حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   خيمة القصـة والقصيـدة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=69)
-   -   الطائر الصغير يقود السرب (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=85625)

ابن حوران 08-08-2011 12:08 AM

الطائر الصغير يقود السرب
 
الطائر الصغير يقود السرب



(1)


شعر (علوان) كأنه حصان وُضع في زريبة، وفُرشت تحته قِطعٌ صغيرة من أوراق كُتب التاريخ القديم، ووُضِع في (مِذْوَدِه) تبنٌ مكونٌ من فتافيت قصائد الحماسة والتغني بالأمجاد، ورُبِط بسلسلة من عنقه وأخرى من نقطة حساسة. عليه أن يفكر ويتحرك بقدر ما يَسمح به طول السلسلة. الوقت المتطاول يسمح له أن يقرأ كل كلمة على أي قطعة من الأوراق، ولم يعتنِ قط بترتيب تواريخ أحداثها، وأخذ العبرة، فكَوَّن تاريخاً خاصاً بنفسه من خلال مطالعته المستمرة ومضغه للتبن.

أغمض عينيه ليريحهما من مهمة متابعة الأحرف التي كانت تشبه النمل المتحرك باتجاهات مختلفة، ولأن الحصان لا يجتر، فكان يكتفي باستعادة الصور التي رُتبت على غير دراية في رفوف ذاكرته.

(2)

لم تمنعه قبضة أبيه أن يلتفت يميناً، في حين كان يساره محجوباً بجسم أبيه الضخم، والذي كان يمسك بيده بقوة حتى لا يفلت منه، ويتوه بين أزقة المدينة وأسواقها..

كان يتبعه بفعل قوانين الجذب الميكانيكية، ولأن خطوات أبيه السريعة أوسع من خطواته، كان عليه أن يخطو خمس خطوات مقابل ثلاث خطوات من أبيه، ولأن انتظام ذلك لم يكن سهلاً، كان أحياناً يرتطم بأسفل جسم أبيه الأيمن، ولكنه لا يتوقف عن السير...

هاله ما رأى من اختلافٍ بين أبنية تلك المدينة، وأبنية قريته التي لم يسبق أن غادرها. كان يَعُد طوابق العمارات، ولا ينجز عدها، لأن انتباهه كان يتوقف لمراقبة ما تعرضه واجهات المحال التجارية، وما يعتلي تلك الواجهات من قِطعٍ تعلن أسماء المحال.

راقته مسألة الأسماء، فأخذ يصعد ببصره ليتتبع ما أُلصِق على العمارات من قطعٍ تعلن عن أسماء محامين وأطباء اختصاص ومستشارين ومستوردين ومصدرين ومعالجين للسمنة والنمش وغيره..

ـ أبي، أبي .. هل يعرف فخامة الرئيس كل أسماء هؤلاء وأسماء من في الشقق والبيوت وأسعار ما يبيعون ويشترون؟

ـ امشِ، دعك من هذا السؤال..

ـ هل تعرف الجواب يا أبي، أم أنك لا تعرفه..
أحكم الوالد قبضته على يد ابن الثلاث عشرة سنة، وكأنه أجابه..



(3)


بعد ستة أعوام، وعندما كان يجلس مع من يُشاركه السكن في الجامعة، تذكر (علوان) تلك القصة وسردها لزملائه، فضحك الجميع إلا (واثق)، فنظر إليه زملاؤه متوقعين منه تعقيباً كعادته...

بعد أن ارتشف قليلاً من الشاي علق واثق بقوله: إن خبرة أبيك وآباءنا جميعاً، قد ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، فهم يعلمون أن الخوض في مثل تلك المسائل سيأتي لهم بوجع الرأس ويسبب لهم المعاناة ويُعطلهم عن مزاولة أعمالهم، التي بالكاد ينجزونها دون تأخير..

تدخل أحد الزملاء واسمه (نضال): وهل نحن نعيش كما يعيش الآخرون في بلاد أخرى؟ نسكن ونعمل ونتداوى ونتعلم دون معاناة؟ أو دون أن نبيع مدخرات أجدادنا لننجز بعض ما نحلم به دون حساب لما سنترك لأبنائنا بعدنا؟

ـ احمد الله على نعمة الأمن والأمان، فغيرنا قد حُرِم منها، فلا تشفع لهم مدخراتهم ولا أرزاقهم ولا اختراعاتهم لينعموا بها كما ننعم.

ـ بل قُل أمن النظام، وليس أمننا، فمعظم واردات البلاد، تذهب لدعم مثل ذلك الأمن، ومن الطبيعي أن يحس أمثالك أن الأمن قد صُنع لهم!

ـ لا فرق، بين أمن النظام وأمننا..

ـ بل هناك فرقٌ كبير، فالأمن بمفهومه الواسع، يشمل الأمن الغذائي والصحي والأمن المائي والأمن الثقافي وأخيراً الأمن، كما تفهمه حضرتك... وإن تحققت شروط الأمن الأولى فلا حاجة للأعداد الغفيرة من جيوش المستخدمين في الأمن. يُقال أنه من ذهب الى هولندا لن يصادف رجل أمنٍ في الشارع، ولن يلحظ أسواراً عالية للمنازل، ولا شبك حماية على النوافذ، لأن الناس يقومون بما تقوم به الحكومة لالتصاق مصالحهم بمصالحها واندماج مفاهيمهم مع مفاهيمها.

يتدخل زميلهم (عادل) ممازحاً: هولندا مرة واحدة؟ نحن أو غيرنا ممن يمارسون هواية التطوع للدفاع عن النظام، يختارون دولة متواضعة مثل (سيراليون) أو دولة مجاورة ليفحموا غيرهم بأن دولتنا أفضل من تلك الدولة! قوموا الى دروسكم حتى نجعل من بلادنا كهولندا..

ابن حوران 27-08-2011 01:07 AM

(4)


شلال عبد الفتاح، موظفٌ من الطراز الرفيع، قضى ثلاثة عقود من حياته الوظيفية بين مساعد مسئول ومسئول رئيسي في دائرتي الأراضي وأمانة العاصمة.

عندما كان يُذكر اسمه، تنكسر النظرات احتراماً له، حتى وإن كان غائباً، فلم يرد على لسان أنه كان ممن يقبلوا حضور العزائم والولائم التي يقيمها أشخاصٌ يودون أن يجروا موظفاً ليدخلوه في دائرة الفساد، ولم يرد على لسان أحد أنه قبل هديةً أو رشوة.

كان مثقفاً موسوعياً، ويتمتع بالسكوت والصمت، حتى يُطلب رأيه، فإن كان ذلك، فإنه يوظف ثقافته في أقل عددٍ من الكلمات، ليترك انطباعاً طيباً، يُضاف الى رصيده الذي يزيد احترام المسئولين والحاضرين له.

كان يتمتع بصفات فريدة في حفظ القوانين، وتوظيفها عند طلب الرأي أو اتخاذ القرار، كما أنه يُعتبر من الموظفين القلائل الذين يستفيدون من أسفارهم الى خارج البلاد، لتنظيم المدن. وقد جعل من العاصمة مدينة سريعة التطور في تنظيم جسورها وطرقاتها وساحاتها. وقد كان الكثير من أمناء العواصم العربية يرجعون إليه لتقديم العون والاستشارة.

كان ابن عائلة ريفية، تملك الكثير من الأراضي، وأبنائها يقبلون على التعليم، كما كان له الكثير من الأخوة والأخوات والأبناء من زوجتين أحدهما توفت وتركت مجموعة من البنات والأولاد، كلهم قد تزوج وأنجب المزيد من الذرية. وقد ساعدهم موقعه وسمعته في أن يتسلموا مواقع وظيفية على درجة من الحساسية، في أكثر من وزارة.

استطاع شلال أن يؤسس شبكة دقيقة من أقرباءه وأصهاره، أشبه ما تكون بمنظمة سرية، تم تكليفها بفتح متاجر قروية في أطراف العاصمة، وكان كل واحدٍ منهم يعرف طبيعة عمله، فبعد مرور عشرين عاماً، كان يملك هو حوالي ثمانمائة ألف متر مربع، بعضها كان سداد دين عن حلاوة وتبغ وبعض المواد التموينية، وبعضها كان من خلال عمليات الشراء ب (تراب المال). لم يسجل شيئاً باسمه، بل رتب ذلك من خلال توكيلات وعقود معقدة، إضافة الى أنه أفاد من خدموه إفادة يجعلهم لا يفشون له سراً.

(5)

لم يستطع عملاء شلال من شراء مترٍ واحد من أراضي (أم الضباع) والتي تعود ملكيتها لعائلة (فارع أبو الزغاليل)، فقد كانت مواصفاتها أكثر جودة من الأراضي التي تم شرائها، كانت أراضي عميقة مطيرة، يزرع بها فارع القمح والبقوليات ويربي الدجاج البلدي والخراف والحمام وغيرها، فكان أهل العاصمة يعرفونه ويعرفون منتجاته التي يفضلونها على المستوردة أو المنتجة بطرق حديثة تحت مسميات (بيض بلدي، خروف بلدي، زغاليل فارع الشهية الخ).

مرت عدة سنوات، حتى امتد التنظيم الى تلك المنطقة، فاستطاع عملاء شلال أن يبيعوا مائة ألف متر لإسكان أساتذة الجامعات، وبعض كبار الموظفين، حتى امتلأ المكان بالفيلات والقصور الفخمة.

كانت امرأة فارع أبو الزغاليل، على قدرٍ كبير من الجمال والفتوة رغم سنين عمرها التي جاوزت الأربعين، فكانت تنظر الى نساء سكان الحي الجديد نظرة ممزوجة بالحسد والاستعلاء في نفس الوقت. لم تكفها المردودات التي تهل على العائلة من بيع المنتجات، بل أخذت تحسب، إنها تملك هي وزوجها حوالي مائتي ألف متر، وثمن المتر الواحد يعادل دخل العائلة لأسبوع أو أكثر، بماذا تتباهى عليها النساء اللواتي يقصدنها لشراء منتجاتها؟ وتطل إحداهن من شباك السيارة لتبلغها أنها تريد لبناً وزبداً وزغاليل؟ هي أجمل من أكثرهن، وهي تعلم كم غاب أزواجهن في الخليج والغربة ليشتروا قطعة أرض، فلماذا لا توقف (عنطزتهن) وتبني بيتاً أفخم من بيوتهن وتشتري سيارة أحدث من السيارات اللاتي يركبنها؟ ولماذا لا تنهي شقاء أولادها وتبعثهم الى الجامعات؟

كان من الصعب عليها أن تفاتح زوجها (فارع ) بتلك النوايا، فزوجها كأبيه، كأمه، لم يكن يعرف التصرف بمبلغ يزيد عن ألف دينار، فلم يتدرب على تماطي طلباته أو حتى أحلامه. فابتكرت طريقة جعلت سكان الحي يبتعدون عنها شيئاً فشيئاً، كانت تترك الأوساخ قريبة من مكان مناولة الحاجات التي يشريها الزبائن، وأحياناً ترمي ببعض الذباب فوق الحليب.

ما هي إلا أيام قليلة، حتى جاء موظفو الصحة، وبلغوا فارع بضرورة تصويب أوضاعه، والتوقف عن تربية الحيوانات أو ممارسة بيع المنتجات الغذائية.

كان لزوجة فارع ما أرادت، فتم بيع قطعة أرض وبناء بيت فخم وشراء سيارة وإرسال الأبناء الى الجامعات في الخارج.

(6)
دفعت الشفقة أحد الموظفين أن يُعطي والد علوان قطعة من الورق يساعده فيها على الوصول الى بيت المسئول الذي تملص من رؤيته في مبنى الدائرة الحكومية، وقد كان سبب تملص المسئول، أن من أبلغه عن وجوده في الدائرة أنه صوَّر حالته التي بدا عليها بأنه سيدخله في حرجٍ أمام زواره الأنيقين.

استغرب والد علوان، من التطور الكبير الذي حل بتلك المنطقة التي يسكن فيها قريبه، فقد كانت قبل عقدين منطقة موحشة قريبة من العاصمة، ولكن اسمها كان يعلن عن طبيعتها فكان يُطلق عليها (أم الضباع)، ولم يكن يسكن فيها إلا بعض الفلاحين الذين يزرعون البقوليات والبصل والقثاء.

لقد امتلأ المكان بالبنايات الفخمة والتي يسكنها حديثو النعمة من المغتربين وكبار الفاسدين والمشتغلين بغسيل الأموال، وبعض أصحاب الحظوظ.

لم يكن أبو علوان قادراً على ابتكار سيناريوهات تعينه على فهم لماذا تطورت تلك المنطقة بهذه السرعة، حتى لو استعان بعشرات الخبراء.

توقفت سيارة الأجرة أمام بيت (فارع أبو الزغاليل) وأنزل السائق أبا علوان وابنه، وأبلغهما أن أصحاب هذا البيت يعرفون كل سكان الحي. تحركت السيارة، وارتقى أبو علوان درجات البيت وطرق الباب، رغم وجود جرس كهربائي.

خرجت امرأة فارع غاضبة:
ـ لماذا تطرق الباب؟ ألا ترى الجرس؟ وماذا تريد؟
ـ تفاجأ الرجل الخشن من خشونة المرأة الناعمة، ورُبِط لسانه، فلم يعلم بماذا يرد عليها.. يا أختي كنت أود أن أسأل عن بيت قريبي سليمان بك.
ـ ومن قال لك أننا هنا مكتب استعلامات؟ فلم تدله رغم أنها تعرف كل بيوت الحي.

ابن حوران 04-09-2011 02:03 PM

(7)

سليمان بك، موظف دولة كبير، ابتدأ حياته السياسية منذ عهد الدراسة الثانوية منتمياً لأحد الأحزاب المنادية بالوحدة العربية والإطاحة بكل الأنظمة العربية. تنقل بين دولتين عربيتين مقيماً فيها أكثر من عشر سنوات، ونَسب عنه أقاربه ومعارفه بطولات، لم ينفها هو ولم يؤكدها. اتخذ من سلوك بعض رفاقه الذين انضموا لإدارات الأنظمة العربية الحاكمة في سوريا ومصر والعراق ولبنان والأردن، مبرراً يمهد لإتباع نفس السلوك. فمنهم من تذرع بأن العمل من داخل الدولة أفضل من معارضتها ومنهم من اختصر الطريق وأفشى لنظام الحكم خطط رفاقه فتم تكريمه وضمه لجوقة الحكم.

كان سليمان بك، إذا التقى مع بعض معارفه القدماء، لا يتوانى عن التهكم على بعض شخصيات الحكم، وكان يترفع في نفس الوقت عن الطلب من تلك الشخصيات، أن تقدم له خدمة طلبها أحد معارفه القدماء، لكي يتماشى سلوكه مع ما يعتقد أنه يمتاز عليهم به.

ولم يسأله معارفه عن سبب انضمامه للحكم، فكانوا يجلسون بحضرته كأصحاب حظوة خاصة، يمنون أنفسهم بأنهم قد يستثمروا تلك الحظوة في مسألة تعزز مكانتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.

كان هذا الصنف من الموظفين، يريد أن يبعث برسالتين مزدوجتين تجعل منصبه في مأمنٍ من التغيير، أحدهما لإدارة الدولة، بأنه على صلة واسعة مع جماهير المثقفين وغيرهم، وهذه الصلة قد تهدئ من احتجاجهم ضد الدولة، أو أنه في حالة إهماله من الترقيات والتشكيلات الحكومية فإنه ربما يستثمر مثل تلك العلاقات. والرسالة الثانية لأتباعه أو ممن يراهنون على استثمار علاقاتهم به بأنه على علاقة مع أهم مفاصل الدولة، فعليهم أن يقبلوا جاهه إذا جاء للصلح بين طرفين متخاصمين عشائرياً، أو عليهم أن يسمعوا وجهة نظره في ترشيح رؤساء البلديات أو أعضاء مجلس النواب.

كان نادراً ما يتوسط لأحد عند الحكومة، وإن فعل فإنه سيحسبها حساباً دقيقاً، ما هو وزن أثر تلك الوساطة، وهل بالإمكان أنها ستمر دون المساس بإراقة ماء وجهه.

(8)
وقف علوان أمام حديقةٍ منزلية تتبع لبيت فخم، ولمح في أطرافها بقايا من السماد العضوي. تعرف الى أن هذا الروث يعطي ثماراً لذيذة ووروداً لها رائحة زكية، ومن يدري فلعل من في داخل البيت يكتسبون مظهرهم الأرستقراطي يتغذون بنفس الطريقة.

عندما ولج أبو علوان بيت قريبه سليمان بك، قابله بابتسامة، أو بثُمْن ابتسامة، كانت كافية لجعله يحس باطمئنان، كما أنه شجعه على عدم التحرج من نزع حذائه المُرَقّع ووضعه في مكان ما.

كان أبو علوان يكبر سليمان بك ببضعة سنوات، وكان يجعله ينتصر في مشاجراته مع أترابه في صغره. وكان يعتقد أن سليمان قادرٌ على التوسط، حتى لو كانت المشكلة مع حلف الأطلسي.

لقد جاءه من أجل التوسط لدى معهد (غوتا) لتعليم الألمانية، لولده نجيب الذي يكبر علوان بسبعة سنوات، والذي كان يرغب بالانتقال من كلية الهندسة من جامعة عربية، للدراسة في (ميونيخ). وقد استعد الوالد لذلك حيث باع قطعة أرض، كان قد اشتراها من والدة سليمان عندما كان في الجامعة أو في اللجوء السياسي كما كان يحب أن يقال عنه.

بفطنته السريعة، انتبه سليمان للسيناريو الذي سيصل إليه هذا الأمر فيما لو تحقق، فقرر أن ينزع فكرة الدراسة في معهد غوتا وميونيخ من رأس قريبه. فامتدح الجامعة العربية التي يدرس فيها نجيب، وعدد ثلاثة من رؤساء الوزراء الذين تخرجوا منها ومر على الكثير من كبار شخصيات الدولة ومن بينهم شلال عبد الفتاح. ولم ينس أن يضع الصعوبات في الدراسة بالجامعات الألمانية وبالذات جامعة ميونيخ، فذكر مثالاً يعرف والد علوان عشيرة من كان يتحدث عنه: (لقد كان يدرس أربع عشرة ساعة، لم يذق قطرة خمرٍ واحدة، وانكب على دراسته عشر سنوات وعاد دون مؤهِل جامعي!).

لقد صدَّق والد علوان كل كلمة قالها قريبه، وكان أصلاً مهيئاً لقبول أي حجة تصدر من قريبه لثني ابنه نجيب عن تحقيق هذا الطلب، فكيف إذا جاءت تلك المبررات من سليمان بك؟

(9)

ابتهج سليمان بك، للتمرين الذي نجح فيه لثني قريبه في طلبه دون أن يُكلف نفسه أي جهد، فأراد أن يُتوج هذا الانتصار بالإلحاح عليه في البقاء لتناول الغداء.

أراد أبو علوان، أن يصلي الظهر قبل أن يدركه العصر بقليل، تم إرشاده الى مكان الوضوء، وناولوه قطعة ليُصلي عليها، بدت وكأنها لم تُستخدم من قبل لنظافتها وحسن رسمها ونسيجها.

للصدفة كان الغداء مكوناً من (العكوب أو الكعوب) واللحم واللبن، ولكن الإضافات في الحساء ومواعين المقبلات جعلته مختلفاً عن مثيله في القرية.

كانت أدوات تناول الطعام الفاخرة جداً من صحون وملاعق وشُوَّكٍ وسكاكين، ترمق الجالسين الجدد بقربها استعداداً لاستعمالها بنظرات احتقارٍ واضحة، فهم طارئون على التعامل معها. وقد أحس علوان قبل أبيه بمثل ذلك الإحساس، فلم يستعملا أكثر من الملعقتين، لتناول القليل من الطعام.

أقلهما سليمان بك الى موقف السيارات، وغاب قليلاً ليدفع أجرتهما، ودس يده بجيبه ليضع قطعة ورق نقدية بيد علوان.

كان لتلك القصة أثرٌ كبير في القرية، لحسن تعامل سلمان بك مع أقاربه!

ابن حوران 11-09-2011 01:29 PM

(10)

عندما أنهى علوان دراسته الثانوية، تغيرت الأحوال فيما يخص الوساطة والمعاونة، فقد ظهرت أنماط جديدة من مد يد العون للطلبة الراغبين في الدراسة الجامعية، فكانت جمعيات الصداقة السوفييتية العربية واليوغسلافية العربية، وكانت مجموعة من الجامعات العربية تود محاكاة الجامعات الشيوعية لتؤسس ما يشبه خلايا التبشير بمعتقدات الحكم في بلادها. إضافة الى ما سُمي بالتبادل الثقافي بين الدول، فكانت وزارات التعليم تخصص مقاعد جامعية لأبناء دولٍ أخرى..

بعد أن وضع علوان مغلف الأوراق الخاصة بالقبول في الجامعات بيد ابن جيرانه (سيف أبو معجونة) الذي كان يكبره بسنتين فقط، لم يكن يثق وثوقاً كاملاً بأنه سيقبل في الجامعة، فابن جيرانه لا يتفوق عليه إلا بالعمر، وبيتهم أقل فخامة من بيت أهل علوان، وثقافة علوان تفوق ثقافة ابن جيرانه، كانت المحادثة بهذا الخصوص لم تأخذ إلا بضعة دقائق. لم تكن تلك الطقوس مشابهة لطقوس التوسط المعروفة، فلم يكن هناك رجاء ولا رشوة ولا تملق ولا جلوس طويل...

فكَّر علوان بتلك الواقعة... هل يمكن للصدف أن تغير مجرى حياة فرد، فماذا لو لم يكن ابن جيرانهم قد تقدم لتلك الجامعة وانتسب الى الحزب الحاكم في تلك البلاد؟

ابتسم قليلاً. من بين أكثر من مليون ونصف حيوان منوي، استطاع واحد أن يصل الى بويضة أم نابليون ليغزو مصر، ولو تأخر بضع مليمترات لكان ما حدث لم يحدث... ولو أن الشيوعيين وهتلر بقوا على اتفاق لما كانت نتائج الحرب العالمية الثانية كما كانت! ولو أن شلال عبد الفتاح لم يدخل أم الضباع بمخططات تطوير أمانة العاصمة لما أصبح فارع أبو الزغاليل ثرياً..

لم يقصد سيف أبو معجونة، أن يكون وسيطاً، بل هي مبادرة تم تدافعها بمحض الصدف، لكن ذلك لم يبقَ كذلك طويلاً، فقد تغيرت نبرة صوت سيف، وأخذ يخشن صوته، ويتلمس ياقة قميصه كلما تكلم، وذلك عندما جاء ليبلغ علوان بأنه تم قبوله في الجامعة، وأن عليه أن يستعد ليرافقه في سفره قريباً...

(11)

لم تتلقَ أسرة علوان نبأ قبوله بفرح. فقد كان القبول سهلاً، وبلا عناء، وهي عادة يكرهها أهل الريف وبالذات أهل علوان. فقد سمع أن جده عندما أراد أن يخطب لابنه، جاوبه من طلب يد ابنته: (أجتك: يعني جاءتك: أي تم القبول)، فكان جواب جد علوان: (يلعن هكذا جيزة: أي: لم يشكر من وافق على إعطاءه)، فاستغرب الرجل متسائلاً: ما بك يا رجل؟ ألا يرضيك أنني أزوج ابنتي لابنك؟.. فأجاب جد علوان: نعم يرضيني، لكن، كان من الواجب تعذيبي بعض الشيء حتى أحس بالفرح!

لم يستطع (قدري) عم علوان أن يثني والده عن إرسال ابنه الثاني للجامعة، رغم الحجج التي ساقها، فقد أخبره أن ارتفاع سعر الأراضي أكثر ضماناً من تعليم الأولاد، وضرب له أمثلة كثيرة، عن أناس باعوا أراضيهم، ليعلموا أولادهم، وكانت النتيجة أن أولادهم تخلوا عنهم، ورحلوا للعاصمة، فلا هم احتفظوا بأراضيهم ولا هم احتفظوا بقرب أولادهم منهم.

كان لقدري ولدان، لم يستطيعا تخطي الابتدائية، فكان كل منهما يمضي سنتين في الصف الواحد، وأبوهما كان الوحيد من بين أخوته الخمسة الذي لا يقرأ، ويستخدم في صلاته الفاتحة وسورة قصيرة واحدة في كل صلواته.

كان افتتان والد علوان بقريبه (سليمان بك) هو من يحركه لإتمام دراسة أولاده، لم يشأ أن يصبح مستقبلهم شبيهاً لما هو عليه من خشونة. ومع ذلك أراد أن يسمع ممن يقدم له النصح في ذلك، فأخذ علوان وسار به في زقاق قذر تستعجل أشعة الشمس للخروج منه لشدة قذارته، ويفضي مختصراً لدار رجل وجيه يجلس في ديوانه أصدقائه من علية القوم في البلدة.

تناوب الرجال في المجلس على الحديث مع والد علوان، بعد أن أبلغه الوجيه بقَدَر العلم وأهميته، فإن كان بالمقدور أن يرسله للجامعة فليتوكل على الله ويرسله. في حين اقترح أحدهم أن يبعثه لمصر للدراسة لمدة سنة واحدة، واقترح آخر أن يجعله يتقدم لوظيفة ويراسل إحدى الجامعات في بيروت، فالنتيجة هي أن يكون جامعياً.

(12)

لم تُسعف سنون دراسة (نجيب) الشقيق الأكبر لعلوان في الجامعة، خبرة أم علوان في تجهيز ما سيأخذ معه من ملابس، وأشياء، فوضعت في حقيبة سفره بعض (البرغل) و (الملوخية) الجافة و (البامية) وأقراص من لبن مجفف، و(المقدوس) وغيرها من الحاجيات التي لم تمتحن ضرورتها لنجيب سابقاً.

قبل أن يغادر علوان مع سيف الى البلد الذي قُبل به، تلقى سيلاً من النصائح الضرورية وغير الضرورية. أنت ترى حالنا وكم يكلفنا سفركم للخارج، فلا تصرف إلا ما يلزمك، ولا تحرم نفسك من شيء! ابتعد عن التدخين ومرافقة أصدقاء السوء، لا تدع أحداً يضحك عليك ويقترض من فلوسك، لا تلته بأفلام السينما والدوران بالشوارع، حذار من بنات الهوى، تغطى جيداً عند منامك، احتفظ بنقودك في مكان أمين الخ.

كان عليهما أن ينتقلا لمدينة أكبر للسفر منها على متن حافلة الى البلد الذي يقصدانه، فما أن حطا في موقف السيارات، تأمل المكان بشكلٍ غير مرتاح، فضجيج السيارات، وأصوات المسافرين، وتنافر ألوان الملابس والسيارات والسماء وأرضية الساحة لا تسمح للتأمل أن يتم بصورة كما لو كان على شاطئ أو حتى بالصحراء. السيارات والحافلات متقاربة، ومنها ما يئن محركه للانطلاق، وكأنه ثورٌ حُجِز بعارضة خشبية قبل انطلاقه لساحة قتالٍ. لا أحد يستطيع التنبؤ بالمكان الذي ستستقر به تلك السيارات بعد ساعات، وإن استطاع أحدهم ذلك، فلا يستطيع التنبؤ أين سيستقر من يركبون على متنها، هل سينامون في دائرة قطرها نفس قطر البلاد أم سيقلعون بطائرات الى بلاد أبعد.

كانت الحافلة التي استقلا فيها قد أعيد ترميمها أكثر من مرة، وكل مرة تفقد فيها جزءاً من خصائصها الأصلية، حتى بدت وكأن الذي صنعها هو نفس السائق الذي يقودها، فكان قد تجاوز الستين من عمره، لكنه في كامل قوته ولم يبلغ عن تقدمه في العمر سوى شعرات بيض تطل من تحت غطاء رأسه ومكان سنٍ قد سقط من وسط فكه العلوي.

صرخ قائلاً: إن لم تتعبوني فسنصل بعد أربعة عشر ساعة، فلا تثقلوا بطلباتكم لقضاء حاجاتكم والتذرع بالجوع والعطش.. المسافة ألف كيلومتر، والوقوف على الحدود يحتاج بعض الوقت، تعاونوا معي، دون تدخل في السرعة والقيادة، ودون تبرم من صوت المذياع.

انطلقت الحافلة، وأخذت تتجاوز دائرة معرفة علوان في جغرافيا بلده، فألصق خده على الشباك يراقب كل شيء، أو لا شيء، فهي صحراء تتناثر فوقها الحجارة البازلتية السوداء وتلتصق أحياناً في بعضها البعض، إنها بقايا سيول حمم بركانية منذ ملايين السنين. تذكر أنه في خرائط البلدان العربية، يتكرر هذا اللون، ولعل هذا هو عامل إضافي على تشابه البلدان العربية وتشابه أمزجة أبنائها!

بعد عبور الحدود، صعد فتى يافع الى الحافلة يحمل صينية خشبية وينادي (حَبْ جكاير، عِلج: أي بذور البطيخ المحمصة والسجائر والعلكة)، فكانت تلك أول إشارة لاختلاف اللهجات... ثم عبر نهراً ونهراً وأخذت الحافلة تدخل شوارع العاصمة، فيلفت انتباهه قِطَعاً مكتوب عليها (شربت زبيب ب 15 فلس)، فسأل سيف أبو معجونة: لماذا هذا الخبر؟ فسأله: أي خبر؟ ثم بين له أنها ليست شربتُ بل شَربَتْ: أي شراب الزبيب ب 15 فلساً.

ابن حوران 20-09-2011 03:27 PM

(13)

حال علوان، كحال رئيس جمهورية مغمورة تم استقباله في المطار، واصطف أمامه كبار مسئولي الدولة، وسار بجانبه مرافقه من الدولة المضيفة، فبعد أن يصافح أحداً يتمتم المرافق باسمه ووظيفته، وما أن يترك كفه التي صافحه بها حتى ينسى اسمه، أو اسم وظيفته أو الاثنين معاً. فأسماء الشوارع والمساجد والساحات والمحلات لن تعني له شيئاً على المدى القريب.

عند دخولهما لباب بيت متوسط الحجم والنوعية، به خمس غرفٍ وصالون، استأجره الطلاب العرب، في حيٍ من الأحياء القريب من الجامعة، والتي بُنيت معظم بيوته لهذا الغرض، لاحظ علوان، ما أثر مستقبلاُ على نمط تفكيره.

كان (سيف) أحد المستأجرين لهذا البيت، فقام بالتعريف بالقادم الجديد، وعرَّف علوان بأسماء الموجودين، كانوا أكثر من عدد غرف البيت.

مكث علوان في بيت مُضيفيه نحو أسبوع، ريثما وجد غرفة يسكن فيها وليستفيد أيضاً من معاونة سيف والآخرين في إجراءات القبول.

(14)

لم ترقه صحبة سكان البيت ولا زائريه، فكان كل شيء لا يتوافق مع طباعه، فمنهم من كان يجلس بلباسه الداخلي ومنهم من كان لا يتحرج من إخراج الغازات من جوفه. وكان رمضان على الأبواب، وقد اعتاد أن يصوم بعض أيام من شهر شعبان، وهي عادة اكتسبها من أهله، ومن خلال دخوله لحزب (الخلاص) الإسلامي، والذي تركه بعد قضاء ثلاثة أعوام في تنظيماته لمبالغته في التنظير وشكوكه الهائلة في من حوله.

كان البيت متاحاً لأن يتجول في غرفه التي لم تُغلق أمام أحد، وكونه المقيم الوحيد الذي قد يبقى في البيت ساعات أطول، فقد استطاع أن يعزز شعور عدم الارتياح من ساكنيه، فكان يصادف بعض القناني الفارغة من مشروبات كحولية، وبعض قطعٍ من ملابس أكثر ظنه أنها كانت لنساء، إضافة الى عدم ترتيب المكان والتي تنافت مع طبعه، فقد تعثر في طريقه للحمام بشيء ظنه نتوء في بلاط الأرضية، لكنه وبعد التمعن فيه، وجد أن إبريقاً من الشاي قد انسكب قبل مدة غير معروفة، فقام أحدهم بتمرير ممسحة فوقه لمرة واحدة فتراكمت فوقه ذرات الغبار حتى أصبح له ارتفاع شبه ملحوظ.

اجتهد وأزال ذلك النتوء، ورتب أسرة الساكنين، وراودته نفسه أن يغسل كل ملابسهم، لكنه استنكف عن تلك الفكرة، واكتفى بجلي أدوات ما يسمى بالمطبخ وحضر لهم غداءً من الرز واللحم وبعض اللبن اليابس الذي أحضره معه.

كان في البيت مجموعات متناثرة من الكتب والكراريس، بعضها يتكلم عن الوحدة العربية، وفلسطين طريق الوحدة، والوحدة طريق فلسطين، ولينين والعمال، وكفاحي لهتلر، وبعض روايات نجيب محفوظ ومكسيم جوركي وتولستوي ومقدمة ابن خلدون، وكولن ولسون وهنري ميلر.

(15)

تساءل علوان: متى يدرس هؤلاء الطلبة؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟
فبعد الرابعة مساء وحتى الفجر تقريباً يعج البيت بالموجودين، وتنفتح عناوين غير مترابطة لأحاديث من كل نوع، عن الماركسية والقومية والصوفية، وأفلام كوميدية، وعن الطبخ والأفاعي، وكل شيء، وهناك من يفترش الأرض ويلعب الشطرنج، أو الورق، والشاي لا يفارق الجلسات.

كانت أعمارهم متفاوتة، فمنهم (هشام ) مثلاً، عمره يساوي ضعف عمر علوان، فقد درس في الجزائر وأُبعد منها حسب زعمه، ودرس في كندا وأُبعد منها، لتأييده انفصال إقليم (كويبك)! كان مثقفاً جيداً، أو هكذا بدا، فكان يفرض بطريقة كلامه أن يصغي الجميع له، وكان يُتقن الانتهاء من وصلة ثقافية ساقها ببراعة لينتقل لأخرى لا تمت لها بصلة.


وكان أبو جريس وهو من الطلاب القادمين من يوغسلافيا، لا يذكر أسباب تركه ليوغسلافيا، هل لأسباب سياسية أم تتعلق بكلف الدراسة هناك، أم أنه تم استدعائه من هناك ليقوم بالإشراف على تنظيم الطلبة العرب، كانت النقطة الأخيرة، هي ما تدفع أبا جريس ليجعل الآخرين أن يستنتجوها.

كانت تلك المجموعة من الطلبة تقوم بتجنيس (أي صهر عادات الطلبة الوافدين لتتشابه في النهاية) هم لم يعلنوا ذلك، لكنه بعد الوقت تم لعلوان أن يكتشف أن عاداتهم وطرائق سلوكهم يتبناها كل الطلبة الذين يعرفونهم.

لم يُعلن أحدٌ منهم أنه مع الإلحاد، لكنهم كانوا يرددون بنشوة، ما يشاهدون في السينما، أو ما يتم مناقشته من كتب الشيوعيين. قَدَّر علوان ذلك السلوك بأنه نمط من البحث عن فقه يجيز لهم أن لا يكونوا فيه ورعين، فبالتأكيد هم لا يصلون أي فرض، ومن المرجح أنهم لا يصومون رمضان.

فَكر علوان أن يقوم بمهاراتٍ تعلمها من حزب الخلاص الإسلامي مثل كيف تناقش الشيوعي وكيف تناقش البعثي وكيف تناقش الملحد. فالملحد الفطري يتساوى عنده الإيمان مع الكفر، فإن تم إقناعه بعدم صدفة الخلق، وإن تم إقناعه بعجز البشر وعدم قدرتهم على مطاولة الخالق، فإنه بعد ذلك ستمهد الطريق أمام زعزعة إلحاده. لكن هؤلاء ليسوا ملحدين بالفطرة، فكلهم أتوا من بيئات محافظة، ولكنهم يستمرءون التعايش مع الإلحاد لفلسفة يحتاجونها في تبرير عبثية بعض سلوكهم. أقلع عن فكرة مجادلتهم.

ابن حوران 05-10-2011 01:10 PM

(16)

لم تتطابق توقعات علوان عن الجامعة بواقعها مع ما كان يتخيله، فكان ينشغل في صغره بعض الشيء في تكوين صور عن ثلاثة أشياء: الطائرة وعملها، وسلوك المخابرات داخل دوائرهم، ومجتمع الجامعة.

كان شباب وشابات الجامعة، كأنهم طُلاب فصلٍ دراسي في مدرسة ابتدائية ترك لهم مُدرس الرسم حصة كاملة ليرسموا ما يجول في خواطرهم. كانوا يحملون صوراً مختلفة كما يحمل علوان صوره، وكانت وحدة تصورهم أو التقاء بعض ما يجتمعون عليه في إحدى الصور هو ما سيضفي الطابع العام للمشهد الجامعي. فلن يكون هذا المشهد صناعة جهة ما بل هو اتحاد تكوين صور قد ترتبط بعض تفاصيلها في نشأة الخلق، وحمورابي وهولاكو وصلاح الدين وتكتمل بالخطاب الفكري السائد بين جنباتها .

سيبتكر الجميع وبدون قرار من أحد نمطاً للسلوك الموحد ولغة تخاطب موحدة تختلف عن كل لغة كانت تتم في مدرسة ثانوية أتى منها كل منهم، سيتلمسون ماذا يجعلهم مقنعين ومحبوبين ومنطقيين ومفهومين. وهذا سيتماهى مع الزي الموحد للباس الطلاب والطالبات، فبنطلون أو تنورة ذات لون رمادي فاتح مع سترة ذات لون أزرق غامق (كحلي).

كانت مشاغل الخياطة تصنع تلك الملابس بنمر متفاوتة لآلاف الطلاب والطالبات، وتوزع مجاناً على الطلبة، ومن الطبيعي أن يقوم الطالب أو الطالبة بأخذ ملابسه الى خياطٍ خارج الجامعة ليجعلها أكثر ملائمة للجسم.

في حين كان بعض الطلبة والطالبات الذين أنعم الله على أسرهم، يذهبوا ليشتروا قماشاً بنفس الألوان ولكنه أجود وأفخم من تلك التي توزعها الجامعة. وكانت الفتيات يتفنن في تصفيف شعورهن، ويضفن بعض الإكسسوارات والعطور، التي ستعطيهن بعض التميز.

وكان في بوابة الجامعة مسئولون ومسئولات للقيام بتفحص المارين والمارَّات من الطلاب والطالبات وتنبيه أو منع من يبالغ في التطوير على الزي الموَّحد. وأحياناً إن فلت طالب أو طالبة من اعتراض من كانوا على البوابة، فإنه قد يكون عرضة لتنبيه المحاضر أو تلميحات الطلبة في قاعة الدرس.

(17)

لاحظ علوان شيئاً لم يكن يحسب حسابه ـ حتى بالتخمين ـ، لقد كان للجامعة مشهدٌ يختلف عمَّا نسجه في خياله، كانت ما يشبه حقلاً به أشجارٌ متناثرة غطته الثلوج لمدة عامين، فلا الأشجار واضحة المعالم، ولا النباتات الزاحفة أو العشبية يمكن التعرف عليها بسهولة، ومع ذلك لم يكن ليُقتل أي نبات من النباتات ولا حتى يفنى أو سيُلغى نموه.

كان قد مضى على حرب عام 1967 ثلاث سنوات تقريباً، والشكوك تلف كل الكائنات البشرية المنتشرة في المنطقة العربية، فلا المشاريع الفكرية مرضٍ عنها ولا القيادات السياسية أثبتت نجاحها في طرح الشعارات والعمل على تنفيذها، كانت الخسارة أو الهزيمة تعني كل فردٍ أو حتى شخصٍ، فشك بمواطنته أو انتمائه لجماعة أو رقعة جغرافية، كان في أعماق كل الأشخاص حِراكٌ غير موجه، لكنه في النهاية سيلتقي مع حراكات الجميع.

ومن الطبيعي أن تظهر في كل أصقاع الوطن العربي، جماعات تلقي اللوم على من سبقها، ولكون سجلاتها لم تلوَّث، فإنه سيظهر لها مريدون ومؤيدون وأنصار، ولو لوقت ريثما تقع بأخطاء تكون سبباً في الابتعاد عنها أو الانشقاق بحجة التصحيح.

في أجواء مثل هذه، سيتراكض الناس حول من يُقَّدم خطاباً موزوناً ويقدم معه عناصر جذبٍ مساعدة كإغراءات يحتاج بعضها الفقراء ويأخذها المخلصون دون تعفف واضح. وقد انتبه كثير من الدول العربية الناشئة حديثاً بثوراتها أو انقلاباتها وحتى تلك الدول القديمة لتلك الناحية، فركزت بالبداية على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة وخصت بعضها بكرمٍ مُبالغ فيه، حتى تورم جسمها ودخل فيه الغث والسمين في زحمة التهافت حولها، لتصنع تلك الأموال خلايا مفسدة نائمة أو قائمة تعمل بوحي ممن يُغدق عليها المال، فاستلهمت أساليب مموليها وحتى أدواتهم في العمل والمتابعة، وحتى مراسيم التشريفات.

كانت ظلال كل تلك الشواهد، تترك ضوءاً خافتاً فوق سطح الثلج، ولم يكن في الإمكان متابعة هذا الكم الهائل من الخيوط الملونة والمبعثرة والمتشابكة لصنع سجادة ذات هوية.

(18)

في ساحات الجامعة، من قاعات درس، وشوارع، وقاعات استراحة وطعام، كان ينتشر جيشٌ من المبشرين، بعضهم لم يتدرب القتال، وبعضهم لم ينه تدريبه، وبعضهم زجَّ نفسه في هذه المعمعة دون قناعة.

ولأن الكوادر المحترفة قليلة، كان الكل يتسابق لاحتلال مواقع متقدمة نوعاً ليزحف الى الأمام في معركته. وكان المؤشر لترقية هؤلاء هو الكسب (للصف) فبقدر ما يُحضر أحدهم عناصر جديدة، بقدر ما يتم ترقيته وإناطة المسئوليات به، وبقدر ما يثبت المنضمون حديثاً جدارتهم، بقدر ما يعود على من ضمهم من نفع، ولأن الكل أدرك تفاصيل اللعبة، كانت (الروزنامة) هي التي تتحكم في ترقية الجميع.

لم يستثنِ المنتشرون للكسب أي أحد، ولم يتملص المهيئون للكسب من أحد، إلا اللهم أولئك الذين حضروا من خلال اتفاقيات ثقافية أو هِبات تمنحها الدولة لحركات سياسية كفصائل الثورة الإريترية وجنوب السودان ودول الخليج وغيرها ممن لم يكن لديهم جامعات في وقتها، فهؤلاء كانت حزم التعليمات لهم بعدم اختلاطهم بالغير أو التأثر به.

لم يعانِ الكاسب كثيراً في ضم أحد، أو ربما أنه لم يبحث عمن يسبب له المعاناة فهو في عجلةٍ من أمره، لكي يضع في رصيده من الكسب أكبر عددٍ ممكن، فإن جادله أحدهم وأطال في النقاش أو أحرجه في الحوار حيث لم تكن لهؤلاء الكاسبين إلا أرصدة قليلة من الثقافة والتعليمات التي يُمرّنوا عليها، فإن كان مثل ذلك الشخص هو من يصادفه، فإنه سيكتب تقريراً بأن هذا الشخص معادي أو شيوعي أو مخابرات لبلده، وقد يُبعد مثل هذا الشخص عن البلاد أو يتم فصله من الجامعة إذا شهد أحدهم أنه كان يتناول الخمر! وقد يشعر الشخص نفسه بعدم ودية الأجواء ويرحل عن الجامعة في وقت مبكر.


ابن حوران 19-10-2011 10:27 AM

(19)

كغيره من الطلاب والطالبات، توقع علوان أن يكون غب الطلب من جيوش المنتشرين للكسب، فبداية السنة الدراسية تعتبر موسماً مثله مثل بداية مواسم المطر والعواصف الرعدية المُبكرة والتي ينتج عنها (تفقيع) (الكمأة) في البوادي والسهول، فتجد المختصين يركزون أنظارهم في أقرب بقعة تحتهم ليصلون إليها قبل غيرهم. ولأن الهواة يزاحمون المختصين في البحث عن الكمأة، فقد يخطئون في جلب بعض أنواع الفطر السام والتي تشبه لحد كبير الكمأة الحقيقية، فإن فلتت من مراقبة المختصين، فإنها إن دخلت في (طبخة) قد يُحدث تناولها بعض التقيؤ والإسهال، وابتعاد الناس عن الانجذاب لمثل تلك الطبخة.

ولأن الكل في عجلة من أمره، فقد كانت أجواء الجامعة بالنسبة لعلوان كمن يشتري مجموعة جديدة من الكتب، يتناوب على فتحها وقراءة فهارسها كلها، ويقلب صفحات أحدها دون تركيز، وإن كان البعض يُطلق عليها قراءة أولية، فإنها لا قيمة لها في النهاية، كان علوان يجلس على مقعد خشبي أخضر تحت شجرة خضارها أقل من خضاره، يتسع لأربعة أشخاص، يقلب بعض ما في يديه من كتب المنهاج الدراسي التي استلمها للتو، ويُراقِب المارة من أمامه من طالبات وطلاب وعاملين في الجامعة، لا لشيء، إنما هي هكذا.

أقبل أحد الشباب يكبره بسنتين أو ثلاثة، مُحضِّراً ابتسامةً اعتقد أنه تدرب على إظهارها جيداً، وألقى تحية على علوان ووقف قليلاً قرب مقعده، ثم استأذنه إن كان بالإمكان الجلوس بجانبه والتعارف معه، وكان لا ينتظر الموافقة، فما أن أبدى علوان عدم ممانعته، كان القادم قد أكمل جلوسه.

قال القادم: اسمي خيرو فارع شحاتة، سنة ثانية هندسة..
ـ وأنا علوان محمود علوان طالب جديد..
وعندما تم التعارف بينهما، تبين أن خيرو هو ابن فارع أبو الزغاليل من نفس البلد، وأمه هي التي رفضت قبل سنوات أن ترشده مع أبيه على بيت قريبهم سليمان بك.
ـ انظر، لقد تم تكليفي بالاتصال بك، لدعوتك للانتساب لاتحاد الطلبة، وإن أردت للحزب، وهذا يعود لك، إن شئت انتسب وإن لم تشأ براحتك! سأخبرك إن انتسبت لاتحاد الطلبة فإنك ستقضي وقت فراغك براحة ما، ولا تعود تحس بالضجر، وإن انتسبت للحزب، ستستفيد من سكن مجاني وبعض النقود التي تخفف من تكاليف دراستك.
ـ سأنظر بالأمر، وإن شاء الله خير..
ـ إن كنت ستوافق، فالأولى أن يكون ذلك بسببي، فنحن أولاد بلد، فهذا سيحسن من وضعي، وهذا براحتك.

(20)

لم تمنع المقابلة الساذجة لعلوان مع خيرو أن يتأمل ما يحدث، فركاكة الحجج التي أوردها محاوره، تؤكد له كم في البلاد من انتهازيين وراكضين خلف الفرص. وخَمّن علوان أن محاوره سيكتب تقريراً يصفه به بصفاتٍ معينة، ولكنه لم يُعطِ اهتماماً كبيراً لما سيكون تأثير مثل تلك التقارير.

ذهب علوان الى مقر اتحاد الطلبة الذين يشاركونه الجنسية، وتكررت زياراته لذلك المكان، ليقضي بعض أوقات فراغه، وليتحدث مع أبناء بلده في غربتهم، وليلتقط بعض المعلومات التي تساعده في التأقلم مع الوضع الجديد، كالتي تخص المطاعم والأسواق والأسعار وما الى ذلك.

كان الرواد للمكان يمارسون بعض ألعاب التسلية كالشطرنج وطاولة الزهر والدمينو، وكان أكثرهم يراقبون لاعبي الشطرنج عن قرب، لا لأنهم يحترفون تلك اللعبة، بل لاعتقادهم أنها أكثر رِقياً من الأخريات، وكان معظمهم يتعلم تلك اللعبة من داخل المكان.

في لوحة إعلانات داخلية، كان هناك برامج للمسابقات الثقافية، كالمبارزة الشعرية، والكتابة في مجلة الحائط، وإعلانات أخرى للمشاركة في حفل استقبال الطلبة الجُدد.

ينهض مجموعة من الطلبة لارتياد دار سينما قريبة من مبنى الاتحاد، تعرض أفلام (الكاوبوي) وأفلام فكاهية لإسماعيل ياسين و (نوردم وزدم) و(شارلي شابلن)، كانت تلك الأفلام تمدهم بمادة للحديث عنها، حتى يحين وقت عرض غيرها..

لم تكن البرامج المطروحة في اتحاد الطلبة، تستدعي أن يُكلف مجموعة من الطلبة لكتابة التقارير لمخابرات دولتهم، فمعظمها امتدادات لمهارات مراهقين تعلموها في مراكز الشباب أو النشاطات المدرسية.

(21)

في اجتماعٍ لحلقة حزبية، يديرها (سيف أبو معجونة)، ناوله (خيرو فارع) تقريراً إخبارياً عن نشاطه الأسبوعي، واتصاله بعلوان، وكان في التقرير: (الرفيق المسئول: لقد قمت بالاتصال بالطالب الجديد علوان محمود علوان، من أجل الانضمام للحزب، وبعد نقاش طويل وعقائدي شرحت فيها مبادئ وأهداف الحزب والكيفية التي سيوحد فيها الأمة العربية ويفجر طاقات أبنائها، ويحرر فلسطين ... ولم ألاحظ تجاوباً لدى المعني، بل كان ينظر في الأفق مما يوحي أنه لم يقتنع، وأعتقد أن مثل هذا الشخص لا جدوى من الاتصال به... ودمتم للعقيدة والنضال)..

لم يرفع سيف أبو معجونة التقرير لمسئوله، لأكثر من سبب، فهو يعلم أن خيرو لم يكن كفؤاً لشرح المبادئ، لأنه حتى في المواضيع الثقافية المكتوبة، وعندما يكون الدَوْر على خيرو لتقديمها، فإنه يتلعثم في طرحها، ويختصر الخمس صفحات لسطرٍ واحد، والسبب الآخر هو من كان سبباً في قبول علوان في الجامعة، وهو يعرف علوان ومقدرته الثقافية، لدرجة أنه لم يتجرأ على مفاتحته بنفسه، وأخيراً لم يُكلف خيرو بتلك المهمة، وإن كان الأخير قد ادعاها.

ابن حوران 30-10-2011 03:02 PM

(22)

أراد سيف أبو معجونة تبرئة ساحته، فقد كان ينظر بعيداً، ويُعِّدُ نفسه لأدوارٍ لم يُفصح عنها، لم يكن يتكلم كثيراً، وكان من يجلس معه من مسئوليه الحزبيين أو النقابيين (الطلابيين) يتهيأ لهم أنهم قد كسبوا تابعاً قد يحتاجونه في التصويت الداخلي أو بالإدلاء بشهادته لتزكية أحد يطمح في ترقيةٍ ما.

كان يختار ملابس رخيصة الثمن، لضيق حال أسرته، ولكنها كانت تبدو عليه جميلة، ويظهر بمظهر أنيقٍ بها، وكان في جلوسه الهادئ يبدو كمن يجلس أمام مصورٍ، فتبدو عيناه المكحلتان منذ الولادة، وشاربه الأسود الدقيق وابتسامته البلاستيكية، كأنهما تتويجاً لمشروع شخصيةٍ قيادية مستقبلية، كان هو يعتقد ذلك، وكان الكثير ممن يصاحبونه يتنبئون بذلك، حتى الفتيات في اتحاد الطلبة من بنات بلده، أو في الجامعة.

وكان علوان بالنسبة له، ليس مجرد طالب تم التوسط بقبوله في الجامعة، بل ابن الجيران الذين لهم الفضل في إنقاذ عائلته من العوز المستمر، ولهم من النفوذ المحلي ما لهم، ومن يدري فإنه قد يحتاج تقوية عُرى الارتباط بتلك العائلة، للسير في مستقبله الضبابي الذي كانت خيوط غُرزته الأولى قد تشكلت في مخيلة سيف.

لم يشأ سيف أن يخفق في أول امتحانٍ له في مسيرته السياسية، فهذا سيجعله مخالفاً للصور التي تنبئها لنفسه، أو أنه سيفقد بعض استثمارات علاقاته التي نمت بيسر مع من يحيط به من أصحاب الشأن.

كان على سيف أن يختار وقتاً ومكاناً يجمع فيه كل من قد يعترض على تزكية علوان، أو أن يتجاوز عن هفوة سيف بالتوسط بقبوله. ولم يُسقط من حسابه ما قد سيتحمله من نفقات لمثل ذلك اللقاء.

(23)

عندما دُعي سيف لتناول العشاء والسهرة مع رئيس اتحاد الطلبة (أكرم شلال عبد الفتاح)، وعلم من سيكون مدعواً فيها استأذنه أن يحضر صديقاً معه اسمه (علوان)، قبل أكرم اصطحاب ذلك الصديق بترحيب به مجاملة.

كان من بين المدعوين شخصٌ يكبر كل المدعوين سناً، صاحب جسمٍ ضخم، ورقبةٍ مليئة لا تكاد تفصل رأس صاحبها عن جسمه، وله عينان تبرقان رغم ضيقهما، ووجه طفل شجاع، من يجلس معه يعتقد أنه يعرفه منذ مدة طويلة، كان له صوت أجش لا يتناسب مع تقاسيم وجهه، بل يتناسب مع ضخامة جسمه. كان اسمه (عبد الجبار)، يتكلم بجُمَلٍ قصيرة، ويُنهي كلامه بابتسامة سريعة مع تدوير لرأسه شبه الثابت يتحرك فيه بؤبؤا عينيه البراقتين لتفقد وقع كلامه على من حوله.

عندما كان يتكلم، كان الجميع يحشدون كل حواسهم ليبدوا موافقتهم على أقواله، حتى لو لم يكن قد أكمل فكرته، فبين ابتسامة رضا وتأييد وهز رأس بالموافقة، إلا فتح اليدين وغلقها استغرابا من موقف الخصوم الذين قد يبدوا عدم موافقتهم، حتى لو كانوا غائبين!

من بين ما قاله: أن أعداء الأمة هم الرجعية والصهيونية والإمبريالية العالمية، وكان أحد الحضور يُعيد ما يقول كما لو كان شيخاً يدرس أولاد في (كُتَّاب).

اعترض علوان: اسمح لي أستاذ أن أختلف معك...
ساد صمتٌ مشوبٌ بالذعر بين الحاضرين، وتركزت أعينهم على علوان تحذره، أو تطالبه باعتذارٍ مبكر، وتمنى سيف لو أنه لم يحضر علوان معه.

ابتسم عبد الجبار قائلاً: تفضل.. أين تختلف معي؟
ـ أولاً: إن ثورةً ناشئة حديثاً، ليس من مصلحتها توسيع دائرة العداء، ولم تكد تقف على رجليها..
عبد الجبار: وثانياً..
ـ ثانياً: ألم تقم ثورتكم علاقات طبيعية مع دولٍ أجنبية صنفتها كأعداء؟ فلماذا تكون علاقاتها مع دولٍ عربية مشوبة بالتوجس وعدم الطبيعية؟ إن هذا سيخلق وسطاً محيطاً لا تتسم علاقاته بالود ولا تشجع على التقارب والتكامل الذي سيؤسس لمناخ وحدوي..

تدخل أكرم شلال (صاحب الدعوة) ورئيس اتحاد الطلبة، ليحاول ثني عبد الجبار عن تكوين فكرة خاطئة عن علوان، قد تطال آثارها الجميع. لكن عبد الجبار، ضمن أصابع يده الغليظة، طالباً من رئيس الاتحاد أن يكف عن تدخله، ليبدو وكأنه يشجع علوان على الاستمرار بالحديث...

ـ ثم لماذا أسمح للبرجوازيين أن يهربوا أموالهم؟ ولماذا أزرع الخوف في نفوس أبناء الدول النفطية لكي يخشوا ثورتكم ويبخلوا عليها في المشاركة ببناء المشاريع، مما يحرم المنطقة من تحالفٍ غير مكتوب بين دولتكم وتلك الدول؟

صفق عبد الجبار بيديه السميكتين، ولم يستطع أحد من الجلوس تفسير ذلك السلوك، هل هو إعجاب بذلك الطالب أم سخرية من أفكاره.

اختصر أكرم شلال الحديث وطلب من الجميع القيام لتناول عشاءهم..

(24)

ترك الحديث الذي دار بين عبد الجبار و علوان أثراً كبيراً في نفس الأخير، فأخذ يفكر، وما الضير من إقامة دولة الوحدة العربية ـ إن قامت ـ ؟ فهي ستصب في قوة الوحدة الإسلامية التي هي الأخرى غير موجودة، حسب رأي عبد الجبار، فليس هناك أمة إسلامية واحدة، بل أمم إسلامية، وما يُشغل الأتراك والباكستانيين والإيرانيين ليس هو نفسه ما يشغل العرب؟ قد يكون كلامه صحيحاً!

وقد يكون حديثه عن وحدة العرب صحيحاً هو الآخر، فالعربي بتعريفه، هو من يتثقف بثقافة العرب ويحفظ تاريخ العرب، ويحلم أحلامهم، حتى لو لم يكن عربياً أو حتى مسلماً!

ومتى كانت الدولة العربية أو الإسلامية، يتزعمها أكثر الناس تقوى أو أكثرهم ورعاً، ألم يختلف أصحاب رسول الله صلوات الله عليه بعد وفاته، على مسألة من يتولى الخلافة؟ ألم يقتل المأمون أخاه من أجل المكسب السياسي؟ وألم يسجن المأمون أحد الأئمة الأربعة، ومع ذلك لا نستطيع إنكار دور المأمون في التأسيس لنهضة من خلال الترجمة وتشجيع العلم والعلماء.. فالمسألة سياسية بحتة وليس لها علاقة عضوية مع العقيدة الدينية، إلا فيما يتعلق بموازين العدل..

أصبحت صداقة علوان بعبد الجبار أقوى من كل صداقات الأخير مع الطلبة العرب، وقد ضمه لتنظيماته الخاصة بعد أن اقتنع بالفكرة..

ابن حوران 08-11-2011 01:38 PM

(25)

جبار يُسلِّم.. هذه كلمة السر التي قالها (أحمد صباح البردي) لعلوان، عندما اتصل به ليبلغه عن موعد الاجتماع الحزبي، وأخبره بمكان الاجتماع والطريقة التي يدخل فيها للمكان.. وكان من عادة أحمد أن يغير مكان الاجتماع كل أسبوع، للحيطة الأمنية!


وتفاجأ علوان من فكرة الحيطة الأمنية، في بلدٍ يحكمه الحزب، ويتم تنسيق اختيار الأمكنة مع أمن الجامعة، والحراس المناوبين، فمرة يختار الطابق الثالث من مبنى كلية العلوم، وبعد أن يتأكد من انتهاء المحاضرات في قاعات الدرس، ومرة يختار غرفة مشرف على القسم الداخلي للطلبة.

وفي إحدى المرات، كان أحد أعضاء الحلقة الثمانية، قد تأخر عدة دقائق، فطلب أحمد من أحد أعضاء الحلقة أن يفتح الباب، وكان غير عربي واسمه (سردار)، ففتح الباب المكون من قطعة واحدة على سعته الكاملة، فصاح به أحمد:
رفيق سردار... ماذا عملت؟ لقد كشفت مبادئ الأمة العربية!

عندما تذكر علوان تلك الوقائع بعد أكثر من أربعين سنة على وقوعها، تساءل: هل كان أحمد صباح يستشعر ماذا سيحصل لحزبه؟ وهل كان سلوكه طبيعيا في وقتها؟ ثم تذكر ما كان يحدث في اجتماعات حزب الخلاص الإسلامي قبل ذلك بعدة أعوام، عندما كان المسئول، يبلغ الأعضاء بتغيير مكان الاجتماع الأسبوعي، كل مرة ولم يكن يجعله أسبوعياً، بل كان إذا اجتمع المرة الأولى يوم السبت في مكان (أ) في الساعة السابعة مساءً، فإن الاجتماع الذي يليه سيكون يوم الأحد في مكان (ب) وفي الساعة الثامنة، لكي لا يُتاح حتى للأقارب الربط بين اللقاءات والأمكنة والأشخاص.

ثم قارن علوان بين المواد الثقافية التي كانت تعطى في الحزبين، فحزب الخلاص كان يأتي بكُتبٍ يلصق على جلدتها جريدة، كي لا يُتاح للأعضاء معرفة اسم الكتاب، واسم مؤلفه، وتذكر كيف أنه في مرة تمزقت الجريدة بين يديه فظهر عنوان الكتاب (في ظلال القرآن لسيد قطب)، وكيف أن مسئوله رماه بنظرة تعنيف لم يشأ أن يجعل منها قضية.

أما الحزب الجديد، فإنه كان يوزع نشرات مكتوب على غلافها (خاص بالأنصار، خاص بالأعضاء الخ).

لم يكن الحزب جديداً بل كان أقدم من حزب الخلاص حتى في بلده الأصلي، وتذكر كيف كان جهاز الاستنساخ (الرونيو) يُخبّأ في أوكارٍ حزبية، يتم اختيارها لحسن جوار من حولها، فإن داهمت أجهزة الأمن الوكر، انتقل الجهاز عبر جدران البيوت الى سابع جار، وتفشل خطط الأمن في المداهمة، وكيف لا؟ فعقوبتها ستكون على الأقل عشر سنوات سجن في مكان غير معروف!

(26)

بعد إعلان إيران ضم الجزر العربية الثلاث أو احتلالها في 30/11/1971، خرجت مظاهرات تندد بهذا الإجراء، وتطالب بالرد العملي والقوي..

اصطفت (كراديس) طُلاب الجامعة معظمها حسب منشأ الطلاب، وكان طلاب كل بلد يهتفون بطريقتهم الخاصة، كانت المظاهرة كمعرض فريدٍ من نوعه، وكان علوان يتجول بين الكراديس يشارك في الهتاف أو يستمع لهتاف، كان من يختلط بين الكراديس لا يميز ما يقول الهاتف الرئيسي، وحتى من يرد عليه كان يخطئ في فهم ما قال...

في (كردوس) لطلاب جنوب لبنان كان أحدهم يهتف:
وحدوا.. وحدوا الأمة العربية
دمروا .. دمروا الإمبريالية..
شتتوا .. شتتوا الصهيونية..

وكان من بين الردود ما يأتي: دمروا الأمة العربية، من باب الخطأ غير المقصود..

وكان هناك، شابٌ يحمله البعض على أكتافه اسمه مهدي ويطلقون عليه لقب (ماو العرب) حيث كانت ملامحه صينية، صاحب صوتٍ قوي يهتف:
يا إيران جاكي جاكي
حزب الشعب الاشتراكي
ويرد الجميع عليه بحماس
والذين يحملونه على الأكتاف يرقصون طرباً.. فسقطت (فردة) من حذائه.. فصاح وهو لم يتخلص من لحن الهتاف..
(نزلوني وقعت كندرتي: أي أنزلوني سقط حذائي)
ومن خلفه يهتفون: نزلوني وقعت كندرتي..

لم يكن هناك من يدقق بالهتافات، فمعظمها تأتي بنت وقتها..

(27)


في اليوم الثالث من المظاهرات، كان موعد الاجتماع الحزبي، الحضور، مراجعة محضر الاجتماع السابق، التعليمات، الموضوع الثقافي، وكان عن كتلة عدم الانحياز، ومن ثم متفرقة..

أنجز المسئول أحمد صباح البردي النقاط التي تسبق الموضوع الثقافي بدقيقة ونصف، وكان يجلس خلف المنضدة، يضع كتاباً دراسياً على فخذيه دون أن يراه أعضاء الحلقة، وكان يبدو أنه يقرأ لامتحانٍ في الغد. وعندما كان على أحد الأعضاء المكلفين بطرح الموضوع الثقافي (كتلة عدم الانحياز)، لم يكن قد اطلع عليه أحد أو حضره إلا من سبق وأن كُلِّف بتحضيره، ورغم أن الموضوع طويل واحتل في المجلة الحزبية تسع صفحات، لكن من كُلف به أنجزه بدقيقة، دونما اعتراض لا من المسئول ولا من أعضاء الحلقة على الاختصار الشديد، وعدم التحضير..

ثم جاءت (متفرقة)، وهي الفقرة التي يشطح بها الرفاق، واختاروا ساعتها الحديث عن إيران واحتلالها الجزر الثلاث (طُنب الكبرى والصغرى وأبو موسى)، فقال أحدهم: علينا احتلال إيران وإجبار الشاه على إعادة الجزر!
ـ قال آخر: هل إذا أعادها يتوجب علينا الخروج من إيران؟
ـ قال آخر: عندها لكل حادثٍ حديث..

استمر الحديث بهذا الشكل، وأحمد صباح لا يتدخل، فقد كان منهمكاً بدراسة ما في يديه..

نبهه علوان: رفيق أحمد... ضع حداً لهيئة الأركان العسكرية، فقد تتخذ قراراً بالانسحاب!!



تساءل علوان، بعد انتهاء الاجتماع، هل تصنع تلك الاجتماعات رجالاً للمستقبل؟ ربما تصنع، وربما لا تصنع، إنها على الأقل تعلم الشباب الانضباط والجدية وملكة الحوار وملكة التحليل، وتصوِّب ما لديهم من قناعات مرتبكة عن الحياة السياسية والكيفية التي سيؤدي بها من يؤمن بموالاة فكرة أو نظام ولائه.

ولكن، هل المواضيع الثقافية ضرورية لإنجاز ذلك؟ قد تكون ضرورية، ففيها من المعلومات ما تعين في اتخاذ قرارٍ مؤمن، بعكس الجاهل بما يدور حوله! وهل كان رجال الفتح الإسلامي والمعارك الأولى قد قرءوا ابن تيمية والخلافات بين المذاهب، أم كانوا يحفظون بعض قصار السور ويتسلحون بهمة عالية، واندفاع هائل.. وهذا كان يحدث مع التتار في غزواتهم فقد لا يكون الجنود قد وقفوا عند العقيدة العسكرية لهولاكو أو جنكيز خان.. فمعظم الانتصارات والحروب وحتى الإنتاج الاقتصادي الكبير ينجزها أقل الناس ثقافة وقراءة، ولكن تحت إمرة من يكون قد ألَّم بها جيداً!

ابن حوران 18-11-2011 11:03 PM

(28)

عاد علوان الى أهله، بعد غياب أربع سنوات، كان نجيب قد تخرج منذ سنتين وعمل مهندساً في البلديات ثم سافر ليعمل في إحدى دول الخليج. لم يتغير الوضع المادي كثيراً في البيت، ولكن كثير من الطِباع قد تغير، فلم يعد في البيت بقرة تحلب، ولم يعد في البيت فرناً يُصنع فيه الخبز، ولم يعد والده يحمس القهوة في الصباح ويضرب على (المهباش) لسحن القهوة وإضافتها من إبريق لآخر باحتراف، أو لقتل الوقت، وكانت وجبة الإفطار مليئة بالأصناف المشتراة من خارج البيت (حليب، زبد، جبن، لبن رائب) حتى البيض كان يُشترى هو الآخر. وعند الغداء لاحظ علوان أن المائدة لم تخلُ يوماً من اللحوم أو الدجاج.

لم يشأ علوان أن يسأل والدته عن مصدر أثمان تلك الأشياء، وقد سألهم يوماً عن جهاز تلفزيون 24 بوصة، كم ثمن ذلك الجهاز، فأخبروه بأن أخاه (نجيب) هو من أحضره من دول الخليج، فخمن أن أخاه هو من يرسل لهم تلك الأموال.

لم يخبرهم علوان أنه لم يتخرج بعد، بالرغم من أنه لم يُسئل عن ذلك، فقد بقيت عليه مادة واحدة سيقدمها بالدور الثاني بنهاية الصيف، وكان عليه أن يعود للجامعة لتكملتها.

عند الإفطار أبلغه والده أن عمه (قدري) دعاه للغداء، وكانت تلك العادة مُتبعة في الأرياف، فما أن يغيب أحدهم بالسفر بضعة أيام، حتى يعمل له أقاربه (دُوُرية) أي كل واحد يدعوه مرة. لم يبتهج علوان بتلك الدعوة فيعرف أن عمه قدري هو من كان يحرض والده على عدم إرساله للجامعة، توفيراً للمصاريف وحتى لا يبيع أرضه من أجل ذلك. حاول علوان التملص وعدم الذهاب لتلك الدعوة، ولكن أبوه زجره وقال: (عيب يزعل عمك)!.

(29)

ماطل العم (قدري) في إحضار طعام الغداء، وكان كل دقيقة يُرحب بابن أخيه ترحيباً أثار استغراب علوان لتكراره، فتساءل في سره: هل عمي يريد أن يستدرجني لخطبة ابنته؟

كان العم قدري يسأل زوجته أسئلة لا يربط بينها رابط: أين محمود؛ أين علي؟ يسأل عن ولديه وهو يعلم أنهما سافرا في شاحنتيهما الى الخارج، فتجيبه أنهما في سفرهما ولعلهما يعودان اليوم.. ثم يسأل عن ابنته (فتحية) فتحضر: فيسألها هل أحضر أبو عايد ما تبقى عليه من مال.. فتجيب نعم يا أبي أحضرها.. فيأمرها: هات ذلك المال لأعده، فيقوم بعد المال على مهله وبصوت مسموع: نعم ستة آلاف وخمسمائة دينار..

يعود العم قدري بالترحيب، ويقوم بالسؤال عن مدين آخر: هل أحضر الحاج مسعود قسط سيارته؟ فتقوم زوجته بالطلب من ابنتها فتحية: أحضري النقود التي في الخزانة، فيقوم بعَدِّها بنفس الطريقة..

على المائدة رحب العم قدري بعلوان مرة تلو الأخرى، ولا ينسى المقبلات لذلك الطعام (الدسم)..

ليس هناك أفضل من العمل الحر، نحن نأكل أحسن الطعام دون أن نبيع شبراً واحداً من الأرض، ليس كوالدك (الله يصلحه!) كل يوم يبيع قطعة أرض ليشتري حليباً ولحماً ودجاجاً!

فكر علوان: إذن أثمان الطعام الفاخر الذي تقدمه والدته يومياً مصدرها من بيع الأرض، وليس من المال الذي يرسله نجيب!

كانت تلك الدعوة بمثابة رهانٍ ثقيل لقياس مدى تحمل علوان للؤم عمه، وقد انتهت بتشويش على واقع الأسرة...

(30)

في المساء التقى علوان بإبراهيم أحد خريجي الجامعات اليوغسلافية، وكان متعطلاً عن العمل، وكان يحضر اللقاء والد إبراهيم، الذي كان يتمنى أن علوان أحد أولاده، وأثناء الحديث قال والد إبراهيم بتهكم مقصود، غداً أو اليوم أضيف لجيش العاطلين عن العمل من الجامعيين واحدٌ آخر، وكان يقصد علوان...

دار الحديث، فاقترح والد إبراهيم أن يموِّل مشروعا يتشارك فيه كل من إبراهيم وعلوان، فقد كان ميسور الحال من عمله المتعلق بالتخليص على البضائع.. وقد اختار أن يكون المشروع (مزرعة لتربية أبقار الحليب)، تمت المسألة بسرعة غريبة..

اشترى والد إبراهيم اسمنت، رغم صعوبة الحصول على مثل تلك المادة في تلك الأيام، ووضع حارساً، وكان ينتظر من علوان إنهاء دراسة الجدوى الاقتصادية. وفي تلك الأثناء كان يوقظ إبراهيم بعد صلاة الفجر ويسمعه كلاماً قاسياً (لا أظن أحداً ينام للضحى العالي سينجح بمشروع!) كان يعلم أن إبراهيم لا يصلي بعكس علوان، ولكنه كان يريد أن يغتنم فرصة ربط ابنه به وجدانيا ومادياً...

لم يكتف والد إبراهيم بمناكفة ولده، بل امتدت المناكفة لتطال علوان نفسه، فعند مناقشة الجدوى الاقتصادية معه عندما كان يقرأها علوان ويشرحها، فاجأه أبو إبراهيم بنقطة لم تخطر على بال أحد.. إنك لم تتخذ تدابير كافية إذا ما هاجم قطيع الأبقار (نمرٌ)...

ـ نمر يا أبو إبراهيم؟
ـ نعم نمر.. لماذا لا نحتاط لكل صغيرة وكبيرة؟
ـ وهل نحن في حوض الأمازون أو زمبيزي؟

غمز علوان إبراهيم، وأفهمه فيما بعد أن يصرف النظر عن مثل ذلك المشروع، وعلم فيما بعد، أن أبا إبراهيم قد ربح من بيع الاسمنت!

ابن حوران 26-11-2011 02:31 PM

(31)

لم يبقَ على علوان إلا أن يعلن عن نظريةٍ ظن أنه هو أول من اكتشفها، نظرية تتعلق بالغربة والألفة، فمدة مكوثه في بلده كانت وكأنها فترة لكسر رقم قياسي في البقاء في مكان لا يرتاح فيه، كالغوص تحت الماء، أو التهام كمية من طعام رديء المذاق، أو مجالسة سفهاء، أو المراهنة على عد أكبر كمية من رمال الصحراء..

كان تواقاً للعودة الى المدينة التي فيها جامعته، وقد قرر في سره أن لن يغادرها بعد تلك المرة، فالمجالسة فيها أكثر متعة والوقت فيها لا يتشابه مع سابقه، فالنمو فيها أكثر اتزاناً وأكثر فائدة...

أما الهواء الذي يتنفسه، فكان عنده ليس تلك الغازات المنتشرة في الفضاء وليس نقائها وجودتها بزيادة نسبة الأكسجين بها، بل كان عنده مختلفاً باختلاف من يخالطهم، فهذا ابن تونس وينتهي اسمه ب (اللومي) وهذا ابن اليمن الجنوبي و ينتهي اسمه ب (با مدهاف) وهذا ابن البحرين وينتهي اسمه ب (الزياني) وهذا ابن سوريا وينتهي ب (الدقاق)، وهذا ابن العراق وينتهي ب (الجبوري) وأسماء كثيرة من كل بلدٍ ومدينة، كانت رئتاه تتمدد الى لا حد، لتستوعب كل ما يصادفها..

هناك فرقٌ أن يعيش الشخص بوسطٍ مكون من عشرة آلاف نسمة، قد يكونوا أبناء جِدٍ واحد أو أبناء خمسة جدود، تناقلوا خبراتهم وثقافاتهم فيما بينهم، فأصبح الأمر محكوما عليه بمساره، وبين عشرة آلاف أتوا من عشرة آلاف جدٍ جاوروا أجداداً غيرهم، فكما أن كل أمة تجر وراءها آلاف السنين المليئة بالخبرات والمعارف غير المدونة في كتب، فهؤلاء الخلطاء الجدد يعتبروا منجماً لتعزيز الثقافة المطلوبة لتكوين الشخصية التي كان يتوق لها علوان.

وحتى لا يكون مملاً وغير مقبولاً عند مقابلة أمثال هؤلاء، كان يجدد في مطالعاته وقراءاته ليحملها (زوَّادة) للتفاعل مع هؤلاء، وهذا سيكون رافداً عظيما آخر لحقن ذاته.

(32)

لاحظ مسئولوه همته وحبه لأدائه في مهامه التنظيمية، فأوصوا بإدخاله دورة للقيادات الوسطى، فبعد أن كان يمارس مسئولية تسع حلقات في الأسبوع الواحد، أضيفت عليه مهمة جديدة وهي الخضوع لدورة مكثفة، حاضر فيها أساتذة جامعات ممن آمنوا بفكر الحزب، ومفكرون كِبار، وتناولت مواضيعها شؤونا مختلفة بين السلوك اليومي والانضباط والاحتراف وكتلة عدم الانحياز والاشتراكية والنهوض وحيوية الفكر الخ.

وفي مساء ذات يوم، جاءه أحدهم يحمل حقيبة مملوءة بأشياء، وأخبره بأن عليه حمل تلك الحقيبة الى خارج الحدود، ودونما أن يعبر بتأشيرة جواز سفر، وأعطاه كلمة سر، سيقابله أحدهم خارج الحدود، ليستلم الحقيبة منه، وحذره من عدم محاولة فتح الحقيبة، وأن الانطلاق سيكون من موقف السيارات في الساعة كذا ...

ذهب في اليوم المحدد، والساعة المحددة الى موقف السيارات حاملاً الحقيبة معه، وما أن حَكَم الوقت، حتى أقبل من أعطاه الحقيبة مبتسماً، وقال له: هاتِ الحقيبة، لقد أُلغيت المهمة، تهانينا: لقد نجحت في الاختبار!

لكنه غافل صاحبه ولاذ، ثم استقل سيارة الى منطقة الحدود وعبر الحدود دون تأشيرة، ودون الحقيبة، وبات ليلة رأس السنة في المدينة الحدودية ثم عاد في اليوم التالي، وعندما فاتحه المسئول بذلك، أجاب: كنت بحاجة الى ذلك الاختبار من تلقاء ذاتي..


(33)

تم تبليغ علوان بموعد ومكان حفل ترديد قَسم المرحلة الجديدة ، وذلك بعد أن أكمل خمس سنوات في مراحل ما قبل ذلك، وتم تبليغه بأنه سيحضر الحفل مسئول حزبي كبير.

كان هناك نقاطٌ للتفتيش، مُقامة على كل تقاطع من شوارع فرعية خلت من الباعة والأطفال وحتى الناس، وحُرَّاس يلبسون ملابس تختلف عن ملابس الجيش والشرطة، ومعهم أجهزة اتصالات كالتي مع عمال تفجير الصخور في الجبال. لم يفتشوا أحداً، ولكن يبدو أنهم تعرفوا على المدعوين قبل وصولهم لنقاط التفتيش.

عند مدخل البهو كان هناك شبان سمر يقفون على جهتي المدخل الواسع، يلبسون بدلات رمادية، ويشبكون أزرار ستراتها الوسطى، ويقفون بوقفة استعداد فارجي سيقانهم قليلاً، كانوا يبدون كأنهم فريق كرة قدم أستدعي لتكريمه.

سار بجانب علوان شابٌ من طاقم الاحتفال مبتسماً ابتسامة رسمية، وأعلمه مكان جلوسه، جلس بجانب شابٍ آخر لا يعرف اسمه ولا من أي منطقة جاء.

تأمل المكان الهادئ، فالمنصة لا زالت خالية من رعاة الاحتفال، والكل في حالة سكون وترقب. أشغل نفسه بتخمين ارتفاع البهو، عشرة أمتار، أكثر قليلاً، ثم بعرضه وطوله، وقراءة الشعارات المكتوبة (فلسطين طريق الوحدة.. والوحدة طريق فلسطين)، (نفط العرب للعرب)، (لا حرية بلا تحرر)، (الشهداء أكرم منا جميعاً)، (الزراعة بديل النفط)..

دخل رعاة الحفل القاعة، فنهض الجميع، وكان نهوضهم كقرقعة سلاحٍ تهيأ للرماية، كان الجو مهيباً، وكان الحضور يجلسون برضا واستعداد وكأنهم نُذروا لتخليص الأمة من ويلاتها...

لم يشاهد الكثيرين ممن حضروا الدورة المكثفة، هل لأنهم خافوا أن يعبروا الحدود، أم أن مهامهم كانت مختلفة؟ ومن يدري هل أفشى بعض المسئولين سر الاختبار بأنه وهمي لبعض من جرى عليهم الاختبار؟

حلَّ عليه شعورٌ غريب وهو يستمع لكلمات (كرنفالية)، هل هيبة الجالسين على المنصة قد استمدت من الحراس والشوارع الملتوية، وغرابة المكان؟ أم أنها استمدت من خضوع هؤلاء الأتباع ومظاهر استعدادهم للولاء والدفاع عن المبادئ؟ ماذا لو كان مثل هذا الاجتماع لم ترعاه دولة قائمة؟ ماذا لو كان الدخول للبهو قد جاء بدون حرَّاس وبدون اختبارات وهمية؟ هل ستبقى درجة ولاء هؤلاء الجالسين كما هي؟

ابن حوران 11-12-2011 10:40 AM

(34)

طلب علوان من سائق (تكسي ) أن يوصله الى أطراف الغابة، سأله السائق: الى أين بالضبط؟ لم يجبه، ظن السائق أن صاحبه سيتجه لاحتساء الخمر في كازينو قريب من الغابة، لكن هيئته ووقت العصر لا يرجحان ذلك الاحتمال، لم يتكلم معه كثيراً، رغم أنه أعدَّ سلسلة من الأسئلة، كانت تغور في بلعومه قبل أن تتحول لكلامٍ منطوق، كما أنه قد تجاوز مكان الكازينو، دون أن يبطئ من سرعته، بعد عدة كيلومترات... طلب منه التوقف، وناوله أجرته...

لم يكن باستطاعة أي فريقٍ من المختصين أن يتعرفوا على مسحة الوجوم والحيرة التي وسمت وجه علوان، وهو يرمي بقطع من الحصى في مياه النهر الجاري تحت الصخرة التي جلس فوقها... كان الطقس أكثر ميلاً للبرودة قبل حلول الربيع بقليل..

جلس فوق صخرة تعتلي النهر قليلاً وأخذ يراقب الموجات المتتابعة التي كانت تشتت أثر الدوائر الناتجة من سقوط الحصى التي يرميها، وأشعة الشمس تلعق بسطح الماء فتزيل النتوءات البسيطة المتلاحقة من الماء والحصى.. هل تعطش أشعة الشمس لتلعق وجه (روجات) النهر؟ هل تخزنها في معدة السماء لتعود بنثرها كأمطار في موسم آخر؟ هل تنزل نفس القطرات في نفس المكان، هل تتعرف تلك القطرات على ما كان يحاذيها من قطرات أخرى؟ هل للماء مجتمع كمجتمعاتنا يحن الأفراد فيه الى بعض، ويتخاصمون كما يتخاصم أفراد مجتمعاتنا؟ هل تتكلم قطرات الماء أو حتى النهر؟ أصاخ سمعه.. نعم إنها تتكلم! فالهسيس الذي تحدثه ثم تكسره أصواتٌ أعلى بين حين وآخر لا بُد أن يكون كلاماً أو غناءً، ولماذا لا تتكلم وهي أم لكل أشكال الحياة؟

كانت ذكريات عشر سنوات تتشابك مع تأملاته في الماء، فكان خلالها أحداثٌ كثيرة، استقلال كثير من دول الخليج، تأميم النفط العراقي، اغتيال ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، (كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار) وانقلاب على (سلفادور الليندي) في تشيلي، وحرب تشرين، وزواجه من فتحية ابنة عمه قدري، وولادة ابنته وابنه، واتفاقية كامب ديفيد، وبدايات الحرب العراقية الإيرانية...

كانت نصف المدة التي قضاها في حالة صعود، ليس عنده بل عند كل من كان يعرفهم، فقد كان الجميع يشعر أنه قد اقترب من تحقيق أهدافه، كثيرٌ ممن كان يعرفهم تطوع الى ساحات القتال في لبنان وفلسطين، وبعضهم استشهد هناك أو في زنازين دولهم... لم تكن تنقصهم الروح الوثَّابة، كانوا سعداء فيما يقومون به. أما نصف المدة الأخرى، فكانت تنبئ بأشياء لم يرتح لها كثيراً، بل كان يتمنى العمل على تصويبها، وإن كانت لم تؤثر على قناعاته، لكنها كانت تخيفه في بعض الأحيان...

عاد معظم الطلبة العرب الى بلدانهم بعد تخرجهم، وكان كلما يبتعد أحدهم يقل رصيده من مخزون الذكريات، ويتساءل هل ممكن له أن يتواصل معهم؟ أم أن احتمالية ذلك لا تزيد على احتمالية التقاء قطرات مياه النهر في دورتها الأزلية؟ وآن له أن يعود...

(35)

تناقل أبناء البلدة خبر اعتقال علوان...
وأخذوا يتساءلون: كيف عاد؟ ولماذا عاد؟ وأين ذهبت زوجته؟ ألم يقل أهله أنه تزوج من ابنة عمه قدري (فتحية)، متى كان ذلك؟ لم نحضر الزفاف، ألم يقل أهله أنه رُزق ببنت وولد؟ أين ذهبا؟

وتأتي اجتهادات البعض بالإجابة.. إنه وقبل أن يسافر المرة الأخيرة قبل ست سنوات، أتاه عمه قدري، وأخبره أن هناك من تقدم لخطبة فتحية، فبادر وقال له أنا سأتزوجها يا عم.. فعقد قرانه عليها، وبعد أن عُلم أنه مطلوب للمخابرات، تم إرسال فتحية إليه مع والدته، بعد أن أقاموا له عرساً دون أن يحضره.. ويضيف البعض أنه سمع أنه قد ذهب بها الى بريطانيا لعلاجها، عندما اكتشفوا أنها تعاني من مرضٍ خطير، وقد صرفت لهما الدولة التي كان يقيم بها جوازان للسفر، وذهبت والدته لإحضار الطفلين قبل سفره لبريطانيا...

وكعادة أهل الأرياف، كان كل واحد يهتم بمعرفة التفاصيل الدقيقة، وإن لم تكن تلك التفاصيل مهمة وتجعل من يستمع إليها مشدوداً، فإن من يروي يتطوع لإضافة ما يجعل قصته مهمة وأن لديه سبقاً صحفياً يمتاز به على غيره... كانوا يقومون بذلك حتى عند روايات الموت، حيث يصبح الميت أشهر من روَّاد الفضاء، ولكن لمدة يومين أو ثلاثة، ثم يُركن في زوايا النسيان...

(36)

دائرة المخابرات تأخذ شكلاً من أشكال قوتها مما يُحاك حولها من قصص، ربما تخترعها هي، فالرعب يملأ نفوس من يودعوا فيها أو يُطلبوا لها طائعين أو مكرهين، يبقى كذلك، حتى يؤول مصيرهم داخلها، فإما أن ينهاروا منذ اللحظة الأولى، وإما أن يتكيفوا كتكيف امرأة ريفية وشمت وجهها..

كانت الممرات المؤدية إليها قد صممها مهندسون خصوصيون لتكون كاختبارات متصاعدة في صعوبتها، لتزلزل تماسك من يدخلها، وكان في داخل تلك المحطات المرحلية الصغيرة مَن يرصد ردة فعل المطلوب الجديد، لتعين المُحققين على اختيار منفذ لسبر أغوار (زبونهم) الجديد..

بعد أن اقتيد علوان وُضع في قاعة انتظار أو اختبار أولي، يزيد عرضها عن عشرة أمتار، أما طولها فكان خمسة أمتار!. جلس مع المطلوبين المنتظرين على مقاعد خشبية أمام (كاونتر) طويل يتكون من مستويين من السطوح، السطح المنخفض يضع عليه الموظفون المستقبلون أوراقاً لا يراها من يجلس أمامهم، وسطح مرتفع لا يسمح للمنتظرين برؤية أشكال الموظفين الذين أمامهم، فإن أخفض الموظف بصره، فإن المنتظرين يرون قمة رأسه من الخلف، وإن رفع بصره، فإنهم سيرون عينين تلمعان، ومنتصف الأنف من الأعلى...

كان الجلوس في قاعة الانتظار هو لمعرفة تماسك الزبون في ظاهرة التَبَوُّل وشرود الذهن، فإن نقل ساقيه شمالاً ويميناً، فإن رغبته بالتبول تفضح تماسكه، وإن طلب الذهاب الى الحمام، فهو إشارة على أنه سيوقع على أي وثيقة يريدها المحقق منه...

كان موظفو الاستقبال يحترفون قنص مثل تلك الإشارات، وأحياناً يكتفون بها دون جولات التحقيق، فالمطلوب الذي يبقونه من الصباح الى الثانية ظهراً، يأمرونه بالانصراف والعودة في اليوم التالي، ويتركونه لتفاعلاته الداخلية، عدة أيام متكررة، حتى يطالبهم (هو) بالتطوع للعمل معهم أو الاعتراف بأي تهمة حتى لو كان يعلم براءته منها...

كان علوان، يعلم تلك التصرفات من خلال التدرب عليها، ليس هو فقط بل كل من كان بمستواه حزبياً، ويتعاملون معها بشكل طبيعي... وقد اكتشف موظفو الاستقبال تلك الحالة، عندما دخل مطلوبٌ آخر من رفاقه، لم يره منذ مدة طويلة، فقام وصافحه وعانقه، وسأل أحدهما الآخر عن أحواله. تدخل أحد الموظفين ناهراً لهما وطالبهما بالصمت، فبادر رفيقه بالرد على الموظف: وهل نحن بقاعة امتحانات حتى نصمت؟ هنا، أمر الموظف بتحويلهما الى الداخل، حتى لا يخدشا هيبة المكان...

ابن حوران 20-12-2011 11:20 PM

(37)

أمره أن يُخرج يديه من جيبي معطفه، بصوتٍ مليء بالشوائب، لم يكن بعيداً منه أكثر من خطوة واحدة من الخلف. سار أمام من ينهره في ممرٍ مُضاء كهربائياً،لا نوافذ ولا أبواب تُفضي إليه، وبانحدارٍ مسحور لم يلحظ أنه انحداراً، حتى وصل الى غرفة تبدو وكأنها مخزناً للأمانات، يجلس عند بابها ثلاثة أفراد، خصص واحدٌ منهم لتلك المهمة.

طلب منه الموظف المختص، تسليم ملابسه، وحزامه والنقود التي في جيوبه، وعلبة لفائف التبغ والمقدحة، وساعة اليد، والتوقيع على تسليمها، وارتدى الملابس التي تعطى للنزلاء الجدد، واقتاده من أحضره الى زنزانة طولها أكثر من ثلاثة أمتار بقليل وعرضها يكاد أن يصل الى مترين، ولها بابٌ صُنع من القضبان الحديدية الثخينة، احتل واجهتها الأمامية بشكل كامل، فيها سريران ثُبِّت أحدهما فوق الآخر. فتح قفلها حارس يرتدي ملابس عسكرية، وأشار إليه أن يدخل..

كان كل سرير مُغطى ببطانية من القطن القاتم، وتتقدم طرفه مخدة، وطُويت بطانية أخرى من نفس النوع لتُشعر النزيل أنها للغطاء إذا ما أراد النوم.

تمر لحظات التكيف ببطءٍ شديد، بينما تتزاحم الأفكار والصور والذكريات بسرعة البرق، فتتداخل لتشكل صوراً كأنها رسمت بألوان متضادة، على صفائح من مادة بلاستيكية شفافة، وعندما توضع فوق بعض لا يكاد يميز أي صورة منها، وإن أزاح صفيحة الى جنب لن تقل ضبابية الصور المعكرة ولكنها ستزداد تشويشاً..

انتبه في لحظة استراحة من التشويش، فلمح نسختين من القرآن الكريم وضعتا في زاوية الزنزانة... تناول واحدة، وفتح الكتاب لا على التعيين، وبقي كذلك دون أن يقرأ كلمة واحدة، كان الهدوء والصمت مبالغ فيهما، ولو أراد التنصت على صوت جريان الدم في عروقه، لسمعه بكل وضوح...

كسرت حاجز الصمت أصواتٌ لولولات ورجاء تصدر من مكانٍ لم يعرف بعده عنه، يتخللها وقع أصوات عصي على جسم المولول.

جاء الحارس مع المرافق المخصص لاقتياد النزلاء ومعهما نزيل آخر، أدخلاه الى نفس الزنزانة، كان شاباً منعماً حسن الوجه مبتسماً، عرف بنفسه مهندس إلكترونيات (هُمام) خِريج كندا. لكنه شارك علوان الهواجس، فعندما رأى كلٌ منهما الآخر ظن به ظناً غريباً، فقد يكون أحدهما متعاوناً مع المخابرات جيء به ليساعد في سبر أغوار الآخر.

(38)

طرق الجندي باب غرفة التحقيق، وأدى التحية وانصرف..
لم يطرح علوان التحية على محقق ضئيل الحجم، قَلَّم شاربه وتدرب على نفخ شفته العُليا، وكأنه يتقمص شخصية نَذَر نفسه لخدمتها. وكان بجانبه مساعدٌ بدا وكأنه في أول محاولة من محاولات القيام بمثل تلك المهمة، كان المحقق يتعامل معه كطقم أسنان ركبه صاحبه لأول مرة، فلم يكن متيقناً من أن هذا الطقم سيقضم الطعام ويقطعه كما في حالة الأسنان الطبيعية...

لم يرتح علوان للمُحقق كما لم يرتح المحقق له، فقد دبَّت الكراهية فيما بينهما منذ اللحظة الأولى... كان في الغرفة منضدة يتوسطها كرسي يجلس عليه المحقق وكرسي بجانبه اليمين يجلس عليه المساعد (طقم الأسنان)، وكرسي يبعد عنهما بالمقابل بحوالي خطوتين..

أشار المحقق لعلوان أن يجلس على الكرسي، فجلس، فبادر بنهره بصوت عالٍ: اقعد (مليح)..

نهض علوان عن الكرسي وقال: أرني كيف أجلس حتى لا تصبح تلك قضية تشغل نفسك بها...

تدخل المساعد: هل ترى سيدي مدى وقاحته؟
رمقه علوان بنظرة استمرت للحظات قال فيها الكثير دون أن يتكلم..
المحقق: وجهك مبين وجه واحد يبحث عن (الرزالة)..
علوان: ليس بيني وبينك قضية شخصية، لا على طلاق أخت، ولا على إفراز أرض، وأنا أبعد عنك خطوتين وسمعي جيد، فلا تراهن على تعميم أساليبك على الجميع، قم بمسئوليتك بمنتهى المهنية سأتعامل معك بما هو داخل نطاق القانون.
المحقق: يشتم قيادات الحزب فرداً فردا، ويهدد! في مكانك هذا جلس فلان، هل تعرفه؟ وفلان وعدد مجموعة أسماء...
ابتسم علوان دون أن يعلق..
ـ لماذا تبتسم؟
ـ أبتسم لأنني غبت عن هذه البلاد أكثر من عشر سنين، دون أن أشتم أحداً..
ـ طبعاً، لأنه بلدك، وقيادته، قيادتك
ـ القضية مختلفة!
غير المحقق لهجته: ماذا عملت لكم الدولة آل (علوان): أليس سليمان بك قرابتك؟ و أليس فلان وفلان من أقاربك؟
ـ وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟
ـ شكلك تعبان والسهر مؤثر عليك، (انقلع) لزنزانتك وسنكمل فيما بعد..

(39)

سأله همام: كيف كانت جلسة التحقيق؟
ـ عادية.. في بلدٍ مثل بلدنا، ورغم أن الجندي يتلذذ في اقتياد المثقفين، والمحقق يتلذذ في التأسد عليهم، حتى الحلاق والحارس، أراه يتمتع وهو يجبر النزلاء على تنظيف قضبان بوابة الزنزانة بالديزل، ومسح الممرات، فإن في داخل كل واحدٍ منهم رجل مهزوم مسكون في مخاوف لا أعلمها... أنظر: أنا وأنت وكل نزيل له اسم ثلاثي وربما رباعي، واسم والدته وزوجته وأمه... أما هؤلاء، فإنهم ينادونهم (حجي) ( بيك) الخ... ربما يخافون من أن أهل النزيل سيبعثون له بأزعر للاقتصاص منه...

همام: لا أظن ذلك، بالتأكيد، فأنا هنا منذ ثلاثة أشهر، هم يخشون من الصليب الأحمر، فزيارات أفراده تتم كل شهرٍ مرة، قبل أن تأتي أنت بيوم تمت زيارة الصليب الأحمر، ولكنهم لا يعرضون كل النزلاء على المفتشين، فمن أرادوا أن يفرجوا عنه يتركون له فرصة لمقابلة المفتشين، وكما هو معروف التوقيف دون محاكمة مسموح به دولياً شهراً واحداً، وبعده عليهم إما الإفراج عنه وإما تحويله للمحكمة...

علوان: ألم ترَ مفتشي الصليب الأحمر؟
همام: كلا، فهناك طابق تحت هذا الطابق، يُرحل إليه الذين لا تريد المخابرات عرضهم على الصليب الأحمر، وأنا منهم.

كان علوان أقرب للقبول بتصديق ما قاله شريكه في الزنزانة..

ابن حوران 27-12-2011 11:29 AM

(40)

مَثُل علوان أمام المحقق الأول، ولكن لم يكن مُساعده (طقم الأسنان) موجوداً، بل كان هناك شخص ضخم حليق الشوارب، وجهه يبعث على عدم النفور..

المحقق الأول: نحن يا علوان، لا نضغط على أحد، ولا نجبره على قول ما لا يريد، ويبدو أنك لم ترتح خلال أسبوع لأسلوبي، فسيكون معك أحد أفضل شبابنا ونتمنى أن تكون متعاوناً، حتى تغادر الى أهلك... ثم نهض المحقق الأول مغادراً..

المحقق الثاني بصوتٍ ودود منخفض رغم ضخامة صاحبه: أهلاً وسهلاً.. كما أنك يا علوان تعمل مهندساً، فأنا أعمل ضابطاً في المخابرات، ليس بيني وبينك قضية شخصية، فأرجو أن تكون متعاوناً، هل تدخن؟
ـ نعم..
ـ ناوله سيجارة، وسأله عن كيفية قهوته، فأجاب..
ـ هناك من يأخذ زينته وهيبته من كرسيه، وهناك من يعطي كرسيه الزينة والهيبة، فحضرتكم تعطي للكرسي هيبة مهنية، في حين صاحبكم كان يلتمس تلك الهيبة من كرسيه..
ـ دعنا من موضوع الكراسي، نحن نعلم أن عملك الحزبي كان مع منظمات عربية، لا تهمنا الأسماء فيها، لأننا لو سألناك عن تلك الأسماء لغيرت وبدلت فيها، وعندها يصعب علينا متابعة تدقيق مثل تلك الأسماء، ولكن ماذا عن رئاسة اتحاد الطلبة لسنتين، وماذا عن إخراجك مسرحية (من هو العبد؟)..
ـ كل ما وردكم صحيح..
ـ ماذا عن استنكارك للانتساب للحزب؟
ـ لن أستنكر، وإذا خرجت من هنا، وتم الاتصال بي، لَلَبَيْتُّ النداء..
ـ هذا سيعرضك، لاعتقال آخر، فأنت تعلم أن حزبكم ممنوع في البلاد..
ـ امسك (الجمل) وخذ (باجه)
طلب المحقق الثاني من المرافق أن يودعه زنزانته..

(41)

لم تكن الثقة قد حلت بين هُمام وعلوان، فكانا يمضيان وقتهما بهمسٍ عندما يجلسان على أرض الزنزانة، فوق أحد البطانيات، يلعبان لعبة الأحرف كل يوم: أسماء دول تبدأ بحرف الكاف، أسماء عواصم تبدأ بحرف الباء، أسماء رؤساء جمهورية لبنان منذ تأسيسها، أسماء أنهر، أنواع ساعات، الخ. كان صوت كل منهما بالكاد يصل الى أذني جليسه، ولكنهما كان يستعملان أصابعهما في عد المطلوب بالسؤال..

كان أحد الحراس يتلصص عليهما، علَّه يستمع لشيء مفيد يرقي رتبته، فأحياناً يلمحا طرف رأسه على ارتفاع شبر من جانب بوابة الزنزانة، وأحياناً في منتصف ارتفاعها، فتزيد متعتهما بذلك..

الحارس: ماذا تعد أنت وهو؟
ـ لا شأن لك بذلك، وهل يمنع استعمال الأصابع في الحديث..
كان يغضب، فيخرجهما لمسح أرضية الحمامات، أو الممرات بين الزنزانات، أو غسل أواني المساجين، كانا يتمتعان في تلك العقوبة لتحريك أرجلهما، فالمسافة بين السريرين والحائط المقابل لا تكفي لتنشيط الدورة الدموية..

لم يكن بإمكانهما معرفة الوقت على وجه التعيين، إلا إذا صاح أحد الحراس أن وقت الصلاة قد دخل، فلا الشمس تصل الى الطابق السفلي، ولا ساعة مع النزيل لمعرفة الوقت، حتى الأيام كانا يعرفانها بواسطة برنامج العشاء (كوسى مع بيض: الأربعاء. زيت وزعتر: الثلاثاء، حمص بطحينة الخميس وهكذا). أما الأشهر، فكانت تُعرف من خلال زيارة (الصليب الأحمر أو حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة)...

(42)

في الصباح الباكر، أخرج الحُرَّاس همام، فظن علوان أن وفد حقوق الإنسان قد يأتي اليوم...

تم تنظيف الممرات، وقضبان الزنزانات، وبدا الحراس الخمسة الذين يحرسون الزنزانات بكامل لياقتهم، ذقون محلوقة وناعمة، ملابس مكوية جداً...

ـ اسمك..
ـ كذا..
ـ أين تسكن؟
ـ في طلعة السوق، بجانب محطة المحروقات، قرب فرن أبو شمسية..
ـ صحتك؟
ـ أعاني من تلبك في المعدة، وقد طلبت إحالتي على طبيب، ولم يتم ذلك..
ـ كيف نوع الأكل الذي يقدمونه لك؟
ـ لماذا أنت موقوف؟
ـ لا أعلم، فلم توجه لي تهمة حتى اليوم!
ـ رقم تلفونك؟
ـ كذا..
تساءل علوان: لماذا تلك الأسئلة التي وصلت الى مسامعه من زنزانة قريبة؟ وهل هم فعلاً حريصون على حقوق الإنسان؟ أم أنهم يتصيدون عملاء وجواسيس بحجة حقوق الإنسان..

وصل السائل الى علوان، فكان رجلاً أشقرا له شوارب شقراء طرفاها مدببان ومعقوفان الى الأعلى، كانت هيئته كهيئة جنرالٍ إنجليزي من الحرب العالمية الأولى حضر حفلاً بملابسه المدنية، ومعه مترجم عربي بشرته مائلة الى السواد.

ـ اسمك؟
ـ علوان..
ـ كيف صحتك؟
ـ الحمد لله، لا أشكو من أي شيء..
ـ كيف الطعام الذي يُقدم لك؟
ـ تعجز زوجتي أن تصنع مثله، فهو طعام متكامل وصحي..
ـ لماذا أنت موقوف؟
ـ هذه قضية بيني وبين حكومة بلادنا، لن أجاوب!
رمقه الأشقر بنظرة غريبة ثم انصرف الى الزنزانة التي بعد زنزانته..
أخرج علوان لفافة تبغ، وتقدم الى شبك البوابة، وهي طريقة لإشعال سجائر المدخنين من النزلاء، كونه لا يسمح لهم بالاحتفاظ بالمقادح، فتفاجأ بصوت مدير المعتقل الذي كان يسير خلف المفتشين بخطوات لا يراها النزلاء الذين توجه لهم الأسئلة، يأمر الحارس: ولع سيجارة الأستاذ..
ـ مرحبا أستاذ!

بعد ساعة تقريباً، أو بعد أن تيقن مدير المعتقل، أن اللجنة قد غادرت، أمر الحراس أن يخرجوا النزيل الذي أعطى التفاصيل..
ـ أخرجوا بارد الوجه... امسحوا فيه الأرض... فرموه أرضاً، وهو من فوقه، مريض؟ الأكل لا يعجبك؟ وأخذوا يسحلوه من مكان لمكان، وهو يولول ويترجى..



ابن حوران 10-01-2012 12:30 PM

(43)

تسعٌ وخمسون يوماً مضت، وهو لم يرَ ضوء الشمس، كانت اللقاءات مع المحققين خلالها قليلة جداً، أربعة لقاءات فقط، لم تكن الأسئلة والمطالب من المحققين تتلاءم مع تلك المدة. وفي اليوم الأخير تم اللقاء ثلاث مرات، كل مرة لا تزيد عن بضعة دقائق، طلب فيها المحققون توقيعاً بالتعهد بعدم دخول أي انتخابات بلدية، نقابية، برلمانية بصفة حزبية...

بعد أقل من ساعة، وبعد أن تم سحب همام من الزنزانة، كان علوان يقف أمام غرفة تسليم الأمانات، وبعد أن استلم أماناته، كان في شارعٍ مشمسٍ، تسير فيه المركبات، والسابلة. أراد أن يسير أطول مسافة ممكنة، لكن حنينه لذويه برز فجأة ليوقفه عن السير، فالتفت وجد صالون لحلاقة الرجال، فدخله على الفور.

لم يكن في الصالون زبائن، بل كان الحلاق يقتل وقته في التمعن بتسريحة شعره، أو التفكير بابتكار تسريحات، وكان على يمينه قرب الباب قفصٌ به أحد الطيور ضئيلة الحجم المغردة..

أجلسه الحلاق حيث كان يجلس، فواجهته صورته بالمرآة وكأنه يقدمه للتعارف مع شخص تهيأ له أن الحلاق ظنه لا يعرف من في المرآة. تأمل في هيئته، وعدم انتظام حلاقاته السابقة ووجهه الذي كان يبدو شاحباً كشمراخ عود ذرة نما في الظل، وكاد أن يعتذر من الحلاق، ويقول له أين كان ولماذا غدت هيئته كذلك، ولكنه لم يفعل، فقد أوقف تهيئه للاعتذار صوت العصفور المُغرِّد داخل القفص.

يا لهذا العصفور، إنه يغرد وهو موضوع في قفص لا يعادل حجم فراغه جزءاً يسيراً من المتر المكعب، ومع ذلك يغرد، ويقفز من عودٍ ثُّبت بهذا الطرف الى عودٍ ثُّبت في طرف آخر، إنه لا يمل ولا يتذمر، ولا يفكر بالتكاثر أو الثورة الى الخروج للحرية، ومن يدري فلعل خبراته التي اكتسبها تُشعره أنه في القفص أكثر أمناً من خارجه، أو أنه وضع لنفسه هدفاً من الحياة في أن يغرد فقط، وما دام لا أحد يمنعه من تحقيق هدفه، فلماذا يتذمر؟

(44)

امتلأت الدار بزوارٍ كُثُر، وتغيرت معها نكهة الدار، فالأمكنة تأخذ نكهتها ممن يشغلون حيزها، فنكهة (ستاد) رياضي تكون وقت مباراة نهائية بين فريقين مشهورين، غيرها عندما لا يكون فيه أحد، والأسواق في أواخر شهر رمضان، غيرها في ظهيرة يومٍ مشمس من أيام الصيف...

نساءٌ في عمر والدته أو أقل تحمل بعضهن عُلب من الحلوى بعضها استلمته بعضهن في مناسبات مختلفة، شيوخٌ يعرف ملامح وجوههم قبل عدة سنوات، شبابٌ يحاولون التشبث في مرحلة الشباب، أطفال مع ذويهم أحضروهم حتى لا يعبثوا في ترتيب أثاث منازلهم...

من المؤكد أن أهداف تواجدهم في هذا المكان لم تكن كلها تعاطف مع إطلاق سراح مُعتقل، فكثيرٌ منهم لا يعرف عن الاعتقال السياسي شيئاً، وبعضهم لم يعرف أين كان علوان أصلاً...

كانت الأحاديث تتم مثل البرقيات، كيف حالك؟ إن شاء الله ما ضايقوك؟ من حقق معك؟ هل رأيت فلان؟ هل بقي جواز سفرك المنتهي لديهم؟ بماذا تفكر الآن؟ وماذا ستختار من الأعمال؟ وكيف ستقضي وقتك؟ والغريب أنه في بعض الإجابات يستخلص السائل صوراً وتفاصيل لم يستطع علوان استخلاصها طيلة مدة اعتقاله، فمجرد أن يعطي وصفاً تقريبياً لأحد المحققين، حتى ينطق السائل أو من يجاوره في اسم المحقق ومتى انتسب للمخابرات وأين كان! وقد قيل عن المحقق الأول أنه من قرية قريبة من بلدة علوان، وأن زوجته بنت فلان، وعندما يوصف المحقق الثاني يبادر أحدهم بالكشف عن اسمه، إنه عماد ابن مسعود الطويل من قرية دير القمح، شقيق مدير الأراضي في المحافظة، كان رئيساً لاتحاد الطلبة في دمشق وقد كان مجنداً أصلاً في المخابرات!

تأمل علوان في أحاديث زوَّاره وتعليقاتهم، وحاول ربطها بما رآه في المعتقل، فكان كل محقق يساوره الشك أنه معروف، حتى لو لم يعلن عن اسمه، وهذا ما كان يجعله يتحسب للقاء منتظر مع من يحقق معه!

(45)

ذهب الجميع، وبقي علوان بين أفراد أسرته، كان يحس أنهم لم يحسموا تصنيف مشاعرهم تجاهه، هل هو مشروع مُناضل؟ أم مشروع عابث؟ كما تهيأ له أنه هو نفسه في حالة من عدم الحسم تجاه ما هو فيه... كان يسمع أصوات وأسئلة معظمها لم يُخطط لصياغتها بشكل يتطلب إجابات فورية، وكان يتعامل معها بإجابات أو تعقيبات تتناسب مع عدم دقتها...

وجه والده خلا من أي علامة تفشي ما يُفكر به، ووجه والدته طغى عليه الرضا بأن ابنها لا يزال على قيد الحياة، ووجه زوجته الشاحب أعاد إليه رجوع زوجها محفزات الشروع بالأمل، أما وجه طفلته التي لم تبلغ الأربع سنوات بعد، فكأنه كان يتشكك من صلة هذا الرجل بها، ووجه طفله الذي لم يبلغ الثلاث سنوات كان في عالمٍ آخر لا يعنيه ما دار ويدور حوله..

في لحظات الصمت القصيرة، كانت تقفز لذهنه تساؤلات كثيرة ومتشابكة، هل السببية تسكن فينا، أم تجاورنا؟ وهل نون الجماعة تقتصر على أفراد تلك الأسرة الجالسين حوله أم تتعداها الى ما خارج المنزل؟ وإن تعدتها أين حدودها النهائية؟ هل هي في الحي أم في البلدة أم في الوطن أم تمتد الى ضفاف الأطلسي وبحر العرب؟

أحس أنه على محكٍ أكثر جدية من كل ما مر به سابقاً، فليس لديه الخيار، لأن ما سيُفرض عليه ليس جزءاً من شيء يمكن أن يختاره عند اللزوم، أو بعض من كلٍ يمكن أن يختار أفضل ما يناسبه منه، بل ما يُعرض عليه هو بُنية متكاملة من كُلٍ متمفصل، لا يُسمح بأي اختيار. وليس للأجزاء وجود خارج الكل، ولهذا (الكُل) منطقه وقوانينه ومقولاته، لم يتدرب عليها جيداً وحتى لم يعهدها، فسيصغي لمن تدرب على تلك المشاهد ممن يقدمون أنفسهم كأصدقاء أو بقايا رفاق، ويقيم ما سيُطرح عليه..

أن يصل الى الخلاص مما هو فيه دون ألم، فهذا من المستحيلات، فكل خطوة يتقدم بها نحو الراحة تتفوق على ما فيه من آلام، مشاكله مثل قِطَعٍ من الكُركُم تحتاج الى دقٍ شديد في (الهاون) وبيدينٍ قويتين، كل طرقة من الهاون تهز كيانه الداخلي وتخلق عنده رغبةً في التخلي عن إكمال مشوار (السحن).

ابن حوران 17-01-2012 01:08 PM

(46)

أخذ علوان يفكر بجدولة أعماله المقبلة، وعلاقاته الاجتماعية الجديدة، وبرامج نومه وزياراته، والتوافق بين أن يعيش في كنف أسرته المكونة من أبيه وأمه اللذان يفوقان عمره بعشرات السنين، وكذلك زوجته وطفليه، وبين تحقيق آمالهم في جعل حياتهم مريحة بعض الشيء...

تذكر أن صديقاً قديماً كان من أترابه، وطلاب صفوفه الدراسية اسمه (خليل)، وهو شقيق إبراهيم خريج يوغسلافيا والذي أراد أن يتشارك مع علوان في مزرعة أبقار. كان أرعناً كثير الحركة والمغامرات، صاحب نكتة يخترعها بإضافاتٍ كاذبة من طرفه، بلغه أنه وهو خارج البلاد أنه تعرض لحادث سير، أنقذته بعد أن انقلبت سيارته دورية من الشرطة العسكرية، ولكن من أنقذه لم يراع طريقة حمله على كتفه، فأثر ذلك على النخاع الشوكي، فبدا مشلولاً لا يستطيع النهوض... وصف له أحدهم الذهاب الى تشيكوسلوفاكيا للعلاج الطبيعي، غاب أكثر من سنة، وقد عاد قبل يومين، فقرر علوان زيارته..

انحنى علوان ليعانق صديقه الممدد على سرير أُعِّد له، وحوله عدة مقاعد لمن يحضر لتسليته والسلام عليه، فبعد معانقته عضَّه خليل في ذراعه عضة مؤلمة، لكنه تحملها وضحك مع الضاحكين...

عرف معظم الحاضرين الذين التقى بهم ذلك المساء، والأمسيات التي تلت ذلك اليوم. لم يكونوا أبناء مدرسة واحدة ولا جامعة واحدة ولا حزب واحد ولا تربطهم قرابة، كانوا قد تجمعوا حول خليل كتجمع أغراضٍ يخطفها خطافٌ أُنزِل في بئر لانتشال دلو ساقط، وقد يخرج الخطاف دلواً غير الدلو المنشود، ومن ثم يخرج فردة حذاء ومن ثم دلوا آخر، ولكن من أخرج تلك الأشياء لم يعيدها الى البئر، بل احتفظ بها جميعا...

كان منهم ثلاثة على الأقل ينتسبون لرابطة الأدباء، أحدهم يكتب القصة القصيرة، والثاني يكتب مقالات أسبوعية في جريدة يومية، والثالث مهندساً لكنهم كانوا يعودون له في تصحيح الأخطاء اللغوية في أعمالهم الأدبية...

كانوا يحضرون زوجاتهم وأطفالهم معهم، فتدخل النساء والأطفال الى غرفة واسعة، يتحدثن أحاديث متنوعة، وكانت معظم تلك النسوة من خريجات الجامعات، ويُحَضرْن بعض المأكولات الخفيفة والحلويات والعصائر وغيرها...


لم يعلم علوان سر ظهور هؤلاء بنشوة شبه دائمة. مُعظم أحاديثهم كانت تدور حول التندر بالعادات والتقاليد المحلية والألفاظ القديمة التي يتلفظ بها المجتمع الريفي، وكذلك يتناولون شخصيات المجتمع العام، فهذا لص وهذا متعاون مع المخابرات، وذاك آفاق محظوظ...

كان الرجال يحاذون نسائهم محاذاة، دون انصهار وجداني عميق، وكانت علاقاتهم بهن كعلاقة أسلاك الكهرباء الموجبة بالسالبة تتحاذى مع بعض دون تماس، وكان أطفالهم يشبهون السلك الثالث (المتعادل). كانت الأطراف الثلاثة لكل أسرة تعيش في مهادنة مديدة. وقد يكون سر نشوتهم في ذلك.. فالرجال ليس بهم خشونة سكان الريف الأصليين فلا يضايقون نسائهم، والنساء تشبع رضا الرجال بما يتلاءم مع طموحاتهم غير الواضحة، فهي تجتهد بابتكار بعض الأطعمة وتبدو بمظاهر متقدمة أمام أصدقاء الرجال، والأطفال لا يتعرضون للزجر والحرمان، ويُقدمون أحياناً (نُمراً) ترضي ذويهم... كانت برجوازية تلك الأسر الناشئة، (سرخسية) الطابع، لا جذور عميقة لها..

كانت المجموعة تشبه (ضُمَّة) من نبات (الحمص) الأخضر، تبدو عن بُعدٍ يانعة عفية، لكن ذلك لا يمنع من اكتشاف (أجراس) فارغة لا تحتوي شيئاً.

كان على كل واحد منهم أن يحضر بيده شيئاً، حتى يضمن أنه لا يوضع داخل دائرة البخلاء أو الزوار ثقيلي الظل، وقد كان بعضهم قد اغترب وأتى ببعض المال، وبعضهم يزاول مهنة الهندسة في مكتبٍ خاص، كانت أعمارهم تتراوح بين الخمس والثلاثين والسبعة والأربعين عاماً، وأعدادهم تصل الى خمسة عشر شخصاً، يتواجد منهم في كل أمسية حوالي خمسة أو ستة أشخاص..

(47)

فكر علوان بزيارة خليل عصراً، حتى يتسنى له الحديث معه بشكل رئيسي، فقد كان يعلم كيف أن خليل ينتظر قدوم المساء حتى يتجمع حوله المتسامرون، لكنه كان يلمح في كل مرة إحساساً في عينيه، بأن تلك الشفقة التي تأتي من هؤلاء ليس وفاءً له، أو لخدمته، بل وجدوا في تلك المناسبة محطة استراحة تجعلهم في حالة أشبه ما تكون ب(المساج) الاجتماعي لإزالة ما عانوا في نهارهم، هذا إذا كانوا قد عانوا..

فرح خليل بتلك الزيارة، وأعاد قصة الحادث وكيف أنه سقط من أعلى جسر بالسيارة بعد منتصف الليل، وبقيت أضواء السيارة المقلوبة شغالة، حتى لمحته دورية شرطة عسكرية، وتطوع أحدهم أن يحمله على كتفه...

سأله علوان عن مدى تحسنه بعد العلاج الطبيعي في تشيكوسلوفاكيا، حاول النهوض، ووقف على ساقيه بعد معاناة، وهو يرتجف، فأشار إليه علوان راجياً أن يجلس، وأخذ يفكر ويستمع في آن واحد لخليل، كانت لهجة خليل مروعة، كيف كان كثير الحركة، يسهر في بيروت أو دمشق ويعود، وكيف سيصبح بعد هذه الحال؟ وكيف أنه رفض الزواج من أجمل فتيات الحي عندما تم الاتفاق مع والدها ووالده دون أن يعلم؟ ومن التي ستقبل به بعد هذا المصير؟

دخل إبراهيم، وحيا علوان، وسأله ماذا عنك الآن؟ هل لا زلت تفكر في مزرعة الأبقار، وكيف ستتصرف وجواز سفرك المحجوز فلا سفر ولا وظيفة حكومية؟

ـ لدي مجموعة من الأفكار، ولكني أدقق في دراسة كل منها، كما أن هناك مشكلة التمويل، فهي عائق كبير، ولا أريد أن أثقل على والدي، وهناك من نصحني بالتوجه الى بنك التسليف الزراعي، وسأقوم بزيارة الفرع في البلدة..

ـ مدير الفرع (أبو جهاد) أحد رفاقنا القدماء، وسيتعاون معك، سأرافقك لزيارته غداً إن شئت...

ـ حسناً، وإن لم تفلح تلك الزيارة، سأقوم بفتح مكتب للاستشارات الزراعية وبيع الأسمدة والبذور وغيرها...

حدثه إبراهيم عن لقاءاتهم اليومية، ووصف هؤلاء الزوار بأنهم (مِلح المجتمع) فهم على درجة كبيرة من الثقافة والوطنية والعفة والذوق الرفيع، وطلب منه عدم الانقطاع عن مثل تلك السهرات... وحدثه عن عمله، حيث يدير مجمع النقابات المهنية في المحافظة، الخاصة بالمهندسين والمحامين والمهندسين الزراعيين، وهناك نية لانضمام باقي النقابات للمجمع، ودعاه للانتساب السريع للنقابة وزيارته..

(48)

(أهلاً عمي علوان)، كيف أنت؟ أنا آسف، كان لازم أزورك وأهنئك بالسلامة، واليوم كُنَّا بسيرتك، أنا وأبو المعتصم، لا أدري هل تعرفه؟

كان أبو جهاد في الثانية والخمسين من عمره، ويعلم علوان عمره بالدقة، لأنه سمعهم يقولون أنه قد ولد يوم ولد سليمان بك قريبه، ويعلم أنهما قضيا بداية حياتهما في حزب الشعب وسكنا في بيت واحد..

كان شعره غزيراً ولكنه ذا لونٍ أزرق تقريباً لاختلاط البياض بالسواد، لم يره أخرج مقدحة أو علبة ثقاب لإشعال سيجارته، بل يشعل كل واحدة من أختها، وأحياناً يلاحظ أنه أشعل اثنتين في آن واحد، رغم ندرة تلك الحالة عند من يدخنون بمثل ذلك الأسلوب...

بعد أن أخبره إبراهيم عن غرض الزيارة لهما لفرع بنك التسليف الزراعي، عَدَّل أبو جهاد جلسته وأشعل سيجارة أخرى وسيجارته لا زالت أطول من نصفها، وناول علوان ورقة وقلم، وأملاه الأوراق المطلوبة، وابتسم ابتسامة عن أسنان بيضاء قوية لا تتناسب مع لون شعره أو بشرته النحاسية.. وقال: نحن في خدمة الطيبين..

ابن حوران 28-01-2012 02:01 PM

(49)

بينما هو يفكر بوصف صاحبه إبراهيم على أن مجموعتهم هي (ملح المجتمع)، ذهب فكره الى أبعد من ذلك، كيف يكون للملح أهمية إذا كان في منأى عن الطعام؟ فاتصالات حبيبات ملحهم لا تفارق بعضها البعض، فإن زرت أحدهم في مكتبه الهندسي صباحاً ستجد ثلاثة ممن يسهرون في المساء في ذلك المكتب، وإن زرت مجمع النقابات ستجد خمسة يسهرون منذ الساعات الأولى للنهار في ذلك المكتب، أحاديثهم هي نفسها أحاديث المساء، انتقاد للحكومة والشعب والعادات والتقاليد واستعراض لمقولات لروائيين عالميين وتبادل للكتب التي يشترونها... حتى أولادهم الناشئة لا يطلعون على تلك المواضيع، كيف سيملحون طعام المجتمع؟ ومتى وأين؟ ومن ثَمَّ كيف لمجموعة تريد أن يستنتج مَن يصاحبها أنهم حريصون على رفع شأن الشعب، وهم في نفس الوقت يتهكمون على عاداته وتقاليده ويسخرون من واقعه؟

بينما هو في تلك المراجعة، إذ برجلٍ خمسيني يتهدل جفناه الأسفلين من عينيه، يطرح التحية، ويتبعها ب (أبو المعتصم يسلم)... بادره علوان: وصلت..

تبادل الرجلان أطراف الحديث، ثم اتفقا على موعد لاجتماع مُقبل..

ما الذي يمكن أن يفعله فردٌٍ يعتقد أنه يمتلك مهاراتٍ معينة، لم ينتظرها منه أحد، أو لم يعترف بها أحد، وحتى إن اعترف بها أحد، ولم يسأله إياها، ما الفائدة؟ ثم من قال أن لديه مهارات أصلاً؟ فمعظم ما يعتقد أنها مهارات قد تكون مفيدة، كانت قد تكونت في بيئة مختلفة وعوامل تنمية لتلك المهارات أيضاً مختلفة! فهل يجوز أن تفيد مهارات رجلٍ بارع في التزلج على الجليد مجتمعاً صحراوياً لا يشبع الماء؟ وهل سيختار مدرب لكرة القدم، لاعباً احترف (تنس الطاولة) ليضمه الى فريقه؟

كلا، إن تلك الأمثلة لا تُطابق المشهد الذي عاينه علوان، فقضايا الإنسانية متشابهة في الجبال والصحارى والمدن والقرى، كل ما هنالك أنها تحتاج لقليل من التكييف ومواضعة عوامل القوة في البيئة الجديدة.

(50)

في بيت لائذٍ في زقاقٍ، وفي أمسيةٍ ماطرة، اجتمع ستة رجال، كانت ابتساماتهم حذرة ومتوجسة ووثابة في نفس الوقت، ترأس اجتماعهم أبو المعتصم..

نحن في صدد إعادة ترميم التنظيم في البلد، وقد وقع اختيار القيادة العليا على أسمائكم للقيام بتلك المهمة في هذه المحافظة والذي قُدِّر عدد الحزبيين الذين يجب إعادة ربطهم بعشرة آلاف على الأقل، لم يبين أبو المعتصم للجالسين أن هذا هو الاجتماع الأول لتلك المجموعة، ولم يسأله أحد عن ذلك ولا عن من تكون القيادة العليا..

خَمَّن علوان أنه هو الوحيد الذي لا يعرف إن كان هذا هو الاجتماع الأول أم لا، كما خمَّن أنه الوحيد الذي لا يعرف أسماء القيادة العليا، وبقية الرفاق يعرفونهم، ويفترضون بنفس الوقت أنه يعرفهم، فلذلك لم يذكر رئيس الجلسة تلك المعلومات.. وقد يكون الكل لا يعرف ويخمِّن الأمور كما خمنها علوان...

ناول أبو المعتصم علوان قائمة من مائتين وسبعين اسماً، وقال له تتعاون مع الرفيق وهيب على إعادة ربطهم بالتنظيم...
لاحظ علوان وهو يتصفح القائمة، اسم شقيقه الأكبر نجيب، واسم صديقه إبراهيم، ولم يلاحظ أسماء مثل سيف أبو معجونة وأكرم شلال عبد الفتاح وخيرو فارع شحاته، وعندما سأل عنهم، أجابه المسئول أن أكرم الذي كان رئيساً لاتحاد الطلبة هو الآن النائب الأول لرئيس ديوان الخدمة المدنية، وخيرو فارع (أول من فاتحه للانضمام للحزب) هو الآن مساعد رئيس قسم الأحزاب في المخابرات، وسيف أبو معجونة استهوى السلوك البرجوازي وقيل أنه انضم لأحد نوادي الروتاري، وقد تم فصل هؤلاء جميعاً من الحزب..

(51)

لم تكن مهمة علوان ورفيقه وهيب سهلة، فكان عليهما التحرك في ربوع حوالي مائة قرية وبلدة، لإنجاز الاتصال بمن كُلفوا بهم..

كان بعض من تم الاتصال بهم، طلبوا وقتاً للتفكير، وعند مراجعتهم، كانوا يبلغون أهاليهم أن يخبروهما أن من تبحثان عنه غير موجود، سافر.. خرج، غَيَّر عنوانه..

كان البعض الآخر، يُجاهر بعدم الرغبة في هذا النوع من العمل، لاهتزاز قناعته، أو لحساسية موقعه الوظيفي، أو يُسفه أحياناً ذلك النمط من العمل قائلاً: (ألم تكفوا عن تلك العبثية؟). وكان منهم من يهدد: إن عدتما للاتصال بي فإني سأعلم المخابرات بذلك..

وفي ذات مرة، عندما طرق وهيب الباب، خرجت طفلة، فأجابت أن أخاها موجود وستذهب لكي تطلب منه الخروج، لمح علوان أخاها قد قفز من على جدار جانبي للبيت وركض باتجاه بعيد، فخرجت الطفلة تقول أنها لم تجده!

همس علوان بأذن وهيب: يكفينا بضعة وعشرون شخصاً وافقوا على الاتصال، ومن الأفضل أن نكف عن الإلحاح في الاتصال بغيرهم، فليس جميلاً أن نصنع ذاكرة مخزية عن هؤلاء... ومن يدري، فقد تتغير الظروف، أو قد نحتاجهم في مواقف انتخابات نقابية أو برلمانية، فيكونوا أقل حرجاً وأكثر فائدة...

ابن حوران 08-02-2012 11:09 PM

(52)

من بين أربعة أعضاء لحلقة، كان اثنان أحدهما مهندس والآخر يحمل ماجستير في العلوم السياسية، كان مشهوداً لهما بالاستقامة والزهد والثقافة العالية. ذهب المهندس الى دولة خليجية وعاد منهياً عقده (بنفسه) بعد ثلاث سنوات، لما رأى في شركة أمريكية كانت تُشرف على تأهيل جيش ذلك البلد، فكانت تقيم الأبنية والمسابح والمطاعم لتهيئة مستلزمات الإشراف على تدريب الجيش، وفي كل مرة تبتكر طرح عطاءات، مثلاً لتدريب الحلاقين للجنود، وهذا يتطلب دورات باللغة فتطرح عطاء لمدرسة اللغة، وإقامة المتدربين والمدربين.. اكتشف من خلال ذلك المسلك كيف يتم اقتطاع العمولات من مُشرفٍ محلي صاحب نفوذ، لتصل الكلفة الى عشرة أضعاف الكلفة الحقيقية، فاستهوى المشهد المهندس لتتبع تلك الابتكارات في تضييع الأموال، ليطلب لقاءاً مع مسئول كبير، ليفضح تلك المظاهر من الفساد، وتبين له فيما بعد أن المسئول الذي طلب لقاءه يعرف التفاصيل! عندما عاد اشترى قطعة من الأرض وبنا بيتين أهدى أحدهما لصديقه، وافتتح مكتباً هندسياً، لم يحقق له سوى العيش بحياة أقل من المتوسطة.

أما حامل الماجستير في العلوم السياسية، فقد رفض العمل بعدة مواقع كانت من الممكن أن تجعل منه رجل دولة ذو مكانة ما.

كانا لا يتوانيان عن قول ما يحسان به في الندوات، أو اللقاءات العامة والخاصة، وكانا يُستدعيان للأجهزة الأمنية باستمرار، ويخرجان لقوة حجتهما دونما أن يتعرضا لعقوبة السجن.

في الجلسة الأولى لهما مع علوان، والذي تربطهما معه علاقة ودودة، كان يحس علوان بوعورة العلاقة الحزبية التي سيمضيانها معه. عندما ذكر علوان في مُستهل حديثه عن صعوبة الاتصال بالحزبيين المُراد إعادة ربطهم، وكيف أن نسبة ضئيلة استجابت لذلك، بادر صاحب العلوم السياسية بالسؤال: وكيف تفسر ما جرى رفيقنا؟

ـ قد تكون صعوبة الحياة، والخوف من الأجهزة الأمنية، وراء ذلك!
ـ لا أظن ذلك، فأمة قدمت خلال نصف قرن ما يقارب عشرة ملايين شهيد، لا تحسب ذلك الحساب، وأمة يتنزه كثيرٌ من شبابها عن مغريات الحياة، لا تزال المراهنة على نهوضها قائمة..
ـ كأني أستشعر أن لديك تفسيراً آخرا؟
ـ نعم، ليس هناك عيبٌ في المبادئ، وهذا واضحٌ، فلا أحد يكره الوحدة ولا أحد يكره الحرية، ولا أحد ينكر العدالة الاجتماعية... بل العيب يظهر في التطابق بين النظرية والسلوك... لا يشفع لك أن ترفع شعاراً بالوحدة وأنت على خلاف مع أخيك على فتح شباك بين بيتك وبيته، ولا تشفع لك رفع شعار الحرية وأنت تقمع أقرب الناس لك، ولا يشفع لك أن تطالب بالعدالة الاجتماعية والذين يحيطون بك وأنت على رأس الحكم، هم من أقاربك، هذا يخلق ارتكاس ونكوص لدى أتباعك أو من هم مُعجبون بفكرك...

ـ هل تعلم رفيق؟ أحياناً أشعر أن الثقافة الزائدة تكون عدوة للانضباط، وعلى مر التاريخ، إن من آمن بفكرة واحدة أو حتى عنوانها كانوا أكثر صرامة وانتشاراً من المثقفين، انظر قبائل المغول، والعثمانيين كونت إمبراطوريات، لم تقم على المناقشة والفكر، بل الانصياع وراء عنوان فكرة فقط...

تدخل المهندس وقال: لكن تلك فترات زمنية لم تخلق وراءها حضارة قابلة للاستمرار، بل كانت حقبة تنقضي...

شعر علوان، أن رفيقيه كان كمدعوين لوليمة، لم يتناولا منها لقمة واحدة، وتركا كوبا (الشاي) دون أن يشربا منه شيئاً...

(53)

في جلسات اللجنة التنظيمية العليا للإقليم، لم تأخذ المناقشات طابعاً فكرياً قوياً، ولا حتى إبداعياً في مجال الربط بين الدعاية الفكرية وأذرعها الإدارية كالنقابات والبلديات ومواطن تخزين الرأي العام...

كان أعضاء المجموعة القيادية يحملون معهم دفاتر دونوا عليها الحضور والاشتراكات المالية لتنظيماتهم وبعض الأشياء الأخرى، وما أكثرها..

كان من بين تلك الأشياء الأخرى، طرح تَغَيُب أحد المعلمين الذين يُشهد لهم بصلابتهم وحضورهم الاجتماعي القوي، وقد تغيب أكثر من ستة أشهر، وعند مناقشة وضعه تبين أنه (زعلان) لأن الحزب لم يؤمن لابنه البكر مقعداً في كلية الطب، ولم يستوعب أن ابنه لم يحصل على ستين درجة من مائة، وأن أقل معدل يحتاج الى ثمانين لكي يتنافس بين أبناء الحزبيين على مقاعد الطب الخمسة..

أخرج أحدهم مجموعة من الطلبات، كان من بينها رفض أحدهم لمبلغ خمسة عشر ألف دولار، لكي يفتح لنفسه مصلحة، لأن الأجهزة الأمنية، لم توافق على تعيينه في أي وظيفة حكومية، ولأن جواز سفره لا يزال محجوزاً منذ خمس سنوات، ولأن المبلغ لا يكفي (لفروغ يد: أي أخذ محل تجاري من مستأجره)..

اعترض وهيب على هذا الحجم من الطلبات التي أسماها سخيفة، وقال: علينا أن نطرد كل حزبيي (الفُم الواحد)، وعندما استفسر المسئول عن ذلك المصطلح، ابتسم وهيب ابتسامة قوية وشرح: النساء يغسلن غسيلهن ويقلن: غسلته (فُمين ولم ينظف)، فهؤلاء الحزبيون يحتاجون لأكثر من فم لتطهيرهم...

لم يرتح أي من الأعضاء لطرح وهيب، وبرروا أن الحياة قاسية، وما دام الحزب قادراً على مساعدتهم، لماذا نُصعب عليهم الأمور؟

رد وهيب: إن أي شخص لا يستطيع أن يحل قضاياه الشخصية، لا يستطيع الادعاء بأنه سيحل مشاكل الأمة، وأن هذا النمط من المساعدات سيفسد الحزب ويجعل أعضاءه مشاريع لبؤر فساد في المستقبل... وأضاف: خذوا مثال رفيقنا علوان جواز سفره محجوز منذ سبع سنوات، وقد عمل مزرعة وافتتح مكتباً للاستشارات والخدمات الزراعية، والآن يعمل لديه حوالي أربعين معظمهم من رفاقنا...

(54)

جاء وهيب بعد آخر اجتماع الى بيت علوان، وشاوره في مسألة خروجهم من التنظيم لعدم فائدته... لم يفاجأ علوان بتلك النزعة من طرف وهيب، وقد فكر بها هو سابقاً، لكنه سأله: أليس ذلك انشقاقاً؟

ـ قد يسمونه (هم) انشقاقاً، ولكن بنظري (أنا) هم المنشقون، فمن يحرف مبادئ الحزب ونظرياته، ليجعلها جامدة وراكدة ويقتات على هامش مستنقعها، لا يستحق أن يوصف بأنه رائد عمل ثوري..

ساد صمتٌ قليل بينهما...

سأل وهيب: هل سمعت بحياتك يا علوان أن حزباً يوعد الجماهير بقطع الكهرباء عنهم وانتشار البطالة وحفر الشوارع؟
ـ كلا..
ـ نعم، إن كل الأحزاب تعد بجعل (البحار والصحارى بساتين)، ولكن الفيصل في إنجاز ما تعد تلك الأحزاب، لا فيما تقول..

سننتشر بين صفوف الشعب، ونلتقط من آمنوا بما نؤمن، وسنجلس بين الفقراء والعمال والفلاحين، ونحاول الدخول للبلديات والنقابات، وسنبقى نحمل اسم الحزب نفسه، وإن سألنا أحدٌ عن بقية الحزب لا نجاوب، رغم أننا نعرف أن من بقي يتاجر بحزبيي (الفُم الواحد) سيصفوننا بأسوأ الأوصاف: منشقين، عملاء للمخابرات الخ..

ابتسم علوان، ففهم وهيب أنه وافقه..




ابن حوران 18-02-2012 12:40 PM

(55)

عاد وهيب بعد أن أدى فريضة الحج، وزاره الكثير من المعارف القدماء والجدد الذين استطاع أن يزور بيوتهم مع علوان في مناسبات مختلفة، (انتخابات برلمانية، انتخابات بلدية، مناسبات اجتماعية مختلفة، مشاكل حياتية من قتل وطلاق وغيرها)، وكان المدى الواسع من أطياف الزائرين يؤكد صحة نهجه، في أن العمل الجماهيري يحتاج تواصل وتدرب على تكييف اللغة والأفكار ليستوعبها كل مواطن...

خلال عشر سنوات أو أكثر قليلاً من ابتعادهما عن جسم التنظيم الحزبي الأصلي، استطاعا جمع عشراتٍ بل مئات حولهما، ممن يؤمنوا بأفكارهما. كانت بصماتهما واضحة في سبع عشر منظمة اجتماعية ونقابية في البلدة، فقد استطاعا إيصال اثنين من رفاقهما للمجلس البلدي، واستطاعا تأسيس جمعيتين خيريتين، وترأس كل النقابات المهنية (أطباء، مهندسين، محامين، أطباء أسنان الخ) كما أسسا نقابة لعمال البناء كان كل قيادتها من رفاقهما العمال الذين تم كسبهم من الشارع. كما استطاعا أن يفشلا وصول أي شخص للبرلمان مشهوداً له بالفساد، ولكنهما لم يستطيعا إيصال أي من رفاقهم للبرلمان..

احتار الكثير بمعرفة حجم تنظيمهما، فمن الناس من قدر عدده بالآلاف ومنهم، من قال أنهما لم يفصلا من التنظيم الأصلي، وأن ممارستهما تندرج تحت العمل الواجهي أو تمويه الاسم للابتعاد عن الملاحقات الأمنية..

والغريب أن أجهزة الدولة، كانت تستدعي أحدهما للتنسيق في حل مشاكل اجتماعية، ففي حادثة قتل قام بها ابن عم علوان، لم تستدع الدولة سليمان بك ولا كبار السن من أقارب علوان، بل استدعت علوان والذي استمر في متابعة الأمر لمدة ستة سنين حتى نجح في حلها...

كما أن الحزب الذي انشقوا عنه، لم يذكرهما بأي سوء، بل كان يقدم انجازاتهما على أنها تعود لنشاطاته، خصوصاً تلك المتعلقة بتأسيس اتحاد الشباب على مستوى البلاد..

(56)

قبل وفاته بسنتين، اتصل الحزب بوهيب وعلوان من أجل ضم تنظيمهما للحزب خصوصاً أن تنظيمهما لم يغير اسمه، رفض وهيب ذلك رفضاً قاطعاً، وقبله علوان شريطة أن يخضع ذلك لاستفتاءٍ داخل تنظيمهما..

كان وهيب يحلم بأن يكون الحزب بوصفه منظمة دعائية تتصل بأذرع إدارية، باستطاعتها الضغط على الدولة لتغيير مسار سلوكها، فإن رفضت يتم الإيعاز للنقابات العمالية بوقف عملها والإضراب (فتنقطع الكهرباء، وتتوقف أعمال تصفية النفط، ويختفي عمال التنظيف من الشوارع، ويتوقف الأطباء والممرضين عن أداء عملهم)، وفي تلك الحالة فقط، سينصاع النظام لتغيير قوانين اللعبة. وكان يسخر من النضال النقابي الذي تقسم به البلاد الى لونين: قائمة بيضاء وأخرى خضراء، والمتنافسون على رأسيهما هم وكلاء وزارات في الدولة أو مدراء عامون!


جرى الاستفتاء، وكانت النتيجة تميل ميلاً بسيطاً لصالح الانضمام للحزب الرئيسي، وكان على رأس هذا المجموعة علوان، فتم الانضمام..

أما وهيب ومجموعته فقد اعتزلوا العمل العام، أو أن المرض الخبيث أجبر وهيب أن يعتزل، ولم يمهله حتى توفاه الله...

(57)

جلس علوان يتأمل المشهد، فقد مات وهيب عن عمر ستين عاماً، وبقيت الجماعات الأخرى التي كانت تستنكف عن العمل العام بحجة عبثيته وعدم جدواه، تسهر وتلتقي في نفس الأمكنة التي اعتادت أن تلتقي فيها، وتنتقد وتتهكم وتضع الفهارس للأخطاء والتجاوزات، وتقترح اقتراحات للخلاص مما المجتمع فيه، وتحيل كل ذلك ل(نائب فاعل) غير معروف...

أما أبناؤهم والذين بلغت أعمارهم حوالي الأربعين أو أقل، فقد ورثوا فقط الابتسامة الساخرة من الوضع، ولكنهم ـ حتى أبناء علوان ووهيب ـ لم يهتموا بما كان يهتم به آباؤهم ..

يترك القوم أرضهم لجفاف أو قحط ألَّم بها، ويهاجرون الى أرض الله، ومنهم من يعود الى مسقط رأسه بعد وقت أو تعود روحه.. وقد لا تكون الهجرة بسبب الجفاف والقحط، فلماذا هاجر سكان البلاد القديمة الى أمريكا وكانت أعدادهم من القلة بمكان بحيث أن موارد الرزق تكفيهم فيها.

تغادر مجموعة أفكار (العقل: كوعاء)، وتتجه الى شكلٍ آخر من التفكير، وتسفه ما كانت تعتقد به، ثم تعود تلك المنظومة لتحط في مسقط رأسها الأول، هكذا فعل الملحدان مصطفى محمود و (روجيه غارودي).

وتغادر الطيور مواقعها ومواطنها لتهيم على وجهها الى حيث لا تعرف، ولكنها في كل المرات تختار مسارات يتحاذى فيها نسيم البحر مع نسيم البر، لتصرف أقل قدرٍ من الطاقة، فتحملها تلك المسارات لنفس الاتجاه، ويدرس العلماء تلك الظاهرة ويضعون لها تفاسير قد تكون بعيدة جداً عن حقيقة الأمر..

ومن الغريب أن آبائها يلحقون بها، وكأنهم شككوا في تجاربهم، أو أنهم راهنوا على تجربة كُررت عدة مرات. وهناك من يقول أن لِحاق آبائها بها لكي يكونوا قريبين من إدراكها بعبثية رحلتها، فيعيشون لحظاتهم الأخيرة يشعرون ببعض الزهو لأن أبنائهم عادوا الى حيث كانوا!

انتهى


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.