ذاك هو الموت ياصديقي...القوة التي لا تقهر وتلك رحلة على الجميع خوض غمارها
ولكن أود إخبارك شيئاً أخي محمد
الموت دوماً يخطف من اقترب قليلاً من درجة الكمال


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.