حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   خيمة بـــوح الخــاطـــر (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=31)
-   -   شقاء السعادة (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=81908)

ابن حوران 05-12-2009 08:45 AM

شقاء السعادة
 
شقاء السعادة

(1)

كان من ينظر الى الرجال الستة الذين يحيطون بموقد أخذ موقعه في الطرف القريب من باب الغرفة القديمة، يُهيئ إليه أنه يشاهد تمريناً لعرض تمثيلية استوحت شخصياتها من رواية البؤساء.

وُضع في الموقد بعض مخلفات الحيوانات المجففة والمخلوطة بالتبن، وبعض أعوادٍ من أطراف أعشاب لم تجف تماماً.

كان الدخان الصاعد من الموقد يتوزع على وجوه الجالسين، قبل أن يكمل طريقه ليستقر على خيوط عنكبوت قرب زوايا الغرفة المتصلة في السقف المصنوع من أعواد القصب.

لم يكن من السهل التعرف على ملامح وجوه الرجال، ولا على بدانتهم أو نحافتهم، فقد كان سوء الإضاءة المتحالف مع الدخان المخيم في أجواء الغرفة كفيلاً لإعاقة مهمة التعرف على وجوه الرجال، الذين كانوا يشبهون خلفيات لوحة لرسام إيطالي في العصور الوسطى.

لم تختلف آثار القحط التي تبدو على الرجال عنها عند الأغنام، ففي المواسم التي يكون فيها الغذاء متوفراً، فإن أوزان الأغنام ستزيد، وعندما لا يتوفر الغذاء فإنها ستهزل، ولا يستطيع أحدٌ التعرف على ذلك في ندرة الضوء الكافي، إلا إذا حمل الكبش بين يديه للتعرف على وزنه، خصوصا، إذا تُرك صوفه عليه دون قص ليمنع عنه برد الشتاء القارص.

ارتدى أبو سعفان معطفاً عسكرياً قديماً، ربما كان لأحد مساعدي الجنرال اللنبي، وقد فقد لونه الأصلي وبريق أزراره التي كان كبار الضباط يحرصون على تلميعها لإبراز إحداثيات انتصابهم في ساحات الاستعراض. فيما كان صاحب الدار (أبو صابر) يضع على كتفيه شيئاً ثقيلاً مكوناً من أكثر من عشرة جلود لخراف بألوان مختلفة، كانت مهارة صانعها تنحصر فقط بربط تلك الجلود ببعضها، فلم يهتم بما سيكون شكل ذلك الشيء، وكان يغطي تلك الجلود بقماش داكن سميك، لا يمكن إعطاءه أي لون مصنف.

كانت ألوان ملابس الرجال الستة متقاربة، رغم أنها كانت تختلف عند بداية صنع نسيجها، فقلة تنظيفها بشكل جيد مع آثار الأدخنة تجعلها متشابهة، وحتى عند غسلها فإن مادة التنظيف كانت من آبار الجمع بالإضافة لبعض الرماد المحترق ليطرد أفراخ البراغيث والقمل، فليس هناك أثر من إزالة آثار الدخان بأحد مخلفات الحريق.

(2)

مضت ثلاث سنين، ولم ينعم الفلاحون بموسم خير يحقق لهم السعادة والرضا، وكان أبو سعفان قد كشف سقوف ثلاث من غرفه المتواضعة، ليستخرج التبن الذي يعتلي عيدان القصب والذي كان مغطى بطبقة من الطين يتم تجديدها سنوياً حتى لا تتسرب مياه الأمطار من خلال مواضع جذور النباتات التي تنمو على السطوح حيث كانت تختبئ في تربة الطين، ليطعم ذلك التبن لحيواناته المنزلية.

لم يرى أبو سعفان فائدة من إبراز شكواه لأصدقائه، فهم يعيشون أوضاعاً تتساوى في كل شيء مع أوضاعه، لكنه كما هم، لا بُد لهم من أن يتفننوا في التغلب على رتابة الوقت والضجر، بالصبر والسكون، وقد تكون تلك الخبرات قد اكتسبت لتقنين صرف الطاقة، فالسكون لا يحتاج لحرق حرارة غير متوفرة مصادرها بالغذاء المتواضع الذي كانوا يتناولونه.

حتى كلامهم كان قليلاً، ففترات الصمت كانت تزيد على فترات الكلام، ونبرات أصواتهم إن تكلموا، كانت همهمة خفيضة، فالصوت أيضاً يستدعي صرف طاقة.

قلب أبو سعفان يديه، ونبس بكلمة، كاد هو ألا يسمعها، كان يريد من أحدهم أن يسأله عما يجول في خاطره. لكن ذلك لم يحدث، فكل الرجال يرمون رؤوسهم الى الأسفل أو الى مركز الموقد، الذي تلاشى بريق الجمر فيه منذ وقت، فكان كل واحد منهم يتتبع حالة الانطفاء الكامل لتلك الجمرات، ويبقي نظره مركزا عليها عل نارها تُبعث من جديد.

(3)

دخل صابر على الرجال، وألقى تحيته بصوت منخفض، وجلس دون أن يهتم إن كان أحدٌ من الجالسين قد رد التحية، رغم أنهم ردوا كلهم، فقد كانوا بحاجة ماسة لكسر فترات الصمت الطويلة.

كان صابر يعلم حالة والده وأهل قريته، فلم يتذمر عندما طلب منه والده عدم السفر للالتحاق بجامعته في بلد عربي، والتي كان قد أمضى سنتين فيها.

تأمل صابر في وضع الرجال، وتمنى لو أن العلم يستطيع جلب الأمطار ليسعد والده وأصدقاء والده بنزوله.

تذكر صابر نمط الحياة في البلاد التي يدرس بها وقارنه بنمط حياة أهل قريته، وتساءل من هم أكثر سعادة؟ أو من هم أكثر تعاسة في النمطين؟

كانت جداول طلبات حياة الفرد بالمدينة أطول بكثير من جداول طلبات حياة الفرد في قريته، ولكنه حاول إسقاط ما تعلمه في الرياضيات على تلك المقارنة، فقال ألف على ألف يساوي واحد وعشرة على عشرة يساوي واحد وواحد على واحد يساوي واحد.

فإن كانت طلبات ابن المدينة مئة طلب وحقق منها ستين طلباً فسعادته تساوي ستة أعشار السعادة، وإن كانت طلبات ابن القرية عشرة طلبات وحقق منها سبعة فسعادته أكثر من سعادة ابن المدينة.

ابتسم في سره، وقال: إن لهؤلاء الرجال طلب واحد وهو نزول المطر، فإن تحقق لهم ذلك ستكون سعادتهم مائة بالمائة.



إيناس 05-12-2009 07:45 PM

إقتباس:

فإن كانت طلبات ابن المدينة مئة طلب وحقق منها ستين طلباً فسعادته تساوي ستة أعشار السعادة، وإن كانت طلبات ابن القرية عشرة طلبات وحقق منها سبعة فسعادته أكثر من سعادة ابن المدينة.
ابتسم في سره، وقال: إن لهؤلاء الرجال طلب واحد وهو نزول المطر، فإن تحقق لهم ذلك ستكون سعادتهم مائة بالمائة.



شقاء السعادة ؟ ياله من تناقض
والغرابة في تناقضه إمكانية التعايش والإنسجام
تصوير رائع ودقيق لحالات واقعية جعلتني كذلك أبتسم حزنا من بداهة واقعيتها

أعجبني كثيرا هذا التحليل الحسابي لشقاء السعادة أخي إبن حوران
فدمت متألقا كعادتك

ابن حوران 06-12-2009 10:49 AM

أشكركم أختنا الفاضلة على دوام التواصل والتشجيع

احترامي و تقديري

ابن حوران 06-12-2009 10:53 AM

(4)

قطع عكرمة برنامجه اليومي في اللعب مع أترابه في الحي، رغم أن الجو لا زال صحوا وبرده ليس بقارصٍ، وقفل راجعاً يركض بأقصى سرعته متجهاً نحو والده (أبو صابر)، الذي كان مستلقياً على ظهره وقد غطى أوسط بطنه بجزء من رداءه الثقيل، في حين كانت ركبته اليسرى أعلى من مستوى رأسه، كونه قد كف قدمه اليسرى باتجاهه، وأردف ساقه اليمنى فوق جزء من أعلى الفخذ الأيسر، لم يكن أحد تمارين (اليوغا) بل هي إحدى الطرق التي كان كبار السن يبتكرونها لتمضية أوقات فراغهم الكثيرة. كان أبو صابر يراقب أصابع قدمه اليمنى التي كان يحركها بالتناوب وكأنه يقوم بتفقد صلاحيتها.

كان عكرمة ابن العشر سنوات أو أكثر قليلاً، لا يزال يلهث من ركضه، يرتدي سروالا خارجياً من المخمل المضلع وقد زالت بعض نتوءات الأضلاع وزال منها لونها الزيتي، وتنافرت الخيوط بعض الشيء من جهة الركبتين، منذرة بانتهاء العمر فوق الافتراضي للسروال، وكانت رؤوس أصابع قدميه تنزف دماً قليلاً متخثراً من كثرة ما يصطدم بالحجارة التي في طريقه.

بادره والده (علامك؟) أي ما بك؟
أجاب الولد بصوت مرتبك: رأيت رجلاً أكبر منك يضع عصبة خضراء على رأسه، ويتزر بإزارٍ ثخين فوق ثوب سميك ويحمل عصا غليظة وطويلة أعلاها منحني نحو ساقها..
قاطعه والده: إنه أبو المَرَاشد .. ماذا فعل؟
ـ بعد أن تطلع بالسماء نحو الغرب، ضرب بعصاه الأرض عدة مرات وصاح: (كسبها .. كسبها .. كسبها من زرع عفير وبَدَرْ).
ومعنى ذلك الذي لم يفهمه الصبي، أنه أفلح من زرع أرضه مبكراً.

استند أبو صابر، وعدل من جلسته، وأخذ يُعالج الرماد الذي في الموقد، وطلب من ابنه أن ينادي أمه لتحضر بعض الوقود للموقد لتسخين القهوة.

(5)

كان أبو المراشد من الأشخاص الذين قليلاً ما يشتركوا بحديث مع الآخرين، وكان الناس ينظرون إليه بمشاعر ممزوجة بالحيرة والإعجاب والاحترام والعطف.

لم يكن درويشاً بمعنى الكلمة، ولكنه لم يقطع فرضاً واحداً في مسجد البلدة الوحيد، ولم يسمع عنه الناس أنه أثار مشكلة مع أحد، حتى جيرانه لم يسمعوا أن خلافاً حدث داخل بيته، رغم أنه كان متزوجاً من أربعة نساء، وله من الأولاد الذكور أربعة عشر ولداً، غير البنات الستة.

(6)

انشغلت أم صابر بتحضير العشاء، وانشغالها كان رتيباً، فالوجبة المعتادة للعشاء هي (جريش) القمح، الذي سبق سلقه وتم تنشيفه ليحمل اسما جديدا (البرغل)، وكان يُحفظ بعد جرشه في (كَوَايِرْ)، تنتصب في (بيت العِيلة)، حيث تحتفظ العائلة بمئونتها فيه، داخل كواير وجِرار وبعض الجلود التي تُخصص لحفظ السمن.

كانت (الكوارة) تُبنى على مراحل، من الطين المخمر الممزوج بالتبن، فبعد أن تحضر المرأة الطين، تختار ضلعاً من أضلاع الغرفة (بيت العيلة)، لتبني بجانبه الكواير، فبعد أن تصنع (دكة أو مصطبة) بارتفاع أقل من قدم قليلاً لتنصب فوقه الكواير، تقوم بعمل مربعات فوق المصطبة طول ضلع المربع حوالي ذراع، وتعين مكان فتحات استخراج المواد المخزونة من الأسفل، تقوم برص الطين بيديها الاثنتين بسماكة أصبعين تقريباً، وحتى لا تنحني تلك المواد تتركها لمدة يوم أو اثنين حتى تجف قليلاً، ثم تكمل بناء الكواير حتى يبلغ ارتفاعها ارتفاع رأس المرأة تقريباً، ثم تترك فتحتها العلوية دون بناء، بل يتم تغطيتها بطبق من القش المحبوك لمنع دخول الفئران.

لم تكن وجبة العشاء، سوى برغل وماء وملح، كانت توضع في قدر من النحاس، وتترك على فوهة (الفرن الطيني) لتنضج على مهل. وبعد صلاة المغرب، تقوم أم صابر بسكب الطعام في قصعة واسعة، وتضيف إليه بعض الدهون المسخنة والتي غالبا ما تكون من (سنام الجمل) أو زيت الزيتون المقلي به قليل من البصل.

(7)

لم يمض وقت كبير، حتى انهمر المطر بغزارة، فضحكت الأرض ومن عليها في البلدة استبشاراً للخير، وارتفع صوت أذان المغرب، من على أعلى المئذنة وبصوت أبي صابر نفسه، وكان صوتاً قوياً على غير العادة، ولم يكن هناك ضجيجٌ يمنع وصول الصوت الى مسافة تتعدى حدود البلدة.

عاد أبو صابر ولحيته يقطر الماء منها، وأسنانه الصناعية تضحك متوسطة لحيته البيضاء ووجهه النحاسي، تناول طعامه بنهم، هو وأفراد أسرته، وأمر صابر أن يذهب الى احمد الرشيد البقال في الحي ليحضر (الهريسة) ليتحلى هو وأفراد أسرته ومن سيأتي لقضاء السهرة القصيرة.

يتبع

ابن حوران 07-12-2009 10:38 AM

(8)

أثناء وبعد كل مناسبة أو حدث، يكثر الكلام لمن شاهدوا الحدث، حتى وإن كانوا أشخاصاً غير مؤثرين في تحديد مساره، فكل واحد سيروي أو يحلل ما شاهده من خلال شخصه الفاعل أو الذي يتمنى أن يكون فاعلاً.

بدا الانشراح على وجه أبي صابر، وهو يحدث من جاء يسهر عنده من أبناء عمومته والجيران. فبعد أن مسد على لحيته، تجول نظره في وجوه زواره، وإن كان لا يحدد ملامح وجوههم بشكل جيد. كانت تلك الحركة ضرورية ليجعلهم يتوقعون كلاما هاما وخطيراً.

يا جماعة، كنت في ليلة الصليب والزبيب، قد وضعت كومات الملح الخمسة كما هي العادة، وقد توقعت بناءً على ما شفت من ذوبان معظم كومات الملح أن هذا الموسم جيد بإذن الله، لكنني لم أكشف لكم ذلك في حينه، بعد أن مرت ثلاث سنوات دون أن ننعم بمثل تلك الأمطار الغزيرة. اسمعوا، اسمعوا صوت الرعد وارتطام حبات المطر على الأرض.

سأله أبو سعفان: وهل تعتقد أن هذا الموسم يبشر بالخير؟
أجابه أبو صابر (في ندرة من يفند آراءه): العلم عند الله، سيكون الموسم جيداً، فعندما تمر (الصفاري) ببرودة ليلها وصفاء سماءها ويبدأ تشرين الثاني/ نوفمبر ببرق (بانياسي)، فما أن ندخل ب (المربعانية) حتى تكون الأرض (ملقحة).

أراد صابر والذي أحضر الحلويات للاحتفال، أن يستفسر من والده عن المصطلحات التي وردت بحديثه، فسأله: ماذا تعني يا والدي بالصليب والزبيب؟ وماذا تعني بالصفاري؟ وماذا تعني بالبرق البانياسي والمربعانية والملقحة؟

أجاب أبو صابر (وقد رأى في تلك الأسئلة مجالا لتمضية السهرة): الصليب والزبيب: هو عندما يتساوى طول الليل بطول النهار ويكون ذلك ليلة منتصف شهر سبتمبر/أيلول، فتتصالب الأرض في مدارها، ويتوقف الناس عن النوم في ساحات بيوتهم أو على أسطحها، ويتهيأ أصحاب الكروم لصناعة الزبيب من العنب.

والصفاري، هي أيام الخريف حيث تصفر أوراق الأشجار، ويثور الغبار وتتسطح قشرة الأرض. والبرق البانياسي هو البرق الآتي من جهة بانياس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث يبشر بالأمطار بخلاف البرق الآتي من جهات أخرى. أما المربعانية، فأيام الشتاء تقسم لقسمين أول أربعين يوم منها تسمى المربعانية وهي أشد أيام السنة برداً، ويتبعها خمسين يوماً تقسم الى أربعة أقسام: (سعد ذابح) و (سعد ابلع) و(سعد السعود) و (سعد الخبايا).

كان عكرمة الذي يجلس في حضن والده ليتمتع بالدفء، يطل رأسه من أبط (الفروة) التي يضعها والده مغطياً بها جسمه المتربع، وكأنها فرخ حيوان (جرابي) يستمع للحديث، ويحس بغصة شديدة، فالموسم يبشر بالخير، وهذا يعني أن عطلة المدرسة الصيفية ستذهب في كد وتعب في الحصاد والدرس واستخراج الحبوب، إن ذلك يعني أن الأولاد سيحرمون من متعة العطلة الصيفية!

(9)

استنزفت السنون الثلاثة، التي حُبست فيها الأمطار، مُدخرات معظم الأسر الفقيرة، كما استنزفت تلك السنوات الرغبة في الحرص من توقع أمطارٍ غزيرة.

كانت (ذيبة) أرملة (ياسين الحاصود) من بين أولئك الناس الذين لم يهيئوا سطوح منازلهم الطينية، بإضافة طبقة جديدة من الطين الأملس، الذي يتكفل بمنع (الدلف).

وزعت ذيبة مجموعة من الأواني القديمة تحت مساقط قطرات الماء المخترقة للسقف، وفرشت لأولادها الثلاثة، في بقعة لا تنزل فوقها قطرات الماء، وغطتهم ببساط صوفي ثقيل، وبقيت شبه متيقظة.

كانت أصوات ارتطام قطرات الماء بتتابعها تشبه أصوات آلة موسيقية تستخدمها قبائل (آرابيش في غينيا بيساو)، وكان اختلاف نغماتها آتٍ من اختلاف أحجامها واختلاف معادن الأواني واختلاف عمق المياه في كل آنية، وكأن الطبيعة قد قامت بضبط (دوزان) آلة موسيقية.

(10)

في الحروب، والزلازل، والكوارث، هناك أفراد أو كائنات، تتأذى من تلك الظروف، كما أن هناك أفراد وكائنات تستفيد من تلك الظروف.

كانت الضباع والذئاب من بين تلك الكائنات، التي تحاول استثمار ثمان ساعات متواصلة من المطر المنسكب بغزارة ملفتة للنظر، فكانت تعرف أن هناك جدران أبنية وأسيجة ستنهار بفعل الماء المتدفق من على السطوح والأزقة.

تعالت أصوات الرجال والتي كانت استجابة لنباح كلاب الحراسة المذعورة. خرج أبو صابر ليتتبع تلك الجلبة فتيقن أنها صادرة من دار أبو سعفان، وأخوته الأربعة الذين يعيشون في دار كبيرة واحدة هم وأبنائهم وزوجاتهم.

كان أحدهم يحمل فانوساً ضعيف الإضاءة أما الباقون فكانوا يحملون عصياً وأدوات زراعة.

بعد أن قفز الذئب مذعورا من تلك الجاهزية التي أبداها أهل الدار، التفت من يحمل الفانوس الى الرجال، فوجد أنهم لا يخفون أجزائهم السفلى، فضحك بصوت مرتفع، ثم انتبه لنفسه فوجد أنه يشاركهم تلك الهيئة.

حاول صابر أن يجد لتلك الظاهرة تحليلاً، فلم يتذكر سوى أنه في حالة ندرة الغذاء فإن القوارض تمتنع عن التزاوج رحمة بأبنائها، ولكنها تعاود لتلك العملية الأيضية بمجرد شعورها باقتراب توفر الغذاء.

يتبع

ابن حوران 10-12-2009 09:54 AM

(11)

أكملت أم صابر إحماء الفرن لتبدأ بالخَبْز، بعد أن ألقمته كميات كافية من العيدان الجافة، وبعض أقراص (الجلة)، وهي تعلم أن بعض النسوة من الجارات ستأتي لصنع الخبز، كونهن لم يبق عندهن من (وقيد) وقدرة كافية لاستمرار ودوام تجهيزهن لمثل تلك الأفران.

لم تكن متعة النسوة في تجهيز الخبز فقط، بل كانت لتتبادل الأخبار الطازجة، فكل جارة لها جارة والجارة الأخرى جارة، وكل جارة لديها خبر، فتتصل الأخبار ببعضها كاتصال (روجات) ماء في بركة أُسقط بها أحجار في أمكنة متباعدة منها.

سياج دار (أبي صالح) تهدم (كَرَع) من أثر الأمطار.
عجلة أم ابراهيم نفقت.
سُرِق ثلاثة أزواج من أفراخ الحمام من دار بهلول.
تخاصم أولاد بركات على توجيه مياه الأمطار لآبارهم.
تسمم عائلة (عوفة) بعد أن تناولوا طعاماً كان محفوظاً بإناء نحاسي غير (مُبيض).
أصبح الشيخ عليان مصاباً بإسهالٍ وحمى شديدة... (شكله مَوَات).

دخل عكرمة الى غرفة الفرن، وجلس الى جانب أمه، وكانت تعرف ماذا يريد، فكان يأتي ليأكل رغيف (كماج) ساخن وعليه قطعة من زبد البقر وترش فوق الزبد قليلاً من السكر، فبادرت لصنع رغيفه، وناولته إياه، فجلس ينعم بدفء المكان ولذة طعام الإفطار.

(12)

التقى صابر أستاذ التاريخ في مدرسة البلدة، في دكان احمد الرشيد، حيث كان يقضي الرجال معظم أوقاتهم بعد العصر في الدكاكين أو على قارعات الطرق، فوق أحجارٍ ثبتت لذلك الغرض.

كانت دكان أحمد الرشيد رغم مساحتها الضيقة التي لا يزيد طول ضلع مربعها عن أربع خطوات، مقسمة الى قسمين يفصلهما حاجز خشبي منتصب في الوسط، وضع عليه ميزانٌ ذو كفتين، وبعض أوعية الحلويات الشعبية، ونصفه الداخلي تم نصب رفوف من الخشب وضع فوقها أوعية زجاجية تحوي حاجات أهالي البلدة التي بَخنها جيداً احمد الرشيد.

أما النصف الخارجي من جهة الباب، فكان به بعض الأكياس التي يوضع بها الشعير والقمح والعدس، ليس كسلعٍ للبيع بالدرجة الأولى، بل كمكان لوضع أثمان المبيعات، فقد اعتاد الأهالي أن يشتروا بضائعهم بالحبوب أو بالبيض، ونادرا ما يستعملون النقود لأداء الأثمان.

وكان في أحد جوانب الجزء الخارجي (دكة) أو (مصطبة)، يتمدد فوقها صاحب الدكان عندما لا يكون لديه عمل أو زوار، وعندما يأتي الزوار يجلسون فوق المصطبة، لا يتحرجون من شيء، طالما أنها عادة!

على جانبي باب الدكان ثُبت بعض الأوتاد لتعليق المكانس والغرابيل وأدوات نخل الطحين، وقلائد (الدنيدلة: نبات يجمع بالربيع ويجفف ليستخدم في الطبخ)، وبعض ربطات الثوم، ولجامات الخيول وبعض الحبال. أما في أوسط الدكان فكان يتدلى شريط لاصق للإمساك بالذباب الذي كان يحوم فوق أواني الحلوى.

(13)

سأل صابر، أستاذَ التاريخ عن الأشياء التي سألها لوالده، والتي لم يُجب عنها كلها، فأراد مطابقة المعرفة الشعبية بالمعرفة العلمية المدونة.

تطابقت الأجوبة العلمية مع الشعبية فيما يخص الصليب والزبيب والمربعانية، والصفاري والبرق البانياسي، لكن فيما يخص (أُلقحت الأرض)، التي لم يجب عنها أبو صابر، قال أستاذ التاريخ: أن معارف أهل تلك المنطقة موغلة في القدم، ومن تلك المعارف ما لم يتم تدوينه، بل انتقل من جيل الى جيل بالمشافهة.

فقد كان السومريون والبابليون يعتقدون أن السماء ذكر والأرض أنثى، وكان المطر هو من يلقح الأرض ويخصبها لتعطي ثمارها.

استوقفه صابر: وهل أهل تلك البلدة على دراية بما كان يعتقد السومريون والشعوب القديمة؟
ـ نعم ليس السومريون وحدهم، بل والفراعنة والكنعانيين والحثيين.
ـ معقول هذا؟ وكيف؟
ـ لو تأملت الأمثال التي يرددها الفلاحون في تلك المناطق لتيقنت مما أقول.
ـ كيف؟ أي أمثال؟
ـ هناك مثلٌ يقول: (في مشير يتساوى اللوكسي والعفير)، فالعفير هو ما يزرع مبكرا، واللوكسي هو ما يزرع متأخراً، ومشير عند الفراعنة هو آذار/مارس عند سكان بلاد الشام، ومع ذلك لا زال المثل يقال كما كان في الأصل. ويعني المثل ما تمت زراعته مبكراً أو متأخراً سيتساوى في نموه في مشير.
ـ والكنعانيون، أين آثارهم بما نحن في صدده؟
ـ الزراعة البعلية أي المطرية، فكان الكنعانيون، والحثيون، يعتقدون أن بعل هو إله المطر وهو المسئول عن نجاح أو فشل الزراعة، في حين تُسمى تلك النوع من الزراعة التي لا تعتمد على جر المياه بالسواقي، في العراق بالديمية نسبة الى أديم إله المطر في بلاد ما بين الرافدين.

جاء عكرمة لينادي على أخيه صابر ليذهب للدار حيث أمره أبوه بذلك.

ابن حوران 21-12-2009 12:00 PM

(14)

بعد مرور ستة أيام على انهمار الأمطار بتواصل شبه مستمر، بلغ مدير المدرسة المعلمين بأن ينهوا تساهلهم وتسامحهم مع التلاميذ المتغيبين في البلدة، وكانت تلك الصلاحيات تُعطى لمدراء المدارس في المناطق الريفية كونهم أكثر قدرة على التعامل مع الظروف المحيطة.

لم تكن طرقات البلدة مستقيمة، ولا مُعبدة، بل تتعرج مع تعرج جدران المنازل التي كان يتم إكمالها على مراحل لتكون طرقات ملتوية يصعب على المساحين رسمها دون الاستعانة بتصوير جوي!

كانت حوافر حيوانات العمل وأقدام المواشي تفعل فعلها في خلط المياه مع الطين ومخلفاتها، فتصبح الطرقات معها وكأنها نماذج مصغرة لمستنقعات في بلاد مطيرة، ولم ينقصها سوى نماذج مصغرة عن تماسيح.

لم يكن باستطاعة عكرمة أن يسير بمحاذاة أترابه في الحي في الذهاب للمدرسة، كما اعتادوا في الأيام الخالية. كان عليهم أن يسيروا كأفراد قطعان النو التي تقطع الأنهر في إفريقيا في رحلاتها، فيتقدم تلميذٌ شجاع في القفز أمام أصحابه واضعا إحدى قدميه على جزء لم تطأه أقدام الحيوانات، ثم ينتقل بخطوة أوسع نحو حجر مرتفع ليقي ثيابه من بلل الطرقات، ويتبعه التلاميذ الآخرون، إن رأوه قد نجح في مسيره، وفي بعض الحالات كانت إحدى قدمي التلميذ المقدام تنزلق فيسقط التلميذ على جانبه لتنطلي ملابسه بطين بلون التراب والسماد والماء، فيعود لبيته لاغياً يومه الدراسي.

يتغيب بعض التلاميذ عن الدراسة في مثل تلك الأيام، ليس بسبب كراهيتهم للدراسة، بل بسبب عدم توفر ما ينتعلونه من أحذية يستطيعون التغلب فيها على مصاعب الطرقات. ولم يكن حظ عكرمة أفضل كثيراً من حظوظ أترابه، بل كان لديه (جزمة) من (الكاوشوك) تم شرائها قبل سنتين، حيث كان الآباء يشترون لأطفالهم مثل تلك الأحذية لتخدمهم سنتين أو ثلاثة، فيشترونها بأحجام كبيرة لتستوعب أقدام الأطفال التي كانت تنمو بمعدلات تفوق نمو أجسامهم، كونها حافية راكضة في أغلب الأحيان.

ولأن عمر الحذاء طويل وسعته أكبر من القدم، فكان ينشق شقاً طولياً من الجهة السفلى الخلفية للقدم وبطول إصبع، فإن لم ينتبه الطفل في سيره فإن سيعاني من برودة الماء والطين التي ستنفذ من خلال الشق وتستقر أسفل القدم العارية (دون جوارب) طيلة اليوم، ومن هنا كان انتباههم.

(15)

وقف التلاميذ في ساحة المدرسة لينشدوا نشيد الصباح، ثم يدخلوا لصفوف الدراسة، وكان يسهل على رسام مبتدئ أن يرسم لوحة لأولئك التلاميذ، حيث كانت ملابسهم بألوان لونها الزمن، فلم يكن أي لون منها مصنفاً تحت ألوان الطيف الشمسي، بل مزيجا منها مع اكتساب ألوان الدخان واختلاط مياه غسيل الملابس، وأحجامها تزيد عن أحجامهم بنمرتين أو ثلاثة وأحياناً خمسة، فملابس الشتاء كانت تُشترى بالجملة من سوق الملابس المستعملة ودون حضور الأطفال، أو أنها تكون لأخوة قد ضاقت عليهم أو لآباء الأطفال.

كان من السهل على أستاذ العلوم معرفة آثار سوء التغذية على وجوه التلاميذ الذين يجلسون متقاربين على مقاعد الدراسة طلباً للدفء من بعضهم واستجابة لزيادة أحجامهم بفعل ملابسهم السميكة والمرقعة. فكان (الحزاز) يبقع وجوههم وكانت السوائل تتماطى للخروج من فتحات أنوفهم. والأستاذ يتهيأ لشرح قاعدة (إرخميدس).

لكن الأستاذ لم يشرع في ذلك، بل عرج للحديث عن استبسال المقاومة في الجزائر، وضرورة الدعاء لأهل الجزائر والتبرع للثوار من أجل التخلص من الاستعمار الفرنسي، ولو كان ذلك التبرع بعشرة قروش!

كيف سيبلغ عكرمة والده بضرورة إعطاءه عشرة قروش، وهو لا يستطيع الحصول على نصف قرش كمصروف يومي؟

(16)

خرج الطلاب لساحة المدرسة، بعد أن انتهوا من ثلاث حصص، ليقوموا بشراء الحمص المسلوق والمملح، من بائع يضع وعاء على منصب خشبي يقف على ثلاثة أرجل.

ولكن عكرمة قرر ألا يشتري شيئاً، فإن لم يفلح في جعل أمه تقنع والده بإعطائه عشرة قروش للتبرع بها لثورة الجزائر، فإنه سيقوم بتجميع ذلك المبلغ أو نصفه من مصروفه اليومي.

أخذ عكرمة ينقل قدميه بجزمته التي مُسح نقش أسفلها بفعل الزمن، من مكان الى آخر، ويرفعها ليراقب كيف تترك أثرا على الأرض المبللة وطينها الرخو، فكانت بشكل أشجار مرسومة بخفة على الأرض، وكل نقلة تكون مختلفة عن الأخرى، لقد استلهم تلك الفكرة من أستاذ الفن الذي طلب منهم ذات يوم بشق رأس (البطاطس) ووضعه على سائل ملون ثم طبعها على ورقة بيضاء، لينتج عن ذلك رسم بديع!

مضى وقت تلهية عكرمة، حتى قرع الجرس ودخل التلاميذ الى غرف الصفوف.

ابن حوران 30-12-2009 08:03 AM

(17)

كانت شمس ذلك اليوم تضع خطاً مرحلياً لسباق أمطار الأيام السابقة، فهُرع المشيعون من البلدة لتشييع جثمان الشيخ عليان، الذي عاجلته المنية بعد مرض عدة أيام.

لم يُنه الحفارون قبر الشيخ بسهولة، فتجمع الناس حولهم، وأحدهم يراقب الخط الناشف من التربة مع ما فوقه من تربة رطبة طينية بفعل الأمطار السابقة، ويعلن بصوت عالٍ: ما شاء الله لقد ارتوت الأرض، فالتربة المبلولة أكثر من شبرين. ويردد آخر: أي شبرين؟ قل ذراعاً أو أكثر، فتطوع أحدهم لقياس التربة المبلولة ليضع حداً لهذا الخلاف.

وارى المشيعون جثمان الشيخ عليان، ولقنه شيخٌ: (إذا أتاك الملكان الشفيعان يسألانك من ربك، فقل ربي الله، وإن سألاك عن نبيك فقل نبيي محمد صلى الله عليه وسلم.. الخ)

ظهر صوت محمود ابن عليان، يا أهل البلدة: لا تتحملوا مشقة التعازي هنا، فالبرد قارص رغم سطوع الشمس، ومن أراد أن يقدم تعازيه، فبيت العزاء في (مضافة الشيخ عليان).

(18)

تقاطرت النسوة الى بيت العزاء المخصص للنساء، وكن يمشين ببطء تحمل كل منهن بعض أقراص الخبز المدهونة بالزيت وتغطيها بقطعة من القماش، ويدخلن بيت العزاء يجلسن بغير نظام، فعندما تكتمل الحلقة التي تجلس فيها النسوة مستندة الى جدران الغرفة، تجلس الحلقة الأخرى أمامهن، وهكذا.

يصدر صوت نحيب من أرملة الشيخ عليان، يكون خافتاً في البداية، ثم يعلو شيئاً فشيئاً، تعدد في نواحها مناقب زوجها الراحل، لترد عليها النسوة بالبكاء تضامناً وكأنهن فرقة (كورال) لم يُحسن تدريبها.

وبعد أن انتهت أرملة عليان من نمرتها، تناوبت النسوة في النواح على أشخاص لم يذكرن أسماءهم، كما يُتَبع في بطاقات محلات بيع الزهور، لتكون وكأنها مساهمة ومشاركة في المصاب، ولكن في الحقيقة كل واحدة تندب مصابها هي وتبكي على فقيد لها دون ذكر اسمه.

لم تنشغل الحاجة حليمة بشكل جدي بالمشاركة في النواح، بل كانت ترقب دخول وخروج الابنة الكبرى للشيخ عليان وهي توزع بعض الأطعمة على المشاركات.

(19)

جلس صابر بجانب مدرس التاريخ، في بيت العزاء للرجال، وكانا يستمعان الى موعظة من الشيخ مبارك عن العذاب الذي سيتعرض إليه الظالمين، وكان الشيخ يصف الموكلين بتعذيب أمثال هؤلاء، فمن بين ما قاله: أن أصبع قدم أحدهم يزيد حجماً عن جبل أُحد.

اختلس صابر نظرة جانبية تجاه مدرس التاريخ، فبادله بنظرة في طياتها ابتسامة غير مرئية، لا يفهمها سواهما، حملت في طياتها تساؤلات عن مصادر معلومات هؤلاء الشيوخ والواعظين، وعن الكيفية التي صاغ بها من وضع مثل تلك الصور لتخويف من يعظهم، وهل كان من الضروري أن يُضخم هيئة الموكل بتعذيب المجرمين لذلك الحد، حتى يرتدع من يسمع مثل تلك المواعظ؟

أنهى الشيخ مبارك موعظته بدعاء للميت راجياً من رب العالم أن يرحمه ويتجاوز عن ذنوبه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته ويعوض على أهله عوض الصابرين. ولم ينس أن يشكر الله على الأمطار التي أنعم بها على أهل البلدة، فأمن الحاضرون وراءه عن كل دعوة، وقرءوا الفاتحة ومسحوا وجوههم.

دار من يسكب القهوة السادة في فنجانٍ أو فنجانين على جميع الحضور، ونهض من نهض مغادراً وبقي من بقي من أقارب وأهل الشيخ عليان.


ابن حوران 09-01-2010 10:39 AM


(20)

لَمَا كان أهل البلدة، يقننون استهلاكهم للغذاء ليتجاوزوا به محنهم، لم يكونوا على علمٍ بأن هذا الأسلوب ستستخدمه شركات النقل الجوي في نقل الأبقار من قارة الى قارة، حيث كانت تحبس الأبقار وتخضعها لنظام غذائي شديد، ينقص من وزنها ما يعادل الربع أو الثلث لتوفير نفقات النقل الجوي.

ولم يكن علمهم بتلك الأمور ليطلعهم على أن هناك علائق للحفاظ على الحياة، وأن هناك علائق تهتم بصحة الجنين وعلائق لإنتاج الحليب وعلائق لإنتاج البيض. وربما يكون علماء التغذية هم من استفاد من تجارب هؤلاء الذين أخضعتهم الطبيعة لاستنهاض قدراتهم في الصراع من أجل البقاء.

ففي سنين الخير، لم يكن شبح المحل والقحط ليغيب عن أذهانهم، فإن كان حاصل إنتاج أحدهم يكفيه لعشر سنوات هو ومن يرعاه من حوله من بشر وحيوان، فإنه سيحتاط للاحتفاظ بمئونة سنتين أو ثلاث، مع كميات من البذار تكفي لتلك السنوات القادمة، ويبيع ما سيفيض عن حاجته الفورية أو المستقبلية. وكانت كميات المخزون الاستراتيجي تعتمد على كمية الغلة وحاجة أصحابه.

وتظهر المشاكل، تبعاً لنقص المواد الاحتياطية. ففي تلك الفترة التي طالت سنوات قحطها، كشفت أحوال أكثر من ثلثي سكان البلدة، فمنهم من كان يقترض من أقاربه قرضاً حسناً، ومنهم من كان يلجأ لإزالة سقوف قسم من سقائف منزله ليطعم الحيوانات التبن الذي كان يُستخدم في السقوف، ومنهم من كان يبيع جزءا من أرضه لتجاوز المحنة، ومنهم من كان يقترض بالفائض من بلدة قريبة، راهناً أرضه أو جزءاً منها، ومنهم من كان يُكابر في الصبر الشديد فلا يشتكي ولا يقترض بل يبقى هو وأهله كأنهم في تمرين بوذي، أو أنهم يفضلون (الاعتفاد*: أي الموت جوعاً بشكل جماعي) على هدر كرامتهم.

(21)

تيقن معظم أهل البلدة، أن الموسم يبشر بخير، فكان هذا (المُعْظَم) يتصرف كعطشان قطع شوطا طويلاً في صحراء، ثم شارف على غديرِ ماءٍ علمته خبرته بأنه ماءٌ حقيقي وليس سراباً. فهذا شهر (فبراير/ شباط) قد اقترب على الانتهاء والحقول خضراء بمزروعاتها وأعشابها.

لكن بهلول لم يشارك هؤلاء الناس استبشارهم بالخير، فكان يحمل عصاه التي كانت أطول من جسمه، ويطوف بين الحارات، مُردداً : ( تغل على جمر وتمحل على نهر: أي أن الله يرزق الناس حتى لو يئسوا و يحرمهم من الغلال حتى لو كانت وفرة الأمطار كماء النهر الجاري).

لم يكن بهلول وحده، من شكك في الموسم، بل كان يشكك به (أبو مناور) الذي كان يحتفظ بكميات من القمح والشعير والعدس والتبن في مستودعاته التي كانت معظمها على شكل آبار محفورة أسفل قاعات المخازن الظاهرة، ومع ذلك كان ينكر لمن يطلب منه بعض الحبوب أن لديه شيئاً مخزون.

(22)

انتشرت النسوة مع الغلمان في الحقول، وكان الجو مشمساً، وكان الأولاد يتابعون حركة سلحفاة هناك، تقترب من حفرة صخرية تجمع بها الماء، وكان أحدهم يريد إطفاء عطشه، فاقترب من الحفرة مُبعداً بعض الخنافس التي سقطت بها ليغب من الماء كأنه خروف. وقد شاهدته أمه (ذيبة أرملة ياسين) وهو يشرب فشاركته بالشرب.

جمعت (ذيبة) أشكالاً مختلفة من النباتات البرية، وكان لكل نبات اسم واستعمال، فهذه (خبيزة) وذاك (عكوب) وذلك (مُرار) و تلك (بْصِيلة)، ووضعتها ب (معقاد: صرة من القماش العتيق)، وهمت بالرحيل مع أطفالها.

تعالت أصوات الأولاد، وذهبوا يتراكضون جهة (صياح) القادم من بعيد هو وثلاثة (كلاب سلوقية) يجر وراءه ضبعاً، لا يدري أحدٌ إن كان هو من قتله أو وجده مقتولاً.

(23)

انشغلت ذيبة في تحضير الطعام لها ولأولادها، حيث فرمت (الخبيزة) مع (البصيلة) ووضعتها في قدرٍ فوق الموقد، ورشت فوقها الملح، ولم يكن في حوزتها خبزٌ، حيث عليها أن تتمرن هي وأولادها العيش بلا خبز حتى يأتي الخير الجديد، كما عليها أن تستعيض عن البصل بشبيهه البري (البصيلة).

تأخر أحد أولادها الثلاثة، عن مشاركة أمه وأخويه تناول الطعام، وكان قد لحق صياح، الذي كان يجر الضبع وراءه. وعاد ومعه قطعة من لحم الضبع.

لم تسأله أمه عن اللحم، رغم أنها سمعته عندما قال: أنها قطعة لحم من الضبع الذي ذبحه صياح.

كانت فتاوى أهل البلدة في مثل تلك الأيام فضفاضة جداً، فهم إن نصبوا (أفخاخ) للطيور في المساء وعادوا صباحاً، فإنهم لن يناقشوا الحلال من الحرام، ويكتفوا بالقول: (صيد الفخ لَخْ)، وبغض النظر عن معنى الكلمات فهي إشارة على أن أكل هذا الصيد حلال!

كذلك كان يفعل (صياح) باعتماده على فتوى لم يسأله أحدٌ عن مصدرها، وهي أن الجنب الأيمن من الضبع حلال أكله، فكانوا يأكلون ما يصيده أو يحضره صياح دون تدقيق، ودون أن يتحروا أين ذهب الجانب الأيسر؟






*ـ الاعتفاد (الانتحار الجماعي) : حالة كان يلجأ إليها سكان مكة المكرمة قبل الإسلام، عندما يقل عندهم الغذاء، خوفاً من كشف فقرهم للآخرين، وقد رافقت تلك الظاهرة ظاهرة وأد الفتيات اللواتي كان أهلهن يخشون أن ينحرفن أو يضطروا لزواجهن من رجالٍ غير كرماء الأصل [ من المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د. جواد علي/ دار العلم للملايين].

ابن حوران 19-01-2010 08:52 AM

(24)

تأثر عكرمة بالتجاوب السريع لوالده، في إعطاءه عشرة قروش ليتبرع بها لثوار الجزائر، وفتحت له تلك المسألة آفاقاً كبيرة للتأمل: لماذا تجاوب والده بهذه السرعة لإعطائه التبرعات وهو الذي يدقق في كل شيء؟ أين تقع الجزائر؟ وما هي العلاقة العضوية بها؟ على ماذا يثور أهلها؟

لم يستطع رسم صورة دقيقة عما يفكر فيه، خصوصاً وأن ظلمة الغرفة التي ينام فيها وتشويش الظلال التي يشكلها خفوت الضوء المنبعث من مصباح نفطي ضاعف السنا المتراكم على بلورته من هذا التشويش، جعلت الظلال التي تتشكل من حجب الملابس المعلقة على مسامير على جدران الغرفة وكأنها أشباح ذات لون رمادي.

كان يحاول النوم، لكن عليه أن يطمئن بأن ما قام به من تبرع يشكل عملاً مفيداً، لكن كيف سيتحقق من ذلك، ما قيمة العشرة قروش؟ وكم من متبرعٍ آخر قام بمثل ذلك؟ كم أعداد الطلبة في بلده؟ وكم بلداً عربياً أو مسلماً يقوم طلابه أو غيرهم بالتبرع؟ وكم ثمن البندقية؟

لقد صنعت تلك التساؤلات لديه قاعدة ليؤسس لديه اهتماماً جديداً لم يكن ليهتم به سابقاً، فحفظ فيما بعد عواصم البلدان العربية وأعداد سكانها ومساحاتها.

كان في تصرفه البسيط وكأنه يحاول التمعن بأحوال الشركة التي لا يعرف إمكاناتها بشكل جيد وساهم بها بما قيمته عشرة قروش!

(25)

قبل أبو صابر طلباً من أبي مناور بأن يرسل أولاده لأخذ كمية من (القُزْمُل)*1 لاستخدامه كوقود للفرن. لم يتوقف أبو صابر عند الدوافع التي جعلت هذا الرجل المتصف بالبخل أو التدبير القاسي ليكون كريماً في هذه المنحة.

وصل عكرمة بناءً على طلب والده الى دار أبي مناور، ففتح له أبو مناور باباً لمخزن يواجه الجنوب، يعلو فوق الأرض بما يعادل قامتين لرجل متوسط الطول، ويهبط في الأرض ما يزيد عن ارتفاعه، وأخبر عكرمة بما يجب فعله.

كانت رائحة المخزن القديم مزيجاً من تخمر الدبال وما علق على الأدوات الزراعية من روائح الحيوانات وبولها، فقد ثبتت مجموعة غير منتظمة من الأوتاد على الجدار الغربي المبني من الحجر والطين وكانت الحجارة التي مال لونها الى اللون البني الغامق ظاهرة دون تغطيتها بالطين، فعلق على الأوتاد بعض الحبال، وإطارات الغرابيل والمقاطف و(حواة) توضع على رقبة البغلة ليُثبت عليها أذرع عربة الجر أو عود الحرث أو غيره، وسرج قديم لفرس غير موجودة.

كانت درجات الهبوط لأرض المخزن مصنوعة من صخور المكان، فكانت مقصوصة بحيث تصبح درجات، وكان جسم المخزن كله محفوراً في الصخر، ولم يكن هناك من مواد للبناء سوى الجدران الخارجية البارزة فوق سطح الأرض، وما نُصِبَ من قناطر ثلاث لتحمل السقف المكون من أخشاب وأعواد قصب وضع فوقها التبن والطين.

تساءل عكرمة، من بنا هذا الشيء؟ هل هم من عاشوا في عصرنا؟ أم هم من أبناء الجيل الأول أو الثاني ممن نجوا مع نوحٍ عليه السلام؟ اختلطت خطوط الزمن على عكرمة، كما اختلطت خطوط المكان عندما أراد أن يتصور أين تقع الجزائر.

(26)

كان عكرمة يحمل أداةً لها أربعة أصابع من الحديد المُقَسى طول الإصبع حوالي قدم، تنحرف قليلاً للداخل وتلتقي في نهايتها بوَصلةٍ مثقوبة يثبت بها ذراع خشبي، تستخدم لقلب القش وتحريكه، كانوا يطلقون عليها (شاعوب)، وقد يكون اسمها مأخوذاً من تشعب أصابعها.

غرز عكرمة أطراف الأداة في كومة (القُزْمُل) وأزاحها من مكانها، فلاحظ وجود جسمٍ أملسٍ لم يتعرف عليه على الفور لخفوت الضوء وسط ذلك المكان، فاحترز بفطرته المقترنة بالبيئة، وعاد الى الخلف ليعود ويحرك الأداة بحذر، فإذا بأفعى يزيد طولها عن طوله، ولكنها في طور سُباتٍ لم تتحرك بطريقة عدوانية بل بحركة تُشبه حركة من أكل وجبة دسمة وغفل للتو، وحاول أحدهم إيقاظه، أحضر أداة معلقة لها في رأسها سلاح مبسط حاد تُسمى (مِنساس) يستخدمها الحراثون لإزالة الطين عن أعواد الحراثة، وقطع الأفعى، ولا يدري من أين جاءت بعض القطط لتنقل أجزاء الأفعى لتأكلها. وقد لامه بعض أترابه عندما تحدث لهم عن تلك القصة، حيث قالوا أنه لو أخذها وطبخها بعد إزالة شبرٍ من جهة الرأس وشبرٍ من جهة الذيل!

بعد أن ملأ عكرمة الأوعية المصنوعة من (الليف) من المادة التي جاء لأخذها من دار أبي مناور، وصل بعض التجار مع أبي مناور ليفتحوا بوابة لبئرٍ محفور أسفل المكان ومموه بالتبن تجنباً لوصول الرطوبة وتحسباً من اللصوص، فاستخرجوا القمح من البئر.

(27)

كان أستاذ التاريخ في زيارة لصابر، عندما استمع لقصة عكرمة، فابتسم وقدم شرحاً مُبسطاً لموضوع الآبار المستخدمة في خزن الحبوب، فهي لم تكن من باب الحرص من الرطوبة واللصوص فحسب، بل لها غايات أخرى، وصَمَت، حتى يجعل من إجابته المستقبلية مادة مشوقة.

سأله عكرمة على الفور: وما هي تلك الغايات الأخرى؟

أخذ أستاذ التاريخ نَفَساً من الهواء، ثم تناول موضوع حروب العثمانيين (الأتراك) وكيف كان وقودها من شباب وأبناء تلك البلاد، ولم يكتفوا بذلك، بل كانوا يأخذون حاصل الفلاحين من القمح لإطعام الجيوش، ويأخذون الشعير لإطعام خيولهم وبغالهم.

من هنا، لجأ أهالي تلك البلاد للتحايل في إخفاء محاصيلهم.





هوامش:

*1ـ القزمل: هو ناتج تنقية التبن من العيدان الغليظة التي لا تأكلها الحيوانات، حيث يُستخدم غربال (كربال) فتحاته واسعة لينزل التبن الصالح لإطعام الحيوانات من فتحاته ويبقى في الأعلى ما كان غليظاً، تستخدمه النساء في الأفران لإحمائها.

ابن حوران 05-02-2010 03:45 PM

(28)

كما كان سكان تلك المناطق يتحايلون على استفتاء أنفسهم حول شرعية مسائل أزمعوا على القيام بها، كانوا يتحايلون في صياغة الأمثال لتكون لهم سنداً يفسر ما يحل بهم أو ما يواجههم.

ففي الشتاء الذين يحفظون في ذاكرتهم الجمعية تفاصيل أيامه، كانوا يضعون مثلاً لكل طارئ. فإذا جاء أحد أيام شباط/فبراير مشمساً، نجد العجائز يرددن مثلاً: (شمس شباط لكناتي وشمس آذار لبناتي وشمس نيسان لشيباتي)، كما يردد أبناء الريف (شباط إن شَبَط وإن لبط ريحة الصيف فيه). ولكن إذا أرادوا تعزية أنفسهم بقلة الأمطار فسيقولون (آذار فيه سَبْع ثلجات كبار).

ولم يكن أهل البلدة يبقون في بيوتهم إلا في حالات نزول المطر أو الثلج، فيخرجون، وليس من الأهمية أن يعرفوا لأي مكان يخرجون، أو تعريف الغرض من خروجهم. فدرجات الحرارة في الشتاء تتساوى في الخارج كما في الداخل، وقد يكتسب أحدهم من أشعة الشمس (المستحية) بعض الحرارة المجانية.

كذلك كانت حيواناتهم، تخرج أو يخرجونها من (مرابضها) لتنطلق الى أي مكان، وقد لا يكون في الأرض إلا التراب، ومع ذلك فإن خروج حيواناتهم له معطىً أولياً، ولا ينسوا أن ينسبوا على لسان حيواناتهم بعض الأمثلة (نزهني ولا تغذيني) [ أي أن الحيوان يفضل التجوال الحر على الأكل في حالة ربطه].

(29)

في نهار مشمس من أيام شباط/فبراير، توقف سائحٌ أجنبي كان الفتية يركضون وراء دراجته، دون أن يتضايق منهم، توقف أمام مجموعة من الرجال وضعوا جدار المسجد الكبير في ظهورهم، وواجهوا الشمس من جهة الشرق، وتناول آلة تصويره، ليلتقط بعض الصور، لهؤلاء الرجال الذين يلتفون بملابسهم السميكة، والذين لم يكن منهم من يتكلم، ولكنهم كانوا يحدقون في الأفق جهة الشرق.

لم يكن أحد من الرجال يعلم ماذا يدور في خلد ذلك السائح، هل كان يعتقد أن المكان هو أحد معابد من يعبدون الشمس؟ أم هل أن تلك الفرقة الصامتة تقوم بطقس من طقوس التأمل المنتمي لسحر الشرق؟

بادر أحد الفتية الى التطوع بإرشاد السائح الى بيت الأستاذ (سامي) أستاذ (الإنجليزي في المدرسة).

لم يكن في البلدة، فندقاً ولا مطعماً، فالزائر لها ضيف، والضيف واجب إكرامه، وهذا الواجب له سبب يجعله يرتقي من كونه واجباً ليكون مسئولية، فأهل البلدة معرضون في سفرهم الى من يستقبلهم كضيوف، فإذا نُقِل عن هذه البلدة أنها لا تكرم ضيوفها، فإنهم سيكونون عُرضة لعدم استقبالهم من قِبل الغير.

لكن، هل هذا الأجنبي السائح الباحث عن أرض الشمس، سيحفظ لأبناء تلك البلدة تصرفهم؟ وهل سيأتي يومٌ يكون فيه مضيفاً لأحد أبنائها؟

(30)

أرسل الأستاذ سامي ابنه لشراء بعض اللحم من أجل عمل (المَنْسَف) لضيفه، والطلب من أستاذ التاريخ وصابر أن يحضرا للمشاركة في تناول الطعام، وفي هذه الأثناء سكب له فنجاناً من القهوة السادة، بعد أن شرب هو قبل ضيفه من نفس الفنجان (سكبة)، شرب السائح تلك الكمية القليلة من القهوة في أسفل الفنجان، وناوله الفنجان، فسكب الأستاذ مرة أخرى وناولها للسائح فشربها، وسكب له مرة ثالثة فشربها وأخبره بأنه اكتفى. ابتسم الأستاذ وقال: عليك أن تهز الفنجان لكي يعلم مضيفك أنك اكتفيت!

دخل أستاذ التاريخ وصابر وحيا الموجودين، وجلسا قبالة الضيف، على فرشٍ وُضع على بساط صوفي قديم، ووضعت بعض (المراكي: وسائد يضع الجالس كوعه عليها)، وكان الحديث بين الأستاذ سامي والسائح، تتخلله بعض الضحكات.

استفسر الأجنبي عن أولئك الذين كانوا يجلسون مقابل الشمس، وما هو الغرض من وجودهم هناك فأجابه الأستاذ بشرح غير مقنع فبادره الأجنبي بالقول (Just sitting?) وافقه الأستاذ أن الحالة هي كذلك.

دخل اثنان ممن تدعوهم غرائزهم للذهاب الى الولائم دون دعوات، وجلسا صامتين، بعيون لا تلتفت كثيراً وخدودٍ متهدلة وشفتان سفليتان منتفختان ومتدليتان، كانا على دراية تامة بأنهما لن يُطردا وسيتناولان طعامهما المجاني، برفقة ذلك الأجنبي.


كانت رائحة دهن إلية الخروف المذابة والمخلوطة ببعض البهارات تنبعث من ممرات البيت، لتذهب الى غددٍ تقع في أسفل حنكي المتطفلين وتجبرهما على إفراز اللعاب استعداداً للأكل، فكانا يداريان تشوقهما للأكل بالإيعاز للعاب بالارتفاع، لكن دون جدوى، فكان يترك لمعاناً على أسفل صفحات وجهيهما، مما دعاهما لتحريك عيونهما لتفقد ما إذا كان أحدٌ ما يراقب (شبقهما) للأكل.

(31)

دخل أحد أبناء الأستاذ سامي، ورمى قطعة من قماش ملبس بشيء يمنع تلوث المكان ببقايا الطعام، وفرش القطعة في المكان الذي فهمه من عيني والده. ثم عاد وأحضر قصعة واسعة من البرغل المطبوخ والذي يعلوه اللحم، واحتاط الأستاذ على شراء رأس خروف ليتربع في مركز القصعة (المَنسف)، ليوهم الآخرين أنه ذبح لهم. وفي وعاء عميق كان به اللبن المطبوخ مع (الكركم) ومرق اللحم، وضع وعاء أصغر له ذراع يتناول فيه صاحب الدعوة غرفة ويوزعها أمام ضيوفه.

تفضلوا على (الميسور)، قال الأستاذ، فبادر صابر بالإشارة بكلمات إنجليزية غير متقنة تماماً للسائح، فهم منها أنه عليه تغيير جلسته والتهيؤ لتناول الطعام.

لم ينس الأستاذ أن يتلاطف مع المتطفلين ويشعرهما بعدم تضايقه من وجودهما، فقام الجميع الى الطعام الذي انحصر بحيزه بين أجسامهم وانحناء رؤوسهم نحوه، فزاد من تركيز الأبخرة المنبعثة منه ومفعولها على تحريضهم للأكل بشغف.

أحس الأستاذ أن الأجنبي قد راقه الطعام وطريقة إعداده وتناوله باليد، لدرجة أنه تربع كأبناء البلدة، وأخذ يتناول كل لقمة بتمتع وتذوق فريدين.. لكنه تفاجأ من السرعة التي نهض به المدعوون والمتطفلان، فتوقف ليسأل الأستاذ: لماذا نهضوا؟
أجابه الأستاذ: لقد شبعوا، إنهم أكلوا بسرعة تفوق سرعتك عشرات المرات.
فاستغرب الأجنبي: ولماذا هم مسرعون، هل فاتهم جزء من الجلوس في الشمس؟


ابن حوران 24-02-2010 08:53 AM


(32)

فتح عكرمة بوابة منزلهم على مصراعيها، لكي يسمح لفرس (أبي نجم) الشركسي أن تدخل، فالبوابة كما هي بوابات كل منازل البلدة، لا تُفتح إلا في مثل تلك المناسبات، أو لإدخال الغلة المنقولة على ظهر الحيوانات، فأصحاب المنزل، صغارهم وكبارهم يدخلون من خلال فتحة في وسط البوابة، تكون بطول حوالي المتر وعرض حوالي الذراع وتعتلي عن عتبة البوابة بمقدار نصف متر، كان يُطلق عليها اسم (خُوِيخَة).

قابل أبو صابر ضيفه بالترحاب والعناق، والأسئلة المتشابهة عن أحواله وأحوال عياله، وعن الموسم في منطقتهم، رغم معرفته بخصوبة منطقتهم وكثرة أمطارها.

أنزل أبو نجم (الخُرج) عن فرسه، واستخرج منه بعض أمتعته، وأقراصاً كروية الشكل، من جُبن (الكشكوان) الذي يصنعه من حليب أبقاره الكثيرة في أحد قرى (الجولان).

خرج أبو صابر ليوعز لزوجته بتحضير طعام الغداء لهذا الضيف الثمين، فقامت بدورها بأمر عكرمة أن يمسك باثنين من الديوك الستة ذوات السبعة أشهر.

حاصر عكرمة وأحد أترابه من أبناء الحارة الديوك، التي كانت تتمتع بحيوية عالية لخفة وزنها وطبيعة تربيتها، فكانت تناور بالهرب من مكان لمكان حتى دخلت تحت لوح من الخشب يستخدم لدرس وطحن القش فأمسك مع صاحبه باثنين منها، وأحضرها لوالدته التي كانت قد أوشكت على غلي الماء لتغمس به الديوك بعد ذبحها لنتف ريشها وتنظيفها.

(33)

وزع عكرمة وقته بين الجلوس القليل في ديوان أبيه ليستمع الى كلام لم يفهمه بشكل جيد، وبين الركض في اتجاهات غير معلومة على وجه التحديد مع صاحبه، ثم العودة لمراقبة أمه التي كانت تُعد طعام الغداء.

كان أبو نجم، قد فقد ثلاثة رؤوس من الأبقار، وهي ليست المرة الأولى التي يفقد فيها مسروقات من أبقارٍ وجِمالٍ، فمزارعه واسعة، وحيواناته كثيرة، والطامعون يجدون أحيانا فرصة لسرقة بعض تلك الحيوانات. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يستعين فيها أبو نجم بأبي صابر في البحث عن مسروقاته، فالشركس كما هم العرب لا يهمهم كم يدفعوا لقاء الكشف عن مسروقاتهم، حتى لو كان مجموع ما يدفعونه يفوق قيمة المسروق، فالمسألة عندهم تُحسب على وجه مختلف.

خرج أبو صابر، في طلب أحد أبنائه ليذهب لدعوة برهان العقر، ليتناول الغداء مع الضيف، ولمشاورته في موضوع البحث عن المسروقات. فقد كان لكليهما خبرة في تقصي البحث في مثل تلك الحالات. كانت لهما معارف في خريطة لصوص الحيوانات في دائرة لا يقل قطرها عن مئة كيلومتر، وإن تخطت السرقة تلك الدائرة، فيلجئون للاستعانة بمن يتبادل معهما الخبرات.

(34)

دخل برهان العقر الديوان محيياً ومبتهجاً بالمفاجأة التي وجدها عند صديقه، وكان صوته مرتفعاً ومخارج حروفه تتناسب مع طوله الفارع، وعباءته الشقراء، التي فقدت بهائها من قِدمها، كان رغم سنين عمره السبعين، يبدو قوياً لا يستخدم عكازاً ولا يحني ظهره، وبقي في فمه مجموعة الأنياب بالإضافة لبعض الأضراس، في حين سقطت ثناياه، وكان هذا يؤثر على مخارج الحروف، لتبدو السين قريبة الشبه من الشين، وتحيط بالصاد هالة من (الرجيج) بفعل أثر التبغ الذي يتناوله، ويؤدي الى سعلات غير مكتملة.

كان أسئلة برهان العقر عن وقت فقدان الأبقار ومتى اكتشف فقدانها، وهل بحث أبو نجم عنها في المناطق المجاورة، وهل هو يثق بمن يعمل لديه، وهل داهمت المنطقة ذئاب أو ضباع، وبمن يشك، كل تلك الأسئلة كانت تنم عن خبرة ضرورية للإقرار له بمهاراته.

وبعد أن أجاب أبو نجم عن كل أسئلة برهان العقر، جاء دور أبي صابر ليسأله هل موسومة الأبقار بنفس وسم أبي نجم، وهل قرونها كاملة، وهل عليها (أرسان) وما هو وصف كل رسن، ثم أسئلة تخص اللون والبقع التي تتخلله الخ.

(35)

أطرق عكرمة عندما عاد ما تبقى من طعام بعد أن تناول من بصحبة أبيه غدائهم، وعندما لم يجد أي قطعة من اللحم، أو حتى بعض العظام، تساءل: هل كُتب علينا أن ننظف الحقول والبيادر لإحضار أعلاف تلك الديوك، دون أن يُسمح لنا بتذوقها نهائياً؟

إن أبا صابر شأنه شأن رجال البلدة الذين يتنقلون بين البلدات، يكرمون ضيفهم ممهدين الطريق لإكرام أنفسهم عند سفرهم، فهم مكرمون في بيوتهم ومكرمون في بيوت من يحلوا ضيوفا عليه. أما الأطفال وأهل البيت فعليهم الاكتفاء بنكهة الدجاج أو اللحم التي تعلق بحبات البرغل، ومن يدري فلعلها تعلق بلعاب بعض هؤلاء الضيوف.

تساءل عكرمة هل طعم لحم الدجاج يختلف عن طعم (المصران) الذي تناوله ووضعه على قطعة من حديد فوق الجمر، فكان طعمه مزيجاً من الجلد المحروق وبعض بقايا العلف غير المهضوم!

ابن حوران 15-03-2010 02:17 PM


(36)

لم يشأ أستاذ التاريخ، أن يسأل صابر عن وجهة ذهابهما، فمثل تلك الأسئلة لا لزوم لها، في أماكن لا يكون للوقت قيمة كبيرة.

صعدا في طريقهما الى (تل) يتوسط البلدة، كان الناس في العهود القديمة يقبرون موتاهم فيه، وكان بعض سكان الأجيال القديمة، يسكنون في كهوفٍ صنعوها بحفرهم آباط التل، ليستخرجوا الحجارة منها ليستخدمونها في بناء واجهات لتلك الكهوف أو (المساكن)، ويبدو أنهما اختاروا تلك المنطقة لسكنهم تجنباً للفيضانات، واحترازاً من أخطارٍ يعيقها مثل ذلك الارتفاع.

لم يتمسك أهل البلدة في ملازمة هذا المكان وفاءً لأجدادهم، وربما لم يكونوا من أجدادهم، وهذا ما يفسره سلوكهم في البحث عن الذهب أو اقتلاع الحجارة من ذلك المكان ليكملوا به أبنيتهم في مناطق تبعد عنه. وكثيراً ما كان يصادفهم أن يعثروا على عظامٍ أو جماجم، يرمونها كما يرمي آكل (كوز) الذرة ما تبقى منه. فهم لا يعرفوا على وجه الدقة إن كان من سكن تلك المنطقة أغنياء أم فقراء، ولم يعرفوا ولا أظنهم يريدون أن يعرفوا إن كانت تلك العظام والجماجم لقائدٍ يوناني أو مملوكي.

وربما يكون احتقارهم لذلك المكان هو ما جعلهم يستخدمونه ك (مزبلة) يرمون فيها فضلاتهم التي جل مكوناتها الرماد فقط. فزادت مخلفاتهم المكان ارتفاعاً فوق ارتفاعه.

كان الناس وقت فراغهم ـ وما أكثره ـ أن يرتادوا ذلك المكان ليتربعوا فوق ترابه المسود من أثر الرماد والمتماسك من كثرة ما يجلس فوقه هؤلاء. كانوا يمارسوا فوقه رياضة الصمت والهدوء والنظر الى ما سيصل له بصرهم. ويركز كل واحدٍ منهم على نقطة بعيدة، وكأنه في وضع مراهنة مع آخرين لإطالة وقت التحديق بنفس النقطة دون كلام. ولو مر من أمامه (فيل) ـ وهو مستحيل في تلك البقعة ـ لاخترق بصره حجم الفيل دون أن يلفت انتباهه.

في جو مثل ذلك، يتساوى من يلقي التحية مع من لم يُلقها، انزوى صابر في مكان يبعد عدة أمتار عن مجلس الرجال، وأومأ لأستاذ التاريخ أن يجلس أو يتربع كما فعل.

حاول أستاذ التاريخ أن يلحق ببصره المجال الذي يركز فيه الرجال، عله يعثر على ما يشد انتباههم، لكنه أخفق، فلم يكن أمامه من على التل المرتفع، إلا مروج خضراء تتموج بفعل النسيم الدافئ وتبدو من على بعد وكأن اصفراراً اختلط مع خضارها.

كان يحاول أن يلتقط بعض العبارات التي تخرج من أفواه هؤلاء الرجال، لكن دون فائدة، فالصمت طاغٍ على عباراتهم، وقد يختتم أحدهم نوبة تحديقه في الأفق بلفظ الجلالة موحداً أو داعياً.

اقترح أستاذ التاريخ على صابر أن ينزلا من على التل ويتوجها الى الحقول المترامية شرق البلدة، فوافقه ونهضا.

(37)

لفت انتباههما صياح رجلٍ يركب فرساً ويتدلى من تحته (خُرْج) مصنوع من صوف الأغنام الملون بالأحمر والأصفر والأسود، فتوجها نحوه، إذ كان يجري بينه وبين مجموعة من الفتية جدالٌ صاخب.

كان (السندياني) وهو من غير أهل البلدة أصلاً، ولكنه سكن فيها على إثر رحيل له من بلدته الأصلية بعد نزاعٍ وإراقة دماء ونحو ذلك. كان قد اختار لنفسه مهمة حارس الحقول (المْخَضِر)، لقاء أجرٍ يأخذه على شكل حبوب في نهاية الموسم (بعد الحصاد)، ولم يكن أحدٌ ليعترض على تطوعه هذا، ولم يكن هناك من وقع معه عقد عمل، وكان يفعل نفس الشيء في رمضان، إذ يحمل طبلاً ويوقظ النيام ليتناولوا طعام السحور (مسحراتي)، ليأخذ في نهاية الشهر الكريم ما تجود به الأنفس.

سأله أستاذ التاريخ: ما بال الفتية يا عم؟
ـ وجوههم باردة، يتراكضون بين أعواد القمح، ويكسرونها..
صاح أحد الفتية: لا تقل وجوهنا باردة، احترم نفسك، نحن أحرص على عيدان القمح منك، هذا الحقل لوالدي ونحن نبحث عن نبات (الكزبرة البرية).
ـ حتى لو كان لوالدك، فالأمانة تقتضي أن أحرس الحقول حتى من أصحابها!
ـ يا سلام، لا يكون أنك تفتكر نفسك أستاذاً.
تدخل صابر ونهر الفتى وأمره بالمغادرة.
أراد أستاذ التاريخ أن يطيب خاطر السندياني: بارك الله بك يا عم، هل تعلم يا صابر كم عمر تلك المهنة؟
ـ لا والله .. ليس عندي علم بذلك، لكني وعيت على الدنيا وأنا أرى السندياني يقوم بها، ولم أسمع أن هناك من أبناء البلدة من يعترض عليه. بالعكس فقد سمعت شيوخ البلد يأمرونه بضرب من يخالف التعليمات حتى لو كانوا من أبنائهم.
ـ يُقال أن تلك المهنة من أيام السومريين، وأهميتها تكمن ليس في حراسة الحقول من الأغنام والرعاة، وإنما حراسة حتى الأراضي (البور ) من الرعي فيها.
ـ ولماذا حراسة البور؟
ـ إنه لا يحرس الأرض البور، بل يحرس النباتات الرعوية فيها، ولو تُركت الأغنام ترعى في الأراضي البور قبل تكوين الأزهار والبذور لنباتات الرعي، لاختفت النباتات المستساغة وانقرضت، وعندها لن يبقى في الأرض إلا النباتات الرعوية سيئة المذاق وقليلة الفائدة.

ابتهج السندياني من كلام أستاذ التاريخ، وقال: ما أحلى العلم وما أسوأ الجهل، هاتِ فهم هؤلاء الجهلة ـ يقصد الفتيان ـ الله يكمل هذه السنة على خير، المطر انقطع منذ أكثر من أسبوعين .. اللهم أسقنا الغيث.

(38)

عندما دخل صابر الى ديوان والده، وجد زوج عمته جالساً، فانحنى نحوه وقبله، كان زوج عمته رجلاً بديناً قصير القامة، وجهه مليء باللحم، وشعر لحيته قصيراً أبيضاً ومتباعداً، ليس به غزارة، ولم يكن ممن يحلقون ذقونهم بشكلٍ دءوب ولا هو ممن يربون لحاهم، وكانت شفته السفلى غليظة، لا تطبق على أختها العليا، فيبدو من خلالها صف أسنانه الأسفل ظاهراً ومصفراً، ليتناغم مع تهدل لحم خديه للأسفل، وأنفه المكور الضخم.

كان قليل الكلام، ونادراً ما يزور بيت أبي صابر، كما أنه على خلافٍ دائمٍ مع شقيقيه اللذين يشبهانه لحد كبير.

أزاح برأسه متوجهاً نحو صابر، وثبت عيناه على وجهه، ثم سأله: ألن تعود الى جامعتك قريباً؟

انتبه أبو صابر، فأرسل نظرته الى صابر، ليتحالف استغرابهما حول هذا الاهتمام المفاجئ. فهما يعرفان الرجل جيداً، لم يُسعف محتاجاً في يوم من الأيام، ولم يستدن حتى من شقيقيه إذا ما اضطرته الحاجة، بل يذهب الى (نصراني) في بلدة قريبة يرهن عنده قطعة أرض ويستلف بعض المال، وقد تنازل له عن الكثير من أرضه، وعمل له كجالبٍ للزبائن.

عندما يريد الله أعود للجامعة، أجابه صابر.
توجه الآن بنظرته الى أبي صابر، بع له قطعة أرض (العوصلانة الفوقا) ودعه يكمل دراسته.

توقف الحديث بعدما دخل برهان العقر بطوله وهيبته ولهجته المحببة، بعد أن حياهم بصوت عالٍ، قال: هات البشارة يا أبا صابر لقد عثرت على أحد أرسان أبقار أبي نجم الشركسي.

هـــند 30-03-2010 03:41 AM

متألق دائما و جميل ما نثرتثه هنا أخي الكريم ابن حوران
العنوان بليغ لدرجة يشعرك بواقعية ما نعيشه
استمتعت و متابعة

ابن حوران 30-03-2010 09:50 AM

أشكركم أختنا الفاضلة على المرور الكريم والتشجيع

احترامي و تقديري

ابن حوران 30-03-2010 09:50 AM


(39)

كعادته، تطوع (إعْوَيِد) لمرافقة (عكرمة) في رحلته لجمع الحشائش، ورغم أنه يكبره بسنتين ولا يجمعه به صلة قربى، فكان من أكثر أصدقائه الملازمين له في لهوه وجده.

امتطى الفتيان حماراً أسود اللون ضئيل الحجم، يتناسب حجمه وطاعته مع عمريهما، وكان تحتهما (بردعة) يعلوها كيسٌ ضخم من الخيش أخذاه ليملأنه بالعشب بعد أن سمح (السندياني) للناس بذلك.

لم تستطع الشمس التغلب على الغيوم المتكاثرة، فكانت تبدو بينها كشيخ عنين يراود امرأته دون جدوى. ومع ذلك كان الطقس دافئاً في مظهره الخارجي، بارداً في حقيقته، دون أن يحس الفتيان ببرودته.

لم تكن مشية الحمار توحي بأنهما سينجزان مهمتهما بسهولة، فكان يضع رقبته على امتداد ظهره، وعيناه بين المغمضتين والمفتوحتين، والوقت الذي استغرقه للوصول الى الحقل لجمع الحشائش، زاد عن ساعتين.

استغل (إعويد) ذلك الوقت في سرد قصصٍ خيالية، منها ما نسبها لنفسه ومنها ما نسبها لوالده، وكانت معظم قصصه تأتي على إثر رؤية مشهدٍ أمامهما في الطريق، فكان يركب القصة، وهو مطمئن أن (عكرمة) لن يعترض عليها، فقد كان يجلس خلفه على ظهر الحمار، متشبثاً في أطراف البردعة أحياناً، أو ممسكاً بأحد يديه برفق بخاصرة (إعويد).

عندما أقبلا على وادٍ ليس بالسحيق كثيراً، كانت الجهة المقابلة لهما يزيد ارتفاعها عن بناية من أربعة طوابق. اخترع (إعويد) قصة: أنه ذات يوم، عندما وصل لتلك المنطقة برفقة آخرين لم يذكر أسمائهم، كان هناك رجلٌ أشعث الشعر طويل القامة، رشيق الحركة، شبه عارٍ، يصعد ذلك السفح للوادي ووجهه باتجاه الوادي بسرعة تفوق سرعة السحلية، ثم يعود راكضاً للأسفل ويكرر صعوده ونزوله، لم يهتم عكرمة بتلك القصة ولم يسأله أي سؤالٍ حولها يبدي اندهاشه أو تكذيبه.

كانت عينا عكرمة تراقب حشرة (الجعران) السوداء التي بحجم حبة الزيتون، تدفع كرة من روث المواشي يفوق حجمها حجم الجعران بعشرة أضعاف، وكان الجعران يسير باتجاه الخلف، ورأسه باتجاه آخر، فابتسم عكرمة وقال في نفسه لعل الجعران هذا هو من جنود الرجل الأشعث الذي تحدث عنه (إعويد).

(40)

أكمل الفتيان جمع الحشائش ووضعاها داخل الكيس الضخم، ولم يخطر ببالهما أنهما لن يستطيعا رفع ذلك الكيس فوق ظهر الحمار.

وبعد أن أكملا تشبيك فوهته بالخيوط الثخينة، أبرقت السماء وتلا برقها صوت رعد مخيف وكأنه انفجار مدوي. سحبا حمارهما الى (قحفٍ) بجانب التل، ليحتميا من الأمطار التي انهمرت بغزارة مبالغ فيها، عل أن تلك السحابة هي من سحابات الربيع المتأخر التي سيتوقف مطرها قريباً.

لم يسأل عكرمة صاحبه عن سبب حمل علبة ثقاب في جيبه، خصوصاً أنه استعملها في إشعال كومة من الأشواك والحشائش الجافة التي تركها أناس كانوا يشعلون النار لسبب ما.

كان الدخان المتصاعد من الأشواك الرطبة، قد تحالف مع ظلمة الجو الخارجي الممتلئ بالغيوم السوداء، ليشكل خلفية للهب المتصاعد بشُعَبٍ تتراقص وكأنها جنيات، وهذا ما استفز (إعويد) لابتكار قصص جديدة تتناسب مع المشهد.

فقال: ذات يوم ونحن نلعب (الاستغماية) في الحارات القديمة، وجدنا رجلاً طويلاً يضع على كتفيه عباءة سوداء، ويعتمر (كوفية) بيضاء فوقها (عقال) أسود، سألناه عما إذا رأى فتية مروا من هنا، وما أن انتهينا من تكملة السؤال لم يكن هناك رجل.

نظر عكرمة الى وجه صاحبه الذي لا يتوقف عن الكلام، ثم تناول عوداً من الحطب الرفيع، وأخذ يقلب به النار، ثم لمح أن السماء انقشعت وتوقف المطر.

(41)

حاول الفتيان حمل الكيس ليرفعانه على ظهر الحمار، لكن دون جدوى. ولم يقتربا من فكرة أن يتخلصا من قسمٍ من الحشائش التي في داخله، فابتكر (إعويد) طريقة لحمل الكيس على ظهر الحمار.

عكرمة، سأضع رجلي بجانب ساق الحمار الخلفي، وقم أنت بدفعه بكل قوتك مرة واحدة، دون أن ينتبه الحمار.

وافق عكرمة على ذلك، بعد أن أجبرا الحمار على الاقتراب من الكيس الممتلئ، فدفع الحمار فإذا به يسقط على الأرض. قرصا الكيس بواسطة عصا القيادة التي كانت بيد إعويد، فإذا بالكيس الضخم يستقر فوق ظهر الحمار. لكز الحمار لكي ينهض لكنه لم يستطع النهوض، عاوناه بوضع كتف كل واحدٍ منهما تحت طرفي الكيس، مع نهر الحمار وتشجيعه على النهوض، فنهض.

سار الحمار، ببطءٍ شديد، والبخار يخرج من فتحتي أنفه، ولهاثه بات مسموعاً، في حين باراه الفتيان كلٌ من أحد الجانبين، وهما يحسان بإنجازٍ عظيم.

كف (إعويد) عن سرد القصص، وركز اهتمامه في منع الكيس من السقوط، خصوصاً عندما اقتربا من وادي الرجل الأشعث.

لم يكن يخطر ببالهما أن الأمطار التي انهمرت ستجعل السيول تندفع الى بطن الوادي لتجعل مهمتهما أصعب في اجتيازه، خصوصاً وهذا الحمل الثقيل الذي فوق ظهر الحمار. غاصت أرجلهما في ماء الوادي ولم يكن يباليا في أن الماء علا سيقانهما لفوق ركبهما، المهم أن يبقى الحمل فوق ظهر الحمار.

(42)

تجمعت النسوة من الجيران وأهل الدار، لتنبش محتويات الكيس، وتتناول تلك النباتات التي لكل واحد منها اسم تعرفه النسوة، فهذه (حويرة) وهذا (مرار) وهذه (دريهمة) وهذه (كريشة) وكل نبات يجد طريقه الى أفواه النسوة.

التفت عكرمة الى النسوة ولم يقل شيئاً، بل مضى الى داخل الغرفة لتبديل ملابسه المبللة.

ابن حوران 15-04-2010 12:51 PM


(43)

عندما شرع البناءون بتشييد مخازن (أبي مناور)، تساءل بعضهم: لماذا يبني أبو مناور خمسة مخازن بطول عشرة أذرع للواحد وعرض سبعة أذرع؟ والكل يعرف أن الحركة التجارية البسيطة في بلدتهم لا تحتاج مثل تلك المخازن. وتساءل آخرون: من أين أتى (أبو مناور) بالأموال اللازمة للبناء؟ وبعضهم قال: إنه عثر على كنز .. وآخر قال: إنه رهن أرضه عند (النصراني) ليمده بالمال. نادراً، ما يعتذر أحدهم عن تفسير أي شيء، حتى لو كان ذلك الشيء يخص علوم الفضاء.

كان بعض الرجال، يجلسون منذ الصباح يراقبون كيفية تثبيت ألواح الخشب، وكيفية تثبيت قضبان الحديد، ويدققون النظر بحجم الطوب، ويسألون البنائين عن كل صغيرة وكبيرة، وكأن أحدهم مُكلفٌ في وضع تقرير أو دراسة عن هذا النمط الجديد من طرق البناء، والمغاير لطريقة الحجر والطين القديمة.

كان بعض الفتية، يستغلون غفلة البنائين، ليلتقطوا بعض المسامير الملتوية أو قطعٍ من أسلاك رفيعة، ويذهبون بها بعيداً ليستحدثوا أداة يلعبون بها، كمصيدة للعصافير أو لعمل مركبات من الأسلاك يدفعها الأولاد أمامهم متخيلين أنهم يقودوا سيارات حقيقية.

لم يكمل أبو مناور (تشطيب) مخازنه، بل تركها مسقوفة ووضع لها أبواباً، ووضع على الأبواب أقفالاً متينة، ولكنه لم يترك أي نافذة، ولم يغطِ الطوب بما يصقل الجدران، ولكنه صب أرضيات المخازن بصبة إسمنتية ناعمة.

برر أحدهم أن أبا مناور لم يكمل البناء، لأنه يريد أن يوهم الآخرين بأن المال الذي وجده بالكنز قد نفذ! وقال آخر: ربما اكتشف خطأه بأنه لا نفع من ذلك المشروع.

(44)

حضر قائد الدرك مع مدير الناحية، واتفقا مع أبي مناور لاستئجار مخازنه على الحال التي هي فيه، ليتم تخزين المساعدات الأمريكية من القمح على المواطنين.

وصلت عشر شاحنات محملة بالقمح الأحمر الداكن والأرفع من القمح المحلي، وضع في كل كيس خمسون كيلوغراماً من القمح. وكُتب على الكيس (هدية من شعب الولايات المتحدة الأمريكية) ثم وضعت (صورة) ليدين متصافحتين، وكتب أسفل الصورة (ليس للبيع أو المبادلة).

تجمهر الناس حول السيارات التي بُدء بتفريغها في مخازن أبي مناور، ووقف بعض رجال الدرك محيطين بقائدهم ومدير الناحية، وكان هناك من يسجل بعض المعلومات (عدد الأكياس في كل مخزن) (اسم السائق) (حالة العبوات الخ).

كان بعض الفتية يتهيئون للصعود الى السيارات الفارغة، بعد أن تفرغ حمولتها لجمع ما تساقط منها من حبات القمح. ولكن كان هناك أكثر من صوت يزجرهم، سواق الشاحنات، وبعض رجال الدرك، فأفشلوا أحلام أولئك الفتية.

لم يُعين من يحرس المخازن أو قمحها، بل اكتفى مدير الناحية بأخذ مفاتيح الأقفال، بعد أن وضع شمعاً أحمراً على كل قفل.

(45)

استمرت دعوات مدير الناحية لوجهاء البلدة أكثر من ثلاثة أسابيع قبل أن يشرعوا بتوزيع القمح على المواطنين. فكان كل وجيه أو (مُختار) يحضر قائمة بأسماء العائلات وأعدادهم.

كثر اللغط بين الناس، عن نزاهة التوزيع المقبلة، وكانوا يتناولون الحديث عن ذلك أمام دكان (أحمد الرشيد) والذي لم يخفِ قلقه، فقد استورد من العراق سيارة كاملة من تمر (العجوة) الذي كان يستخدمه الناس غذاءً بديلاً عن غذائهم الرئيسي والمكون غالبه من القمح، فخشي أن يقل الطلب على تلك المادة.

كان أستاذ التاريخ وصابر من بين الذين يتناولون ذلك الموضوع، فكانا يسميان تلك الهدية بأنها (رشوة سياسية) لربط القرار السياسي الوطني بالإرادة الأمريكية. لكن لم ينتبه أحدٌ لما كانا يتحدثان به.

(46)

حضرت خيول الدرك مع سيارة شرطة من العاصمة، فقد اكتشف مدير الناحية أن أكثر من نصف القمح المخزون قد سُرق. ولم يكتشف الخبراء من سرقه، فالأقفال لا زالت في مكانها ولا يوجد ما يدل على أن أحداً قد اقتحم المكان.

جُمع سبعة (زُعران) من البلدة، وتم ضربهم ضرباً مبرحاً، وحجزهم في (نظارة) الدرك، والتناوب على ضربهم، دون فائدة.

ولم ينتبه أولئك الخبراء لركض طفلٍ من أمامهم كان يرتدي (دشداشة) مكتوبٌ على مؤخرتها ( ليس للبيع أو المبادلة).

لقد اختار (الزعران) السبعة من بينهم واحداً رقيق البنية، أزالوا واحدة من الطوب فيدخل من خلال الفتحة ويرفع الكيس حتى تبقى فتحته العليا فارغة، فيوجهها نحو مكان الطوبة المُزالة، ثم يلاعب محتويات الكيس حتى تصبح خارج المخزن، ورفاقه يأخذون الكيس ويذهبوا به بعيداً الى مكانٍ لا يشك به أحد، ثم يحملون القمح ويبيعونه بسعر زهيد في قرى مجاورة.

سُجلت القضية ضد مجهول. وتم الإفراج عن الزعران الذين برروا عملهم بأنهم أولى بسرقته من القائمين على توزيعه!

ابن حوران 28-04-2010 01:54 PM

(47)

تساءل صابر: هل النظر من الأعلى يعطي تفصيلاً أحسن للصورة، أم النظر من الأسفل يكون أكثر قرباً من المناظر وتدرجها، وهل لو جلسنا في قعر الوادي نستطيع بنظرنا أن نخترق سفوحه المحيطة به، أم أن نجلس فوق التل؟ وهل الصور التي تلتقطها صور من في الفضاء أفضل أم أن نلتقطها ونحن نمشي دون اعتلاء قمة تكون أقرب للواقع؟

تساؤلات كثيرة، كانت تراوده وهو راجع من صلاة الفجر في مسجد البلدة. لم يشأ أن يذهب لإكمال نومه، فقد نام بما يكفي لمثل سنه، ولمثل ما يقوم به من جهد عضلي بسيط.

كان النسيم الآتي من أنفاس الصباح يخلط عبق القش الجاف مع ما تبقى من خضرة ربيعٍ تَعَوّد أن يرحل مبكراً في أواخر نيسان/أبريل، ألم يقل أجداده عن هذا الشهر الذي أسموه (الخميس) بأنه (في الخميس كل أخضر يَبِّيس)؟. كان الندى يمزج نسب العطر الطبيعي بطريقة لا يتقنها أفضل منتجي العطور في العالم.

قرر أن يصعد التل، ويراقب الشروق من هناك. يُخرج يديه من جيبيه، فقد كان منشغلاً بالتركيز في استقبال أول شعاعٍ من الشرق. فكل الأشعة تبدأ من الشرق، تساءل عندما لمح أول شعاعٍ في ذلك النهار: كيف يقيسون بُعد الأرض عن الشمس بواسطة حساب سرعة الضوء؟ وكيف حسبوا أنها ثمان دقائق؟ ومن يقول أن ذلك الشعاع الذي استقبله احتاج الى ثمان دقائق منذ أن غادر الشمس حتى وصله؟ ألم يكن نفس الشعاع مختبئاً شرق الأفق المرئي قبل أن تميل الكرة الأرضية بدورانها؟ وإن كان كذلك فالثمان دقائق لم تكن هي الزمن الذي استغرقه الشعاع من الشمس الى الأرض، بل هو الزمن الذي احتاجه من وراء مدى الروية فقط، فقد تكون نقطة بداية هذا الشعاع من العراق.

هاله ما لاحظ من اصفرار حقول العدس والشعير، المزروعة في أراضٍ خفيفة وليست عميقة، فالعمق يؤخر وقت الاصفرار، والغنى يطيل العمر، والفقر والمرض يقصران العمر.

كانت ذوائب بعض الحقول قد اصفرت بالكامل، هي لم تمت، بل دخلت في طور جديد، طور تكوين البذور، ليعاد زراعتها من جديد، وقد لا تزرع، بل سيأكل معظمها الناس والحيوانات، فتتدخل في تكوين دورة حياة لكائنات حية أخرى غيرها.

(48)

أكمل المزارعون الذين يملكون حقولاً واسعة من العدس والشعير والقمح، والتي لا يستطيعون حصادها بأنفسهم، أكملوا إحضار الحصادين من مخيمات في فلسطين رحلوا من يافا وحيفا وحطوا قرب نابلس وجنين، وطوباس، كانت العلاقة بين هؤلاء الحصادين والمزارعين علاقات ود ومحبة وتعاون وألفة، فقد يكون من يخدم يتفوق على من يخدمه بالحضارة والمعرفة والزراعة، ولكن الظروف هي التي كونت تلك العلاقة فيما بينهم.

كان هؤلاء الناس، يأتون بأطفالهم، وشيوخهم، ودجاجهم، وخيامهم؛ وكانوا ينصبون خيامهم أولاً في حقول العدس، كونه لا مجال للمناورة في تأخير حصاده، فما أن تصفر بقعة من الحقل، حتى يقوم هؤلاء بتقديمها على غيرها مما لم يصفر بعد.

لم يستطع (أبو مناور) من الاحتفاظ بعلاقة طيبة بمن سبق وحصد في حقوله سابقاً، فكان غالباً ما يختلف معهم على قياس المساحة أو الأجور أو أنه كان لا يزودهم بالطعام وماء الشرب، فكانوا يوصون بعضهم أن يتجنبوا التعاقد معه.

لا أحد يعلم، كيف أقنع أبو مناور، ثلاث عائلات من (النَوَر: الغجر: الزط) في القيام بالعمل لديه، فقد شاهدهم أحد الطلبة الذين كانوا يدرسون وهم يمشون بين الحقول، عندما أنزلهم في حقل عدس يزيد عن أربعة هكتارات. فأغلق كتابه وغامر بالتمتع بهذا المنظر الغريب فرواه:

تركهم أبو مناور بعد أن بين لهم حدود قطعة أرضه المراد حصادها، فتجمعوا بعد أن نصبوا خيامهم الثلاثة، في وسط القطعة، ثم أخذ كل منهم اتجاها يختلف عمن يجاوره وأخذ يحصد ما يعادل عرض جسمه (حوالي ذراع) وانطلق في اتجاه غير سوي، فمنهم من أخذ اتجاه الغرب الشمالي ومنهم من اتخذ الاتجاه الجنوب الشرقي، وكانت نقطة انطلاقهم من مكان تجمعهم ولكن نهايات مشوار كل منهم كانت في نهاية حدود الحقل، ومن يلتقط لعملهم صورة، سيجدها أشبه بصورة بيت عنكبوت رسمه تلميذ في الابتدائية!

كان الطالب وهو يروي طريقة حصاد النور، والمستمعون له، لا يتوقفون عن الضحك، فهم يعلمون تقنيات الحصاد المتعارف عليها، والتي يصطف فيها الحصادون صفاً محاذين بعضهم، ليستمدوا الشجاعة ويتواصلوا في العمل دون كسل، أما تلك الطريقة فجديدة عليهم!

(49)

انشغل المزارعون في تحضير مستلزمات (البيادر) من أدوات لا أظن الكثير في هذه الأيام من يعرفون أسمائها، فهذه (رِكنة: أو شبكة) وهي عبارة عن عصا ربط بها بعض الحبال لتلتقي مع عصا أخرى تفرش في الأرض ليكوم فوقها القش ويجمع طرفاها لتضم القش في داخلها، وكانت قبل اختراع السيارة توضع على جانبي البعير من كل طرف، وأحياناً توضع ثالثة فوقهما، إذا كان البعير قوياً ليحمل ما وزنه ربع طن متري أو يزيد. وقد بقي استعمالها بعد السيارة لتوضع اثنتان في الباب الخلفي لسيارة الشحن وتوضع بين ستة وعشرة منها فوق السيارة حتى لا يقع القش أثناء النقل.

وذلك (شاعوب) وهو أداة لها أربع أصابع من حديد مصقول معامل ليكون غير قابلٍ للثني، ويثبت به ذراع خشبي لقلب القش أثناء (درسه: سحقه).

وتلك (مذراة) وهي أداة مكونة من سبعة أصابع من خشب مصقول ومدبب تجمع بواسطة غشاء جلدي يثبت بذراع خشبي، تستخدم للتذرية، أي رفع القش المسحوق (المدروس) والمخلوط بالحبوب، ليطير التبن بعيداً وينزل الحب ليدخل مرحلة تنقية جديدة.

وذلك (رَحِتْ) وهو قطعة منبسطة من الخشب، يثبت بها ذراع، تستخدم لتجميع القش المدروس، أو التبن أو غيره.

وتلك (حواة) وهي قطعة محشوة بالقش تحيط برقبة البغل أو الحصان، ويثبت بها قطعة خشب بها بعض الحلقات لتسهيل ربط أدوات العمل بحيوان العمل دون إلحاق الأذى برقبته.

والأدوات كثيرة، منها: المقطف والكربال والغربال والصاع والثمنية والخيشة والمخرز والمخلة والمنساس والرياح والمدار ولوح الدراس ومنها من الحبال ومنها ما تصنع من الجلد أو الخشب أو الحديد.


ابن حوران 05-06-2010 10:29 AM

(50)

حضر سالم سائق سيارة (الكمر) بسيارته، وأوقفها أمام دار أبي صابر، ودخل ليتباحث مع أبي صابر عن بدء عمله، وكان لأبي صابر أربعة حقول اثنان منها مزروعان بالقمح وواحد بالعدس، في حين كان الرابع مرتاحاً (بلا زراعة)، حسب الدورة الزراعية المتبعة في المنطقة.

استغل عكرمة غياب سالم في داخل الدار، فصعد مع صديقه إعْوَيِد، وجلس في مكان السائق، في حين جلس صاحبه في الطرف الثاني للمقعد، أمسك عكرمة مِقود السيارة، وأخذ يضغط على شفتيه ليخرج زفير الهواء ليقلد بذلك صوت محرك السيارة، ويتمايل يمينا وشمالاً وينهض قليلاً ثم يعود ليسند ظهره الى ظهر المقعد.

لفت انتباه إعْوَيِد ، تلك النتوءات البارزة بكثرة (مفاتيح التشغيل)، فأخذ يسأل عكرمة عنها، وعكرمة لا يتوانى في الإجابة ـ الخاطئة طبعاً ـ عن كل سؤال..
لماذا هذا المفتاح ؟
هذا للتشغيل
ـ وهذا؟
ـ هذا لتنبيه من في الطريق..
ـ وهذا؟
ـ لزيادة السرعة..
ـ وهذا؟
ـ هذا لمسح الزجاج الأمامي.
بقي العديد من المفاتيح، في حين لم يبق لدى عكرمة ما يمكن الإجابة به..
ـ وهذا؟
ـ هذا لقلب السيارة، أي لجعلها تتدهور!

خرج سالم من الدار وأمر الأطفال بالنزول من قمرة القيادة. وفي هذه الأثناء، وصل ثلاثة من الفتيان الناضجين الذين بعمر أقل من مرحلة القدرة على الحصاد بقليل، ليقوموا بعملية نقل القش المحصود من الحقل الى (البيدر).

صعد العمال الفتيان الى صندوق السيارة الخلفي، والمشغول من الخشب المحلي، والمصمم تصميماً عربياً، بنقشاته وألوانه وهيئته، في حين صعد عكرمة وصاحبه إعويد على البروز الملحق بصندوق السيارة والذي يعتلي قمرة القيادة. أخرج سالم أداة تشبه حرف z وأدخل طرفها في مقدمة محرك السيارة ولفها بسرعة فائقة، ثم أخرجها من مكانها في نفس الوقت، فانطلق صوت محرك السيارة، وانبعثت رائحة البنزين النفاثة، لتضفي طقساً مستحدثاً على المشهد.

ما أن أخذ السائق مكانه، حتى صعد أبو صابر الى جانبه، منطلقين نحو الحقل، وعكرمة وصاحبه يصيحان بصوتيهما على أترابهما الذين يمرون عليهم في الطرقات متباهين في حظوتهما.

(51)

وصلت السيارة الى الحقل، وأبقى سالم محرك السيارة في حالة شغل، في حين استدار خلف السيارة ليسحب قطعة خشب (لاط) بطول أربعة أذرع وبعرض قدم، وبسماكة تزيد عن سماكة اليد مرتين، ثبت بها قطع خشب عرضية بواسطة المسامير، وتبعد كل قطعة عن الأخرى بقدر نصف ذراع، حتى يستخدمها العمال كسلم كان الناس ولا زالوا يسمونها (سقالة).

فتح سالم الباب الخلفي للسيارة، وثبته بشكل أفقي بواسطة جنزير وشنكل، ووضع السقالة على طرفه، في حين ثبت طرفها الآخر قليلاً بتراب الحقل، وأشار الى العمال أن يبدءوا بتحميل السيارة بالقش.

في هذه الأثناء، تمشى أبو صابر نحو الحصادين في طرف الحقل الذي لم يُنجز حصيده بعد، حاملاً بيده (صرة) بها بعض الحلوى إكراما لجهد الحصادين، وحياهم تحية الفلاحين: صح ابدانهم .. الله يعطيهم العافية.. ردوا التحية.

كان الحصادون يتحايلون على حرارة الطقس وخشونة العمل بأصوات أهازيج (عبثية) لا معنى لها سوى تشجيع أنفسهم، حتى لا يدب فيهم التعب والملل.. وكانت صوت قطع سيقان القمح بحد المناجل يشكل إيقاعاً لأهازيجهم.

(شيخنا .. جاها) ويعيدون هذا المقطع وكل مقطع عشرات المرات، فالنهار طويل.
(بالبير دلاها) (حية حمرا) (مثل الجمرة)
(شيخنا .. صالح) (جاي امبارح) (يزحف زحفة) (باربع رغفة).

كان سالم يحرك سيارته بين (الحلل) و(الحلة) عبارة عن قش محصود، تتواجه سنابله الى الداخل وجذوره الى الخارج، كانت كل حلة بطول ثلاثة أذرع، وارتفاع حوالي ذراع، وعرضها هو مجموع طول الساقين المتقابلين للقمح المحصود. كان على العامل أن يحمل كل حلة على سبع الى عشر دفعات.

وبعد أن امتلأت السيارة بقش الحصيد، صنع العمال حوالي عشر شباك، كل شبكة تأخذ حلة كاملة، ليضعوا تلك الشباك، فوق ظهر السيارة واثنتان منها تقفان على الباب الخلفي المثبت بجنزير، ثم يربط العمال الحبال ليمنعوا القش من السقوط أثناء العودة.

(52)

لم تستأذن (ذيبة: أرملة ياسين) من أبي صابر في حركتها، فبعد أن أكمل صابر والفتيان الذين معه تنزيل السيارة، أخذت مكانها بجانب كوم القش، لتأخذ حزماً من القش وتفرك سنابله لتستخرج بعض القمح لتسلقه لأولادها.

بادر أبو صابر، بدفع قش القمح نحوها بواسطة أداة التقليب (الشاعوب) وأمر عكرمة أن يساعدها في فرط سنابل القمح.
ـ (الله يخلف عليك ولا يخلف على أبي مناور، اللي نهرني ومنعني من الاقتراب من بيدره).
ـ توكلي على الله، خذي ما تحتاجين، فالله أمرنا أن نطعم منه وقت حصاده.

توالى سالم بنقل القش، حتى أصبحت أكوام القش، كأنها تلال قرية صغيرة، يراقبها رسام من بعد. لم يكن الرسام إلا عكرمة، الذي كان يصر عينه ويفتحها، ويتخيل كيف عليه أن يمر على كل سنبلة من هذه السنابل الكثيرة عدة مرات حتى يستخرج القمح منها!



ابن حوران 08-06-2010 12:22 PM


(53)

انتشرت النسوة بمجموعات حول أكوام القش، لتخزن احتياجاتها من عيدان القمح، حيث تقطع السيقان من جهة السنبلة الى أول عقدة تليها على الساق، لتحصل على عيدان بطول أكثر من نصف ذراع. كانت النسوة تبلل تلك الأعواد ثم تصبغها بألوان مختلفة، لتقوم فيما بعد بربطها مع بعض بتقنية قديمة، لتصنع منها الأواني لحفظ الخبز والبيض وليكون قسماً منها كأعمال زينة تُعلق في صدر الغرف بنقشاتها الجميلة، كما كان بعضها يفرش تحت الموائد ليقدم الطعام من عليها.

كانت النسوة لا يشعرن بالملل، وهن يقمن بعملهن، وربما يكون لتبادلهن الحديث فيما بينهن الأثر الأكبر في عدم الإحساس بمرور الوقت. فكانت أحاديثهن تتناول طرق صنع الطعام وطباع الأزواج والكنات والأولاد والبنات، وطرق صناعة الأنسجة وغيرها من المهارات.

لقد تحدث صابر مع معلم التاريخ حول تلك الظاهرة، فقال إن هناك ما يشبهها في العلوم الطبيعية، ففي صناعة الألبان في الدول المتقدمة، تجري عملية يقال لها (التجنيس) حيث يتم فيها تفتيت حُبيبات الدهن العالقة في الحليب، ليجري بعدها (بَسْتَرَتِه) بتعريضه لدرجة حرارة عالية ثم تعريضه لدرجة حرارة منخفضة فيبقى الحليب محافظاً على قوامه وجودته لمدة طويلة.

ضحك أستاذ التاريخ، وقال: صدقت، فمجتمع بلدتنا هذه مُجَنَس ومُبَسْتَر، فلا خثرات فيه ولا طبقية ولا عُقد.

(54)

تعالت أصوات الفتية الذين يعتلون ألواح (الدِراس) التي تجرها البغال والخيل، لسحق القش تمهيداً لتذريته واستخراج القمح منه، كانوا في غنائهم الذي يشبه العويل المقدم بشكل فرِح، فلا هو حزين ولا هو سعيد، إنما كان الغرض منه التغلب على حرارة الشمس التي تضرب في بشرات ما انكشف من أجسامهم، ورؤوسهم، وليواسوا أنفسهم حتى يجتازوا هذا الصيف القاسي.

كما أن العبثية كانت تتمثل في حدي وأهازيج الحصادين فإنها كذلك عند الفتية الذين يقومون بقيادة حيوانات الدرس

يأتي صوت من بعيد:
يا ياسين يا عذاب الدراسين
وأنا عذابي معهم
قام القوم يطالعهم
يطالعهم ويباريهم
ويكسر قراميهم
وأنا أكسر لي قرمية
من قرامي السردية
سردية بنت السلطان
حاجبها يفرط رمان
يفرط مُد وربعية
من صاع الخليلية
من صاعك يا ابو موسى
يا طباخ الجاموسة

يا عزام العرايس
على لحم الفطايس

وصوت آخر يأتي من مكان آخر

بالعَلا .. يا طير ياللي بالعلا
يا ساكن الجوبة
يا محملات الحطب
حطبكن كله رِطب
رطب .. رطب تينِ
واشبع وأملي بطيني
وأملي معي محرمة
وأطعم حسن وحسينِ
وأطعم معهم كلبينِ

وآخر يعلو صوته
هيه .. طابت الطرحة هيه
هيه .. قوموا يا شواعبيه
والشواعبيه ثلاث
واحد روح على الدار
وواحد قَيَل بالفيه
وواحد قرصته حية
قرصته حية ومات
ابكن عليه يا بنات
يا بنات النشميات
ابحشن له وغمقن له
بعد عيونه مبحلقات

لم يسأل أحدٌ من أين جاءت تلك الأغاني وما معناها، فقد تناقلها الناس من جيل لجيل، حتى يُعتقد أنها كانت تقال بنفس الكلمات منذ أيام عُبادة الثالث حاكم الأنباط الذي كان يتوجه لحوران صيفاً لجني الحقول وصناعة النبيذ في مدينة (درعا).

( 55)

لم تفارق صورة جثمان (عكرمة) مخيلة صديقه (إعويد)، الذي بقي عند قبره حتى بعد انتهى أهل البلدة من دفنه.. فقد كان يستعيد المشهد: كيف أن عكرمة لدغته تلك العقرب المنحوسة، وكيف أنهم وجدوه فوق القش يخرج من فمه زبدٌ أبيض، وكيف وهم يحملوه على أكتافهم كان نعشه يجبرهم على الركض ماراً من بين أكوام القش حتى وصلوا به مسرعين الى المقبرة.

كان إعويد يبكي بحرقة شديدة، في حين لم تسكت أصوات الفتية المنبعثة من بيادر القمح والعدس، أي مصير وأي سعادة وأي شقاء، وأي حياة ستحلو بعد أن فقد صديقه الوحيد!

انتهى

صفاء العشري 21-08-2013 05:47 PM

لا أعتقد أن هنالك سعادة بدون شقاء..

تحياتي


القيادة المركزية الأمريكية
www.centcom.mil


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.