حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   مكتبـة الخيمة العربيـة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=70)
-   -   عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=85347)

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:01 AM

(25)
الفصل الثاني
لغة القصيدة الحديثة
اللغة هي الأداة الأساسية لشاعر –وللأديب عمومًا- أو لنقل إنها الماة الأولى التي يشكل منها وبها بناءه الشعري بكل وسائل التشكيل الشعري المعروفة ، أو أنها الأداة الأم التي تخرج كل الأدوات الشعرية الأخرى من تحت عباءتها ،وتمارس دورها في إطارها .
وإذا كان النثر يستخدم اللغة كما يستخدمها الشاعر ،فإن ثمة فروقًاً جوهرية بين استخدام الشاعر اللغة ،واستخدام الناثر لها ، أو بين"لغة الشاعر " و"لغة النثر"لأن للشعر لغة خاصة داخل اللغة ينذر الشاعر نفسه ويفنيها في سبيل تحديدها وإبداعها.(1) .والفارق الأساسي بين الاستخدامين أنه في لغة الشعر يستهلك المضمون الشعري ، و في البناء اللغوي الذي "يتضمنه " بحيث يستحيل الفصل بينهما ؛فالمشاعر والأحاسيس والأ فكار ، وكل العناصر الشعورية والذهنية ، تتحول في الشعر إلى عناصر لغوية بحيث إذا تقوض البناء اللغوي في الشعر تقوض معه الكيان النفسي والشعوري المتضمن فيه ، يخلاف النثر الذي يظل المضمون فيه متميزًا إلى حد ما عن الشكل اللغوي الذي "يحمله "بحيث يمكن لهذا الشكل اللغوي أن يفنى ويتلاشى-بل إنه يفني ويتلاشى بالفعل – عقب إيصاله للمضمون الذي يحمله ، دون أن يتلاشى هذا المضمون أو يتأثر ،وذلك لاأن اللغة في النثر "وسيلة" تؤدي غرضًا محددًا ، وتوصل إلى غاية معينة ، ومن ثم فإن دورها –شأن كل وسيلة من الوسائل –ينتهي بالوصول إلى الغاية المستهدفة من ورائها ، على حين أن اللغة في الشعر " غاية" في ذاتها،والتشكيل اللغوي الذي يشكله الشاعر في القصيدة ليس وسيلة لأي هدف آخر وراءه.


______________
(22)انظر:Paul Valery p.85

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:23 AM

(26)
ويوضح بول فاليري الفرق بين استخدام الناثر للغة واستخدام الشاعر لها بمثال استخدام الخطوات بالنسبةل لكل من ال ماشي والراقص ، فكلاهما يبستخدم نفس الخجطوات ونفس ‘ضاء الجسم التي يستخدمها الآخر ولكن الخطوات بالنسبة للماشي وسيلة توصله إلى هدف معين ، وينتهي دورها بالوصول إلى هذا الهدف ، على حين أن الخطوات بالنسبة للراقص غاية وهدف في ذاتها ،لا يهدف من ورائها إلى الوصول إلى شيء آخر .
هكذا اللغة في النثر وفي الشعر ؛ فهي بمثابةالخطوات في المشي ، وسيلة ينتهي دورها بأداء الغرض منها ، أما في الشعر فهي بمثابة الاخطوات في الرقص ،غاية لا يستهدف بها شيئًا آخر وراءها.(23)
ونتيجة لهذا الفارق الجوهري العام بين "لغة الشعر " ولغة النثر فإنه من الممكن أن نعبر عن الفكرة التي تتضمنها العبارة النثرية بأي أسلوب نثري آخر دون أن تفقد شيئًا من جوهرها ، ما دام هناك نوع من التمايز بين الفكرة والعبارة النثرية ، وما دامت الفكرة هي الغاية والعبارة هي الوسيلة إليها ، إذ من الممكن الوصول إلى الغاية الواحدة بأكثر من وسيلة ، أما الشعر فلا يمكن التعبير عن مضمونه-إذا صح أن له مضمونًا آخر غير شكله- بأي أسلوب آخر –نثرًا كان هذا الأسلوب أو شعرًا- دون أن يفقد شيئًا أساسيًا من جوهره،والشعر الذي يمكن تقديم معادل نثري له دون أن يفقد شيئًا من جوهره سوى الموسيقى هو في الواقع ليس شعرًا ، وإنما هو "نظم نثري" ردئ-إذا صح هذا التعبير-لا يمت إلى جنس الشعر بأكثر من الوزن والقافية اللذين لم يعودا أهم سات الشعر وةمميزاته التي تميزه عن النثر.
_________________
(23)انظر مقال بول فاليري:"حول قصيدة المقبرة البحرية "في كتاب "الرؤيا الإبداعية".وهو مجموعة أشرف على ىجمعها هاسكل بلوك وهيرما سالينجر ،ترجمة أسعد حلم .مكتبة نهضة مصر.القاهرة1966 ص35،36 وأيضًا د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث .ص386.

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:26 AM

(27)
وكما يمكن التعبير عن المضمون النثري بأي أسلوب نثري آخر فكذلك يمكن ترجمته من لغة إلى أخرى دون أن يفقد شيئًا ذا بال من قيمته ،أما الشعر فتستحيل ترجتمه من لغة إلى لغة دون أن يفقد الكثير من خواصه وسماته، فالشعر يكتب في إطار التقاليد والقوانين الخاصة باللغة التي كتب فيها ، والتي يتعذر نقلها إلى لغة أخرى بدقة كاملة.
على أننا حين نتحدث عن هذه الفروق الجوهرية الحادة بين لغة الشعر ولغة النثر ، وعن إمكان ترجمة النثر من لغة إلى لغة فإننا ينبغي –كما يقول بندتو كروتشه- أن نقصر هذه المقولة على النثر الخالص- غير الأدبي- وعلى السمات والخصائص النثرية لهذا النثر ، وينعي كروتشه على أولئك الذين يحاولون تطبيق هذه المقولة باستخفاف على النثر الأدبي الذي يحمل من السمات الجمالية والفنية ما يضع أمام إمكان ترجمته نفس العقبة الكأداء التي يضعها الشعر أمامه(24). وثمة نماذج من هذا النقثر الأدبي تقترب –في لغتها-من الشعر حتى لا يكاد يصبح بينها وبين الشعر من فارق سوى الموسيقى.
ولكن ما هي السمات الفنية الخاصة للغة الشعر بشكل عام ولغة القصيدة الحديثة على وجه الخصوص التي تميزها عن لغة النثر على هذا النحو الذي أشرنا إليه؟
إن أبرز ما يميز هذه اللغة هو ثراؤها بالطاقات التعبيرية ، واكتنازها بالإيحاءات اللامحدودة ، فلقد كان الهم الأول للشاعر في كل العصور هو أن يعيد للغة طاقاتها الأولى ، وقدراتها الخارقة على التأثير التي كانت لها في عصورها الأسطورية الأولى قبل أن تبتذل وتتحول إلى لغة عملية نفعية تضخع لمنطق العقول وتحديداته الصارمة ، وتسعى إلى نوع من التحدد والموضوعية بحيث لا تعبر إلا عن كل ما هو واضح ومحدد.
________________________
(24) :انظر :97-96La Poesie. .p.p

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:31 AM

(28)
ولكن الشاعر يحس دائمًا أن ثمة أشياء تند عن التحديد والوضوح ، ومن ثم فإن هذه اللغة العادية بمحدوديتها وتناهيها عاجزة عن استعيابها والتعبير عنها ، ومن هنا كان سعيه الدائب وراء اكتشاف لغة أخرى تتسع للتعبير عن هذه الأحاسيس والمشاعر اللامحدودة التي يحسها ويشعر بعج اللغة العادية عن استيعابها ، أو بتعبير آخر كانت محاولته المتصلة في سبيل إبداع لغة داخل لغة.
ولقد كان إحساس الشعراء المعاصرين-وبخاصة شعراء الرمزية الأوروبية- بهذه المشكلة حادًا عميقًا ، ومن ثم كان سعيهم وراء اكتشاف اللغة الجديدة-أو اللغة الأسطورية الأولى- بنفس القدر من العمق والحدة (25).وقد تراوحت محاولات هؤلاء الشعراء بين الحماس المتزن والتطرف المسرف ، ولعل من أكثر الشعراء المزيين إسرافًا وتطرفًا في محاولاته "رامبو"الذي اهتم اهتمامًا كبيرًا بهذه القضية ، ونذر نفسه للبحث عن لغة جديدة ،أو لابتكار وسائل إيحاء جديدة داخل اللغة ، وكان يرى أن "الشاعر ينبغي أن يكون سارق النار " وأن يعثر على "اللغة الشاملة""وهذه اللغة ستكون من الروح إلى الروح ،وتلخص كل العطور ،والأصوات والألوان"(26).
ولقد حاول رامبو بالفعل أن يعثر على هذه اللغة التي دعا إليها ،حيث اخترع في كتابه الغريب "فصل في الجحيم Une Saison en Enfer” ما سماه كيمياء الكلمة Alchimiedu Verbe وقد اخترع من قبل ماسماه الأصوات المتحركة الملونة في قصيدة شهيرة له بعنوان "الحروف المتحركة “Voyesses
أعطى فيها كل صوت من الأصوات المتحركة لونًا معينًا. وهو في القصيدة التي تحمل عنوان "كيمياء الكلمة" من كتاب "فصل في الجحيم" يذكر بكل هذا ويدل به ويحدد ملامح اللغة الشعرية الجديدة التي اخترعها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(25)تعرض الصديق الدكتور محمد فتوح أحمد بتوسع في دراسته الجادة عن "الرموز والرمزية في الشع رالمعاصر "التي نشرتها دار المعارف بمصر 1977 ،لجهود الرمزيين في سبيل اكتشاف لغة شعرية جديدة.

(26)انظرClaude-Edmonde Magny :Arthur Rimbaud .Ed. Segher .Paris 1967-p.68. :من رسالته إلى بول دوميني

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:33 AM

(29)
"لقد اخترعت ألوان الأصوات المتحركة .. ونظمت هيئة كل حرف وحركته. وبإيقاعات فطرية زينت لنفسي اختراع لغة شعرية ستكون يومًا ما في متناول كل الأحاسيس ..إن الابتذال له نصيب كبير في لغتي الكيميائية .لقد تعودت على الهذيان البسيط ؛كنت أرى في وضوح شديد معبدًا في مكان مصنع ومجموعة من ضاربي الطبول ،وعربات صغيرة تجرها الخيول تسير في طرقات السماء ، وغرفات استقبال في قاع البحيرة.. وعقب ذلك كنت أعبر عن ضلالاتي السحرية بهذيان من الكلمات"(27).
وقد سار السيرياليون في الطريق الذي اختطه رامبو إلى مداه ،فتحرروا من كل منطق لغوي مألوف ،وأسقطوا الراوابط وأدوات الوصل اللغوية من معظم شعرهم ، كما أسقطوا علامات الترقبيم ،وبهذا أصبحت اللغة الشعرية السيريالية"لا يراعى فيها الخضوع لأي ترتيب أو الخضوع لأي نظام .والقصيدة السيريالية النموذجية تبدو كما لو كانت مجموعة من الجمل المتجاورة غير المترابطة التي تحتوي كل منها على صورة ، أو حتى مجموعة من الكلمات ..التي تبدو كما لو كانت في بناء لم يستخدم فيه ملاط أو أسمنت"(28)مما يقرب هذه اللغة كثيرًا من لغة الحلم ومن هذيان السكارى.
كل هذه المحاولات كانت من أجل استعادة اللغة لقدراتها الأسطورية الأولى واتساعها لاستيعاب الرؤية الشعرية الحديثة بكل أبعادها الشعورية واللاشعورية التي تعجز الإمكانات العادية للغة عن استيعابها.
_________________
(27)Arthur Rimbaud: Oeuvres Poetiques-Ed.Gamier Flammarion ,Paris 1964-p.p.130-132وانظر :د.محمد غنيمي هلال: النقد الأدبي الحديث ،ص407،ود.محمد فتوح أحمد:الرمز والرمزية في الشعر الحديث ص81-83.
(28)Robert Berchon: Le Surrialisme. Libr. Armand Colin.1971.p.p.176-177


المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:34 AM

(30)

ولكن محاولات الشعراء المحدثين-فضلاً عن القدماء- في مجال تزويد اللغة بطاقات إيحائية جديدة لم تكن كلها لحسن الحظ على هذه الدرجة من التطرف التي كانت عليها محاولة رامبو والسيرياليين من بعده ، ولكنها سارب كلها في استغلال الإمكانات والوسائل اللغويوة وإغنائها بالطاقات التعبيرية التي تساعدها على استيعاب كل أبعاد الرؤية الشعرية الحديثة .
وكان طبيعيًا أن تتأثري لغة القصيدة العربية الحديثة بكل هذه ال محاولات متطرفها ومعتدلها على السواء ، فضلاً عن المحاولات الموروثة في إطار التراث الشعري العربي.
وإذا كانت "اللغة الشعرية" هي المادة الأولى أو الوعاء العام لكل الأساليب والأدوات الشعرية الأخرى ، بحيث يعد الحديث عن كل أداة من هذه الأدوات حديثًا في الوقت ذاته عن "اللغة الشعرية" ،فإن ثمة مجموعة من الإمكانات اللغوية الخالصة التي يوظفها الشاعر توظيفًا إيحائيًا ،والتي تنتمي إىل اللغة كلغة ولا تدخل في إطار أية أداة شعرية أخرى موروثة أو مستحدثة ، ومن ثم فمن الضروري أن نعرض هنا لأبرز هذه الإمكانات قبل أن ننتقل إلى الحديث عن الأدوات الشعرية الأخرى.
القيمة الإيحائية للأصوات :
فقد لا يكون لبعض الأصوات إيحاء خاص فلي بعض السياقات المعينة ؛فحروف المد مثلاً في سياقات معينة تقوي من إيحاء الكلمات والصور ، وقد اهتدى شعراؤنا القدامى بفطرتهم اللغوية الخالصة إلى بعض الإمكانات الإيحائية في هذه الأصوات ، ووظفوها توظيفًا تعبيريًا بارعًا ،كما فعل أبو العلاء المعري مثلاً في قصيدته التي قالها في مدح أحد العلويين يقول في مطلعها


عللاني، فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفانِ


المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:38 AM

(31)
ففي هذا البيت يصور تلك المفارقة الأليمة بين قصر أوقات السعادة وسرعة انقضائها ، وطول أوقات التعاسة وبطء مرورها ، والمد في الكلمة الأولى من الشطر الأول يلائم نغعمة الشكوى إلى صديقيه ، على حين خلت كلمة "فنيت" في بداية الشطر الثاني من أصوات المد لتناسب في سرعة النطق بها سرعة فناء بيض الأماني ، بينما تكثر حروف المد في "الظلام" و"بفان" ليحدث نوع من التضاد في النطق بينها وبين كلمة "فنيت" ولتوحي بطولها وامتدادها بأن هذا الظلام ممتد لا نهاية له.
ومن هذا القبيل أيضًا قول عباس العقاد حين نقل جثمان سعد زغلول إلى ضرحيه :
اعبر القاهرة اليوم كما
كنت تلقاها جموعًا ونظاما
لحظة في أرضها عابرة
بين آباد طوال تترامى
فالشطرة الأولى من البيت الثاني التلي تصور قصر اللحظة التي يمر فيها نعش سعد بالنسبة لتاريخ مصر الطويل الممتد تقل فيها حروف المد ، مما يساعد على الإيحاء بقصر هذه اللاحظة على حين امتلأت الشطرة الثانية التي تصور امتداد تاريخ مصر وتراميه بحروف المد ، مما يقوي الإيحاء بالطول والامتداد في مقابل السرعة والقصر في الشطرة الأولى.(29)
على أننا لا نستطيع أن نحكم بأن استغلال القيم الإيحائية للأصوات في هذه الأمثلة كان مقصودًا من هؤلاء الشعراء ،ولعلهم اهتدوا إليها بمحض فطرتهم اللغوية الشفيفة .ولكن بعض الشعراء والنقاد الغربينن له محاولات مدروسة في هذا المجال ،ولعل من أشهر هذه المحاولات ما فعله الشاعر الفرنسي الرمزي رامبو بالنسبة للأصوات الملونة ،حيث حاول أن يعطي كل صوت من أصوات المد لونًا خاصًا في قصيدته "أصوات المد
:Voyelles”
_______________
(29) انظر هذين المثالين وأمثلة أخرى في كتاب"النقد الأدبي الحديث"،ص382



المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:40 AM

(32)
على أننا لا نستطيع أن نحكم بأن استغلال القيم الإيحائية للأصوات في هذه الأمثلة كان مقصودًا من هؤلاء الشعراء ،ولعلهم اهتدوا إليها بمحض فطرتهم اللغوية الشفيفة .ولكن بعض الشعراء والنقاد الغربينن له محاولات مدروسة في هذا المجال ،ولعل من أشهر هذه المحاولات ما فعله الشاعر الفرنسي الرمزي رامبو بالنسبة للأصوات الملونة ،حيث حاول أن يعطي كل صوت من أصوات المد لونًا خاصًا في قصيدته "أصوات المد
:Voyelles”

Aأسود .B أبيض . I أحمر . U أخضر Oأزرق . وقد ارتبط كل لون من ألوان هذه الأصوات بمجموعة من التداعيات ،فحرف I مثلاً تذكر حمرته بالأرجوان،والدم المبصوق وضحك الشفاه الجميلة خلال الغضب أو السكرة النادمة .(30)
وعلى هذا النحو حاول رامبو أن يكسب الأصوات قيمة إيحائية ،وعلى ما في هذه المحاولة من تطرف وإسراف من ناحية ،وذاتية من ناحية أخرى فإنها تظل واحدة من المحاولات البارزة في مجال إعطاء قيم إيحائية للأصوات اللغوية.
ولقد عرف شعرنا العربي الحديث بعض المحالولات في مجال إضفاء قيمة إيحائية على الأصوات اللغوية ،في مثل طموح محاولة رامبو ، ومثل جرأتها ، حيث جرب بعض الشعراء الشباب إضفاء قيمة موسيقية على بعض الأصوات ،ولعل بعضهم متأثر في تجربته بمحماولة رامبو في مجال إضفاء قيمة لونية على الأصوات ،ومجاولات سواه من الرمزيين في مجال استغلال القيم الموسيقية الخالصة للأصوات والكلمات.
ومن أكثر هذه المحاولات جرأة وطموحًا تجربة الشاعر العراقبي اسين طبه حافظ في قصيدته التي سماها "تجربة في الموسيقى"(31) والتي حاول فيها أن يعطي بعض الأصوات دلالات موسيقية خالصة .وقد سارت هذه المحاولة في اتجاهين:
أولهما : تحويل بعض الكلمات إلى مجموعة من الأصوات الموسيقية المؤلفة من نغما تالسلم الموسيقى (دو.ري .مي.فا .صو.لا.سي).
ثانيهما :استغلال عنصر التكرار في إضفاء جو موسيقى خاص عن طريق الإكثار من تكرار حرف معين ،أو حرفين متشابهين.
________________
(30)A. Rimbaud:Oeuvres Poetiques p.75.
وانظر د.محمد فتوح أحمد :الرمز والرمزية في الشعر المعاصر . ص82،128
(31)ياسين طه حافظ: قصائد الأعراف . منشورات وزارة الإعلام العراقية.بغداد 174،ص99

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:43 AM

(33)

والقصيدة عبارة عن حوار بين مجموعة من الآلات الموسيقية التي تتحاور منفردة ومجتمعة ،ويبدأ الحوار بصوت الأوبرا بصوت الأوبوا المنفرد الذي يحول الكلمات إلى أنغام السلم الموسيقي على النحو التالي:
دوي الريح ميراثنا الفاجع في صورة الأوجه اللاجئات إلى بعضها من سيول تسافر الجبال.
فقد احتوى هذا البيت على أنغام السلم الموسيقي (دو.ر. مي.فا.صو.لا.سي.) وقد كتب الشاعر البيت في الديوان بطريقة تبرز هذه الأنغام على النحور التالي
دوي ال ري اح مي راثنا ال فاجع في صورة الأوجه اللاجئات إلى بعضها من سي ول تسافر بين الجبال.
وفي موضع آخر من القصيدة يستغل الشاعر عنصر التكرار بالنسبة لصوت الطاء من ناحية ،وصوتي "الصاد"و"السين" من ناحية مجتمعين من ناحية أخرى ، وذلك في المقطع الذي نسمع فيه صوت فرقة الآلات مجتمعة :
من طبول تدق ،طوفان رعب يطوق حيطاننا ، والطيور تساقط من طورها الأزرق في الطرقات الطويلة.
تتصاحي أصواتها كالسياط على جسد الصمت ،تصرخ ساقطة ، السنونو المصابة في الجناح تسقط ، تعصر في الصدر صيحتها ،تتساقط من صدرها كسر من زجاج تناثر فوق صخور المسافة(32)

فقد تكرر صوت "الطاء" في البيت الأول أكثر من عشر مرات ، كما تكرر صوت"السين"و"الصاد" المتشابهين في البيت الثاني أكثر من عشرين مرة.
_____________
(32) تقوم بعض أبيات هذا النموذج والنماذج التالية على نظام "التدوير" الموسيقى ، وسوف نعرض لطبيعة هذا النظام عند الحديث عن "موسيقى القصيدة الحديثة".

المشرقي الإسلامي 27-05-2011 09:48 AM

(34)

وواضح أن هذه التجربة مغامرة مغرقة لفي الشكلية ، فيها كل ما في التجريب من إسراف وافتعال ، بحيث يكاد الإيحاء الصوتي فيها يكون هدفًا في ذاته ، ومنعزلاً عن عناصر البناء الشعري الأخرى ، بل إن الاهتمام بهذا الجانب الصوتي الموسيقى شغل الشاعر حتى عن الاهتمام بالقيمة الموسيقية الأساسية العاملة في الشعر من وزن وقافية ، فالوزن في القصيدة على قدر واضح من الاضطراب والخلل ،والقافية تكاد تختفي من القصيدة باستثناء الأبيات التي تعبر عن هذا صون الجلوكانترباص،والتي ولق الشاعر إلى حد كبير في إضفاء إيقاع بارز متميز عليها ، يلائم صوت هذه الآلة المتميز المنضبط الإيقاع ،وقد عبر الشاعر عن هذا الصوت بأبيات تكاد تكون منضبطة الطول ، وعلى قدر واضح من التقفية ، وفيما عدا ذلك يهمل التقفية تمامًا .
إن الحصيلة النهائية التي يخرج بها القارئ من هذه القصيدة هي مغامرة في الشكل الخالص ، وفي عنصر واحد من عناصر الشكل على حساب العناصر الأخرى.
وثمة محاولة أخرى في هذاالاتجاه قمت بحذفها لاحتوائها على سخرية بالقرآن الكريم لذا قررت الاستعاضة عنها بمثال آخر (هذا الكلام من وضعي وليس من وضع المؤلف)


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.