حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   خيمة كتاب روائـع الخـواطر (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=66)
-   -   رص الكلام للكاتب المقتدر إبن حوران (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=81852)

إيناس 30-11-2009 06:43 PM

يبحث عن تعاطف


كان وهو يتكلم يتطلع في عيني صاحبه متفقدا حالة التعاطف فيهما، كان ذلك التعاطف يهرول بعيدا شيئا فشيئا، فكلما زاد حديثه كلمة واحدة، كلما ابتعد ذلك التعاطف.

كان وهو يحكي عن متاهته في تلك الغابة، يحاول استحضار كل لحظة قلق وكل خطوة وما رافقها من اعتراض زوائد نباتات الأدغال في طريقه وكان يحاول تقليد الأصوات التي كان قد خُيِل إليه أنه سمعها، وكان يتمنى لو أن العلم أدخل تقنية نقل الروائح ليستخدمها الرواة والمتحدثون ليدعموا فيها قصصهم كمؤثرات إضافية.

كان صاحبه يستمع بضجر، حاول أن يبعد عن نفسه تهمة اللاتعاطف مع صاحبه بإشعال لفافة تبغ، لم يشأ أن يقول له: أن قصته تلك يوجد منها على صفحات التاريخ مليارات القصص، وأن من يستمع لها مرة ومرتين وألف لن يفيد لا من يستمع لها ولا يفيد من يرويها، فالمستمع قد يكون هو الآخر قد مر بعشرات المتاهات.

من بين طبقات الدخان الكثيف أخرج صاحبنا لصاحبه عبارة مواساة تقليدية: الحمد لله على السلامة!


ابن حوران

إيناس 30-11-2009 06:44 PM

فلسفة البداوة

لا تبتئس
وأظنك هكذا
حتى لو وسموك بالمتخلف

فهناك من يسمع صوتك
قد يكون ذئب أو خروف
أو تكون أنت السامع

المهم أن هناك من يسمع صوتك
لا حدود لكبريائك
ولا حدود لحريتك

في محدودية طلباتك منبع حريتك
وكثرة طلباتهم تجبرهم على التنازل عن حرياتهم
هم يحلمون بالسعادة التي تعيشها

كل البلاد لك
وكل النجوم
والسماء هي سقفك

إن ضجرت من مكان رحلت
تنصب خيمتك
ولا يلاحقك قانون

هم يخافون انهدام قصورهم
فلذلك يحنون هاماتهم
ينافقون من أقوى منهم

أنت .. لا مدنية لك
وليس بذلك عيب
إن كان ثمن المدنية خنوعك

ابق كما أنت
واطرد من يقترب من حدودك
الواسعة

ناور
اضرب واهرب
حتى يتعبوا من ملاحقتك

عندها فقط
تشرع ببناء مدنيتك
الأصيلة



ابن حوران

إيناس 30-11-2009 06:47 PM

الآلام السائلة


عندما تسيل الآلام الى الداخل
وعندما تكابر العينان بالقوة
وعندما تنزوي الآهات والشكوى

تتصلب هيئة التمرد الكسلان
ويحاول الوجه التستر عن قارئي الطالع
ويبدأ الهروب بعكس الثورة

في الداخل هَمٌ متصلب
لكنه من سوائل
ثِقَلُهُ يعيق الحركة

وحركته تتعثر وقت السرعة
ولا تُحسن ضبط الوقوف
عند الخطوط الحاسمة

قارئ الطالع يدعي المقدرة
على كشف المستور
ونبش ما أودع في القبور

يقيس مسافات الخطأ
بين الخطوط وبين نقاط الوقوف
ويصرخ وجدتها

عند ذلك تنبعج الآلام
وتتدفق من أي نقطة رخوة
وسيكون الفم أكثرها رخاوة



ابن حوران


إيناس 30-11-2009 06:49 PM

آخر أيام الربيع أكثر الأيام سخونة


قسموا السنة الى أربعة فصول
منذ الأزل
كل فصل له في الخيال صورة

الصورة غير متطابقة مع الواقع
في منتصف الشتاء يأتي الربيع
وفي منتصف الربيع يأتي الصيف

لكنهم لم يغيروا بدايات الفصول
هكذا تعلموا .. وهكذا يعلمون
ربما للفَلِك دور كبير

هناك من ينهار قبل المعركة
فيستسلم لأنه فهم الفصول كما نُقلت له
فيعود للواقع ويخضع

أطول أيام السنة في نهاية الربيع
فلذلك تختزن حرارة الشمس
وتلسع الجلود بحرارتها

آخر أيام الصيف يتوسط أيام السنة
طولا
لا أحد ينتبه للأشياء العادية

أقسى أيام الدول هي ما تكون قبيل الحرب
وآخر أيام الحرب أقلها ضحايا
الشجعان يتقدمون للوصول نهايات الحرب

الواقعيون يعلنون عدم رغبتهم في الحروب
فيقدمون ما يطلبه من يهددهم
حتى يحترف تقديم الطلبات

لو كانوا يعلمون أن آخر الصيف
أقل حرارة من آخر الربيع
لساروا واثقين الى نهاياتهم


ابن حوران


إيناس 30-11-2009 06:51 PM

الغراب و الوطن


لمح الغراب العطشان جَرَة
في قعرها قليلٌ من الماء
لم يستطع الغراب الوصول للماء

اشتغل عقل الغراب في صنع حيلة
نقل الغراب حصا بمنقاره
ورماها في الجرة

كرر الغراب محاولاته
ارتفع الماء
فشرب الغراب

لمح الوطن في قعر الجب ماء الحياة
حاول تقليد الغراب
لم يهن عليه رمي الحصا

فرمى جماجم أبنائه
جمجمة وراء جمجمة
توقف عن الرمي قبل الوصول للماء

اشتكت الثكلى قسوة الوطن
كره الناس وطنهم
فهاجر منهم كثير

لم يكن الوطن قاسياً
بل كان حكيماً
ومجرباً

عمل الدفء والرطوبة
في الجماجم .. عمل الحاضنة
فأنبتت الجماجم بادرات

كان النمو بطيئاً
فرياح السموم تعيق النمو
حتى كاد الناس ينسوا الجماجم

خرج من كل بادرة عزيز
فخر له من تخلف ساجداً
ليصبح الوطن تحت حكم عادلين

شرب الأعزاء الدموع
واعتذر الجميع من الوطن
ابتسم الوطن




ابن حوران

إيناس 30-11-2009 06:53 PM

يعرفون الجواب ، لكن لا يستطيعوا التعبير


سألوا العصفور:
ما هو الوطن ؟
جفل العصفور من السؤال وطار
وبقيت عيناه على عشه تحرسه عن بعد

سألوا السحلية:
كيف الهروب؟
لم تفهم صيغة السؤال
تلوت وهربت تحت أنظار الجميع

سألوا امرأة من الريف
ما هو تعريفك للطبخ؟
ضحكت وقدمت لهم طعاما شهياً
وانسحبت

وقف خريج كلية الزراعة فوق رؤوس عمال التقليم
ونبههم ليس هكذا يتم تقليم المشمش
ابتسم أحد العمال بلطف
وقال: عفوا أستاذي .. هذا خوخ

ما أتعس أن تكون مسافرا بلا خريطة
وما نفع الخريطة إن لم تسافر؟
وما أجمل أن تكون خطوط علامات المرور واضحة
وعلى مسافة مدروسة من مناطق التحذير



ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:17 PM

من شرور المعرفة!


ليس جميلا أن يكون المرء ذا اطلاع واسع
فعندما يقرأ كثيرا يزداد خجله من نفسه

كالمتعلقات بمتابعة برامج الطبخ
ينظرن الى ما يطبخن على استحياء

يقدم كلمة ويؤخر كلمة ليبتكر فكرة
لم يسبقه عليها أحد

فيرمقه الآخرون بنظرة سخرية
ويفككون نسيج فكرته

كخبراء التفتيش عن المخدرات
في نقاط الحدود

فيخطر بباله أن يطبخ لنفسه
ولا يدعو الآخرين لمشاركته الطعام

إلا من امتدح طعامه وشكره عليه
أو من أعاد ماعونه مليئا بطعام من طهيه

سيضطر لالتهام الطعام إن أصر من أحضره على ذلك
ولن يستطيع حينها التأفف إن كان الطعام رديئا

خبراء البحث عن المخدرات لهم أنوف كأنوف الكلاب
تعلموا (على) الكشف عن نماذج بعينها

لا يعلمون مدى انتشار أصناف كثيرة
كما هم خبراء الطبخ معرفتهم محدودة

لو كان هناك من يعرف كل شيء
لما أعجبه موظف ولا رئيس دولة

ولانتقد كل الطعام واللباس
ولبقي طيلة العمر دون صديق

هل يعني أن المعرفة نقمة؟
وهل يعني أن الجهلاء أكثر الناس سعادة؟

من يدري؟




ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:19 PM

تنافر أرواح الكلمات


كذا مليار من البشر
ينطق كل واحد منهم بضعة آلاف كلمة
كل يوم

ويدون القليل منهم بعض ما تكلموا به
أو تكلم به آخرون
حتى لو كان الآخرون في دنيا أخرى

توافيق و تباديل
ترص الحروف لتشكل كلمات
وترص الكلمات لتعبر عن الأفكار

كل الكلام يدعي أنه يمثل ال(كذا) مليار
لكن لا يقرأه إلا ندرة قليلة من البشر
ويحفظه ويعمل به ندرة الندرة

تُبعث الروح بكلمات، مات أصحابها
وتُكسى برداء يتوافق مع العصر
ينظر إليه البعض بإعجاب
ولا تراه الكثرة من الناس

ينسبه حيٌ لنفسه
وقد أمن شر دعاوي الميتين
ينتاب من نسبه المغص

فحياة الكلمات بحياة أصحابها
وقوة الأفكار بقوة حجج أصحابها
والناقلون ينطقونها بغير سلاسة

يسقطون (اسمنت) ربطها
ظنا منهم أنه غبار ماضي
فتتفكك وتفقد سحرها

ينتقدهم أناسٌ عصريون
استوردوا مكاييلهم من بلاد بعيدة
فيصفون الكلام بوصف لا يفهمه حتى من أنكره

يتلمظون، على أنهم اكتشفوا مكامن العيوب
فترمقهم عيون أصيلة
وتضيفهم الى الناقلين الجامدين

وتبقى التوافيق والتباديل
لكل صاحب نصيب (غير دخيل)
الذي يستطيع بعث القديم بشكل جديد


ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:20 PM

سيأتي من يشتري


يقرفص قرب كومة بطيخ
ينقر على ظهر واحدة
ويراقب جفاف العود في رأس أخرى

ينهض، ويتجول بنظره
عسى أن يقع نظره على ضالته
يعود ويقرفص ليتناول الأولى

في بداية البازار
يحظى المشترون بفرص
ويحظى البائعون بفرص

في منتصف النهار
يكثر الصياح على البضاعة
ويقل الشراء

في آخر النهار
يتساهل الباعة في الأسعار
فيهجم المنتظرون

هناك من يسترخص الثمن .. فيشتري
وهناك من يهوى صناعة الخل .. فيشتري
وهناك من يهوى صناعة الخمر .. فيشتري

لن يبقى شيءٌ
حتى ما ذبلت أوراقه
أو زال بريق لمعانه

سيجد من يحمله
ربما لإطعام حيوان
أو إنتاج وقود حيوي!



ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:22 PM

قليل من الصمت..

أُتركها .. الى حين
ربما يعيق احتقانها، حكمتك
أو ربما تترسخ صورتها القبيحة اللحظية
في ذاكرتك

أتركها حتى يروب الحليب
واحذر كشف الغطاء
في كل لحظة
عندها لن يروب

لا تنتظر كثيرا
فالبطء مثل السرعة
رماة الأسهم يحسبون
سرعة الطريدة

حموضة اللبن مثل دلعه
هناك دائما عمل متقن
وهناك دائما إصابات دقيقة
عند مراعاة الزمن والمسافة

لا تجعلها تمل وتنام
ولا تزعجها في كثير الكلام
قليل من الصمت
يجمل الكلام



ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:24 PM

ليست من كليلة ودمنة
(1)

مصير حصان


كان ينقل قائمه الأيمن
ثم ينقل القائم الأيسر
بحركة عصبية كان لها معنى

فكان (السياس)*1 يهرعون لتفقد طلباته
كان ملكا دون تنصيب
كانوا ينتظرون تنصيبه

كان يبتهج عندما يخرج للتمرين
فمدربه رجل (مهيوب) من الجميع
وعيون الأفراس من مرابطها تدغدغه

كان يتلذذ بأصابع من يمسك (المهسة)*2
فبعدها يأتي الحمام
وبعدها يأتي اللوز والسكر

انتهت أيام العز
أحيل الملك المنتظر للمزاد
لم يشهد تنصيب نفسه

وجد نفسه في حظيرة حقيرة
ينقل قائميه وسط الروث والبول
ويتدلى كرشه لفقر طعامه

في الصباح يأتي من هو أفقر منه
فيضغط على درنات في أعلى الجلد
لتنبثق منها يرقة الجلد اللعينة

تدمع عينا الحصان
حزنا على مصيره
وشفقة على صاحبه الجديد

ومن يدري ما ينتظره فيما بعد
فقد يحال لصانع الغرابيل*3

1ـ السياس: جمع سايس وهو من يسوس الخيل.
2ـ المهسة: مشط حديدي تُنظف فيه جلود الخيل.
3ـ الغرابيل: جمع غربال وهو مصنوع من خيوط الجلود المدبوغة لتنقية الحبوب.








إيناس 30-11-2009 07:26 PM

ليست من كليلة ودمنة
(2)




فأر الجمرك وفأر الحقل


فعلت زيوت الصنوبر فعلتها
فأصبح شعر الفأر ناعماً
كما فعلت حبات البندق فعلتها
فأصبحت عيون الفأر براقة

انشد نحوه فأر ضئيل الحجم
أنهكته رتابة الغذاء الفقير
من حبوب دغل وما سقط من قمح
ليتمتع بمشاهدة فأر الجمرك العفي

كانت متعة فأر الجمرك أكبر
فهناك من يحسده، أكثر مما يغبطه
وفي ذلك متعة
أكبر من كل المتع

اقترب فأر الجمرك من فأر الحقل الضئيل
قال له شيئاً
فرح فأر الحقل كثيرا
وأعلن ولاءه لفأر الجمرك

دخل فأر الحقل ساحة الجمرك
هاله ما رأى في المستودعات
فالخير كثير
والعمر قصير

أراد أن يستعجل في الالتهام
دخل صندوقا به طُعم
أُغلق الصندوق عليه
نسي طَعم الطُعم

كتب رسالة لابنه
خطها بحبر من دمه
وناولها لمن أغواه
وتوسل إليه أن يوصلها

كان في الرسالة
أصبحنا كالبشر
فقرائنا بؤساء وكثيرو العدد
وأسيادنا منعمون وقليلو العدد

القتل في الأغنياء أكثر
القتل في الأمراء أكثر
القتل في العلماء أكثر
لذلك يزداد عدد البؤساء

في الغابة من ينافس ملك القطيع
إما أن يموت أو يموت منافسه
أما الذين لا يطمحون للسيادة
فإنهم لا يموتون

المهربون هم سادة البشر
فإن دخل عليهم دخيل
سقط في أيدي العدالة
وطُبقت عليه القوانين

إن كنت يا بني تريد البقاء
أخفض سقوف طموحاتك
وإن كنت تريد الصعود فغامر
والرأي لك!


ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:27 PM

ليست من كليلة ودمنة
(3)





الظربان والأسد

اعتلى الشبل كتف أبيه الأسد
وداعبه
ثم سأله:
ألست ملك الغابة؟


أحس الأسد بضبابية دوافع السؤال
أجاب: بلى
لكن لماذا تسأل يا بني؟
أفصح عما يجول بخاطرك


قال الشبل:
يا أبتي كل الحيوانات تهابك
إلا ذاك الحيوان ضئيل الحجم
الذي يُدعى الظربان*


ابتسم الأسد وقال:
يا بني إن أعتى بني البشر
يهربون من الجيفة وهي ميتة
ولا يعالجونها برماحهم أو سيوفهم


يا بني إن القوة لا تستخدم إلا في مواضعها
فلا يعامل السفيه بالمصارعة والقتال
بل على من تجبره الظروف على مجالسته
أن يرحل ويغادر المكان


يا بني إن القتال المشرف
هو قتال من يعادلك في القوة
وليس إبراز قدرتك على الضعيف
فعندها تفقد هيبتك


تمرغ الشبل في حضرة أبيه
معبرا عن إعجابه بهيبته
تبسم الأسد
وقبل رأس شبله، راضياً

*الظربان: أو (الغريري) حيوان يزن بين 7ـ12 كغم، يقتات على طيف واسع من المواد فهو يأكل الطيور والعسل والحشرات، وحتى النباتات والأفاعي، ويعتبر من أكثر الحيوانات جرأة أو (وقاحة)، فعند غضبه يهاجم الحيوانات التي أكبر منه وينتزع أعضائها التناسلية، وإن أحس أنه لن يتمكن من الانتصار فإنه يطلق غازاً ذا رائحةٍ كريهة جداً، تعافها كل الحيوانات، لذلك تتجنبه كل الحيوانات. وفي العامية يطلق عليه الناس اسم (أبو افْسَيْ) لرائحته الكريهة.

ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:28 PM

ثوب الأفعى

السمع يتقدم على البصر بالكلام
ولكن البصر مداه أوسع
فمن السماء الى الأرض
ولعل السمع يتقدم على البصر ليزيده هيبة

البرق أسرع
وعندما يتبعه الرعد تتضاعف هيبته
حزمات النظر المشتتة لا هيبة فيها
لذلك يحتل شاردو الذهن مرتبة أدنى

كثيرة هي الكائنات التي تدرك ما ندرك
فالأفعى تبدل ثوبها كل عام
كي تتلافى التمزقات في الثوب
ويصبح انعكاس الصورة أكثر تركيزا

هناك من يفعل مثل هذا الأمر من المثقفين
والسياسيين، والحكومات
حتى تتماشى مع (الموضه)
وتداري الشقوق في أثوابها

فقد يرفع شعاراً أممياً
دينياً أو علمانياً
ويعطي لنفسه صفة (الراديكالي)
لكنه في النهاية يفلسف تبديل ثوبه

يصطف مع صفوف المحتلين
في العراق
وفلسطين
ويزاحم على انتخابات مجالس برلمان حكومات تعيسة

يُنظَر للمعتوهين الثابتين بسلوكهم باحترام
ويُنظر للسراق الثابتين بسلوكهم بنظرة ثابتة
ويفقد من يبدل ثوبه احترام الجميع
لأن هذا السلوك، سلوك أفاعي



ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:30 PM

ظُلْم خنفساء القلف

لا تستطيع الأشجار أن تحك أغصانها

ولا تستطيع تنظيف أوراقها
ولا تستطيع مقاومة أمراضها
ولا تستطيع الانتقال الى مصادر المياه

لكنها تعلم أن الله يرعاها
فهو يسخر لها من يرويها
ويسمدها
ويخلصها من الطفيليات

لكن الطفيليات أمم مثلنا
رزقها ـ هي الأخرى ـ على الله
فيهبها خصائص تتخفى من خلالها
وتتناول رزقها بهدوء

تحت القلف تنمو خنفساء صغيرة
لا يراها حتى من وُكِل برعاية الأشجار
يقل الإنتاج وتهزل الأشجار
والوكيل محتار

من يُقَدِرُ أن هذا ظلمٌ وهذا رزقٌ مكتوب؟
الظلم هو أن يتم الاعتداء على ما ليس لك
ولكن الخنفساء تعتبر بيئتها في الأشجار
ففطرتها اقترنت بذلك

عندما ينعدم العدل
وينتشر الطمع
وتزول الرحمة بين الناس
تتحرك جنود الله لتعاقب من لم يتعظ


ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:31 PM

ليس من الأنَفَة

ليس من الأنفة
أن تختار دولةٌ، أخرى أقل شأناً
وتقول: أنا أفضل من تلك
طالما أن هناك من الدول من هو أفضل منها

الأنفُ يسبق الجسم
ويقود صاحبه نحو رائحة المستقبل
تكتمل حاسة الشم بشهادة الحواس الأخرى
فتكون شهادة الإقرار كاملة


لكل سباق إجراءات
الاستعداد والتزود والتمرين
الالتفات للخلف يبطئ الحركة
الالتفات لمن على الجانبين يبطئها

استعراض أمجاد الأجداد لا يزكي الأحفاد
فالتبن من مخلفات البيادر
والنفايات هي ما تبقى ممن كان صالحا
الشوائب تقلل قيمة الأشياء

أن يقول الفرد: أنا سيدٌ
قولٌ خاطئ
فالسيد هو من يعترف الآخرون بسيادته
يقدمونه عليهم عندما لا يزاحمهم

أن يتباهى بماله فهو خاطئ
فقارون كان مثالاً للسوء
أن يتباهى بعلمه فهو خاطئ
هكذا أفهم الله موسى بمثال عبده الصالح

أن يتكلم أكثر مما يسمع فهو خاطئ
فلو كان الكلام أهم من السمع
لخلق الله له لسانين وأذناً واحدة
الهدوء يعين على تفسير الكلام

الوصول لنهاية خط السباق قبل الآخرين
يتطلب معرفة تفاصيل الطريق
وحمل ما يقضي ذلك المشوار من زاد
عندها تكون الأنفة


ابن حوران

إيناس 30-11-2009 07:33 PM

التعنيد عمل خلاَق*


بعد كل عملية غلي حليب
يبقى بعض الأفراد
من البكتيريا
على قيد الحياة



بعد تناول (كورس) من المضادات
لعلاج التهاب اللوزتين
تكمن كائنات في تلافيف الأنسجة
ثم تعاود نشاطها



بعد كل زلزال أو دمار
يجد الباحثون بين الأنقاض
بعض الأطفال
الناجين



ليتعلم البشر، من الطوفان
لم يبق على الأرض
إلا من آمن بالصعود
فوق السفينة



امتلأت الأرض بهم
فعاود العامل الوراثي للشرور
بالظهور
لينتظر الجميع طوفانا آخرا

هامش
التعنيد: هي خاصية تكتسبها الكائنات الحية بعد كل محاولة للقضاء عليها.



ابن حوران

إيناس 07-12-2009 01:14 PM

شقاء السعادة

(1)

كان من ينظر الى الرجال الستة الذين يحيطون بموقد أخذ موقعه في الطرف القريب من باب الغرفة القديمة، يُهيئ إليه أنه يشاهد تمريناً لعرض تمثيلية استوحت شخصياتها من رواية البؤساء.

وُضع في الموقد بعض مخلفات الحيوانات المجففة والمخلوطة بالتبن، وبعض أعوادٍ من أطراف أعشاب لم تجف تماماً.

كان الدخان الصاعد من الموقد يتوزع على وجوه الجالسين، قبل أن يكمل طريقه ليستقر على خيوط عنكبوت قرب زوايا الغرفة المتصلة في السقف المصنوع من أعواد القصب.

لم يكن من السهل التعرف على ملامح وجوه الرجال، ولا على بدانتهم أو نحافتهم، فقد كان سوء الإضاءة المتحالف مع الدخان المخيم في أجواء الغرفة كفيلاً لإعاقة مهمة التعرف على وجوه الرجال، الذين كانوا يشبهون خلفيات لوحة لرسام إيطالي في العصور الوسطى.

لم تختلف آثار القحط التي تبدو على الرجال عنها عند الأغنام، ففي المواسم التي يكون فيها الغذاء متوفراً، فإن أوزان الأغنام ستزيد، وعندما لا يتوفر الغذاء فإنها ستهزل، ولا يستطيع أحدٌ التعرف على ذلك في ندرة الضوء الكافي، إلا إذا حمل الكبش بين يديه للتعرف على وزنه، خصوصا، إذا تُرك صوفه عليه دون قص ليمنع عنه برد الشتاء القارص.

ارتدى أبو سعفان معطفاً عسكرياً قديماً، ربما كان لأحد مساعدي الجنرال اللنبي، وقد فقد لونه الأصلي وبريق أزراره التي كان كبار الضباط يحرصون على تلميعها لإبراز إحداثيات انتصابهم في ساحات الاستعراض. فيما كان صاحب الدار (أبو صابر) يضع على كتفيه شيئاً ثقيلاً مكوناً من أكثر من عشرة جلود لخراف بألوان مختلفة، كانت مهارة صانعها تنحصر فقط بربط تلك الجلود ببعضها، فلم يهتم بما سيكون شكل ذلك الشيء، وكان يغطي تلك الجلود بقماش داكن سميك، لا يمكن إعطاءه أي لون مصنف.

كانت ألوان ملابس الرجال الستة متقاربة، رغم أنها كانت تختلف عند بداية صنع نسيجها، فقلة تنظيفها بشكل جيد مع آثار الأدخنة تجعلها متشابهة، وحتى عند غسلها فإن مادة التنظيف كانت من آبار الجمع بالإضافة لبعض الرماد المحترق ليطرد أفراخ البراغيث والقمل، فليس هناك أثر من إزالة آثار الدخان بأحد مخلفات الحريق.

(2)

مضت ثلاث سنين، ولم ينعم الفلاحون بموسم خير يحقق لهم السعادة والرضا، وكان أبو سعفان قد كشف سقوف ثلاث من غرفه المتواضعة، ليستخرج التبن الذي يعتلي عيدان القصب والذي كان مغطى بطبقة من الطين يتم تجديدها سنوياً حتى لا تتسرب مياه الأمطار من خلال مواضع جذور النباتات التي تنمو على السطوح حيث كانت تختبئ في تربة الطين، ليطعم ذلك التبن لحيواناته المنزلية.

لم يرى أبو سعفان فائدة من إبراز شكواه لأصدقائه، فهم يعيشون أوضاعاً تتساوى في كل شيء مع أوضاعه، لكنه كما هم، لا بُد لهم من أن يتفننوا في التغلب على رتابة الوقت والضجر، بالصبر والسكون، وقد تكون تلك الخبرات قد اكتسبت لتقنين صرف الطاقة، فالسكون لا يحتاج لحرق حرارة غير متوفرة مصادرها بالغذاء المتواضع الذي كانوا يتناولونه.

حتى كلامهم كان قليلاً، ففترات الصمت كانت تزيد على فترات الكلام، ونبرات أصواتهم إن تكلموا، كانت همهمة خفيضة، فالصوت أيضاً يستدعي صرف طاقة.

قلب أبو سعفان يديه، ونبس بكلمة، كاد هو ألا يسمعها، كان يريد من أحدهم أن يسأله عما يجول في خاطره. لكن ذلك لم يحدث، فكل الرجال يرمون رؤوسهم الى الأسفل أو الى مركز الموقد، الذي تلاشى بريق الجمر فيه منذ وقت، فكان كل واحد منهم يتتبع حالة الانطفاء الكامل لتلك الجمرات، ويبقي نظره مركزا عليها عل نارها تُبعث من جديد.

(3)

دخل صابر على الرجال، وألقى تحيته بصوت منخفض، وجلس دون أن يهتم إن كان أحدٌ من الجالسين قد رد التحية، رغم أنهم ردوا كلهم، فقد كانوا بحاجة ماسة لكسر فترات الصمت الطويلة.

كان صابر يعلم حالة والده وأهل قريته، فلم يتذمر عندما طلب منه والده عدم السفر للالتحاق بجامعته في بلد عربي، والتي كان قد أمضى سنتين فيها.

تأمل صابر في وضع الرجال، وتمنى لو أن العلم يستطيع جلب الأمطار ليسعد والده وأصدقاء والده بنزوله.

تذكر صابر نمط الحياة في البلاد التي يدرس بها وقارنه بنمط حياة أهل قريته، وتساءل من هم أكثر سعادة؟ أو من هم أكثر تعاسة في النمطين؟

كانت جداول طلبات حياة الفرد بالمدينة أطول بكثير من جداول طلبات حياة الفرد في قريته، ولكنه حاول إسقاط ما تعلمه في الرياضيات على تلك المقارنة، فقال ألف على ألف يساوي واحد وعشرة على عشرة يساوي واحد وواحد على واحد يساوي واحد.

فإن كانت طلبات ابن المدينة مئة طلب وحقق منها ستين طلباً فسعادته تساوي ستة أعشار السعادة، وإن كانت طلبات ابن القرية عشرة طلبات وحقق منها سبعة فسعادته أكثر من سعادة ابن المدينة.

ابتسم في سره، وقال: إن لهؤلاء الرجال طلب واحد وهو نزول المطر، فإن تحقق لهم ذلك ستكون سعادتهم مائة بالمائة.



__________________
ابن حوران

إيناس 07-12-2009 01:16 PM

شقاء السعادة

(4)

قطع عكرمة برنامجه اليومي في اللعب مع أترابه في الحي، رغم أن الجو لا زال صحوا وبرده ليس بقارصٍ، وقفل راجعاً يركض بأقصى سرعته متجهاً نحو والده (أبو صابر)، الذي كان مستلقياً على ظهره وقد غطى أوسط بطنه بجزء من رداءه الثقيل، في حين كانت ركبته اليسرى أعلى من مستوى رأسه، كونه قد كف قدمه اليسرى باتجاهه، وأردف ساقه اليمنى فوق جزء من أعلى الفخذ الأيسر، لم يكن أحد تمارين (اليوغا) بل هي إحدى الطرق التي كان كبار السن يبتكرونها لتمضية أوقات فراغهم الكثيرة. كان أبو صابر يراقب أصابع قدمه اليمنى التي كان يحركها بالتناوب وكأنه يقوم بتفقد صلاحيتها.

كان عكرمة ابن العشر سنوات أو أكثر قليلاً، لا يزال يلهث من ركضه، يرتدي سروالا خارجياً من المخمل المضلع وقد زالت بعض نتوءات الأضلاع وزال منها لونها الزيتي، وتنافرت الخيوط بعض الشيء من جهة الركبتين، منذرة بانتهاء العمر فوق الافتراضي للسروال، وكانت رؤوس أصابع قدميه تنزف دماً قليلاً متخثراً من كثرة ما يصطدم بالحجارة التي في طريقه.

بادره والده (علامك؟) أي ما بك؟
أجاب الولد بصوت مرتبك: رأيت رجلاً أكبر منك يضع عصبة خضراء على رأسه، ويتزر بإزارٍ ثخين فوق ثوب سميك ويحمل عصا غليظة وطويلة أعلاها منحني نحو ساقها..
قاطعه والده: إنه أبو المَرَاشد .. ماذا فعل؟
ـ بعد أن تطلع بالسماء نحو الغرب، ضرب بعصاه الأرض عدة مرات وصاح: (كسبها .. كسبها .. كسبها من زرع عفير وبَدَرْ).
ومعنى ذلك الذي لم يفهمه الصبي، أنه أفلح من زرع أرضه مبكراً.

استند أبو صابر، وعدل من جلسته، وأخذ يُعالج الرماد الذي في الموقد، وطلب من ابنه أن ينادي أمه لتحضر بعض الوقود للموقد لتسخين القهوة.

(5)

كان أبو المراشد من الأشخاص الذين قليلاً ما يشتركوا بحديث مع الآخرين، وكان الناس ينظرون إليه بمشاعر ممزوجة بالحيرة والإعجاب والاحترام والعطف.

لم يكن درويشاً بمعنى الكلمة، ولكنه لم يقطع فرضاً واحداً في مسجد البلدة الوحيد، ولم يسمع عنه الناس أنه أثار مشكلة مع أحد، حتى جيرانه لم يسمعوا أن خلافاً حدث داخل بيته، رغم أنه كان متزوجاً من أربعة نساء، وله من الأولاد الذكور أربعة عشر ولداً، غير البنات الستة.

(6)

انشغلت أم صابر بتحضير العشاء، وانشغالها كان رتيباً، فالوجبة المعتادة للعشاء هي (جريش) القمح، الذي سبق سلقه وتم تنشيفه ليحمل اسما جديدا (البرغل)، وكان يُحفظ بعد جرشه في (كَوَايِرْ)، تنتصب في (بيت العِيلة)، حيث تحتفظ العائلة بمئونتها فيه، داخل كواير وجِرار وبعض الجلود التي تُخصص لحفظ السمن.

كانت (الكوارة) تُبنى على مراحل، من الطين المخمر الممزوج بالتبن، فبعد أن تحضر المرأة الطين، تختار ضلعاً من أضلاع الغرفة (بيت العيلة)، لتبني بجانبه الكواير، فبعد أن تصنع (دكة أو مصطبة) بارتفاع أقل من قدم قليلاً لتنصب فوقه الكواير، تقوم بعمل مربعات فوق المصطبة طول ضلع المربع حوالي ذراع، وتعين مكان فتحات استخراج المواد المخزونة من الأسفل، تقوم برص الطين بيديها الاثنتين بسماكة أصبعين تقريباً، وحتى لا تنحني تلك المواد تتركها لمدة يوم أو اثنين حتى تجف قليلاً، ثم تكمل بناء الكواير حتى يبلغ ارتفاعها ارتفاع رأس المرأة تقريباً، ثم تترك فتحتها العلوية دون بناء، بل يتم تغطيتها بطبق من القش المحبوك لمنع دخول الفئران.

لم تكن وجبة العشاء، سوى برغل وماء وملح، كانت توضع في قدر من النحاس، وتترك على فوهة (الفرن الطيني) لتنضج على مهل. وبعد صلاة المغرب، تقوم أم صابر بسكب الطعام في قصعة واسعة، وتضيف إليه بعض الدهون المسخنة والتي غالبا ما تكون من (سنام الجمل) أو زيت الزيتون المقلي به قليل من البصل.

(7)

لم يمض وقت كبير، حتى انهمر المطر بغزارة، فضحكت الأرض ومن عليها في البلدة استبشاراً للخير، وارتفع صوت أذان المغرب، من على أعلى المئذنة وبصوت أبي صابر نفسه، وكان صوتاً قوياً على غير العادة، ولم يكن هناك ضجيجٌ يمنع وصول الصوت الى مسافة تتعدى حدود البلدة.

عاد أبو صابر ولحيته يقطر الماء منها، وأسنانه الصناعية تضحك متوسطة لحيته البيضاء ووجهه النحاسي، تناول طعامه بنهم، هو وأفراد أسرته، وأمر صابر أن يذهب الى احمد الرشيد البقال في الحي ليحضر (الهريسة) ليتحلى هو وأفراد أسرته ومن سيأتي لقضاء السهرة القصيرة.

يتبع

__________________
ابن حوران

إيناس 07-12-2009 01:18 PM

شقاء السعادة



(8)

أثناء وبعد كل مناسبة أو حدث، يكثر الكلام لمن شاهدوا الحدث، حتى وإن كانوا أشخاصاً غير مؤثرين في تحديد مساره، فكل واحد سيروي أو يحلل ما شاهده من خلال شخصه الفاعل أو الذي يتمنى أن يكون فاعلاً.

بدا الانشراح على وجه أبي صابر، وهو يحدث من جاء يسهر عنده من أبناء عمومته والجيران. فبعد أن مسد على لحيته، تجول نظره في وجوه زواره، وإن كان لا يحدد ملامح وجوههم بشكل جيد. كانت تلك الحركة ضرورية ليجعلهم يتوقعون كلاما هاما وخطيراً.

يا جماعة، كنت في ليلة الصليب والزبيب، قد وضعت كومات الملح الخمسة كما هي العادة، وقد توقعت بناءً على ما شفت من ذوبان معظم كومات الملح أن هذا الموسم جيد بإذن الله، لكنني لم أكشف لكم ذلك في حينه، بعد أن مرت ثلاث سنوات دون أن ننعم بمثل تلك الأمطار الغزيرة. اسمعوا، اسمعوا صوت الرعد وارتطام حبات المطر على الأرض.

سأله أبو سعفان: وهل تعتقد أن هذا الموسم يبشر بالخير؟
أجابه أبو صابر (في ندرة من يفند آراءه): العلم عند الله، سيكون الموسم جيداً، فعندما تمر (الصفاري) ببرودة ليلها وصفاء سماءها ويبدأ تشرين الثاني/ نوفمبر ببرق (بانياسي)، فما أن ندخل ب (المربعانية) حتى تكون الأرض (ملقحة).

أراد صابر والذي أحضر الحلويات للاحتفال، أن يستفسر من والده عن المصطلحات التي وردت بحديثه، فسأله: ماذا تعني يا والدي بالصليب والزبيب؟ وماذا تعني بالصفاري؟ وماذا تعني بالبرق البانياسي والمربعانية والملقحة؟

أجاب أبو صابر (وقد رأى في تلك الأسئلة مجالا لتمضية السهرة): الصليب والزبيب: هو عندما يتساوى طول الليل بطول النهار ويكون ذلك ليلة منتصف شهر سبتمبر/أيلول، فتتصالب الأرض في مدارها، ويتوقف الناس عن النوم في ساحات بيوتهم أو على أسطحها، ويتهيأ أصحاب الكروم لصناعة الزبيب من العنب.

والصفاري، هي أيام الخريف حيث تصفر أوراق الأشجار، ويثور الغبار وتتسطح قشرة الأرض. والبرق البانياسي هو البرق الآتي من جهة بانياس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث يبشر بالأمطار بخلاف البرق الآتي من جهات أخرى. أما المربعانية، فأيام الشتاء تقسم لقسمين أول أربعين يوم منها تسمى المربعانية وهي أشد أيام السنة برداً، ويتبعها خمسين يوماً تقسم الى أربعة أقسام: (سعد ذابح) و (سعد ابلع) و(سعد السعود) و (سعد الخبايا).

كان عكرمة الذي يجلس في حضن والده ليتمتع بالدفء، يطل رأسه من أبط (الفروة) التي يضعها والده مغطياً بها جسمه المتربع، وكأنها فرخ حيوان (جرابي) يستمع للحديث، ويحس بغصة شديدة، فالموسم يبشر بالخير، وهذا يعني أن عطلة المدرسة الصيفية ستذهب في كد وتعب في الحصاد والدرس واستخراج الحبوب، إن ذلك يعني أن الأولاد سيحرمون من متعة العطلة الصيفية!

(9)

استنزفت السنون الثلاثة، التي حُبست فيها الأمطار، مُدخرات معظم الأسر الفقيرة، كما استنزفت تلك السنوات الرغبة في الحرص من توقع أمطارٍ غزيرة.

كانت (ذيبة) أرملة (ياسين الحاصود) من بين أولئك الناس الذين لم يهيئوا سطوح منازلهم الطينية، بإضافة طبقة جديدة من الطين الأملس، الذي يتكفل بمنع (الدلف).

وزعت ذيبة مجموعة من الأواني القديمة تحت مساقط قطرات الماء المخترقة للسقف، وفرشت لأولادها الثلاثة، في بقعة لا تنزل فوقها قطرات الماء، وغطتهم ببساط صوفي ثقيل، وبقيت شبه متيقظة.

كانت أصوات ارتطام قطرات الماء بتتابعها تشبه أصوات آلة موسيقية تستخدمها قبائل (آرابيش في غينيا بيساو)، وكان اختلاف نغماتها آتٍ من اختلاف أحجامها واختلاف معادن الأواني واختلاف عمق المياه في كل آنية، وكأن الطبيعة قد قامت بضبط (دوزان) آلة موسيقية.

(10)

في الحروب، والزلازل، والكوارث، هناك أفراد أو كائنات، تتأذى من تلك الظروف، كما أن هناك أفراد وكائنات تستفيد من تلك الظروف.

كانت الضباع والذئاب من بين تلك الكائنات، التي تحاول استثمار ثمان ساعات متواصلة من المطر المنسكب بغزارة ملفتة للنظر، فكانت تعرف أن هناك جدران أبنية وأسيجة ستنهار بفعل الماء المتدفق من على السطوح والأزقة.

تعالت أصوات الرجال والتي كانت استجابة لنباح كلاب الحراسة المذعورة. خرج أبو صابر ليتتبع تلك الجلبة فتيقن أنها صادرة من دار أبو سعفان، وأخوته الأربعة الذين يعيشون في دار كبيرة واحدة هم وأبنائهم وزوجاتهم.

كان أحدهم يحمل فانوساً ضعيف الإضاءة أما الباقون فكانوا يحملون عصياً وأدوات زراعة.

بعد أن قفز الذئب مذعورا من تلك الجاهزية التي أبداها أهل الدار، التفت من يحمل الفانوس الى الرجال، فوجد أنهم لا يخفون أجزائهم السفلى، فضحك بصوت مرتفع، ثم انتبه لنفسه فوجد أنه يشاركهم تلك الهيئة.

حاول صابر أن يجد لتلك الظاهرة تحليلاً، فلم يتذكر سوى أنه في حالة ندرة الغذاء فإن القوارض تمتنع عن التزاوج رحمة بأبنائها، ولكنها تعاود لتلك العملية الأيضية بمجرد شعورها باقتراب توفر الغذاء.

يتبع

__________________
ابن حوران


إيناس 24-12-2009 11:32 PM

شقاء السعادة


11)

أكملت أم صابر إحماء الفرن لتبدأ بالخَبْز، بعد أن ألقمته كميات كافية من العيدان الجافة، وبعض أقراص (الجلة)، وهي تعلم أن بعض النسوة من الجارات ستأتي لصنع الخبز، كونهن لم يبق عندهن من (وقيد) وقدرة كافية لاستمرار ودوام تجهيزهن لمثل تلك الأفران.


لم تكن متعة النسوة في تجهيز الخبز فقط، بل كانت لتتبادل الأخبار الطازجة، فكل جارة لها جارة والجارة الأخرى جارة، وكل جارة لديها خبر، فتتصل الأخبار ببعضها كاتصال (روجات) ماء في بركة أُسقط بها أحجار في أمكنة متباعدة منها.

سياج دار (أبي صالح) تهدم (كَرَع) من أثر الأمطار.
عجلة أم ابراهيم نفقت.
سُرِق ثلاثة أزواج من أفراخ الحمام من دار بهلول.
تخاصم أولاد بركات على توجيه مياه الأمطار لآبارهم.
تسمم عائلة (عوفة) بعد أن تناولوا طعاماً كان محفوظاً بإناء نحاسي غير (مُبيض).
أصبح الشيخ عليان مصاباً بإسهالٍ وحمى شديدة... (شكله مَوَات).

دخل عكرمة الى غرفة الفرن، وجلس الى جانب أمه، وكانت تعرف ماذا يريد، فكان يأتي ليأكل رغيف (كماج) ساخن وعليه قطعة من زبد البقر وترش فوق الزبد قليلاً من السكر، فبادرت لصنع رغيفه، وناولته إياه، فجلس ينعم بدفء المكان ولذة طعام الإفطار.

(12)

التقى صابر أستاذ التاريخ في مدرسة البلدة، في دكان احمد الرشيد، حيث كان يقضي الرجال معظم أوقاتهم بعد العصر في الدكاكين أو على قارعات الطرق، فوق أحجارٍ ثبتت لذلك الغرض.

كانت دكان أحمد الرشيد رغم مساحتها الضيقة التي لا يزيد طول ضلع مربعها عن أربع خطوات، مقسمة الى قسمين يفصلهما حاجز خشبي منتصب في الوسط، وضع عليه ميزانٌ ذو كفتين، وبعض أوعية الحلويات الشعبية، ونصفه الداخلي تم نصب رفوف من الخشب وضع فوقها أوعية زجاجية تحوي حاجات أهالي البلدة التي بَخنها جيداً احمد الرشيد.

أما النصف الخارجي من جهة الباب، فكان به بعض الأكياس التي يوضع بها الشعير والقمح والعدس، ليس كسلعٍ للبيع بالدرجة الأولى، بل كمكان لوضع أثمان المبيعات، فقد اعتاد الأهالي أن يشتروا بضائعهم بالحبوب أو بالبيض، ونادرا ما يستعملون النقود لأداء الأثمان.

وكان في أحد جوانب الجزء الخارجي (دكة) أو (مصطبة)، يتمدد فوقها صاحب الدكان عندما لا يكون لديه عمل أو زوار، وعندما يأتي الزوار يجلسون فوق المصطبة، لا يتحرجون من شيء، طالما أنها عادة!

على جانبي باب الدكان ثُبت بعض الأوتاد لتعليق المكانس والغرابيل وأدوات نخل الطحين، وقلائد (الدنيدلة: نبات يجمع بالربيع ويجفف ليستخدم في الطبخ)، وبعض ربطات الثوم، ولجامات الخيول وبعض الحبال. أما في أوسط الدكان فكان يتدلى شريط لاصق للإمساك بالذباب الذي كان يحوم فوق أواني الحلوى.

(13)

سأل صابر، أستاذَ التاريخ عن الأشياء التي سألها لوالده، والتي لم يُجب عنها كلها، فأراد مطابقة المعرفة الشعبية بالمعرفة العلمية المدونة.

تطابقت الأجوبة العلمية مع الشعبية فيما يخص الصليب والزبيب والمربعانية، والصفاري والبرق البانياسي، لكن فيما يخص (أُلقحت الأرض)، التي لم يجب عنها أبو صابر، قال أستاذ التاريخ: أن معارف أهل تلك المنطقة موغلة في القدم، ومن تلك المعارف ما لم يتم تدوينه، بل انتقل من جيل الى جيل بالمشافهة.

فقد كان السومريون والبابليون يعتقدون أن السماء ذكر والأرض أنثى، وكان المطر هو من يلقح الأرض ويخصبها لتعطي ثمارها.

استوقفه صابر: وهل أهل تلك البلدة على دراية بما كان يعتقد السومريون والشعوب القديمة؟
ـ نعم ليس السومريون وحدهم، بل والفراعنة والكنعانيين والحثيين.
ـ معقول هذا؟ وكيف؟
ـ لو تأملت الأمثال التي يرددها الفلاحون في تلك المناطق لتيقنت مما أقول.
ـ كيف؟ أي أمثال؟
ـ هناك مثلٌ يقول: (في مشير يتساوى اللوكسي والعفير)، فالعفير هو ما يزرع مبكرا، واللوكسي هو ما يزرع متأخراً، ومشير عند الفراعنة هو آذار/مارس عند سكان بلاد الشام، ومع ذلك لا زال المثل يقال كما كان في الأصل. ويعني المثل ما تمت زراعته مبكراً أو متأخراً سيتساوى في نموه في مشير.
ـ والكنعانيون، أين آثارهم بما نحن في صدده؟
ـ الزراعة البعلية أي المطرية، فكان الكنعانيون، والحثيون، يعتقدون أن بعل هو إله المطر وهو المسئول عن نجاح أو فشل الزراعة، في حين تُسمى تلك النوع من الزراعة التي لا تعتمد على جر المياه بالسواقي، في العراق بالديمية نسبة الى أديم إله المطر في بلاد ما بين الرافدين.

جاء عكرمة لينادي على أخيه صابر ليذهب للدار حيث أمره أبوه بذلك.

__________________

إيناس 24-12-2009 11:34 PM

شقاء السعادة



(14)

بعد مرور ستة أيام على انهمار الأمطار بتواصل شبه مستمر، بلغ مدير المدرسة المعلمين بأن ينهوا تساهلهم وتسامحهم مع التلاميذ المتغيبين في البلدة، وكانت تلك الصلاحيات تُعطى لمدراء المدارس في المناطق الريفية كونهم أكثر قدرة على التعامل مع الظروف المحيطة.

لم تكن طرقات البلدة مستقيمة، ولا مُعبدة، بل تتعرج مع تعرج جدران المنازل التي كان يتم إكمالها على مراحل لتكون طرقات ملتوية يصعب على المساحين رسمها دون الاستعانة بتصوير جوي!

كانت حوافر حيوانات العمل وأقدام المواشي تفعل فعلها في خلط المياه مع الطين ومخلفاتها، فتصبح الطرقات معها وكأنها نماذج مصغرة لمستنقعات في بلاد مطيرة، ولم ينقصها سوى نماذج مصغرة عن تماسيح.

لم يكن باستطاعة عكرمة أن يسير بمحاذاة أترابه في الحي في الذهاب للمدرسة، كما اعتادوا في الأيام الخالية. كان عليهم أن يسيروا كأفراد قطعان النو التي تقطع الأنهر في إفريقيا في رحلاتها، فيتقدم تلميذٌ شجاع في القفز أمام أصحابه واضعا إحدى قدميه على جزء لم تطأه أقدام الحيوانات، ثم ينتقل بخطوة أوسع نحو حجر مرتفع ليقي ثيابه من بلل الطرقات، ويتبعه التلاميذ الآخرون، إن رأوه قد نجح في مسيره، وفي بعض الحالات كانت إحدى قدمي التلميذ المقدام تنزلق فيسقط التلميذ على جانبه لتنطلي ملابسه بطين بلون التراب والسماد والماء، فيعود لبيته لاغياً يومه الدراسي.

يتغيب بعض التلاميذ عن الدراسة في مثل تلك الأيام، ليس بسبب كراهيتهم للدراسة، بل بسبب عدم توفر ما ينتعلونه من أحذية يستطيعون التغلب فيها على مصاعب الطرقات. ولم يكن حظ عكرمة أفضل كثيراً من حظوظ أترابه، بل كان لديه (جزمة) من (الكاوشوك) تم شرائها قبل سنتين، حيث كان الآباء يشترون لأطفالهم مثل تلك الأحذية لتخدمهم سنتين أو ثلاثة، فيشترونها بأحجام كبيرة لتستوعب أقدام الأطفال التي كانت تنمو بمعدلات تفوق نمو أجسامهم، كونها حافية راكضة في أغلب الأحيان.

ولأن عمر الحذاء طويل وسعته أكبر من القدم، فكان ينشق شقاً طولياً من الجهة السفلى الخلفية للقدم وبطول إصبع، فإن لم ينتبه الطفل في سيره فإن سيعاني من برودة الماء والطين التي ستنفذ من خلال الشق وتستقر أسفل القدم العارية (دون جوارب) طيلة اليوم، ومن هنا كان انتباههم.

(15)

وقف التلاميذ في ساحة المدرسة لينشدوا نشيد الصباح، ثم يدخلوا لصفوف الدراسة، وكان يسهل على رسام مبتدئ أن يرسم لوحة لأولئك التلاميذ، حيث كانت ملابسهم بألوان لونها الزمن، فلم يكن أي لون منها مصنفاً تحت ألوان الطيف الشمسي، بل مزيجا منها مع اكتساب ألوان الدخان واختلاط مياه غسيل الملابس، وأحجامها تزيد عن أحجامهم بنمرتين أو ثلاثة وأحياناً خمسة، فملابس الشتاء كانت تُشترى بالجملة من سوق الملابس المستعملة ودون حضور الأطفال، أو أنها تكون لأخوة قد ضاقت عليهم أو لآباء الأطفال.

كان من السهل على أستاذ العلوم معرفة آثار سوء التغذية على وجوه التلاميذ الذين يجلسون متقاربين على مقاعد الدراسة طلباً للدفء من بعضهم واستجابة لزيادة أحجامهم بفعل ملابسهم السميكة والمرقعة. فكان (الحزاز) يبقع وجوههم وكانت السوائل تتماطى للخروج من فتحات أنوفهم. والأستاذ يتهيأ لشرح قاعدة (إرخميدس).

لكن الأستاذ لم يشرع في ذلك، بل عرج للحديث عن استبسال المقاومة في الجزائر، وضرورة الدعاء لأهل الجزائر والتبرع للثوار من أجل التخلص من الاستعمار الفرنسي، ولو كان ذلك التبرع بعشرة قروش!

كيف سيبلغ عكرمة والده بضرورة إعطاءه عشرة قروش، وهو لا يستطيع الحصول على نصف قرش كمصروف يومي؟

(16)

خرج الطلاب لساحة المدرسة، بعد أن انتهوا من ثلاث حصص، ليقوموا بشراء الحمص المسلوق والمملح، من بائع يضع وعاء على منصب خشبي يقف على ثلاثة أرجل.

ولكن عكرمة قرر ألا يشتري شيئاً، فإن لم يفلح في جعل أمه تقنع والده بإعطائه عشرة قروش للتبرع بها لثورة الجزائر، فإنه سيقوم بتجميع ذلك المبلغ أو نصفه من مصروفه اليومي.

أخذ عكرمة ينقل قدميه بجزمته التي مُسح نقش أسفلها بفعل الزمن، من مكان الى آخر، ويرفعها ليراقب كيف تترك أثرا على الأرض المبللة وطينها الرخو، فكانت بشكل أشجار مرسومة بخفة على الأرض، وكل نقلة تكون مختلفة عن الأخرى، لقد استلهم تلك الفكرة من أستاذ الفن الذي طلب منهم ذات يوم بشق رأس (البطاطس) ووضعه على سائل ملون ثم طبعها على ورقة بيضاء، لينتج عن ذلك رسم بديع!

مضى وقت تلهية عكرمة، حتى قرع الجرس ودخل التلاميذ الى غرف الصفوف.

__________________
ابن حوران


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.