حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   مكتبـة الخيمة العربيـة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=70)
-   -   عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=85347)

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:14 AM

عن بناء القصيدة العربية الحديثة-علي عشري زايد
 
بسم الله الرحمن الرحيم
إقتباس:

أختي العزيزة خاتون:
أنت بذلك تضطرينني إلى الكشف عن شيء كنت أود إخفاءه وهو كتاب أقوم بنقله إلى القارئ عن القصيدة الحديثة ، فيه جزئية هامة تتعلق بمعاناة المبدع في عملية تأليف العمل ونقله إلى الذهن وكيفية الجهد المبذول من أجل صيد فكرة أو عبارة ، والذي يعنيني من هذا الكتاب مقطوعة شعرية رائعة لخليل حاوي وأخرى لصلاح عبد الصبور تتعلقان بنفس المضمون الذي وضعتيه ، فما أجمل تعانق الشعر والخاطرة!
لك من الشكر بمثل ما للشوق لك على رؤية التعليقات ومن التحية بمثل ما لك من رياضة الحرف ورشاقة التعبير . دمت مبدعة وفقك الله
ها أنذا الآن أقوم بنقل كتاب عن بناء القصيدة العربيةالحديثة للدكتور الراحل على عشري زايد رحمه الله ، وهو كتاب يتناول كل ما يجب تحققه في القصيدة العربية الحديثة من جوانب فنية لا غنى لأي متصد لكتابة الشعر عنها . ولهذا الكتاب قصة طريفة معي ، فقد كنت في معرض الكتاب الماضي 2010 برفقة أحد زملائي ، وكنت لا أنوي الذهاب إليه إلا مجاملة له لانشغالي بالبحث عن عمل أفضل من الذي كنت فيه .
ولم تكن لدي الرغبة في البحث عن أي كتاب له علاقة بالشعر ولا ما شاكله لطالما اعتدت على الانخداع بالكتب وعناوينها ولا يكون نصيب إلا أن ألوك المصطلحات المبهمة وأعود بخفي حنين.
وفي هذه المرة ذهبت بشكل عارض إلى فرع مكتبة الأزبكية -وهي مكتبة مشهورة في مصر تبيع الكتب بأسعار رخيصة كما تبيع الكتب المستعملة- وظني أن زميلي سيجد بها ضالته ، ورحت أنتظره .
وبينما أنا أطّلع بشكل عابر على الكتب المتراصة إذ بهذا الكتاب يمثل أمامي ، ففتحه وقرأت فهرسه وجعلت أقرأ بعض ما به حتى اقتنعت به واشتريته .
ولشدة ما أفدت منه ووجدت فيه من نفع وجدت أن الأولى بي نشر هذا الكتاب لكل عاشقي الشعر حتى يتسنى لهم خوض هذا المضمار دون التخبط في ظلمات الاصطلاحات والمفاهيم المبهمة .
وقد كنت أكتب في كل يوم ما تيسر لي حتى انتهيت منه ، في مدة طويلة كان من الممكن أن تقل عن ذلك لولا تباطئي . وأرجو أن يجد القارئ في هذا الكتاب ما يجيب عن أسئلته الحيرى ويغنيه عن الاطلاع العشوائي على كتب الشعر وما يتصل بها من فنون ، والله ولي التوفيق .

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:19 AM

هذا الكتاب الذي وفقني الله لكتابته حاولت قدر الإمكان كتابته كما هو ، وقد طرأت بعض التعديلات الطفيفة للغاية على بعض النصوص حذفًا ، وذلك لتنافيها مع الشريعة الإسلامية وإساءتها إلى الإسلام ورموزه العظيمة بشكل غير مباشر .
ولا يبلغ هذا الحذف أكثر من صفحة واحدة ، سأقوم بالاستعاضة عنها بنص آخر أشير فيه إلى هذا التغيير الطارئ ، كما أنني آثرت تنسيق الصفحة وتعدادها بشكل مخالف لما في الكتاب وذلك لاختلاف عارض في الرؤية المتعلقة بفلسفة النقل والقراءة في كل من الإصدار الورقي والإصدار الإلكتروني ، كما أنني سأقوم بترك صفحات فارغة لوضع المقدمة فيها لاحقًا بإذن الله ، وبعد ذلك أضعها في مدة لا تتجاوز ثلاثة الأيام من هذا التاريخ حرصًا على عدم تعطيل النشر بسبب مجموعة من الصفحات القليلة .
وكل التقدير والشكر والوفاء والاحترام للراحل علي عشري زايد رحمه الله على هذا المؤلف الفذ الذي قلما يجد القارئ له مثيلاً في المكتبة العربية ، ولعل اطلاعك على هذا الكتاب -عزيزي القارئ- يشعرك بهذا الواقع فعلاً .. وعلى الله قصد السبيل .

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:21 AM

مقدمة الطبعة الرابعة
(للمؤلف رحمه الله )
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1978 ، وصدرت الطبعة الثانية مصورة عن الطبعة الأولى عام 1981 وصدرت طبعته الثالثة عام 1993 ، وها هي طبعته الرابعة تصدر بعد صدور الطبعة الأولى للكتاب بحوالى ربع قرن .

وقد عنّ لي حين انتويت إصدار الطبعتين الثالثة والرابعة أن أعيد النظر في بعض جوانب الكتاب في ضوء ما طرأ على الشعر العربي ونقده كليهما من تطورات كبيرة ، ولكني في اللحظة الأخيرة كنت أرجئ تنفيذ ما عنّ لي لاعتبارين :
أولهما : أن وجهة نظري بالنسبة للقضايا المطروحة في هذا الكتاب لم يطرأ علهيا تطور ذو بال ، وما يزال الكتاب بصورتها لحالية صالحًا للتعبير عن وجهة نظري الأساسية في هذه القضايا ، وما تزال النماذ ج التي اختارتها الدرساة صالحة لتمثيل القصيدة الحديثة ، بل لعلها أكثر صلاحية لهذا التمثيل من كثير من النماذج الأكثر حداثة .


ثانيهما : أن الإضافات التي كنت أنتوي إدخالها على الكتاب كانت ستغير من طبيعته إلى الحد الذي لا يصبح معه هو نفس الكتاب الذي صدر عام 1978 ، كما أن هذه الإضافات في ذاتها يمكن أن تمثل مادة لكتاب جديد حول ما طرأ على بناء القصيدة العربية من ناحية واتجاهات نقددها ومناهجه من ناحية أخرى من تطورات خلال الأعوام التي مرت على صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وهذا ما أعتزمه إذا أعان الله وأنسأ لي في الأجل ، وقد تناولت بعضها في كتب صدرت لي بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب .
والله سبحانه المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
علي عشري زايد
القاهرة 1423 2002

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:21 AM

مفتتح
ثمة فجوة واسعة لا يمكن تجاهلها بين القصيدة العربية الحديثة وقارئها ، وربما كانت هذه الفجوة عاملاً أساسيًا من عوامل هذه الأزمة التي يمر بها شعرنا العربي المعاصر أكثر من كونها مظهرًا من مظاهرها .
ولا شك أن قدرًا كبيرًا من مسوؤلية وجود هذه الفجوة يعود إلى القصيدة الحديثة والقارئ كليهما ؛ القصيدة بعوالمها الغريبة وتكنيكاتها الفنية المعقدة التي لا تضع في اعتبارها بالقدر الكافي طبيعة القارئ العربي الذي تتجه إليه ، والتقاليد الشعرية التي نما في ظلها ذوقه ، ومكونات ثقافته بشكل عام ، هذا بالإضافة إلى كثير من النماذج الردئية التي تنسب ظلمًا إلى القصيدة الحديثة وتحسب عليها ، وهي ليست منها ، والتي تتراوح بين قطبي الركاكة والابتذال من ناحية والغموض والإغراب من ناحية أخرى .

أما القارئ فإنه يتحمل نصيبه من المسؤولية بتشبثه بذلك الأنموذج الشعري الذي نشأ عليه ذوقه ونما ، وعدم استعداده لبذل أي جهد جديد في سبيل استيعاب أي نماذج أو أنماط شعرية أخرى لا تخضع خضوعًا صارمًا لتقاليد الأنموذج الشعري الموروث وشروطه . لقد أعرض كلا الطرفين ونأى بجانبه عن الآخر الأمر الذي زاد الفجوة بينهما اتساعًا وعمقًا .

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:22 AM

الصفحة الثانية من المفتتح


ولكن ثمة قدر أكبر من المسؤولية يقع على عاتق الناقد العربي المعاصر ، الذي هو أقدر الناس على تحقيق نوع من المصاحلة بين القصيدة العربية الحديثة وقارئها ، وعلى إزالة الفجوة الفاصلة بينهما ،أو على الأقل على تضييقها وإقامة الجسور عليها لتعبر فوقها القصيدة إلى قارئها ، أو ليعبر هو فوقها إليها ، ولكن النقد العربي المعاصر بدل أن يمد يد العون إلى القارئ ويعمل على تضييق الفجوة بينه وبين القصيدة الحديثة ساعد على توسيع هذه الفجوة وتعميها ؛ فالكثير من الدراسات النقدية التي تدور حول شعرنا العربي الحديث إما أن تهوم في أجواء من الغموض والضباببية ليست أقل انغلاقًا من تلك الأجواء التي التي يهوم في آ فاقها الشعر الحديث ذاتها ومن ثم فهي لا تساعد أحدًا على الولوج إلى هذه العوامل وفض مغاليها ، وإما أن تعنى بكل ما هو غير شعري في الشعر العربي الحديث .
لذلك فالنقد العربي الحديث مدعو الآن أكثر من أي وقت مضى إلى أن يبذل جهدًا حقيقيًا في سبيل إزالة الفجوة بين القارئ والقصيدة العربية الحديثة وبينه وبين الأشكال الأدبية بشكل عام قبل أن تبلغ حدًا من الاتساع يتعذر معه إقامة أي جسر فوقها يصل القارئ العربي بالأشكال الأدبية الحديثة ، فتضحمل هذه الأشكال في عزلتها القاسية ، وهذا ما تلوح بوادره المخيفة بالفعل.

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:23 AM

الصفحة الثالثة من المفتتح
وهذه الدراسة عن "بناء القصيدة العربية الحديثة" واحدة من المحاولات المخلصة التي تفهو إلى المساهمة ف إقامة جسر من الجسور بي القصيدة العربية الحديثة وقارئها فوق هوة عدم الثقة التلي تفصل بينهما ، والتي تزداد عمقًا واتساعًا يومًا بعد يوم . وقد وجهت اهتمامها الأساسي إلى الأدوات والتكنيكات المستخدمة في بناء القصيدة العربية الحديثة على أساس أنها أبرز عوامل الأزمة الموجودة بين القصيدة وقارئها ، ولم يكن في وسع هذه الدراسة بالطبع أن تهتم إلا بكل ما هو أساسي وجوهري من هذه التكنكيات والأدوات تاركة التفصيلات والجزئيات لدراسات أخرى أكثر تخصصًا .

وقد اجتهدت هذه الدراسة في أن تبتعد عن أن تكون مقولات نظرية خالصة بنفس القدر الذي اجتهدت به في الابتعاد عن أن تكون قراءة نقدية تحليلية خالصة لنماذج من شعرنا العربي المعاصر ، وإذا اكنت في هذا الموضع أو ذاك قد مالت نحو هذا الجانب أو ذاك ، فإنها حرصت في مجملها وفي مسارها العام على أن تكون على الحد الفاصل بين الجانبين ، وفي المواضع التي مالت فيها شيئًا ما إلى الجانب النظري كان اهتمامها الأساسي موجهًا إلى بيان الجوانب الفنية للتكنيكات الشعرية المسخدمة في بناء القصيدة لا إلى الفلسفات النظرية الكامنة وراء هذه التكنيكات ، أما في المواضع التي مالت فيها إلى الجانب التحليل شيئًا ما فقد حرصت على أن يكون التحليل محصورًا في إطار القضية المطروحة في كل موضع ، وبالقدر الذي يساعد على إ ضاءة هذه القضية وتوضيحها .

بقي أن أشير إلى أن "الحداثة" في عنوان الدراسة هي مقولة فنية وليست مقولة زمنية ، فالقصيدة الحديثة في نظر هذه الدراسة هي التي كتبت بمفهوم حديث للقصيدة وأسلوب حديث في كتابتها ، وليست هي التي كتبت في العصر الحديث ، فكم من قصائد كتبت في أقدم عصور الشعر العربي هي أقرب إلى مفهوم الحداثة من كثير مما يكتب في العصر الحديث من الشعر .
وإذا كانت الدراسة قد أسقطت من اعتبارها تلك القصائد التي لا تمت إلى الحداثة إلا بالعصر الذي كتبت فيه ، فقد أسقطت من اعتبارها أيضًا تلك المحاولات المسرفة في الإغراب باسم الحداثة ، والتي هي أقرب إلى المغامرات الشكلية البهلوانية منا إلى محاولات التجديد الجادة ، أسقطت هذه الدراسة هذه المحاولات من اعتبارها على الرغم من اجتهادها في أن تكون غالبية نماذجها من أشد أشكال القصيدة العربية حداثة ، وكان رائدها في ذلك عاملين : أولهما أن هذه النماذج لم تحظ بقدر كاف من الاهتمام يعادل ذلك القدر الذي حظيت به النماذج الأكثر كلاسيكية من القصيدة الحديثة ، وثانيهما أن الفجوة الموجودة بين القصيدة الحديثة وقرائها إنما هي موجودة بين هذه النماذج وقرائها .
فإذا ما استطاعت هذه الدراسة أن تساهم على أي نحو في إقامة جسر على الفجوة القائمة بين القصيدة العربية الحديثة وجماهيرها ، فإنها تكون قد حققت ما تصبو إليه .
والله ولي التوفيق
علي عشري زايد

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:39 AM

حول مفهوم القصيدة الحديثة
أولاً :القصيدة والمعاناة المزدوجة
(1)
القصيدة الحديثة نوع من الكشف والارتياد ،بمقدار ما هي نوع من المعاناة المرهقةوالجهد المضني .إنها بالنسبة للشاعر مغامرة يحاول خلالها أن يعيد اكتشاف الوجود ، وأن يكسبه معنى جديدًا غير معناه العادي المبتذل ،ووسيلته إلى ذلك هي النفاذ إلى صميم هذا الوجود لاكتشاف تلك العلاقات الخفية الحميمة التي تربط بين عناصره ومكوناته المختلفة ، حتى تلك التي تبدو في الظاهر على أكبر قدر من التباعد والتنافر ، وهو في سبيل وصوله إلى هذه العلاقات الخفية الحميمة بين عناصر لوجود كثيرًا ما يتجاوز العلاقات الظاهرة المحسوسة والمنطقية بين هذه العناصر ،تلك العلاقات التي لا تلتقط سواها النظرة العادية التي تقف عند ظوهار الأشياء ،بل إن الشاعر كثيرًا ما يحكم هذه العلاقات الظاهرية المألوفة ، لتتحول عناصر الوجود وأشياؤه إلى مجرد مفردات وأدوات في يديه يشكل بها عالمه الشعري الخاص ، أن يعيد بها صياغة العالم وفق رؤيته الشعرية الخاصة ، على نحو يزيده عمقًا وثراء واكتمالاً.
فعل الشاعر -على حد تعبير شاعر وناقد أميريكي معاصر هو أرشيباك ماكليش- هو "أن يتصارع مع صمت العالم ، وما كان خلوًا من المعني فيه ويضطره أن يكون ذا معنى ، إلى أن يتمكن من جعل الصمت يجيب ، وجعل اللاوجود موجودًا". وما كليش يعلق بهذه العبارة على أبيات اقتبسها من قصيدة نثرية لشاعر صيني قديم هو "لوتشي" يحدد فيها مهمة الشاعر قائلاً :"نحن الشعراء نصارع اللاوجود لنجبره على أن يمنمح وجودًا ، ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى.إننا نأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق ، ونسكب طوفانًا من القلب الصغير بقدر بوصة"(1)
_________________________
1-أرشيبالد ماكليش :الشعر والتجربة .ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي.دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين .بيروت 1963 ص17 ،18

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:41 AM

(2)


وإذا كان هذا القول ينطبق على عمل الشاعر بصفة عامة ،فهو أشد انطباقًا على عمل الشاعر المعاصر ،الذي يصارع اللاوجود من حوله ليجبره على أن يمنح وجودًا ، ويقرع الصمت لتجيبه الموسيقى ، كما قال الشاعر الصيني القديم في عبارته البارعة ، ولا شك أن هذا الدور الذي يقوم به الشاعر نوع من المعاناة الباهظة أو نوع من الصراع مع اللاوجود ..ومع الصمت ،ليمنحا وجودًا وموسيقى ، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال الجهد المضني والمعناة الصادقة ، في سبيل إعادة اكتشاف الوجود الشعري وهو في حالة أشبه بالغيبوبة ، وإنما أصبح عليه أن يبذل أخلص الجهد وأضناه في سبيل استغلال تلك الموهبة الفذة التي منحها الله إياها،والتي تمكنه من النفاذ إلى صميم الوجود ورؤية ما لا يراه سواه ، ومعاناة الإحساس بنبض الوجود ،واستشعار أدق خلجاته والإخلاص في هذه المعناة إلى أقصى مدى .. وأخيرًا تجسيد ذلك كله تجسيدًا فنيًا متميزًا في كيان فني خاص وهو القصيدة،ولقد تغير مفهوم العبقرية وأخذت اسمًا آخر هو "البراعة" أو "المهارة"،هذا الاسم الذي يوحي بإتقان العمل والممارسة ..


أما الجنون المقدس والإلهام التي تنسب إلى العبقرية فهي كلها غريبة على الأدب ، ولا تفيده شيئًا. ولكن الذي ليس غريبًا عليه هو الإلهام الآخر ،الذي هو الاهتمام الجاد بالأشياء التي تقال ، والهيام بالفكرة ، والعمل والعاطفة التي تخصنا .وهذا الإلهام يتطلب حرارة وعفوية وقريحة أدبية" (2)

_____________________
2(-Bendetoo Croce :La .Traduit Par D.Dryrus . Presses Universitaires do France .Paris 1951.p35
وانظر :د.محمد غنيمي هلال :النقد الأدبي الحديث .ط3 .دار النهضة العربية .مصر 1964 ص376،377

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:45 AM

(3)


وقد صور واحد من أنبغ شعرائنا العرب المعاصرين وهو الدكتور خليل الحاوي بطريقته الشعرية المتفردة تلك المعاناة الباهظة التي يعانها الشاعر في سبيل اقتناص العبارة الشعرية الحقيقية ، وكيف يصارع الأهوال ،ويجتاز الخاطر من أجل تلك العتبارة المتمنعة المدللة ، بكل ما تملكه من قدر ة خارقة على تغيير الوجود ،وإعادة صياغته.


يقول الدكتور حاوي في مقطع "الريح" من قصيدته الطويلة "الناي والريح في صومعة كيمبريدج"(3):


ولعل تخصب مرة أخرى ،وتعصف في مدى شفتي العبارة


دربي إلى البدوية السمراء ،واحات العجين البكر، والفجوات ...


أودية الهجير


وزوابع الرمل المرير


تعصي .. وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور


وبقلبه طفل يكور جنة .. غير الذي يقتات من ثمر عجيب


نصف من الجنات يسقط في السلال


يأتي بلاتعب حلال


نصف من العرق الصبيب


الشوك ينبت في شقوق أظافري ،الشوك في شفتي يمـَّرج باللهيب

في وجهها عبق الغريزة حين تصمت عن سؤال
نهضت تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال
تحدو ، تدور كما أشير بإصبعي
ولربما اصطاجدت بروقًا في دهاليزي تمر وما أعي
وبدون أن أملي الحروف وأدعي
تحدو، تدور،،تزوغ زوبعة طروب
وأرى الرياح تسيح ،تنبع من يديها منبع الريح المعطرت الجنوب
ومنابع الريح الطريقة والغضوب
للريح موسمها الغضوب
***
وحدي مع البدوية السمراء ،كنتب مع العبارة
في الرمل كنتب أخوض عتمته وناره
شرب المرارات الثقال بلا مراراة
_______________________
(3) ديوان خليل حاوي.دار العودة.بيروت 1972 ص 175 وما بعدها.

المشرقي الإسلامي 25-05-2011 12:49 AM


(4)
فالشاعر في هذا المقطع الرائع من مقاطع القصيدة يجسد ذلك العناء المبدع الذي يتحمله الشاعر العظيم في سبيل اقتناض العبارة الشعرية ،هذه المتمنعة المدلل التي :"تعصي وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور".. ولكن الصبقر والعناء وحدهما غير كافيين،بل لابد أن تسبقهما تلك الخبرة الشعرية الشفيفة النقية التي تماثل في نقائها وشفافيتها سريرة الأطفال لابد ان يكون الشعر "بقلبه طفل يكور جنة" وإذن فإن الشاعر العظيم الذي يستطيع أن يروض تلك العبارة الشموس هو ذلك "الذي يقتات من ثمر عجيب .نصف من الجنات يسقط في السلال ،يأتي بلا تعب حلال ،نصف من العرق الصبيب"،وليس هذا النصف الذي يسقط من الجنات في السلال حلالاً بدون تعب سوى تلك الومضة ــــــــــالمتوهجة التي ينعم بها الله على وجدان الشاعر ،فيستطيع على ضوئها أن يرى الوجود رؤية جديدة ،ثم القدرة على الهيام بتلك الومضة والإخلاص في معاناتها واحتضانها حتى تؤتي ثمارها الشهية.
أما النصف الثاني "العرق الصبيب" فهو ذلك الجهد المبذول في معاناة الرؤية الشعرية وتجسيدها ،ولقد تفنن الشاعر إيما تفنن في تصوير هذا الجهد ..فهو يخصوض إلى العبارة الشعرية "واحات العجين البكر"بكل ما توحي به من القدرة على التشكيل البكر والصياغة المتفردة و "أودية الهجير " و"زوابع الرمل المرير" و"الشوك ينبت في شقوق أظافره" ز "الشوك في شفتيه يمرج
باللهيب".. وهو"في الرمل ..يخوض عتمته وناره " و"يشرب المرارات الثقال دون أن يشعر بالمرارة".. فاية دروب مضنية تلك التي يجتازها إلى العبارة الشاعرة؟!
لقد تفنن الشاعر في تصوير تلك العبارة المتمنعة الشموس بمقدار ما فنن في تصوير مدى المعاناة المبذولة في سبيل الظهر بها ؛فهو يجسد هذه العبارة في صورة "بدوية سمراء " بكل ما تحمله هذه الصورة من بكارة الفطرة وحيويتها وتفجرها الهادر ، وهي شموس نافرة عصية لا يتسطيع ترويضها غير الصبور الشديد الصبر، وهي في العنفوان"ثم تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال " وهي أخيرًا تملك قدرات خارقة ،فإذا ما سيطر عليها الشاعر استطاع أن يغير بها الوجود ، فيجعلها "تحدو .. تدور كما يشيبر بإصبعه" ويجعل "الريح تنبع بمن يديها "..إلخ.
وإذن فالمعاناة والجهد المبذول ليس مجرد مسلمة نظرية ،وإنما هو يقين شعري يعيشه الشعراء ومن قبل خليل حاوي عبر الشاعر الفرنسي بول فاليري عن نفس اليقين بطريته الخاصة "إن الآلهة تمننحنا مجانًا البيت الأول من الشعر ، ولكن علينا نحن أن نصنع الثاني ".
وفاليري من الذين بؤمنون بضرورة الجهد الجاد للعمل الشعري "لأن ما يتم بسهولة يتم بدوننا "على حد تعبيره(4)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
Edmee de La Rochefoucaauld:Paul Valery. Editions Universitarires. Paris 1976. P.57.انظر (4)


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.