حوار الخيمة العربية

حوار الخيمة العربية (http://hewar.khayma.com:1/index.php)
-   الخيمة الفـكـــريـة (http://hewar.khayma.com:1/forumdisplay.php?f=68)
-   -   المجتمع المدني/ جون إهرنبرغ (http://hewar.khayma.com:1/showthread.php?t=80150)

ابن حوران 06-08-2009 11:46 AM

المجتمع المدني/ جون إهرنبرغ
 
المجتمع المدني/ جون إهرنبرغ



المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة

ترجمة: د.علي حاكم صالح و د. حسن ناظم

من منشورات: المنظمة العربية للترجمة

توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية

مراجعة: فالح عبد الجبار

الطبعة الأولى: 2008

الحجم : 509 صفحات من القطع المتوسط.

المحتويات:

كلمة شكر
المقدمة

القسم الأول: أصول المجتمع المدني

الفصل الأول: المجتمع المدني والموروث الكلاسيكي
خطر المصلحة الخاصة
الحكومة المختلطة
المجتمع المدني والمصلحة العامة

الفصل الثاني: المجتمع المدني والجماعة المسيحية
الغرور، والإيمان، والدولة
الجماعة المسيحية
الانشقاقات المبكرة

الفصل الثالث: المجتمع المدني والانتقال الى الحداثة
الفضيلة والسلطة
المجتمع المدني والضمير المتحرر
السيادة، والمصلحة، والمجتمع المدني

القسم الثاني: المجتمع المدني والحداثة

الفصل الرابع: نشوء (الإنسان الاقتصادي)
الحقوق، والقانون، والميادين المحمية
الأسس الأخلاقية للمجتمع المدني
ظهور المجتمع المدني البرجوازي

الفصل الخامس: المجتمع المدني والدولة
المجتمع المدني والجماعة الأخلاقية
المكنسة العملاقة
نظام الحاجات
سياسة الثورة الاجتماعية

الفصل السادس: المجتمع المدني والتنظيمات الوسيطة
الجمهورية الأرستقراطية
المجتمع المدني والجماعة
أعراف المجتمع المدني
الدروس الأمريكية

القسم الثالث: المجتمع المدني في الحياة المعاصرة

الفصل السابع: المجتمع المدني والشيوعية
النزعة الشمولية (التوتاليتارية)
الثورة (المحدودة ذاتياً)
بلوغ الحدود

الفصل الثامن: المجتمع المدني والرأسمالية
أسس التعددية
تسليع الميدان العام
أحلام التجديد

الفصل التاسع: المجتمع المدني والسياسة الديمقراطية
الثبت التعريفي
ثبت المصطلحات


من هو الكاتب؟

جون إهرنبرغ: أستاذ العلوم السياسية في جامعة (لونغ آيلند) الأمريكية، ناشط في الحقوق المدنية ومناهضة الحروب. له كتابات كثيرة في الماركسية والفكر الديمقراطي وتاريخ النظرية السياسية.

المترجمان:
د. علي حاكم صالح: أكاديمي ومترجم عراقي متخصص في الفلسفة الحديثة.
د. حسن ناظم: أكاديمي ومترجم عراقي متخصص في النظرية النقدية والأدب العربي الحديث.

بعض ما قيل في الكتاب:

((لن يرغب أحدٌ من المشتركين في النقاش الدائر حول المجتمع المدني [وقليلون هم العلماء الجديون غير المنخرطين في هذا النقاش] أن يهمل كتاب جون إهرنبرغ حول تلك الفكرة الرائعة... فهو كتاب موسوعي مشغول جيدا وبشغف ونفس حاد.
إنه مساهمة كبرى في كتابة تاريخ النظرية السياسية يقدمها واحد من ألمع نجوم كواكب النظر النقدي))
هذا ما قاله: برتل أولمان، جامعة نيويورك
ومؤلف كتاب تحقيقات جدلية

(( هذا الكتاب دراسة وافية عن فكرة بذرية في تاريخ النظرية السياسية.. إنه عمل مكتوب بأسلوب جميل وهو يحمل منظورا نقديا مهماً. إنه مساهمة علمية أصيلة في تبحرها))
هذا ما قاله: ستيفن إريك برونر
جامعة روتجرز

أهمية عرض الكتاب

كثيرا ما نسمع عبارات الاستهزاء بالأمتين العربية والإسلامية ومن أبنائهما، لرداءة أداءهما وركود التطور في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ومما تذكره الانتقادات للأمتين، أنه بالرغم من تفوق الأمتين العربية والإسلامية بأعداد أبنائها وعمق تاريخهما، فإن الأمتين تتعرضان للتجاهل والاعتداء والعبث برموزهما وأراضيهما ومصالحهما من قبل مجتمعات دول أقل عددا وتاريخها لا يزخر بماضٍ عريق!

إن الفرق بين الحالتين، هو توزيع الأدوار وتقسيم العمل ووقوف المجتمع جاهزا للدفاع عن تراثه وتاريخه ومصالحه، وهذا لن يتأتى إلا من خلال رصف أبناء الأمة في تنظيمات مدنية نشطة تناقش وتحاجج من يحاول العبث بمصالحها من حكام يستغفلون أبناء الأمة واستغلال انفراط عقدهم.

وقد قدم المفكرون العرب كثيرا من المساهمات الفكرية التي تناقش موضوع المجتمع المدني أمثال: محمد عابد الجابري و عزمي بشارة وعبد الله العروي، وكلها مساهمات جديرة بعرضها وتبسيط محتوياتها لجمهور المثقفين، ولكن هذا الكتاب يكتسب أهمية استثنائية كونه قادم من بيئة معايشة لحالة تنظيم المجتمع المدني، وليس بيئة تحلم في صناعة مجتمع مدني متطور.

ابن حوران 10-08-2009 12:20 PM


الفصل الأول: المجتمع المدني والموروث الكلاسيكي

تأملت النظرية الإغريقية طيفاً واسعا من العلاقات الإنسانية. فالحب والصداقة والتعليم والزواج والمواطنة وواجبات العبيد ومسئوليات السادة ومهارات الحرفيين وتقسيم العمل، كل تلك المسائل دُرِست من حيث فرادتها وترابطاتها.

خطر المصلحة الخاصة

تلمس القدماء خطورة المصلحة الخاصة وأثرها على نخر بنيان الدولة وهزيمتها. وقد عبر أفلاطون ابن أثينا (ولد 428 ق م) والذي شهد هزيمة أثينا عسكرياً، عن تلك الآثار المترتبة على تقديم المصلحة الخاصة على مصالح الدولة.

فقال: (إن المصلحة الفردية لا يمكن أن توفر أبداً أساساً كافياً لحياةٍ سعيدة، وعادلة أو متمدنة، فالقوة الشرعية، والسلطة، والمعرفة توجد فقط لخدمة أولئك الذين تُمارس لأجلهم. تماما مثلما تكمن مهارة الطبيب في معالجة المرض، ومثلما يمارس القبطان سلطته نيابة عن طاقمه، فإنه لا يجوز لأي حاكم، بقدر ما يتصرف بصفته حاكماً، أن يتوخى أو يفرض ما يصب في مصلحته الخاصة، فكل ما يقوله ويفعله، سيُقال ويتحقق بموجب ما هو مفيد وملائم للرعية التي من أجلها يمارس مهنته).

ذلك أن السلطة السياسية وجدت لتقوم بخدمة رفاه المدينة ورفاه مواطنيها. ولا يمكن فهم المجتمع المدني إلا بموجب المبادئ الناظمة للدولة.

(1)

أدرك أفلاطون أن الناس يعيشون في ميادين مترابطة، وأن لكل ميدان منطقه التنظيمي الجوهري الخاص. وكان من المهم، بالنسبة إليه، أن يحيط بكل واحد من هذه الميادين، ذلك أنه أراد بلوغ فهم شامل للكامل.

يتألف المجتمع المدني [عند أفلاطون] مثل جسم الإنسان أو طاقم السفينة، من عناصر مختلفة لها مهارات مختلفة وتؤدي مهمات مختلفة. فهو يستند الى الحاجة المادية للكائن البشري للطعام، والمسكن، والملبس. وفي الحقيقة، فإن تقسيم العمل القائم على الاستعدادات الطبيعية يقع في قلب نظرية أفلاطون عن العدالة، والسياسة، والمجتمع المدني. فالعدالة، التي ترشدها فضيلة العقل الأساسية، تتيح لكل جزء المساهمة في رفاه الكل.. وهذا يجري سواء في الحياة العائلية، أو الصداقات، أو الشؤون السياسية.

إن نظرية أفلاطون نظرية وظيفية، إذ يعتمد صلاح الروح والجسم والدولة على الانسجام المتوازن الذي يتحقق عندما يقوم كل عنصر مكوِن بأداء وظيفته المناسبة. وقد بحث أفلاطون دائما في هذه العلاقات المتبادلة، لأنه ((من دون العدالة، لا يمكن للرجال أن يعملوا معاً على الإطلاق))

(2)

كانت مهمة النظرية السياسية، بالنسبة لأفلاطون، تتمثل في مواجهة مشكلة الفساد والتحلل [التفتت] المتلازمتين. وقد كان واثقاً من مصدرهما حين أثار السؤال الآتي: (( أليس أخبث شرٌ بالنسبة للدولة هو الشيء الذي يتولى تقطيعها إرباً ويدمرُ وحدتها، بينما لا يصلحها شيءٌ أكثر من ذلك الذي يشد لحمتها ويرصها في كل واحد؟)).

لقد أراد أفلاطون التوكيد على أن وراء ترهل أداء المواطنين ووراء الاضطرابات وأعمال الشغب ووراء التفتت يكمن الفساد الذي هو عكس العدالة التي تغذي كل عضو أو خلية في الجسم بمبررات بقائها وأدائها عملها على أحسن وجه.

وهنا، نرى أن أفلاطون قد اكتشف مبكراً مصادر الاضطراب الاجتماعي، عندما أخذ يتحرى ويتتبع بواطن تكوينه في مفاصل المجتمع المدني.

لقد استذكر أفلاطون حكمة (سقراط) التي مؤداها (أن الإنسان السعيد سيوجه نفسه طبقاً لمعرفته بالغايات الجوهرية للحياة)

(3)

(ما لم يتم القضاء على الأنانية الذاتية في المهد، فإنها ستتسرب من قيادة المدينة الى عامة السكان، ذلك أن التنوع، واللامساواة، والتنافر ستسبب الكراهية والحرب الأهلية كما هو دأبها دائماً، وتلك هي، كما في كل مكان، ولادة الصدام المدني وأصله) [ من كتاب جمهورية أفلاطون ص 270]

في مناقشته للأهواء الخاصة، وأثرها في تفتيت المجتمع وشيوع الفساد، حارب أفلاطون فن الرسم وقرض الشعر، واعتبر من يزاولهما مسايراً للانفعالات الشخصية ومغرقاً للحقيقة العامة في حدود الذات، ويسهم في تقزيم ملكة العقل الرشيدة، وهو يسعى للإشباع الفوري للذة الشخصية على حساب المصالح العامة.

(4)

(( القانون غير معني بتحقيق السعادة لأي طبقة واحدة بشكل خاص، بل هو معني بضمان رفاهية الجماعة ككل. وبإقناع الناس بالقانون أو التهديد به سوف يتحقق الانسجام بين المواطنين، وسوف يجعلهم يتشاركون المنافع التي يمكن أن تساهم بها كل طبقة في الصالح العام، ولم يكن غرضه من تشكيل الناس على تلك الروح هو لزوم ترك كل واحدٍ وشأنه، بل لزوم أن يكونوا مفيدين في توحيد الجماعة)).

حاول أفلاطون أن يوفر قوة معادلة للتنازع النافر بين المصالح المختلفة، عبر فلسفة عامة ترسي السياسة على قاعدة الحكمة الأخلاقية والحياة الخيرة. غير أن سعة أفقه بدت في النهاية أنها العلاج الذي قتل المريض!

لكن، لا شك أن أفلاطون قد أسس لقواعد تشكيل المجتمع المدني بوقت مبكر.

تعليق:

لم يكن أجدادنا بعيدين عن التفاعل مع مثل تلك الطروحات، فقد بدا أثر تلك الفلسفة واضحاً في كتابات (ابن سينا) و (الفارابي) و (ابن رشد) و (ابن خلدون) وهم من الفلاسفة الذين أسهموا بإحياء الفلسفة القديمة وأعادوا إنتاجها بما يتلاءم مع معتقدهم الإسلامي. فقد كانوا يحاذون عمل السياسيين ويكتبون بما يدعم عمل هؤلاء السياسيين.

وفي مرحلة أخرى، ظهر مجموعة من الكتاب السياسيين المسلمين والعرب، والذين كتبوا في السياسة بشكل محدد مثل: (أبو الحسن الماوردي) و (ابن الأزرق) وغيرهم.

ومن هنا فإن مناقشة مواضيع كالتي بين يدينا، ستساعد وبدون شك في تنشيط الذاكرة المنتمية والتي ستكون مستعدة بعد إعادة عملها على القراءة الصحيحة لما يدور حولنا ونعجز عن تفسيره في كثير من الأحيان.

ابن حوران 19-08-2009 07:42 AM



الحكومة المختلطة


(( كانت العائلة والقرية تسبقان الدولة زمنياً، لكنها سابقة عليهما من حيث الطبيعة، لأن إمكانهما الأخلاقي يكتمل فيها ... وأن الحياة الأخلاقية المكتفية ذاتياً للمدينة هي الغاية المتضمنة في أشكال التنظيم كلها غير المكتملة ... وأن الإنسان مهيء لأن يكون جزءا من الكل السياسي، ولذا يكون ثمة دافع متأصلٌ لدى الجميع للارتباط بهذا النظام ... والإنسان عندما يكون كاملاً، هو أفضل الحيوانات، ولكنه حين ينفصل عن القانون والعدالة يكون أسوأها)) [ أرسطو]

بعد أن استعرض الكاتب ما أسس له أفلاطون في فقه السياسة الغربية، انتقل ليستعرض ما قدمه تلميذه (أرسطو طالس المولود في 384 ق م)، والذي أمضى عشرين عاما في أكاديمية أفلاطون.

والفقرة التي بدأنا بها هذه الحلقة، هي شذرات مجمعة من أقوال (أرسطو)، دمجناها مع بعض لتشكل النواة التي سنمر بها على رؤية أرسطو المغايرة بعض الشيء لأستاذه (أفلاطون).

(1)

يتفق أرسطو مع أستاذه أفلاطون، على أن تقسيم العمل يقع في صميم المجتمع المدني. وما دامت الأسرة هي الوحدة الإنتاجية للعالم القديم، فهي أساس الدولة لدى أرسطو. وفي الحقيقة، كانت بضع عائلات تؤلف قرية.

يَعتبر أرسطو أن العائلة أو القرية توجد من أجل ((مجرد الحياة))، لكن المدينة توجد من أجل ((الحياة الصالحة)). وأن الأسرة والقرية هما ميدانان من ميادين الفعل الأخلاقي، غير أن مداهما مقيد، لأنهما تشكلا بحكم الضرورة والكفاح الشخصي واللامساواة.

(2)

لم يكن أفلاطون ليتفق أبداً مع رأي أرسطو القائل: أن الأسرة تتشكل من ثلاث مجموعات من العلاقات الأخلاقية المشروعة: علاقة السيد بالعبد، والزوج والزوجة، والآباء والأطفال. وكان فن التدبير المنزلي (Oikonomia) شبكة متناقضة من الضرورة الشخصية والاعتماد المتبادل، شبكة تخدم غرضاً خلقياً وتساهم في المقدار الأكمل للتطور البشري في المدينة. وقد عبر وصف أرسطو لهذا الفن، بوصفه فن إدارة العبيد وممارسة سلطة الزوج والسلطة الأبوية، عن النظرة الكلاسيكية للعائلة باعتبارها ميدناً للذكور الأحرار.

لم يشغل أرسطو نفسه بالرق باعتباره قضية إنسانية. فيقول: كان العبيد والسادة مترابطين معاً في شبكة من الاعتماد المتبادل تبلغ عمقاً أبعد من العجز المنزلي أو كسل الثري. فالعبيد ساهموا في تطوير السادة بتخليصهم من العمل المنزلي، والسادة ساهموا في تطوير العبيد بتوفير الإرشاد الأخلاقي والروية العقلانيةلهم. نظر أرسطو الى الرق بوصفه علاقة بين العناصر الحاكمة طبيعيا والعناصر المحكومة طبيعيا، وفي ذلك منفعة للجانبين وحفاظ عليهما.

كما يتصور أرسطو أيضاً سلطة الزوج والأب بوصفها علاقة الضرورة واللامساواة التي تربط البشر في علاقات منفعة تبادلية. إن التفوق الخلقي للزوج على الزوجة والآباء على الأطفال يقوم بتطوير الجميع على نحو أساسي. حتى لو كان الغرض الأخلاقي محدودا جداً.

يعرج أرسطو الى الجانب الاقتصادي، فعلى الرغم من أن الأسرة هي وحدة إنتاجية في المجتمع، فإن التبادل بين أفرادها سيكون محدودا جدا، وفي القرية سيكون التبادل أكثر سعة من الأسرة لكنه لن يؤدي الى فائض إنتاجي، طالما اعتمد مبدأ المقايضة البسيطة.

(3)

كانت الأسواق جزءا من الحياة الإنسانية لأمدٍ طويل، غير أنها لم تهيمن على الشؤون الاجتماعية إلا مؤخراً. وقد شكلت مجموعة معقدة من التطلعات والمؤسسات تنظم الحياة الاجتماعية لآلاف السنين، وكانت هذه المؤسسات في الأصل مؤسسات غير اقتصادية بطبيعتها.


كان البشر يشبعون حاجاتهم الأساسية من خلال مؤسسات الدين والقرابة التي لا يمكن أن تُفهم على نحو أولي، أو حتى على نحو واسع، بوصفها مؤسسات (اقتصادية) من حيث طبيعتها.


كانت الشؤون الاقتصادية، بطبيعة الحال، أساسية للمجتمعات المنظمة على الكفاف، غير أنها لم تقتضِ استقلالها ووضوحها الظاهرين، حتى جاءت الرأسمالية لتطلق باعثاً على نزعة حديثة متميزة الى متابعة الكسب الاقتصادي لذاته.

نتيجة للمقايضة بين مراكز بعيدة، أوجد الناس فكرة النقود، مما جعل من فكرة إشباع الحاجات هدفاً للتبادل، وهذا ما جعل أرسطو في شك من أنه ليس هناك حدودٌ لمبلغ المال الذي يمكن مراكمته في أيدي الأفراد، ومن ثم المؤسسات بعد تكون فكرة الرأسمالية.

(4)

كان أرسطو متسلحاً بقناعة مؤداها أن دافع أفلاطون لفرض وحدة على المجتمع المدني، يدمر إمكانية قيام المجتمع السياسي، فالمدينة عند أرسطو ليست مثل العناصر التي تكونها. والأفراد والأسر ظواهر موحدة، لكن (المدينة مؤلفة من عدد الرجال، وهؤلاء الرجال مختلفون، ذلك لأن المتشابهون لا يمكن أن يوجدوا مدينة) أي أنه لا تكون عندنا مدينة إذا كان سكانها متشابهون، فهم عند ذلك سيكونون أسرة، أو حتى فرداً واحداً مكررا بعدد المتواجدين في تلك المساحة التي يفترض أن تكون مدينة.

ربط أرسطو وجود الحياة العامة بضمان وجود الحياة الخاصة، وأن الخصوصية وشعور كل رجل أنه يخدم ما يخصه هو الذي يطور فكرة المدينة، وليس شعور كل رجل أنه يخدم المصلحة العامة، فإن وضعت المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، لن يكون هناك مصلحة عامة.

لكن أرسطو، ربط المصلحة العامة بالحرية الناقصة للأسرة والأفراد، فلا يوجد امتياز يشترك به جميع المواطنين. وقد عرف أرسطو المواطن: بأنه إنسان يشارك في إدارة العدالة وإشغال المناصب. والمواطنة مقولة خُلقية تتحدد بأشياء أكثر من الولادة والإقامة وطاعة القانون.

(5)

يدخل أرسطو في توضيح فكرة الحكومة المختلطة، ويربطها بما يسمى (الصالح العام) ويقول عنه أنه شيء أكثر من كونه مجموع المصالح الخاصة كما أنه يمكن تحديده موضوعياً. ((فتلك الدساتير التي تراعي المصلحة المشتركة هي الدساتير الصحيحة، وهي التي تحكمها معايير العدالة المطلقة. أما الدساتير التي تراعي فقط المصلحة الخاصة للحكام فإنها الدساتير الخاطئة، أو هي انحرافات عن الأشكال الصحيحة)).

يقول أرسطو: أن (العدالة المطلقة) هذه متاحة لأغلب بني البشر إذا ما استخدموا عقولهم، وقد مكنت هذه البصيرة أرسطو من أن يصل الى تصنيفه المشهور للدول. النظام الملكي، والنظام الأرستقراطي، والحكومة المختلطة.

فإن المصلحة الخاصة ومنفعة الطبقة مشتركتان في الانحراف: (فالاستبدادية حكومة يديرها شخص واحد لمصلحته، والأوليغاركية (حكم القلة) تدار لمصلحة الأغنياء، والديمقراطية تدار لمصلحة الطبقات الأفقر. ولا شكل من هذه الأشكال يُدار لمنفعة المواطنين ككل).

كل المجتمعات تتألف من عوائل مختلفة ومن طبقات وصنائع وأنساب ومراتب. ولا يمكن أن تتحقق الحكومة المختلطة إلا إذا راعت دساتيرها التعددية المتأصلة في الحياة الاجتماعية.

(6)

في كل الدول، هناك ثلاثة أقسام أو طبقات متميزة من المواطنين، الطبقة الغنية جداً، والطبقة الفقيرة جداً، والطبقة الوسطى التي تشكل الحال الوسط. إن الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة تنقادان، على الأرجح، بالجشع والخوف وعدم الشعور بالأمان. فالطبقة الغنية لا تعرف شيئا غير الحكم، والطبقة الفقيرة لا تعرف شيئا غير الطاعة.

أما الطبقة الوسطى، فمن المرجح أن يكون لها أعداء أقل من الطبقتين الأخريين. الراجح أن تكون الطبقة الوسطى، بإذعانها للعقل والانضباط والاعتدال، أقل عنفاً وطموحاً وطمعاً من الطبقتين الأخريين.

والدول التي تتشكل من الطبقة الوسطى تستطيع حماية الغني من طمع الفقير والفقير من جشع الغني، وتنظيم الواجبات الضريبية.

ومن هنا فإن أرسطو دعا الى تشكيل المجتمع المدني الذي ينظم المجالات المنفصلة للحياة من خلال الدولة وهيكلها والمحيط الذي تعيش فيه تلك الدولة لتنظيم ذلك المحيط بما يتناغم مع أهداف الدولة.

ابن حوران 10-09-2009 06:22 PM

المجتمع المدني والمصلحة العامة Res Publica))

قبل أن ندخل في صلب الموضوع، دعنا نمر على ما أومأ إليه المترجمان حول Res Publica))، أي المصلحة العامة، ف Res باللاتينية تعني: شيء أو شأن أو مسألة، و Publica تعني عام. فيصبح المصطلح: الشأن العام أو الصالح العام، ويستخدم للإشارة إلى أي شيء يقع خارج حدود أي ملكية خاصة. فهو ملك للجميع، وبهذا المعنى يكون مساوياً للدولة. فالدولة ليست شيئا خاصاً، إنما هي مُلك للجميع.

(1)

انشغل الفلاسفة والسياسيون في اليونان في وضع أسس لطبيعة تحرك الإنسان، حتى يربطوا تلك الطبيعة بما يتعلق بشكل الحكم وشرعيته الذي سينظم أمور الأفراد. فمنهم من رأى أن الناس ولدوا مفطورين على الحياة الجماعية العاقلة، التي تتلقى كل نفس أوامرها ونواهيها من عقلها، والذي يتشابه الى حد كبير مع عقول الآخرين، وبالتالي فإن الناظم العام لكل الناس سيكون العقل العام الذي يصدر قوانينه وتعليماته ممثلاً بالدولة التي تكفل مصالح مواطنيها.

لقد كان هؤلاء الفلاسفة وعلى رأسهم (أرسطو) يراهنون على أن الناس قادرون على حكم أنفسهم من خلال تفويض من يمثل الجماعة، ويتلاءم مع ما يصبو إليه الأفراد.

في حين، دخل الشك نفوس الآخرين في تحقيق تلك النظرة المتفائلة، وحل محلها نظرة تدعو الإنسان الى الاهتمام بنفسه واختلطت تلك الدعوات بالجانب الديني، حتى تتحقق سعادة الفرد واستقلاليته، أي أنها كانت دعوة للعزلة وعدم النزوع للاجتماع، والحذر من مفاجئات الآخرين.

(2)

اتخذ الهجوم على فكرة الجماعة السياسية التي بشر بها أرسطو، صورة (فلسفة السخط)، والاعتماد على الذات، والانكفاء، وحل الاكتفاء الذاتي والأصالة محل المواطنة والعمل المشترك. ومن هؤلاء الساخطين (أبيقور 341 ـ 270 ق م) الذي أعلن أن ((الطبيعة العمياء لا يمكنها أن توجه السلوك الإنساني.. لا يمكن للبشر أن يحيوا حياة طبيعية إلا إذا حرروا أنفسهم من الخرافات والأوهام.. والرغبة الفردية في السعادة هي المرتكز الموثوق الوحيد في عالم فوضوي لا يكترث لشيء)).

بعد تلك الموجة من السخط على السياسة اليونانية القديمة، لم يعد بعدها، المجتمع المدني (القديم طبعا) بالإضافة للسياسة مصدرين للتطور الأخلاقي. ولم تعد الذات الفردية تلقى نفسها في النشاط المشترك!

(3)

يتكون المجتمع المدني من ذرات منعزلة لا توفر تفاعلاتها المتقلبة أساساً طبيعيا للارتباط. وإن العلاقات العامة المتشابكة كلها إنما هي علاقات عرفية أصلاً، ولا يمكن تسويغها إلا إذا كانت مهمتها (تسكين ألم).

لكن، يذهب المدافعون عن المجتمع المدني، الى أن السعادة التي يراها الساخطون على السياسة وعلى المجتمع المدني، ممكن أن تتحقق بالانعزال والابتعاد عن مشاركة الناس حياتهم (همومهم وأفراحهم)، هي مقولة خاطئة، فلو اعتزل كل الناس (ليصبح قانون الاعتزال عاما) ويحل محل الدولة والسياسة والمجتمع المدني، فإنه من السهل أن تبرز على الناس قوى متجمعة صغيرة تسلبهم راحتهم وشرفهم وكبريائهم ولن تجد من يدافع عنهم طالما أن كل فرد قد أحاط نفسه بعزلة.

(4)

أحس بعض (الرواقيين) من أعداء المجتمع المدني، أنه لا بد من المصالحة بين الاعتزال والاختلاط أو المشاركة العامة.

فهذا (سينيكا Seneca) يكيف عدائه المبكر للصلات الاجتماعية ويعترف بأن ((الخصوصية استدعت الحياة المشتركة وأن المجتمع المدني يمكن أن يتعزز بالانعزال)) ... (( يجب أن نعتزل داخل أنفسنا أكثر فأكثر، لأن العلاقة بأولئك الذين لهم ميول مختلفة تشيع الاضطراب وتوقظ الانفعالات الدنيئة والخسيسة، وتسبب القروح التي ما برحت واهنة في العقل ولم تُشف شفاءً تاماً.)) .. ((أما الاجتماع والانعزال فيجب أن يتمازجا ويتناوبا. سيولد الأول رغبتنا في لقاء الرجال، ويولد الأخير رغبتنا في أنفسنا، وسيكون أحدهما علاجاً للآخر: إذ ستبرئ العزلة كراهيتنا للناس، وسيبرئ الناس كراهيتنا للعزلة)).

إن هذا التحديث في موقف الرواقيين للمجتمع المدني الشامل والذي ينظمه العقل، يفترض مساواة أخلاقية أكثر سعة مما كان ممكنا في بيئة مقيدة لدولة المدينة.

(5)

ظهر في القرن الذي سبق ميلاد السيد المسيح عليه السلام، مَن حاول الإجابة عن تساؤلات كثيرة، أو من حاول رسم الصورة التي يجب أن تكون عليها الدولة ويكون عليها المجتمع المدني.

هل هي الطبيعة أم المنفعة؟ من يملي الشكل الذي سيقود الناس، هل هي توزيع اللذة والسعادة ـ كما ارتأى أبيقور ـ أم الصراع الطبيعي المحموم على المجد والسلطة؟ في الاحتمال الأخير تم اختزال السياسة الى اغتيال وزيف وسرقة وحرب، وأوشك الرأي (الفردي) الخاص والطموح والشهوة والرغبة على تدمير الحياة المتحضرة آنذاك.

من هناك انطلق النداء Res Publica))، أي إنقاذ المصلحة العامة، والتي تتجسد في جسد الدولة الديمقراطية البعيدة عن الفردية، وهناك يبرز دور المجتمع المدني.

(6)

كان (شيشرون المولود عام 106 ق م) أبرز من حاول إنقاذ الدولة والمجتمع المدني من أن يتحولان الى حالة من الفوضى. فيقول: إن المجتمع المدني متأصل في (روح اجتماعية) غرستها الطبيعة في البشر. فالناس الذين يحركهم استعدادهم الفطري على الاجتماع، ويقودهم العقل، منجذبون للارتباط بعضهم ببعض. ولكن العواطف الجميلة وحدها لا تكفي لتشييد صلة اجتماعية قوية ودائمة، فالمؤسسات ضرورية أيضاً.


يشير (شيشرون) الى أهمية الملكية الخاصة، فهي بنظره أساس الحياة العامة. فهي من جانب تحمي الفرد من طغيان الآخرين، وتمنع الفساد من أن ينخر جسم الدولة. كان شيشرون معارضا عنيداً لقانون زراعي يصادر كل الأراضي ويعيد تقسيمها على الفقراء، فهو يرى أن ذلك سيمس الخصوصية التي هي أساس (العزلة) والتي تصالحت مع الاجتماع ضمن علاقة يحترمها الطرفان.
لكن شيشرون، ضد الجشع والاستغلال أيضاً، فهو إن كان مع الملكية الخاصة وعدم المس بها، فإنه مع فقراء الشعب من استغلالهم من المالكين الكبار، وحتى يضمن تلك المعادلة لا بد من دولة المؤسسات أو دولة المجتمع المدني. لقد أغنى شيشرون الفكر السياسي كثيراً، عندما التزم جانب العدالة التي تضمنه وجود المؤسسات.

لقد فشل في النهاية (شيشرون) من المحافظة على الدولة (الجمهورية) من الانهيار، كما فشل في تحقيق العدالة، لأنه لم تتجه الجهود بصدق لبناء دولة المؤسسات والمجتمع المدني، ولم يجرِ تنزيه المصلحة العامة.

يتبع

ابن حوران 28-09-2009 11:46 AM

الفصل الثاني: المجتمع المدني والجماعة المسيحية

يذكر الكاتب في بداية هذا الفصل، أن انهيار الإمبراطورية الرومانية والذي عزاه (Edward Gibbon) الى النصر الذي حققته البربرية والمسيحية، أدى الى ضعف الفهم الكلاسيكي للمجتمع المدني باعتباره جماعة منظمة سياسياً. وأنتج تفسخاً سياسيا، أصبح بعده من المستحيل ولمئات السنين التنظير في السياسة على الطريقة القديمة التي سبقت هذا التغيير.

كان اليونانيون والرومان رغم وثنيتهم قبل اعتناقهم المسيحية، يخرج من بينهم من يتناول الجانب السياسي بأخلاقية عالية تدعو للفضيلة والعدل. وعندما تم اعتناق الإمبراطور (قسطنطين) للمسيحية، تحولت القبائل والدويلات المحيطة بمركز الإمبراطورية الرومانية الى ما يشبه (الأمة المسيحية)، وأصبح التنظير في السياسة من قبل القصر مقرونا باعتقاد ديني مسيحي.


لم تكن المسيحية في بداياتها تهتم بأمور الدولة، باعتبارها قضايا دنيوية عابرة ستزول، هذا أدى الى تدفق النشاط القبائلي لقبائل الجرمان وغيرها من القبائل للتسابق على احتلال مكان قريب من المركز المسيحي، مما دفع برجال اللاهوت أن يبدءوا التفكير بالتنظير للدولة لإقامة مملكة (الرب) على الأرض.

الغرور، والإيمان، والدولة

(1)

في بداية القرن الخامس الميلادي، بدا الضعف يظهر على الإمبراطورية الرومانية، وتم اجتياح (القوطيين بقيادة ألارك) لروما. شاعت في تلك الفترة مقولات تحمل الديانة المسيحية باعتبارها مُستوْرَدٍ (شرقي) المسئولية عن هبوط الأداء السياسي وضعف الإمبراطورية. وظهر بعدها الحنين لفكر أرسطو وغيره.

ظهر بعد ثلاث سنوات من الاجتياح أي في عام 413م كتاب مصنف شهير لا زال يترك بصماته واضحة في العقائد الغربية السياسية، وهو (مدينة الله The City of God ) وقد كان من تأليف (أوغسطين) ولمن لا يعرف هذا الرجل، فقد كان أفلاطونياً محدثاً، وأسقفاً في نفس الوقت، وعالم لاهوت وقاضيا وجدلياً، وقد فكر في مسألة الروح والجسد، ورغم انبهاره بالأداء الإمبراطوري قبل المسيح عليه السلام أو قبل اعتبار الديانة المسيحية ديانة الدولة، فقد انبرى مدافعا عن المسيحية دون أن ينكر انبهاره بالتنظيم السياسي للدولة ما قبلها.

(2)

رد أوغسطين على القائلين بأن الكوارث التي حلت بروما نجمت عن الاستخفاف بالطقوس القديمة، بقوله: إن المسيحية لم تكن مسئولة عن سقوط روما، بل أن ضعف الإمبراطورية المتنصرة حديثاً جاء نتيجة تسامحها مع الوثنية والهرطقة والفسوق.

البشرية عند (أوغسطين) فاسدة فساداً كبيراً بحيث لا تستطيع أن تختط لنفسها قيما أخلاقية، وأن الجمال والأخلاق والفضائل كلها مستمدة من سجل حضور الله في الشؤون البشرية، وفهم المجتمع المدني الخاطئ يأتي من تمجيد الناس للعقل البشري وإمكانياته وابتعادهم عن الإيمان بالله.

كان لدى الإغريق والرومان فكرة مفادها أن أرضية السعادة البشرية تأسست بفعل القدرة على الكلام والتدبر، والعمل في المجتمع المدني المنظم سياسياً. أما أوغسطين فيقترح أن الإيمان والكتاب المقدس والكنيسة والمبادئ المسيحية هي الوحيدة التي يمكنها برأيه أن تضع أساساً للسياسة وتنظيم المجتمع المدني.

(3)

عند حديث أوغسطين عن روما، فإنه يقول: إن الله جعلها إمبراطورية جبارة (لعلةٍ ما!). وأن إنجازات أهلها لأنهم (أحبوا المجد بحماسة متوقدة، ورغبوا في العيش من أجله، ومن أجله لم يتوانوا عن التضحية بأنفسهم. وكانت كل رغبة مقموعة بشدة ولعهم بالمجد وحده دون سواه) كانت تلك اللهفة للثناء والرغبة في المجد إذاً، هما اللتين أنجزتا تلك المآثر العديدة الجديرة بالثناء*1

كانت الدنيوية الوثنية تتناقض بشكل صارخ مع الإمكانات التي فتحها حضور المسيح عليه السلام. بل يذهب أوغسطين الى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن الشر والخير ابتدأتا مع ابني آدم (قابيل وهابيل). ومن هنا فقد انقسمت المدن الى مدن خير ومدن شر وبشكل سرمدي. فمدينة الشر تقوم بخدمة إبليس وشياطينه ومدينة الخير بخدمة الله وملائكته.

وفي مكان آخر من كتابه (مدينة الله) يقول أوجستين: (طبقاً لذلك، تأسست مدينتان بنوعين من الحب: المدينة الأرضية بحب الذات، حتى وإن كانت بمعصية الله، والمدينة السماوية، حتى وإن كانت باحتقار الذات، وبكلمة تمجد الأولى ذاتها، وتمجد الأخرى وتعظم الله، الشاهد على الضمير وتناجيه: [إلهي أنت مجدي، ورافع رأسي]، في الأولى يحكم الأمراء والأمم التي تخضع لهم بشهوة السلطان، وفي الثانية يخدم الأمراء والرعايا بعضهم بعضاً بالمحبة الخالصة)*2

(4)

سدد أوجستين ضربة الى صميم النزعة التفاؤلية (الفلسفية) الإغريقية والرومانية، في أن قوانينهم التي كانوا يزعمون أنها تحقق العدالة، قد أصابتهم بالغرور بأنهم حققوا مجدهم، فقادهم هذا الغرور الى العجز والانحطاط، وكان عليهم وعلى من يبكي على مجدهم المفقود أن يعلموا أن الخير والمجد هو من الله وحده، فحيث تكون هناك عبادة تليق بالرب تكون هناك أمة وبشر ومجتمع مدني حقيقي.

يقول أوجستين: (إني أقر بأنه كانت هناك جمهورية من نوع ما، وكان يديرها الرومان القدماء القدماء بصورة أفضل بكثير من النواب الرومان المحدثين [في العهد المسيحي]. غير أن الواقع هو أن العدالة الحق لن يكون لها وجود إلا في تلك الجمهورية التي يكون المسيح مؤسسها وحاكمها إذا ما اختار أي كان أن يدعوها جمهورية، وفي الحقيقة لا يمكننا إنكار أنها تمثل مصلحة البشر... كيف يتسنى للبشر أن يحققوا العدالة إذا كانوا يخدمون الشياطين الدنسة والأرواح الشريرة)*3

(5)

لقد شبه أوجستين الملوك والأمراء باللصوص، فقال: (ما الممالك، حين تغيب العدالة، غير سرقات كبرى؟ والعصابة نفسها ما هي إلا زمرة من البشر محكومة بسلطة أمير، وهي متكاتفة بموجب اتفاقية اتحاد، وأما الغنائم فيجري تقسيمها بموجب قانون تضعه العصابة نفسها)*4

استعان أوجستين بقصة تاريخية عن الإسكندر الكبير ، عندما قبض على قرصان وسأله عن دوافعه بالقرصنة واستيلائه على سفن الغير، أجابه القرصان بعجرفة (ما عنيته أنت بالاستيلاء على الأرض كلها؟ ولكني لأني أنفذ ذلك بسفينة صغيرة، أُسَمَى لصاً، بينما تنفذه أنت بأسطول ضخم، فتلقب إمبراطوراً).

(6)

بالنسبة للعقوبات والردع، انشغل أوجستين بوضع علاقة واضحة بين العقوبة ومن ينفذها ومن يشرعها ومدى فائدتها، فاعتبر أن العقوبة هي رحمة على المذنبين لكي يقابلوا ربهم يوم القيامة وهم طاهرين من كل ذنوبهم التي عاقبهم عليها من في الأرض من الذين انتدبهم الرب لذلك.

لكن من هم هؤلاء؟ إن أوجستين يطالب المؤمنين بالله من منظمات المجتمع المدني أن تلتف حول الكنيسة لتفرض قانون الله على الأرض بواسطة الدولة التي باركتها الكنيسة نفسها.

يتبع



هوامش: (من تهميش المؤلف)
Saint Augustine, The City of God, Translated by Marcus*1 Dods (New York: Random,1950) صفحة 159
*2ـ المصدر السابق ص 477
*3ـ نفس المصدر صفحة 699
*4ـ المصدر نفسه ص 112

ابن حوران 12-10-2009 02:27 PM

الجماعة المسيحية

(1)

كان مسعى (أوغسطين) لتحويل بابوية القيصر (Caesaropapism)، التي دمجت الدولة والكنيسة، الى أداة لخدمة الله، بات بحاجة الى تطوير دقيق بسبب اقتران تنصير الإمبراطورية بتفككها، ودمج الدولة بالكنيسة من أجل طاعة الله، ذلك أن تنصير الإمبراطورية صاحب تفتتها.

وإن التطور البطيء للعالم المسيحي بوصفه عالم (الدولة ـ الكنيسة) الموحد شجع مفكري العصور الوسطى الأوائل على تطوير بنية شاملة تتيح لهم أن يستوعبوا ضمن حدودها علاقات الشعوب والميادين المختلفة. إن تقسيم العمل بين (البنية الكنسية) الرسمية و(البنية المدنية) للإمبراطورية والمملكة وَسَمَ مسارات السلطة المتحولة بين ميادين يكمل بعضها بعضا في أمة مسيحية واحدة.

(2)

انتقل الى العصور الوسطى، ما كان أُسس في العهود الأولى للإمبراطورية المسيحية على يد (Gelasius جيلاسيوس الأول) وأطلق عليه نظرية (السيفين Two Swords) والتي قصد بهما (سيف الله) و (سيف الدولة أو الملك) وهما مندمجان متوحدان لا يفصل بينهما شيء، وليس هناك سلطة أعلى من سلطة، وإذا تصادم السيفان فالكلمة العليا لسيف الرب (الكنيسة).

وكانت السياسة والاقتصاد والفن والعلوم والأخلاق، تتبع مباشرة لسلطة الكنيسة، وكان تنصيب شارلمان سنة 800م [ وهو المعاصر لهرون الرشيد] على يدي البابا (ليو Leo) يرمز الى صهر الكنيسة والدولة معا.

ملحوظة: ليلاحظ القارئ الكريم، أن الأوروبيين كانوا يستشعرون أو يستلهمون ما كان يجري في الشرق (الإسلامي) ويحاولوا تقليده من باب المناددة.

(3)

تعاظم دور البابا شيئاً فشيئاً، فشرع انفصاله عن جسم دولة (أي دولة) وأصبح ينصب الملوك والأمراء، وأصبح يبارك الجماعات المدنية ويتصل بإدارات الجامعات والمصالح التجارية وكبار الفلاحين أو كبار مالكي الأراضي، حتى تكونت في البلاد الأوروبية ممالك عديدة أو الأجدر أن تسمى بالإمارات أو الإقطاعيات، وأصبح البابا وكأنه الإقطاعي الأكبر. وكان المقصود بذلك هو إنشاء إمبراطورية مسيحية كبرى مكونة من دويلات يباركها البابا ويكون مقاتلو تلك الدويلات في خدمة أهداف البابا.

حدث تململٌ صامت في منظمات المجتمع المدني، (جامعات مؤسسات، مصانع) وكان الغرض من ذلك التململ هو الحصول على استقلالية معينة من سلطة الكنيسة، أو بالذات عن (البابا)، فتم اقتراح انتخاب المجلس البابوي الذي ينتخب البابا، وحدث خلاف على من يحق له تعيين أعضاء المجلس البابوي، فكان الأمراء أو الملوك يسمون مندوبيهم ليكونوا قادرين على تنصيب البابا أو عزله، فانتبه البابا لذلك ومنع تسمية المندوبين من الحكام السياسيين.

الى أن جاء الصدام بين إمبراطور ألمانيا (هنري) والبابا (غريغوري)، حيث اتهم البابا الإمبراطور بأنه ملك متمرد على سلطة البابا وبالتالي فهو متمرد على الله، وتحالف الأمراء (الملوك الأضعف) مع البابا ضد الإمبراطور (هنري)، مما حدا بإمبراطور ألمانيا ببعث رسالة شهيرة يعزل فيها البابا جاء فيها: (من هنري الملك، لا بالاغتصاب، بل بقضاء إلهي ورع، الى (هلدبراند) الذي لم يعد الآن البابا، بل راهب مزيف).

ورغم أن أساقفة (ألمانيا) اصطفوا الى جانب ملكهم، إلا أن الانتصار أخيرا كان لصالح البابا الذي هددهم بالحرمان المسيحي، فذهب الإمبراطور (هنري) حافي القدمين وبقي يقف بالثلج ثلاثة أيام في كانون الثاني/يناير من عام 1077م، قرب مقر البابا في (كانوسا Canossa) فجاء غفران البابا له.

إن انتصار البابا (غريغوري) هيأ لروما أن تكون سيدة العالم المسيحي كله، وترعى المجتمع المدني من زاوية نظر بابوية بحتة.

(4)

لقد حدث انعطافٌ في القرن الثالث عشر، عندما وصل (توما الأكويني) الى باريس عام 1245م، حيث كانت العلوم العربية والفلسفة اليونانية المعاد صياغتها على أيدي الفلاسفة العرب، الى العودة لقراءة ما كتبه اليونانيون ونقله (العرب). فافترض (توما الأكويني) أن الكنيسة لا تختلف عن المؤسسات الدنيوية الأخرى، فالكنيسة ومنظمات المجتمع المدني الأخرى هي وحدات تشكل نظاما أخلاقيا يوحده حب الله وتسير على هدي هدفها المشترك في تحقيق الخلاص.

وقد استخلص (توما الأكويني) أنه ما دام يجب على العقل الإنساني ألا ينظم فقط الأشياء التي يستعملها البشر، وإنما أيضا البشر أنفسهم. ويضرب مثلا لموضوع استخدام العقل فيقول: أن الإنسان يتبع مسارا من البسيط الى المعقد: ففي حال الأشياء التي يستعملها البشر عندما يبني هؤلاء مثلا، سفينة من (الخشب)، وبيتا من (الخشب والحجر) وفي حال البشر أنفسهم عندما تنظم مثلا، مجموعة منهم لتكون جماعة معينة والجماعات لها تراتب ومنازل، وأن المرتبة العليا هي مرتبة المدينة التي تنظم الكثير من حاجات البشر.

(5)

الكل له الأسبقية الطبيعية على الأجزاء، حتى لو كانت الأجزاء أسبق من حيث النشوء. لكن الأفراد من البشر مرتبطون بالمدينة ككل مثلما ترتبط أعضاء الإنسان بالإنسان.

والآن لو حدث أن أحدهم كان غير قادر على المشاركة في المجتمع المدني بسبب من انحراف يعانيه، فإنه يكون أسوأ من الإنسان، بل هو وحش إن جاز التعبير. ومن جهة أخرى، إذا كان غير محتاج لأي كان وهو مكتف بذاته إذا جاز التعبير، فإنه أفضل من الإنسان لأنه إله، إذا جاز التعبير. ولذلك يظل صحيحا استنادا الى العقل، أن المدينة لها الأسبقية على الفرد الواحد.

لقد حاول (توما الأكويني) أن يكون قريبا من فكر (أرسطو المنقول له عربياً) لكنه كان (لاهوتياً) فابتعد عنه في النهاية، وأرجع علاقات الناس مع بعضهم ضمن منظمات المجتمع المدني يجب أن يكون مشروطاً برضا الله وتوفيقه.

ابن حوران 14-11-2009 08:36 AM

الانشقاقات المبكرة

على الرغم من المساومة غير الكاملة التي طرحها (توما الأكويني)، استمر النزوع الى تحويل السيادة السياسية (Regnum) من فرع للجماعة المسيحية الى هيئة جماعية مستقلة للدولة، وبقي هذا النزوع يجد عداءً مستحكماً في دعاوى (البابوات) بأنهم يجب أن يشرفوا على الجماعة بكاملها.

كانت أطروحة (مارسيليوس) التي رأت أن مصالح المجتمع كلها يمكن حصرها داخل حدود الدولة الدنيوية، هي المفجر الذي قلب الموازين من سلطة الكنيسة الى المصالحة مع الكنيسة ثم أخيرا الاستغناء عن الكنيسة.

لقد اقتنص (دانتي أليجيري Dante Alighieri) فكرة من مارسيليوس مفادها: وجوب استعادة السلام المدني الذي عطلته الكنيسة بتطفلها في الشؤون الإيطالية، وادعاء البابوات بالحصانة الكنسية إزاء سلطة الدولة. فقد اعتبر هذه التعديات على واجبات الميدان السياسي مسئولة عن تقويض التوازن الذي رسم حدود مجتمع مدني مسالم على نحو معقول.

(1)

لقد ركز (دانتي) على مسألة واحدة، اعتبرها أساساً لفكرة الحكم السياسي (الأرضي)، وهي حاجة الناس للسلام والسكينة والأمن. فإن تحقق لهم ذلك فإن عطائهم وإنتاجهم وحركتهم نحو التقدم ستزيد، وبعكسه فإنهم يبقون في حالة خوف وعدم اطمئنان على مشاريعهم وأموالهم وحياتهم.

لكن، من سيقدم لهم العون في تحقيق ذلك؟ يجيب دانتي: إنها الحكومة الواحدة (حكومة عالمية واحدة!) التي يجب أن تكون مفهومة، بمعنى أنها تحكم البشرية على أساس ما نشترك فيه جميعاً وأنها تقود الجميع نحو السلام بقانون عام.*1

وإن وجود إرادة واحدة توجه الجميع هو الشيء الوحيد الذي يضفي معنى على تنوع الغايات البشرية. ف (الملِك) يخدم الله لأنه هو فقط من يستطيع (حمل البشر على الخضوع لنظام واحد من القبول والرفض).

ما دام الإمبراطور والبابا يمثلان (نوعين مختلفين من السلطة) التي لا يمكن المساس بها، فإن السلطة الزمنية للإمبراطور تتنزل مباشرة من الله دون توسط الكنيسة*2.

لكن دانتي كان على معرفة بحدود محاججته، فهو يعلم أن الإمبراطور الكلي للعالم لا يستطيع الإلمام بكل تفاصيل الحياة في مختلف الأقاليم، فقال: (إنه ليس من الخطأ القول إن كل تنظيم لكل مدينة لا يمكن أن يأتي من الحكومة العالمية مباشرة، لأنه حتى القوانين البلدية تكون أحياناً قاصرة وبحاجة الى تعديلات مستمرة.

(2)

كان لدانتي خصوم ألداء، فقد واصل البابا (إنوسنت الثالث Innocent III) و (إنوسنت الرابع Innocent IV) الإعلاء من مقام السلطة البابوية وادعاء السلطة على مجالات الحياة الدنيوية.

لكن (المرسوم البابوي Unam Sanctum) الشهير الذي أصدره البابا (بونيفيس الثامن Boniface VIII) عام 1302م دفع بالنزاع الى أشد مراحله تطرفاً بالنسبة للسلطة البابوية. وكرد فعل على سعي (إدوارد الأول Edward I) ملك إنجلترا و (فيليب الجميل ملك فرنسا) لفرض ضريبة على أملاك الكنيسة، فأعلن البابا، أنه لا سلطة فوق الكنيسة إلا سلطة الله.

لم تمنع الاحتجاجات الكنسية، الملك الفرنسي (فيليب الجميل) من إرسال جنوده للقبض على البابا بونيفيس الثامن، ولكن الموت سبقهم إليه.

(3)

انتقل الصراع الى (الكرادلة) الذين انتخبوا بابا على الفور، وواصلوا صراعهم مع السلطة ليبدأ قرن من الزمان سمي ب (الأسر البابلي 1309ـ 1378)، وضعت خلالها نظريات من قبل الكنيسة انشق عليها الراهب الدومنيكاني (جون الباريسي Dominican John of Paris) الذي دافع عن السلطة المستقلة للإمبراطور.

حُسم النزاع أخيراً لصالح الدولة القومية، بسبب التطورات الاقتصادية والسياسية، التي أنحى (مارسيليوس البادوي) باللائمة على البابوية بسبب الفساد والحزازات الفئوية والعنف المستشري في شمال إيطاليا، وقال أن الكنيسة أضعف من أنها تستطيع التماشي مع تلك التطورات وتساهم في تنظيم المسائل الدنيوية الأخرى. وتوقع (مارسيليوس البادوي) نهاية تقاليد العصور الوسطى برمتها.

وقد ساهم كتاب (مدافع عن السلمDefensor Pacis )*3 الذي ألفه (مارسيليوس البادوي) في معالجة الشرور الناجمة عن تعديات البابوية في الميدانين الروحي والزمني، وعواقبها السيئة على السلم المدني.

وبدأ مارسيليوس البادوي بالحاجات الإنسانية الأهم وتطلع الى أن تنظم الدولة المجتمع المدني حتى يتمكن الناس من العيش المشترك بسلام.

(4)

مما جاء بكتاب (مدافع عن السلم): (( لا يمكن للمجتمعات المدنية بوصفها مجتمعات ذات روابط منظمة سياسياً وأكثر سعة من العائلة أن تصبح مجتمعات كاملة ومكتفية ذاتيا كما أرادها الله من دون وجود السلام. فالبشر يحيون نوعين من (الحيوات) الخيرة: الحياة الزمنية والكونية والحياة الأبدية السماوية والمجتمع المدني هو منزل الحياة الأولى، وهو يشمل المدى التام لحياتنا على الأرض. ولكونه وجد أصلاً من أجل الحياة، فإنه يتشكل من الفصل في النزاعات وحبس المخالفين ومعاقبتهم، وحماية ما هو مشترك، والإعلاء من قيمة عبادة الله وتمجيده. أما حياة الكنيسة فمتضمنة ومحددة بالمؤسسات السياسية لمجتمع مدني دنيوي)).

رفض (مارسيليوس البادوي) لوجود أي صلة بين عمل الدولة وعمل الكنيسة، ودعا الكنيسة الى الانشغال بالدراسات اللاهوتية، وترك الشأن السياسي والدنيوي لسلطة الحكومة.

انتهى الفصل الثاني (الصفحات 73ـ 119)


هوامش
*1ـ ليلاحظ القارئ الكريم، أن تلك الأرضية الفلسفية كانت ولا زالت تغلف الخطابات السياسية والأيديولوجية التي توجه الإمبراطوريات في توسعها، زاعمة أنها وحدها القادرة على القيام بذلك.. فالمعارك الإغريقية والرومانية والفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية وحروب نابليون بونابرت وهتلر وبوش كلها تندرج تحت هذا المعنى.

*2ـ تعتبر هذه أول إشارة لتحدي (الهرمسية) التي سادت ردحا من الزمن ولا زالت جذورها قائمة في العالم. وهذه الظاهرة تكونت بعد موت نبي الله (إدريس) عليه السلام، حيث حار الناس بمن يكون إدريس(هرمس): هل هو الله أم ملك من الملائكة؟ فتم الاتفاق على أنه وكيل الله في الأرض، فكان شكل البابا في الفاتيكان أو في الكنيسة الأرثوذكسية أو القبطية ممثلاً لله في الأرض، وقد كان للمراجع الدينية (الشيعية) شكلاً قريباً من ذلك.

*3ـ كتاب فيلسوف إيطاليا (مارسيليوس البادوي)، وهو أحد الكتب الأساسية في النظرية السياسية خلال العصور الوسطى. كُتب في باريس بين عامي 1320 و 1324م انتقد فيه السياسة البابوية وبعد أن ذاعت شهرته هرب الى بافاريا الى بلاط الملك لويس الرابع. [ هذا من تهميش المؤلف].

ابن حوران 03-12-2009 10:32 AM

الفصل الثالث:

المجتمع المدني والانتقال الى الحداثة

الفضيلة والسلطة

إن الحقب الانتقالية ليست يسيرة على الإطلاق، والانتقال الى الحداثة ليس استثناء. فلقد أسفر انحلال الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية في القرون الوسطى الى استشراء قدر عظيم من الفوضى والاضطراب، حال دون بلورة نظرية متسقة عن المجتمع المدني.

كان من الواضح أن المقولات القديمة لم تكن وافية، ولم تكن المقولات الجديدة قد برزت بعد، ولم يعد بالإمكان فهم المجتمع المدني بوصفه جماعة سياسية ودينية شاملة، ولكن البنى الاقتصادية والسياسية الحديثة كانت لا تزال في طفولتها الأولى. وكانت السلطة النامية للأسواق القومية والدول القومية تَطحَن لبعض الوقت بُنى الإقطاع التراتبية للمكانة والرتب والطبقات الاجتماعية قبل الهجوم المدمر الذي شنه عصر النهضة وحركة الإصلاح.

(1)

كانت مرحلة التحول تلك مشوبة بفسادٍ سياسي، جعلت من المفكرين في ذلك العصر أن يشغلوا عقلهم في الخلاص مما كانت الدولة تمر فيه، فقاد هذا الوضع (نيكولاي مكيافيللي) الى حسم العلاقة بين ما هو دنيوي وما هو ديني، ولكنه لم يستطع الخروج عن المقولات الجمهورية المألوفة.

إن اقتصاد السلطة الدنيوية الذي جاء به مكيافيللي، وحرية الضمير التي نادت بها حركة الإصلاح المدني استبقت نشوء مجتمع مدني منظم على أساس المصالح الخاصة. وأعلن (توماس هوبز) ميلاد فرد مصلحي جديد ينشط في مجتمع مدني تنظمه سلطة الدولة. وإن هي إلا مدة قصيرة حتى انهارت محاولة العصور الوسطى لفهم (الكنيسة والدولة) بوصفهما سلطتين تشريعيتين متكاملتين لجماعة مسيحية واحدة.

انتقد مكيافيللي تمركز السلطة في كل من الكنيسة والاستبداد الملكي على حساب نظام مركب من المؤسسات الوسيطة والأديرة والبرلمانات والمدن والأصناف الحرفية والطبقات الاجتماعية التي ميزت مشهد النظام الإقطاعي في أواخر عهده.

(2)

ركَزَ مؤلف الكتاب (جون إهرنبرغ) على أبرز ما تناوله كتاب (الأمير) لمكيافيللي، ومن يتمعن بالنقاط التي ركز عليها المؤلف، سيتعرف على حِراكٍ كان قائماً في تلك المجتمعات الآخذة بالتحول، لتقود في حراكها التوجهات السياسية لدى النُخب الأوروبية لما آلت إليه العلاقة بين الدين والدولة.

يقول مكيافيللي: إن النظام السياسي المتين يستند الى رضا السكان، ويستلزم احترام عاداتهم، واحترام أسس النظام الاجتماعي القائم. فالأمير (يجب أن لا يغير قوانينهم ولا ضرائبهم) وأن يحذر من التصرف غير المحتشم مع النساء، ويحاول أن يحكم المدن المفتوحة من خلال مواطنيها ومؤسساتها هي بالذات. وقبل هذا وذاك، من الضروري ألا يغفل الأمير أبداً عن العنصر الأهم المتمثل في أملاك رعاياه الخاصة، فعلى الأمير (أن يمنع نفسه بممتلكات الآخرين، لأن الرجال ينسون موت آبائهم أسرع من نسيان ضَيَاع ممتلكاتهم)

تعليق:

كان الأمراء في أوروبا في تلك الحقبة، إذا ما رأوا بستاناً ذا حدائق غناء أمر رجاله بطرد أصحابه وضمه لممتلكاته، وإذا ما رأى فتاة أو امرأة جميلة، أمرهم بإحضارها وقتل من يريد الدفاع عنها (زوجها، أو والدها). هذا الأمر ظهر بكتابات (مونتسكيو) عندما طالب أنه لا يجوز قتل شخص إلا بقانون، ولا يجوز الاستيلاء على أرض إلا بقانون، ولا يجوز سن قانون إلا بموافقة ممثلي الشعب، وكانت تلك النواة الأولى لفكرة الديمقراطية الحديثة.

ولو عدنا في منطقتنا العربية، الى بداية القرن العشرين، لرأينا تصرفات الإقطاعيين لا تختلف كثيراً عن تلك التصرفات، فكان الإقطاعي يعبث بعفاف نساء الفلاحين لديه، وله زبانيته الذين يصدون من يعترض، من خلال حظوات اكتسبها الإقطاع في الفترات التي سبقت انهيار الإمبراطورية العثمانية. وما أن أخذت الدولة العربية بالتكون، حتى شاهدنا من فقدوا امتيازاتهم الإقطاعية يهرعون للوقوف ضد التغيير، تارة بالتباكي على زوال (دولة الخلافة!) وتارة بزعمهم معاداة التقليد الغربي. وهم بالحقيقة لا يهمهم سوى ما فقدوه من امتيازات، ولا زالت تلك الفئات وما شابهها تشكل عائقاً كبيراً أمام الانتهاء من تشكيل الدولة العربية الحديثة التي تخلو من لوائح الاستثناءات والمستثنيين.

(3)

يقول مكيافيللي: ( إذا كان الأمير هو الذي يبني سلطته اعتماداً على الشعب، وكان رجلاً قادراً على القيادة وشجاعاً، غير آيسٍ في ساعات المحنة، وغير هياب من اتخاذ التدابير، حائزاً الولاء بفضل المؤسسات التي شادها، وبما له من صفات شخصية، إذا كان الأمير كذلك فلن يخذله الشعب مطلقاً، وسيكون قد شاد سلطته بإحكام)

ويقول في مكان آخر: (على الأمير أن يشجع الرجال المقتدرين، ويُكرم المتفوقين في أعمالهم. وعليه أن يوفر الأسباب ليمضي المزارعون والصناعيون والتجار بأعمالهم بسلام، فعلى المرء ألا يخشى من تحسين ممتلكاته مخافةً أن تُسلب) و (عليه أن يُدخل البهجة في أوقات مناسبة من السنة في قلوب الناس من خلال الاستعراضات والمهرجانات).

وما دام أن مجتمع المدينة مقسم الى أصنافٍ حرفية وعائلية فيجب أن يحظى كل صنف برعاية تحسسه بمواطنته وعضويته في حلقة أو دائرة في المجتمع المدني.

(4)

إن في كل جمهورية نزعتين مختلفتين: نزعة العامة ونزعة الطبقة العليا، أما التشريع الملائم للحرية فيتحقق نتيجة الفهم للصراع بينهما. لا يمكن إزالة الصراع الاجتماعي، ولكن يمكن جعله صراعاً مدنياً من خلال مؤسسات مناسبة، وحياة عامة نشطة، وقيادة خلاقة.

تسقط الدول عندما ينحط الصراع الاجتماعي الى مستوى نزاعٍ سياسي. بيد أن مكيافيللي كان واثقاً من أن مثل هذا الصراع يمكن أن يعزز الحرية إن تمكنت المؤسسات السياسية من حل الجدالات الحتمية التي تنشأ عن الصراع الطبقي أو عن المصالح الشخصية.

عندما يتم تعيين أو انتخاب المدافعين عن العامة فإن النظم المستبدة الملكية ستتحول الى دول أرستقراطية ثم تواصل طريقها للتحول الديمقراطي.

(5)

تحمل كل الدول بشكل طبيعي جرثومة الانحطاط، فالقوة والثروة الزائدة مع غياب المؤسسات التي تصون الدولة، تسحبان الدولة الى الفساد رغم وجود تألق ثقافي.

وأحياناً يكون ضغط العامة لإيجاد وظائف لمدافعين عنهم، تجعل هؤلاء المدافعين يدخلون في نزاع أو تفاوض مع النبلاء وعلية القوم (في الدولة التي لم تصل بعد الى الديمقراطية) لتقاسم الألقاب والامتيازات. وهذا سيقود الى إجهاض حالة الصعود في تشكيل الدولة الصلبة.

إذا كان العامة يرغبون في قبول فقرهم لأنهم حظوا بالتمثيل السياسي (فالفضيلة كانت تُلتمس مهما يكن البيت الذي تقيم فيه. فجعلت طريقة الحياة هذه من الثروات أقل جاذبية). ولكن تبين أن ضغط طبقة النبلاء المتواصل، واشتداد قلاقل العامة، وفشل المؤسسات السياسية، هي توليفة قاتلة.

(6)

من هنا تأسست فكرة ضرورة إيجاد المجتمع المدني بمؤسساته الفاعلة، فالبرلماني الذي لا ينتمي الى هيئة اجتماعية تساعده في تكوين رأيه واتخاذ موقفه المنسجم مع موقف الدائرة الاجتماعية التي أوصلته للبرلمان، وتحاسبه إذا ما انحرف، سيكون منشغلاً منذ اليوم الأول في تحقيق مكاسبه الشخصية على حساب مصالح المؤسسة المدنية (مؤسسة المجتمع المدني) التي انتخبته. وهذا ما يجعل من الانتخابات البرلمانية المنقوصة في كثير من البلدان، عبئاً إضافيا على المجتمع ودولته وميزانيته، ويقود الى الفساد وخراب الدولة.

يتبع

ابن حوران 22-12-2009 11:49 PM

المجتمع المدني والضمير المتحرر

لقد كانت حركة الإصلاح الديني في ألمانيا تدور حول فكرة (مارتن لوثر) بأن هناك دوراً مركزياً للتجربة الباطنية للإنسان، التي تقلل تماما من قيمة الخدمات الظاهرية التي يؤديها رجال الدين. وكان لهذا الدفاع عن ميدان الحياة الشخصية الذي لا يمكن النفاذ إليه أثره العميق في مفاهيم المجتمع المدني الحديثة.

دخل مارتن لوثر في صراع مع الكنيسة من خلال طرحه لتساؤلات هامة فتحت الأبواب لجذب الأتباع مثل: (لماذا يناصر الله الباطل؟ [باعتبار سلوك الكنيسة في زمنه وحسب رأيه باطلاً] و (الله لا تسترضيه الأفعال الظاهرية). أدار مارتن لوثر ظهره لعالم مسيحي استند الى تراتبية وسلطة كنسيتين.

(1)

لا يمكن معالجة مفهوم النعمة الإلهية باعتبارها ثمرةً لصفقة تنال فيها الكائنات البشرية رضا الله بموجب أفعال ظاهرية. فلا البابوات ولا القرابين المقدسة ولا القوانين ولا القساوسة ضروريون لأجل الخلاص. فالتعبد، والطقوس، والشعائر الدالة على الخضوع الظاهر لم تكن بدائل مقبولة عن طهارة القلب والعقل.

يقول لوثر: إن الضمير هو مركز الإيمان، (( فلا البابا ولا الأسقف ولا أي كائن آخر له الحق في فرض أمر واجب على الإنسان المسيحي من دون رضاه)).

لم يتنكر مارتن لوثر للقول المسيحي القديم القائل بأن المرء يعيش حياته من أجل الآخرين، ولكنه اعتبر أن الأعمال التي لا تنبع من الإيمان بالله ونيل رضاه، لن تكون أعمال خير حتى وإن بدت كذلك، فالصالح بإيمانه يأتي بأعمالٍ صالحة والطالح يأتي بأعمالٍ طالحة. وهذا كله يعود لنقاء الضمير.

(2)

كان لوثر يأمل في أن تقوم الكنيسة بإصلاح نفسها، ولكنه اكتشف أنه لا يمكن أن تقبل الكنيسة بأدوار صغيرة، فلجأ حينها بالاستعانة بالسلطة الدنيوية لمعالجة وضع الكنيسة، لكنه أدرك فيما بعد أن مسائل الإيمان لا تقع ضمن مسئوليات الأمراء، وأن المجمع الكنسي هو فقط من يستطيع تناول المسائل اللاهوتية، فانحرف باتجاه أن مسئولية المجتمع المدني (المواطنين بهيئاتهم) هي من مسئولية الأمراء، وطالما أن هذا المجتمع يتعرض لحيف من الكنيسة، فعلى الأمراء التصدي للكنيسة من أجل إصلاحها.

سرعان ما جابه لوثر المواقف الثلاثة الجوهرية السائدة في زمنه وهي: أولوية السلطة الروحية على السلطة الدنيوية، والحق البابوي في تأويل الكتاب المقدس، والسيادة البابوية على المجمع الكنسي العام. فشرع في تهديم كل واحد من هذه الجدران الثلاثة على التعاقب.

(3)

رفض لوثر المزاعم القائلة بأولوية السلطة الروحية على السلطة الدنيوية، وعمل على إقامة أساس لاهوتي للفصل بين الكنيسة والدولة، وهذه الخطوة الأولى الحيوية نحو قيام نظرية حديثة عن المجتمع المدني. وأعلن أن للمسيحيين مهمات مختلفة في العالم ولكنهم جميعا أعضاء متساوون في الكنيسة وإن التقسيم الاجتماعي للعمل لا ينطوي على تراتبية متفاوتة في الشرف أو الخلاص.

إن جميع المسيحيين ـ القساوسة والحدادين والمزارعين والأساقفة والإسكافيين والأمراء سواء بسواء ـ مسؤولون الواحد عن الآخر وعن المجتمع ككل. إن تمايزات المجتمع المدني المميز لا تمس البتة في مساواة المؤمنين. وإن النظام الدنيوي ضروري للروحي.

كان لوثر بكلامه هذا، يبرر مسبقاً للأمراء بأن يتدخلوا في شؤون الكنيسة كون القساوسة رعايا مثلهم مثل بقية المواطنين.

وعند الجدار الثاني: أي تأويل الكتاب المقدس وحصره بالبابا، فقد قال أن مفاتيح الفهم قدمت لجميع المؤمنين فكل المؤمنين قساوسة وكلهم بابوات.

أما الجدار الثالث، وهو سيادة البابا على المجمع الكنسي العام، فقد استنبط لوثر منفذاً يسمح للمؤمنين بمحاكمة المجمع الكنسي إذا ما لعب به الشيطان، وهنا يكون للأمراء ـ كونهم من المؤمنين ـ الحق في محاكمة المجمع الكنسي وليس البابا وحده.

(4)

عندما أحرزت حركة لوثر زخما قويا، ذهب الى أبعد من ذلك، فطالب الأمراء بوقف (البهرجة) في طقوس الرهبان وملابسهم، ودعا الأمراء الى إجبار القساوسة على الزواج، وطالبهم برفع أيديهم عن تنظيم التجارة والصناعة، كان هذا في مسودة قدمها عام 1520.

إن فكرة المساواة والضمير، فتحت الأبواب أمام الفلاحين والأجراء ليقوموا بثورتهم عام 1524ـ 1525، فقاد لوثر (المستعين بالأمراء) الى الوقوف ضد تلك الثورات، مبررا أن تساوي الأرواح لا يعني تساوي الأجساد، ويخطب بالعبيد والفلاحين: ألم يكن للأنبياء عبيداً وخدماً؟

يجوز للعبد والمريض والسجين أن يكون مسيحيا ولكنه ليس حراً!

على المسيحيين أن يطيعوا السلطات الدنيوية لضمان الاستقرار ولأن السلطة تمنع تسلل اللاأخلاقيين وتمنع الشرور، اعبدوا الله بضمائركم وأطيعوا السلطات. هذا موقف لوثر.

ابن حوران 12-01-2010 10:55 AM

السيادة، والمصلحة، والمجتمع المدني

كان ظهور كتاب (اللوياثان Leviathan) في العام 1651 البرهان البالغ الأهمية الذي قدمه (هوبز) على أن المجتمع المدني لا تقوم له قائمة من دون سلطة الدولة. فجهده القوي لإظهار "قلب" و "أعصاب" و"مفاصل" الجسم السياسي انتهى الى نتيجة مؤداها أنه يجب دمج هذه الأعضاء في مصدر مهيمن واحد، إذا كان يُراد للمجتمع المدني أن ينتظم، وللسلم المحلي أن يتوحد.

إن إيجاد (كائن مصطنع Artificial Man) تُنفخ فيه (روح سيادة مصطنعة Artificial Soul of Sovereignty) هو وحده الذي يستطيع أن يُنزل نِعَم الحضارة للأفراد الذين تتأتى أخطارهم الجماعية من مساواتهم ورغباتهم. لقد بحث (هوبز) المذعور من الثورة الإنجليزية، عن ملاذٍ في إقامة دولة ذات حدود مشتركة مع المجتمع المدني، ومؤسسة لهذا المجتمع الذي يُفهم، بحسب التعبير الحديث، ميداناً يمور بنشاط المصلحة الشخصية.

(1)

إن مخطط نظرية هوبز العامة معروف بما فيه الكفاية (القول للمؤلف). فانعدام الأمن المستشري الذي يقدم له المجتمع المدني علاجاً هو النتيجة الحتمية لرغبة الإنسان الدائمة في حيازة السلطة لغرض حماية نفسه. ونتيجة انعدام الأمن هذا، فإن جوع الإنسان الى مراكمة السلطة ـ " وسائله الحالية للظفر بخير مستقبلي ظاهر *1 " ينتقل به من شيء الى آخر، وإحرازه لشيء ما هو إلا مجرد حافز لإحراز شيء آخر أيضاً.

إن الفرد الجديد الذي يحسب حساب المصلحة (Calculating Individual) يحدد لنفسه أهدافه الشخصية في غياب " الخير الأعظم " الذي سوف يقصده الناس كافة طواعيةً.

إن الإنسان يأمل في الحصول على لذةٍ أكبر مما كان قد حصل عليه، أو أنه لا يستطيع الاقتناع بسلطة معتدلة. إن الحاجة الى مراكمة المزيد من السلطة أمر ملازم لجوهر الشرط الإنساني.

إن هذه "الرغبة في حيازة سلطة إثر سلطة " يشكل تهديداً عارما باندلاع حرب بلا نهاية ما لم توضع هذه الرغبة تحت السيطرة. والمفارقة العظيمة في حياتنا الإنسانية هي أن رغبتنا البسيطة في الأمن، وقابلياتنا المتساوية في العدوان، يسفران معاً عن وضعٍ لا يُطاق.

عندما يرغب الناس في الأشياء نفسها و (لا توجد سلطة قادرة على إرهاب الجميع) فإن الاضطراب المتساوي والقابليات المتساوية والرغبات المتساوية تنتج حالة حرب دائمة.

في ظرف كهذا لن تكون ثمة صناعة؛ لأن ثمارها غير مؤكدة، ولا حراثة للأرض؛ ولا ملاحة للبحر، ولا فائدة مرجوة من استيراد البضائع عبر البحار، ولا عملية بناء واسعة، ولا وسائل للنقل، أو لرفع تلك الأشياء التي تحتاج الى قوة؛ ولا معرفة لنا بوجه البسيطة؛ ولا تقدير للزمن؛ ولا فنون؛ ولا آداب؛ ولا مجتمع، لن يكون هناك سوى الأسوأ: خوف دائم وتحسب من خطر الموت العنيف؛ وحياة يقضيها الإنسان منعزلاً وبائساً ومقرفاً ومتوحشاً وفظاً، حياة قصيرة*2

(2)

من المستحيل قيام المجتمع المدني من دون (سلطة عامة)، ولسوف تجعل فوضى الشرط الطبيعي الإنساني من الحياة نفسها أمراً مستحيلاً. والمفارقة العميقة هي أن كل فرد يعتمد على عقله الشخصي ينتهي سريعاً الى وضع لا يُطاق بالنسبة للجميع.

ليس بوسع الناس العيش بسلام ما لم يرغبوا في التخلي عن (حقهم في الأشياء كلها)، ويقنعوا بدرجة محدودة من الحرية. ينتج عن هذا التخلي عن حساب مصلحي معين، مفاده أن منافع السلم تفوق ما يخسره الناس حين لا يعولون على فطنتهم أو لا يكونون هم من يبت في المسائل التي تهمهم.

لا تقوم للمجتمع المدني قائمة ما لم تُنفذ العهود وتُحترم الاتفاقيات. فإذا ما وثق الناس بأن الآخرين قادرون على السيطرة على أنفسهم، يكون بوسعهم العيش معاً بقدر كبير من الاطمئنان.

يجب أن تكون هناك سلطة قسرية تجبر الناس، سواءً بسواءٍ، على تنفيذ مواثيقهم من خلال رادع العقاب الذي يكون أعظم بكثير من المنفعة التي يتوقعونها من نقضهم للميثاق*3

(3)

إن العنصر المهم في المجتمع المدني لدى (هوبز) يعود الى الجماعة المنظمة سياسياً، ويعني ذلك صهر الدولة (المجتمع الحاكم) مع المجتمع (الكلي)، بتأسيس طوعي واتفاق دائم بين الطرفين لإتاحة حرية التعبير لمنظمات المجتمع المدني في معاونة الدولة (الحكومة) وردعها بحالة انحرافها، فهذا يصنع عقلاً عاما يحمي المجتمع.

إن الطريقة الوحيدة لإقامة سلطة عمومية كهذه، سلطة قادرة على الدفاع عنهم بوجه غزو أجنبي، وبوجه المظالم التي يسببونها بعضهم لبعض، وبذلك يحيون في طمأنينة عندما ينالون قوت يومهم بنفس راضية بمعونة الصناعة أو غلال الأرض، هي نقل سلطتهم كلها الى شخص واحد قوي أو الى مجلس من الرجال يصهر إراداتهم كلها من خلال تعددية الأصوات في إرادة واحدة، فيقر كل واحد من أبناء المجتمع بما يفعله أو يقرره ذلك الرجل.

إن العمل السياسي هو الذي يؤسس المجتمع المدني، وليس ثمة اختلاف بين القانون والأخلاقية، وتوضع السلطة كلها في يد صاحب السيادة، أما القوة فهي التي تشكل الدولة والمجتمع المدني بالطريقة نفسها.

خاتمة لهذا الفصل

لم تحظ أفكار هوبز تلك بإعجاب عام في وقتها، أي في القرن السابع عشر، لأنه حصر السلطة في فرد ينال شرعيته من وسائل تحددها منظمات المجتمع المدني المنصهرة مع الدولة (الحكومة) من خلال لوائح داخلية تستند الى دستور ينظم علاقة الجميع.

لكننا في الوقت الحاضر ومن خلال تصفحنا للكتابات السياسية والفكرية التي صدرت في القرن الماضي (العشرين) وما يصدر من كتابات في هذا القرن، فإننا لا نستطيع تجاهل نظريات ذلك المفكر والفيلسوف وتأثيره على المفكرين الحاليين في مختلف أنحاء العالم.

يتبع



هوامش من تهميش المؤلف

*1ـ Thomas Hobbes, Leviathan, Edited by C.B. MacPherson (New York: Penguin 1985, p150.
*2ـ المصدر نفسه صفحة 186.
*3ـ المصدر نفسه صفحة 202



ابن حوران 30-01-2010 01:42 PM

القسم الثاني: المجتمع المدني والحداثة

الفصل الرابع: نشوء (الإنسان الاقتصادي)

عندما أخضع نيكولاي مكيافيللي الإيمان لمصالح الأمير والجمهورية المدنية، أحدث قطيعة مع العصور الوسطى. وأفرَد تشديد مارتن لوثر على حرية الضمير الفردي قوة كبيرة للسلطات السياسية التي كانت مسئولة عن تنظيم المجتمع المدني حول الحاجات الظاهرية لمجتمع مؤمن. والكثير من هذا يصدق على إعلان (هوبز) أن المجتمع وُجِدَ بسبب فاعلية قوة السلطة التي يتمتع بها صاحب السيادة وحده. ما من شخصية من هذه الشخصيات الانتقالية الثلاث السابقة قد عول على القوى السماوية لتطبيق المعايير العامة التي تمكن من تعيين الأهداف الجزئية والسعي وراءها.

الحقوق، والقانون، والميادين المحمية

(1)

في دفاع (جون لوك) عن (الثورة المجيدة) في إنجلترا، لم يبدأ بمهاجمة (هوبز) بل هاجم حجة البلاط القائلة أن السيادة شكلٌ للملكية يمكن أن يورث من ملك الى ملك، وهي حجة كانت أسرة ملوك ستيوارت (1603ـ1688) تسوقها لحقبة طويلة لدعم مزاعمها بالسلطة المطلقة.

جادل (جون لوك) بأن سلطة الدولة اللامحدودة سوف تقوض الأمن الذي صُممت هذه السلطة لحمايته أصلاً، وسوف تجعل من قيام المجتمع المدني أمراً مستحيلاً. كان (هوبز) قد فشل في مسألة أن الحفاظ على الذات لم يعد بحاجة الى سلطة صاحب السيادة، السياسية الآمرة، فالحفاظ على الذات يمكن أن يندمج الآن مع حماية الملكية.

إن الأرض وُهبت في الأصل لجميع بني البشر كي ينعموا بطيباتها، ولكل فرد الحق في أن ينال رزقه من هبات الطبيعة. يقول (لوك): (لكني سأحاول أن أبين كيف تسنى للناس أن يتملكوا بضعة أجزاء مما وهبه الله للبشر جميعاً، ومن دون أي اتفاق صريح بين عامة الناس)!

تعليق مبكر:

حاول لوك أن يبين في الفقرات التي ذكرها مؤلف الكتاب عن الكيفية التي يمكن للفرد أن يتملك بها، فذكر الجهد وحماية الدولة لملكية الفرد، ولم يتطرق لهبات الدولة للأفراد أو استغلال أصحاب المال لحاجات الناس للتخلي عن أراضيهم مقابل بعض المال الذي تحدده الحاجة، ولم يتطرق للأراضي التي تنتقل للإفراد عن طريق الإرث بغض النظر عن الطريقة التي حصل عليها الآباء والأجداد.

وهذه مسائل دار ويدور حولها النقاش الاقتصادي في مدارس الفكر السياسي المختلفة من اشتراكية ورأسمالية وغيرها.

(2)

المجتمع المدني الذي وفر الفعل السياسي فرصة قيامه، وأسسته حاجات المِلكية الخاصة، لم يخلق أي حقٍ جديد، بل سجل فقط نقل السلطة التي كانت بيد الأفراد لحماية أنفسهم في حال الفطرة الى سلطة عامة شرعية. فالناس شكلوا المجتمع المدني لأن قوة مصالحهم الجزئية جعلت من الصعوبة بمكان تنظيم سلطة عامة (لغرض تنظيم المِلكية الخاصة وحفظها).

أراد (لوك) أن يقول: أن الغاية الرئيسية للرابطة الإنسانية، في المجتمع المدني، كما هي الحال قبل التفكير فيه، كانت حماية المِلكية الخاصة، فعندما كان الإنسان العاقل يثق بقدراته للدفاع عن مِلكيته الخاصة لم يفكر في تأسيس تقليد جديد يتم فيه التعاون مع الأفراد الآخرين للدفاع عن تلك المِلكية، وعندما أحس بعقله أنه لم يعد باستطاعته الدفاع عن تلك المِلكية، دون التعاون والتنسيق مع الآخرين، فكر بموضوع المجتمع المدني.

يتدرج لوك في تفكيره لشرح موضوع المجتمع المدني انطلاقاً من (الحفاظ على المِلكية فيقول: (السلطة التي يملكها كل إنسان في حال الفِطرة (الطبيعة) ويتخلى عنها للمجتمع ومن ثم للحكام الذين نصبهم المجتمع عليه بثقة صريحة أو ضمنية، لتستخدم من أجل صالحهم، وحفظ ملكيتهم).

(إن الغاية العظيمة والرئيسية للناس المتحدين في جماعات سياسية، يضعون أنفسهم تحت قيادة حكومة، هي المحافظة على ملكيتهم)

(إن أولئك المتحدين في هيئة واحدة، ولديهم قانون ونظام قضائي راسخان وعموميان يمكنهم أن يحتكموا إليهما، ويتمتعون بسلطة للفصل في النزاعات التي تنشب بينهم، ومعاقبة المعتدين، أقول إن أولئك إنما يعيشون في مجتمع مدني: أما أولئك الذين يفتقرون الى مرجعية في هذا العالم يحتكمون إليها فما زالوا في حال الفطرة. فكل واحد منهم، بمعزل عن الآخرين، يحكم وينفذ لنفسه بنفسه).

(3)

لقد كان لتركيز (لوك) على المِلكية الخاصة، والحقوق التي يجب حمايتها من قبل الدولة، أثرٌ بل آثار في تشكيل الليبرالية الحديثة، حيث أصبحت النظرة الأساسية في هذا النمط من التفكير، هو خلق الثروة ومراكمتها.

لقد راق للمفكرين خلال قرن من الزمان فصل بين (جون لوك) الذي فَصَل في كتابه (رسالة ثانية في الحكم) وبين كتاب (آدم سميث) المدوي (ثروة الأمم)، لقد راق لهم فكرة أن المِلكية مستمدة من الطبيعة وليس من العرف أو الامتياز، فنشط المفكرون خلال قرن كامل والذي يسمى بقرن أو عصر (التنوير) في استخدام الحق الطبيعي لتقويض السلطة القائمة على خرافة التفويض الإلهي للحاكم المفوض بموجب مباركة الكنيسة.

وافق جميع المفكرين تقريباً على أن الملكية الخاصة شرط ضروري للاستقلال الخلقي. فبقدر ما يكون الفرد حائزاً على ممتلكات، يكون حُراً في إعمال عقله ومقاومة الخوف والخنوع.

بيد أن النزعة الفردية لم تفضِ بسهولة الى نشوء نظرية متماسكة عن الواجب السياسي، وكان مفكرو عصر التنوير الأوائل عُرضة لاتهام مفاده أن استقلالية الشخص العقلاني تهدد التكافل والمجتمع. فجاءت محاولة (آدم سميث) الشهيرة في نهاية هذا العصر للتوفيق بين الرغبة الخاصة والفضيلة العامة.

هوامش:
* جون لوك: فيلسوف إنجليزي تجريبي ولد في 29/8/1632 في إقليم سمرست، مارس الطب، كان ناصحاً لأنتوني آشلي (وزير العدل الإنجليزي) بعد أن أجرى له عملية جراحية، ففتحت صداقته معه عيونه للانصراف للفلسفة وأمور الدولة، كان معروفاً بأنه الفيلسوف المعادي للفطرية[ من موسوعة الفلسفة/ عبد الرحمن بدوي/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/بيروت ط1/1984 صفحة 375 من الجزء الثاني].

ابن حوران 20-02-2010 09:15 AM

الأسس الأخلاقية للمجتمع المدني

أراد آدم فيرغسون، وهو أحد قادة مفكري عصر التنوير الاسكتلندي في القرن الثامن عشر، أن يقيد السلطة السياسية الجزافية، وأن يخفف نفوذ المصلحة الخاصة عبر تأسيس المجتمع المدني على مجموعة من المشاعر الأخلاقية الفطرية*1

فيما كان (هوبز) و (لوك) يريان في المجتمع المدني وسيلة ينتجها التعاقد وتضمنها السياسة بيد أفراد اجتمعوا لتحصيل غاية مقصودة، ومع أنهما وبسبب تشديدهما على الصراعات الشخصية، فشلا في تقديم تفسير مقنع للروابط الاجتماعية؛ فإن (فيرغسون) شن هجوماً أخلاقياً على فكرة ومنطق (المصلحة الشخصية).

لقد اتفق (فيرغسون) مع العديد من معاصريه على أن (هم العيش والبقاء هو الينبوع الأصلي للفعل الإنساني)، ولكنه كان يدرك بوضوح أن الناس يشكلون المجتمعات لأسباب أوسع من مجرد البقاء. فهم قبل كل شيء، كائنات أخلاقية، ولا يمكن للعقل الذرائعي والتقدم الفردي أن يوفرا حياةً متحضرةً. *2

(1)

أصر فيرغسون على أن الرأفة والتعاون المتبادل، والإحسان هي ما يميز التعاملات البشرية، مثلما يعتورها الجشع والوحشية والقسوة. فالأنانية سوف تدفع الناس الى العيش وحيدين، وفي تنافس مع أقرانهم، ولكن القدرة على الاجتماع الطبيعي تمكننا من العيش مع الآخرين، ومساعدتهم، والإفادة من ميلهم لفعل الشيء نفسه.

ويسهب فيرغسون في المقارنة بين حالتي المنافسة البغيضة ومع حالة الرأفة، فيتساءل مستنكراً: هل السجايا الرائعة موجودة في مواطن الزيف، أم السلاطة، والخيلاء التي تروج فيها الموضة، ويتبختر فيها اللطف المتكلف؟ أم في المدن العظيمة والغنية حيث يعيش البشر متنافسين، بعرباتهم وهندامهم وصيت ثرائهم؟ هل في أفنية البلاط الباهرة، حيث نتعلم الابتسام بلا شعور بالمسرة، ونبدي الحنو من دون عاطفة، وفي السر يجرح بعضنا بعضا بأسلحة الحسد والغيرة، ولا عماد لرفعة قدرنا غير ظروف ليس بوسعنا نيلها بشرف دائماً؟

(2)

لم يكن فيرغسون راغباً في تأسيس المجتمع المدني على عقد، ورفض أن يتأمل في حال الفطرة (الطبيعة) السابقة على المجتمع والسابقة على السياسة. فمن البلاهة العودة الى زمان كان فيه البشر من دون أواصر اجتماعية، لأنهم من دون هذه الروابط لم يكونوا بشراً.

إن (المشاعر العظيمة) التي تؤسس طبيعة البشر الاجتماعية هي عواطف فطرية. والمجتمع المدني هو نمط الوجود البشري؛ فنحن ولدنا فيه وله، ولا يُتصور أننا نستطيع العيش خارجه. فتطورنا الخُلقي ورفاهنا المادي يتحققان من خلال ارتباطنا الحميمي بالآخرين، وليس ثمة تناقض بين المصلحة الذاتية الفردية والرفاه الأخلاقي للمجتمع.

إن حال الفطرة (الطبيعة) ليست جنة عدن القصية الغائبة، إنما هي موجودة هنا والآن، تتشكل حيث يعيش البشر معاً.

إن لدينا سبباً للنظر الى وحدة الإنسان مع أبناء نوعه بوصفها أنبل جزء من حظه. فمن هذا المصدر لا يستمد القوة وحسب، بل يستمد وجود أسعد عواطفه؛ ولا يستمد منه أفضل شيء في طبيعته، بل يستمد جُل طبيعته العاقلة. فإذا ما أُرسل إنسانٌ الى الصحراء وحيداً، فسيكون نبتةً اجتثت من جذورها، وقد يبقى شكلها الخارجي، ولكن ستسقط كل ملكاته وتذبل؛ فتتلاشى شخصيته الإنسانية الفريدة وطبيعته الإنسانية.

وعند الحديث عن الصقل، يقول فيرغسون: لا بد من التمييز الكلاسيكي بين البربرية والحضارة. فالناس البدائيون كائنات اجتماعية من حيث طبيعتهم، ولكنهم لا يستطيعون تطوير روابطهم الى أبعد من أواصر القرابة لأنهم يعيشون في حال البؤس والخضوع. فلا يمكن تأسيس حياة أخلاقية متطورة تماماً في بيئة كهذه، ولكن الانتقال من البدائية الى المجتمع المدني تميز في الرغبة بالأمان، وعزوف الأفراد عن (زج كل فرد في خدمة المنفعة العامة). وعليه كان ثمن نضج الإمكانات الأخلاقية للمجتمع المدني باهظاً.

(3)

يحاول فيرغسون أن يتفرد بشيء ـ وهو فعلا قد فعل ـ عندما يجعل من النمو الطبيعي للتطور في المجتمع أمراً مسلماً به، وأن التسريع في الوصول الى التطور بمدة أقصر يتطلب إرادة ونضال متواصلين. وأنه عندما يكون المجتمع غير مستعد للتسريع فإن سمات الانحطاط والتخلف ستظهر عليه.

(إن الذي كان أول من قال: سأتملك هذا الحقل، وسأتركه لورثتي من بعدي) لم يدرك أنه كان يضع أسس القوانين المدنية والمؤسسات السياسية. وإن الذي كان أول من يضع نفسه تحت إمرة قائد، لم يدرك أنه كان يضرب المثال على الخضوع الدائم بذريعة أن السَلاَب كان يستولي على ممتلكاته، والمتغطرس يطالب بخدمته.

(4)

من أهم إسهامات فيرجسون بالتطوير السياسي في معظم أنحاء العالم، هو قانون النتائج غير المتوقعة Law of Unanticipated Consequences. حيث يبين فيه، أن من المهم ألا نتوقع الكثير من التفكير المتروي والعقلانية، لأن التقدم الأخلاقي في بلد ما قد يأتي من أفعال الناس المصلحية الرامية الى ضمان ملكيتهم، أو زيادة التجارة، أو حماية حقوقهم. فالمجتمع المدني متشكل عبر ممارسات عرضية وعادات بقدر ما يتشكل بفعل قواعد صارمة.

المِلكية الخاصة، في المسار العام للشؤون الإنسانية، غير موزعة بالتساوي؛ لذلك فإننا مضطرون للمعاناة من تبديد الأثرياء للثروة، ومن وجوب إدامة الفقراء؛ ومضطرون لأن نحتمل وجود أنظمة معينة تضع بعض البشر فوق الحاجة للعمل، كي يكونوا بحسب حالتهم تلك، موضوعاً للطموح، ومرتبة يتطلع إليها من يكد ويعمل. ولسنا مضطرين لذكر أعداد الذين قد يُنظر إليهم في اقتصاد صارم على أنهم فائضون عن الحاجة في القائمة المدنية، والعسكرية، والسياسية، ولكن لأننا بشر، ونفضل الشغل، والترقي، والسعادة لطبيعتنا على مجرد كونها موجودة، فيجب أن نتمنى لكل جماعة، أن ينال أكبر قدر ممكن من أعضائها حصتهم من المشاركة في الدفاع عنها وفي حكومتها.

(5)

لم يقتنع فيرغسون بأن التحسن الاقتصادي كان نعمة لا تشوبها شائبة. فلعل الإفراط في الحضارة يمثل كارثة للمجتمع المدني نفسه بسبب التشظي الذي تطلق عنانه المصلحة الفردية وتقسيم العمل. والنمو الاقتصادي غير المُقيد يعني أن (المجتمع قد خُلق ليتألف من أجزاء، لا شيء فيها من المجتمع نفسه).

كان فيرغسون قلقاً بشأن النزعة الفردية ذاتها التي كانت ينبوع التقدم الذي لا ينضب. (إن أعضاء جماعة ما قد يشبهون، بهذه الطريقة، مواطني إقليمٍ محتل، فقدوا الإحساس بأي ترابط، سوى رابطة الدم أو الجيرة؛ ولا يشتركون في شؤون معينة يتعاملون بها، سوى التجارة: إن الترابطات، أو في الحقيقة الصفقات، قد تحوي الأمانة والصداقة؛ ولكن تفتقد الروح الوطنية التي نعاين الآن جَزْرَها ومَدها).

نحن نعيش في مجتمعات لا يكون فيها البشر وُجهاء حتى يكونوا أغنياء؛ حيث تُلتمس اللذة نفسها بدافع الخيلاء؛ وحيث الرغبة في سعادة مفترضة تُلهب أبشع الأهواء، فتغدو هي نفسها أساس البؤس؛ حيث العدالة العامة، مثل القيود المطبقة على الجسد، ربما تحول دون الارتكاب الفعلي للجرائم، ولكن دون استلهام مشاعر الصدق والتكافؤ.

كان فيرغسون يقف على أعتاب بدايات التطور الناضج لمجتمع السوق، واستبق ما سيفعله مجيء الرأسمالية بالجماعة الأخلاقية المتجسدة التي كانت بالنسبة له نموذجاً للمجتمع المدني. ولكنه لم يستطع أن يرى المستقبل بوضوح أكبر.

يتبع




هوامش من تهميش المؤلِف

*1ـ Adam B. Selingman, The Idea of Civil Society (New York: Free Press; Maxwell Macmillan International; Toronto: Maxwell Macmillan Canada, 1992. pp25-36

Adam Ferguson, An Easy on the History of Civil Society (New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 1995 p205

ابن حوران 13-03-2010 10:27 AM

ظهور المجتمع المدني البرجوازي


كان (آدم سميث) أول من صاغ الفهم البرجوازي للمجتمع المدني بصورة دقيقة. وسعيه الى دمج النشاط الاقتصادي وعمليات السوق في فهم وتشريح الحياة المتمدنة مَعْلَمٌ مهم في مسار تطور الفكر الحديث. فعمله الذي انصرف الى ملاحظة انحلال (المركنتلية) [ المركنتلية أو الاتجارية، هي مذهب سياسي واقتصادي ساد بين القرنين السادس عشر والثامن عشر في أوروبا، يرى أن مقدار قوة الدولة يُقاس بما في خزائنها من ذهب ومعادن نفيسة، ولا يقاس بما تنتج الدولة من سلع كما هو سائد الآن].

وقبل أن ندخل في الموضوع دعنا نلقي الضوء على الحراك الفكري والسياسي الذي كان سائداً في الفترة التي ظهر فيها آدم سميث، ونتعرف على شخصية آدم سميث.

كانت معظم دول أوروبا الغربية تعيش حالة ثورات متعددة الأشكال، رافقت التوسع الاستعماري والاستكشافات الجغرافية ونقل الذهب والمعادن من المستعمرات، وخصوصا أمريكا، كما كانت الكنيسة قد بدأت تفقد سيطرتها ومكانتها في التدخل بتنصيب الملوك والأمراء بشكل نهائي، وقد رافق هذه التغيرات حراك فكري وفلسفي سياسي واجتماعي، بدا وكأنه مساجلة، فما أن يخرج أحد المفكرين بنظرية حول الدولة أو الاقتصاد أو فيما يخص الملكيات وهياكل المجتمع المدني، حتى يظهر من يرفض تلك النظرية أو يوافق عليها مع بعض التعديل.. كان المجتمع الفكري والفلسفي منشغلاً في دراسة النظريات القديمة ومواضعتها على ما هو قائم وراهن، وكان هناك من يستنبط نظريات جديدة تستفيد من الماضي وتراعي ما حدث من تطور.

آدم سميث: (1723ـ1790) مفكر اقتصادي بريطاني، من أبرز المنظرين التاريخيين للرأسمالية، درس في جامعة غلاسكو وأكسفورد، من أشهر أعماله، (ثروة الشعوب).. رغم أن الرأسمالية تجاوزت أفكار سميث لكن أفكاره لم تفقد مكانتها التاريخية [من موسوعة السياسة/ عبد الوهاب الكيالي وآخرون/المؤسسة العربية للدراسات والنشر/الجزء الثالث/ ص239].

(1)

إن غزارة الموضوعات التي تناولها سميث تكشف الى أي مدى كان تقسيم العمل الفكري لا يزال ناقصاً. ولكن القرن الثامن عشر كان قرن رجال الاقتصاد السياسي، وكشف هيمنة علم الاقتصاد على الفروع العلمية الأخرى.

التقى جهد سميث في الهجوم على المركنتلية مع جهد الفيزيوقراطيون الفرنسيون [ جمعية ملخص أفكارها أن ثروة الأمم تأتي بشكل رئيسي من الزراعة]. وقد قال هؤلاء: (إن كل فرد يعمل من أجل الآخرين، حتى لو تخيل أنه يعمل من أجل نفسه فقط. فالنظام الاقتصادي سلس، ومتناغم، ويصحح نفسه بنفسه؛ فينتج من ذلك أنه كلما اقتربت أمة ما من تنظيم نفسها طبقاً لقوانين الطبيعة، زادت استقراراً وازدهاراً) وهؤلاء هم أصحاب الشعار الذي لا يزال ماثلاً حتى أيامنا هذه (دعه يعمل .. دعه يمر).

رغم أن سميث قد التقى مع هؤلاء في الكثير من أفكارهم، لكنه تفوق عليهم في عجزهم في تفسير معقول للرسوم الجمركية والضوابط المقيدة للأصناف، في حين أن سميث استطاع أن يأخذ باعتباره انتشار التسليع والاتجار بالأرض والعمل والأشياء النافعة الأخرى.

وقد تلخص جهد سميث في تأسيس نظرية عن المجتمع المدني تقوم على النشاط الاقتصادي المدفوع بالمصلحة الذاتية والمسند من طرف دولة فاعلة ومؤيدة.

(2)

يرى سميث أن (المجتمع المدني شبكة من الاعتماد المتبادل تنظمها السوق. وإن ما تنقله هذه الشبكة من عمل يقتضي معنى حديثاً دقيقاً للحرية الفردية، ينبغي ألا تكون هناك تقييدات اعتباطية تحول دون أن يزاول أي فرد ما يختاره من عمل)

ويقول في مجال الملكية الفردية (إن ملكية كل فرد لعمله الخاص، باعتبارها الأساس الأصلي لكل ملكية أخرى، مقدسة ومحرمة على أي انتهاك. ويكمن ميراث الفقير في قوة يديه وبراعتهما؛ وإن منعه من استخدام قوته وبراعته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة من دون إلحاق الحيف بجاره، هو انتهاك سافر لهذه الملكية بالغة القداسة).

فالمجتمع المدني في نظر سميث يشكله تقسيم العمل وتنظمه الأسواق وهو الذي يحيل التبادلات الطوعية بين الأفراد الأحرار الى جوهر حياة متحضرة كلياً.

وعناصر الإنتاج في نظره هي: الأرض، والعمل، ورأس المال. وتؤدي الى ثلاثة أشكال من المكافئات: الريع، والأجور، والأرباح.

(3)

لم يعلق سميث كثيراً على الجانب الأخلاقي، كما فعل من سبقوه، فهو لا يتوقع تشكيل نظام اجتماعي متين بالاعتماد على إحساس فطري بالرفقة أو الأخلاقية، فلا أحد يتوقع أن يحصل على عشائه من مطعم بشكل صدقة ولا على قطعة لحم من جزار، ولا رغيف خبز من خباز مجاناً، إن كل هؤلاء يبحثون عن مصالحهم الذاتية، فلا يجب التوجه الى إنسانيتهم إنما لحبهم لذواتهم، ولا يجب التكلم معهم على ضرورياتنا وإنما لفوائدهم.

لقد كانت النظريات التي سبقت سميث تفترض أن السوق هي التي تنظم ذاتها بذاتها وهي المحرك الدائم للتقدم والازدهار الاقتصاديين. لقد وافق سميث هذه المقولة وزاد عليها لينجز مهمته في تأسيس المجتمع المدني على (نزوع ) إنساني أساسي (نحو التعامل، والمقايضة، والتبادل).

وفي ما يتعلق بالإسراف، أي المبدأ الذي يحض على الإنفاق [نهج متبع في اليابان الآن]، فهو ولعٌ بمتعة حاضرة، هي عموماً مؤقتة وعرضية فقط، على الرغم من أنها أحياناً عنيفة ومن الصعب جداً كبحها. أما المبدأ الذي يحض على الادخار فهو الرغبة في تحسين حالنا، وعلى الرغم من أنها رغبة ساكنة وهادئة عموماً، فهي تصاحبنا منذ ولادتنا ولا تفارقنا إلا بموتنا.

إن عدم الرضا بالحاضر يقف وراء (الرغبة في تحسين حالنا) وعدم الرضا هذا هو السمة الدائمة للحياة الإنسانية. فهو أمر طبيعي لدى البشر.

(4)

إن نظرية النتائج غير المقصودة مكنت سميث من تجسيد الهوة القائمة بين الحافز الفردي والنتائج المنهجية. فالعقل لا يؤدي أي دور في تنظيم الحياة الاجتماعية أو الموازنة بين المصلحة الفردية والصالح العام، أو بين الشهوة الخاصة والرفاه العام.

إن كل فرد يجهد نفسه باستمرار كيما يجد الاستخدام الأكثر ربحاً لأي رأسمال يستطيع أن يديره. فما يدور في ذهنه هو منفعته الخاصة وليس في الحقيقة منفعة المجتمع. ولكن معرفته لمنفعته تقوده بشكل طبيعي، أو بالضرورة، الى تفضيل الاستخدام الأكثر نفعاً للمجتمع.

في الحقيقة أن الفرد بشكل عام، لا يقصد تشجيع المصلحة العامة، ولا يعرف مقدار تشجيعه لها. وبتفضيله دعم الصناعة المحلية على الصناعة الأجنبية يقصد أمانه الخاص فقط؛ فهو يعلم بالفطرة كيف يكون مردود ذلك على كيانه الشخصي ضمن مجتمعه.

ويُعرف سميث على نطاق واسع بأنه مُنظر (اليد اللامرئية) والسوق التي تصحح ذاتها بذاتها.

(5)

يتطرق سميث لواجبات الدولة تجاه المجتمع المدني ويحددها بثلاث واجبات: الأولى أن تحمي المجتمع المدني من الخطر الخارجي، وهذا يقتضي جيشاً، كما يقتضي رفع الحيف عن المواطن بوضع نظام قانوني عادل يراقبه الشعب من خلال مؤسسات متينة. والثانية: إحساس أصحاب الملكية بالأمان، وعدم تكييف القوانين للدفاع عن الأغنياء ضد الفقراء الذين لا يملكون شيئاً. والواجب الثالث: هو إقامة وصيانة المؤسسات العامة والأشغال العامة.

في أغلب البلدان، نجد أن الدخل الحكومي كله، أو تقريباً كله، يُنفق لديمومة أيدٍ غير منتجة، وهذا يهدد في انهيار الدول والمجتمعات.

ابن حوران 10-04-2010 10:10 PM

الفصل الخامس: المجتمع المدني والدولة

المجتمع المدني والجماعة الأخلاقية

أدركت المفاهيم الكلاسيكية عن المجتمع المدني أن الحياة الاجتماعية تدور في ميادين منفصلة، ولكن المنظرين لم ينظموا فكرهم حول المصالح الفردية. فالإغريق والرومان، في أغلب الأحوال، وضعوا الصراعات الخاصة في إطار مفاهيم واسعة عن المواطنة.

لم تكن ظاهرة عدم الاتفاق على أساسيات مفهوم المواطنة والمجتمع المدني متعلقة بالفترات التاريخية. بل كانت أيضاً متفاوتة في الأقطار الأوروبية نفسها وفي وقت وتاريخ بعينه، ففرنسا وبريطانيا اللتان كانتا تصدر مفاهيم نظرية عن المواطنة والمجتمع المدني، لم يتفق معها فلاسفة ألمانيا التي لم تتطور الأسواق والصناعة فيها بنفس الدرجة التي كانت في بريطانيا وفرنسا، فكانت الاختلافات في وجهات النظر عند (كانط وهيغل وماركس) تختلف عنها عند آدم سميث وغيره.

(1)

كان (ديفيد هيوم 1711ـ 1776) المؤرخ والفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي، قد خالف من سبقه بإثارته وجوب التمييز بين العقل والمبدأ الأخلاقي، بقوله عن لزوم التمييز بين (ما هو كائن Is) و (ما يجب أن يكون Ought) إذ ثمة حد قاطع يفصل المفاهيم الخلقية المتجذرة في (مشاعر النوع الإنساني وعواطفه) عن الحقائق التي يكشفها العقل.

فكيف يمكن صوغ مفهوم عن الصالح العام تصورياً في بيئة كهذه؟ عن هذا أجاب (هيوم) بأنه لا يمكن الكشف عن الصالح العام من خلال التفكير الخُلقي، كما أنه لا يوجد بمعزل عن مجموع المصالح الفردية. فالقواعد التي يسير وفقها المجتمع المدني غير مستمدة من القانون الخلقي الطبيعي؛ فهي (مصطنعة)، والمجتمع المدني ليس غير تنظيم اتفاقي لغرض السعي وراء الأهداف الخاصة.

لأن العقل الذرائعي يساعد الأفراد على تشخيص مصالحهم، ويدلهم على السبيل الأفضل لتطمينها. لقد حلت الخبرة والعادة محل المبدأ الأخلاقي والفضيلة بوصفهما معيارين للحقيقة. ولا يُتوقع من الناس إتباع القواعد الأخلاقية إلا إذا تم تلبية حاجاتهم المباشرة.

(2)

كان (إيمانويل كانط) أعظم فلاسفة عصر التنوير، وبدأ رده على (هيوم) بالقناعة القديمة القائلة إنه ليس بوسع المصلحة الذاتية أن تقدم أساساً مقبولاً للحياة الإنسانية. أراد كانط تأسيس المجتمع المدني على إحساس باطني بالواجب الخلقي يوحد البشر معاً.

أعلن كانط أن البشر أحرار خلقياً لأنهم يستطيعون معرفة الحق، من دون أن يطلعهم أحدٌ عليه، وأنهم يستطيعون أن يستخلصوا القواعد الخلقية الصحيحة باعتبارها متطلبات يفرضونها على أنفسهم. كان الاسكتلنديون قد قالوا أشياء كثيرة مماثلة، ولكنهم فشلوا في تمييز الحد الذي يمكن أن تتصادم عنده الواجبات الخلقية مع الأهواء، والتحيزات، والشهوات، والرغبات الجامحة. فقد جعلوا الأمور غاية في اليسر والسهولة، ولكن كانط أدرك أن المعنى الأخلاقي لا يُنال بسهولة؛ إنها حالٌ نقاوم فيها بعنف ضبط سلوكنا.

بشر (كانط) بعصر التنوير وعرف التنوير بأنه (هو خروج الإنسان من قصوره المولد ذاتياً) أما تعريف القصور عند كانط فهو (عدم قدرة الفرد على استخدام فهمه من دون توجيه شخص آخر. فهذا القصور مُوَلَد ذاتياً إذا لم تكن علته الافتقار الى الفهم، إنما الافتقار الى العزم والشجاعة في استخدام قدرة الفهم من دون توجيه خارجي. وإن شعار عصر التنوير هو (( كن شجاعاً واستخدم عقلك)).

(3)

عند تطرقه للحرية، يؤكد (كانط) بأن الحرية (هي إمكانية الاستقلال عن الضرورة التي تحكم العالم المحسوس. وإذا كانت الإرادة تتحدد بقانونها الخاص، فإنها تظل محدودة، لأننا لسنا مثل الله كي نعرف دائماً ما هو الحق بوضوح تام. أدرك كانط أن لنا رغباتنا وأهدافنا التي تفرض علينا مراعاتها. إذ لا يمكن تجاهل المصلحة الخاصة ولا محوها، فشرطنا الإنساني موسوم بتوتر دائم بين ما نريد فعله وما يجب فعله.

إن الإرشاد الى الفعل الخُلقي يناسب الكائنات الناقصة عقلياً، ذلك أن (الفريضة المنطقية) تقدم معيار الحكم الوحيد الذي سيختاره الكائن التام عقلياً، وهو: (اجعل من القاعدة التي تسير على هديها إرادتك مبدأ يوفر القانون الكلي في الوقت نفسه).

كان المجتمع المدني، من وجهة نظر كانط، يمثل مجموعة من الممكنات الملائمة لأناسٍ متحضرين، وقد لاحظ العديد من دارسي كانط أن فكرة (الفريضة المنطقية) هي في الواقع مجموعة من الإجراءات. وقال إنه من السذاجة أن نستطيع الاعتماد على خيرية الآخرين. صحيح أن الفعل الخيِّر مهم، لكن لا يمكن أن يكون منبعاً للعدالة، أو مبدأ يُنظم المجتمع المدني.

إن الاستخدام الحُر للعقل النقدي لا يضمن الاتفاق، إلا أنه يوفر ببساطة مجموعة من قواعد السجال. لأن السجال يمكنه تلطيف المصلحة الفردية المناهضة للمجتمع. هذا السجال سيكون سبباً في قيام نظام اجتماعي يحكمه القانون. وهذا التناحر أو السجال هو ما يسميه كانط (الاستعداد الاجتماعي للااجتماع) لدى الإنسان: أي التناقض بين النزوع الإنساني الى تشكيل المجتمعات المدنية ومقاومة ذلك النزوع في الوقت نفسه.

(4)

إن المشكلة الكبرى للجنس البشري، الذي تجبره الطبيعة على البحث عن حلٍ لها، هي مشكلة إيجاد مجتمع مدني قادر على تطبيق العدالة بشكل كلي. وهذا لن يتحقق إلا في مجتمع يتمتع بأعظم حرية ويتناحر فيما بين أفراده ومؤسساته.

ودولة القانون (Rechtsstaat) هي وحدها التي تستطيع أن توفق بين استقلالية الفرد الأخلاقية ومتطلبات النظام العام؛ حيث يقتضي العقل أن تتحكم المعايير بالعلاقات الإنسانية وتحل النزاعات العامة الكلية ل (الفريضة المنطقية). ويتشكل المجتمع المدني من خلال (علاقة تقوم بين أناسٍ أحرار يخضعون للقانون القسري، بينما يحتفظون بحريتهم ضمن وحدة عامة مع أقرانهم).

ابن حوران 25-04-2010 06:16 AM

المِكنسة العملاقة


إن الوعد الذي بثته الثورة الفرنسية بإمكانية تأسيس المجتمع المدني والدولة نهائياً على أساسٍ عقلاني ساهم في قلب أفكار جيلٍ كاملٍ من المنظرين. فإذا كانت المؤسسات الاجتماعية والسياسية تستطيع أن تعكس حرية الفرد ومصلحته، فإن الثورة وسمت بطابعها أيضاً الظهور المميز للدولة الحديثة التي جاء انفصالها الرسمي عن العمليات ليغذي التطور المتسارع للمجتمع المدني. فسار البناء كما في الثورات كلها جنباً الى جنب مع التدمير.

وتطَلّب انبثاق الفرد تحطيم البُنَى التراتبية ونقابات الأصناف (Corporate) التي كانت قد شكلت الحياة الفرنسية طيلة قرون. لم تختفِ المؤسسات الوسيطة كلها، ولكن تلك المؤسسات القائمة على الحسب والنسب لم يُكتب لها البقاء طويلاً أمام (مِكنسة الثورة العملاقة).

(1)

لقد أُلغي تقسيم الشعب الفرنسي الى ثلاث طبقات في ليلة الرابع من أغسطس/ آب 1789، وأُنهي رسمياً بمرسوم صدر بعد ثلاثة أشهر. وأُعلن عن مساواة جميع المواطنين في النسب. وأُلغيت امتيازات المدن كُلها، والأقاليم، والمقاطعات، والمديريات، والإمارات.

ولم تعد الدولة مُلكاً شخصياً للملك، ولا إرادته تعبيراً عن السيادة. ومن الآن فصاعداً ستكون الدولة، كما أعلن المجلس التأسيسي، في خدمة مواطنيها. وستتصرف الدولة على وِفق ما يريدون ما دامت قد غدت الممثل للمجتمع بأسره، والهيئة التي تصون القيم الكلية. وألغت الدولة أو حوّلت العديد من الهيئات الوسيطة التي تقوم بينها وبين الفرد.

(2)

أثر إلغاء الامتيازات الإقطاعية في مصائر الكنيسة بشكل مباشر. فقد كانت الكنيسة (دولة ضمن الدولة) بما لها من ممتلكات ومجالس ومؤسسات مالية مستقلة بالإضافة الى نظام (العُشر Tithes) وما الى ذلك.

تلاشت هذه الامتيازات كلها، وبدأت الكنيسة مشوار تحولها الطويل الى مؤسسة روحية. واختفت الأخوات (الطرق) الدينية والأبرشيات التعليمية والخيرية، وأخوية مالطا والكليات القديمة والمشافي، وكل شيء مما كانت ترعاه الكنيسة. وانتقل جزء كبير من ملكية الكنيسة الى الأمة، وكان أعضاء (الأكليروس) موظفين لدى الدولة لفترة من الزمان.

(3)

لم يكن للنبلاء تعبير موحد ناطق باسمهم على غرار الكنيسة، ولكن (النبالة) كانت ممثلة في المجلس العام والمجالس المحلية. فقدت النبالة ألقابها الخاصة، وأزياءها المميزة، وامتيازاتها.

وأُنهيت حقوق القنانة والمزارع الشخصية من دون تعويض، واختفت البلاطات الأرستقراطية. وأُزيلت التمييزات الرسمية كلها بين أراضي النبلاء الإقطاعيين وأراضي العامة، واختفت الاقطاعات والحقوق العرفية وحق الابن البكر بوراثة أبيه، وغيرها من الامتيازات الإقطاعية.

إن قيام المجلس التأسيسي بإزالة التمييزات الرسمية بين النبلاء والعوام مهد الطريق للدولة الحديثة للمواطنة الكلية والقوانين الموحدة. كما حفزت إزالة هذه التمييزات في الوقت نفسه تطور مجتمع مدني تضرب جذوره في الملكية الخاصة وليس في امتيازات الحسب والنسب، مجتمع تديمه العمليات الاقتصادية لا السلطة السياسية.

(4)

كانت البنية السياسية التي انبثقت من الأحداث الأولى للثورة الفرنسية ضعيفة ولا مركزية، ولكن منطق تباطؤ انبثاقها اتجه الى المركزية. فأخضعت الدولة الاقتصاد للإشراف السياسي على امتداد فترة الأزمة الثورية، وبعد الانقلاب ضد (روبسبير) انهارت البنية المركزية واستبدلت لبعض الوقت ببنية ليبرالية حررت الاقتصاد من قيود التوجيه السياسي.

لكن، حروب نابليون بونابرت تطلبت تشديد المركزية، وقد عزز نابليون لجانبها ما سماه بالدولة العقلانية، من خلال تنظيم العلاقة بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، ودوَّن منظومة من القوانين القومية الموحدة، وأسس نظام التعليم الابتدائي، وشجع لغة قومية واحدة، ودشن نظاماً موحداً للموازين والمقاييس، ووضع أسس لنظام صحي قومي ورعاية الأطفال.

(5)

كانت الثورة الفرنسية ثورة من أجل وحدة الأمة من بين أشياء أخرى. وسهل إلغاء الامتيازات المختلفة، وكانت المحصلة تشعباً في الميادين حداثياً بالتحديد. وغدا بالإمكان توسيع الحريات السياسية لتعم القارة الأوروبية برمتها لأن المواطَنة كانت قد فصلت رسميا عن توزيع السلطة السياسية، وباتت دالة على الإقامة في إقليم الدولة.

كانت الثورة الفرنسية جبارة لأن الدولة، على وجه الضبط، لم تعد تقوم على الثروة والمكانة والألقاب الإقطاعية (الخاصة). وإن الفصل الرسمي للسياسة عن الاقتصاد كان بمثابة الإعلان عن ظهور دولة حديثة ومجتمع مدني جزئي منفصل.


ابن حوران 12-05-2010 03:36 PM

نظام الحاجات

بدت الثورة الفرنسية وكأنها أتمت حركة الإصلاح الديني بجعل الفرد سيد نفسه وحياته سواء أكان ذلك في شؤون العالم الدنيوي أم الروحي. ودلت على أن النشاط العقلاني الحر يمكن أن يعبر بالملموس عن الحرية الباطنية. ورأى جيل كامل من المفكرين، من بينهم كانط، أن الثورة الفرنسية قد وسمت ظهور الكائنات البشرية باعتبارها (ذوات) تتحكم بتطورها الخُلقي. وبدا الناس، للمرة الأولى، قادرين على أن يكونوا أحراراً ينظمون العالم طبقا لمتطلبات العقل.

(1)

يدخل المؤلف، (جون إهرنبرغ)، في مرحلة جديدة، من تتبع تطور مفهوم المجتمع المدني وأداءه، فيستعرض تحت هذا العنوان الحراك الفكري الأوروبي الذي رافق التغيرات الاقتصادية والسياسية والاستعمارية، ليؤشر على محاولة حسم للمفاهيم التي مهدت لتلك المرحلة والكيفية التي تعامل معها الفلاسفة في تفسير الدوافع لما حدث وسيحدث، ويتناول تحت هذا العنوان، جهود (هيجل)، ومساهماته العظيمة، التي استطاع فيها أن يبين طريقته في الربط بين الماضي الفلسفي القديم (منذ أرسطو) الى المرحلة التي كان يعيشها ويناقش فيها بقوة آراء المفكرين والفلاسفة. مما جعله موضعاً لتبني أفكاره من قبل كل التيارات الفكرية المتصارعة.

ويعتمد المؤلف على كتاب (فنومينولوجيا الروح) لهيجل، والذي صدر في عام 1806، وبالمناسبة لقد صدرت ترجمة لهذا الكتاب المهم باللغة العربية عام 2006 عن المنظمة العربية للترجمة.

(2)

لم يقف هيجل عند موضوعات مختلفة وكأنها مسلمات لا نقاش فيها، فقد اعتبر أن إنزال الأخلاق الى مستوى التشريع الداخلي، يجعلها مفتقرة الى أي مرجع ملموس في عالم العلاقات الاجتماعية الحقيقي. كما توقف هيجل عند مصطلح (كُلِّي) فقال: لا يمكن للكلي أن يوجد باعتباره تجريداً قائماً بذاته، ومستقلاً عن الجزيئات التي تركبه.

ويقول هيجل بصدد الحرية: (الإنسان لا يُولد حراً. إنما نحن نصير أحراراً هكذا إلا من خلال وعينا بتاريخنا، بوصفنا كائنات اجتماعية).

فتح تصوُر هيجل للحرية البابَ واسعاً أمام النظريات الحديثة كلها التي تدرس المجتمع المدني بمعزلٍ عن الدولة. فكان أول من طوّر مفهوم الحداثة بإحكام بوصفها ميادين متميزة، ووضع بذلك نهاية للاتجاهات النظرية المبكرة السائدة. وأن ميادين الحياة الاجتماعية الثلاثة ـ العائلة، والمجتمع المدني، والدولة ـ هي بُنى مختلفة للتطور الأخلاقي.

(3)

تشكل العائلة [عند هيجل] الحياة الأخلاقية في طورها الطبيعي، وتميل العائلة الى كبت الخلافات بين أعضائها لأنها مبنية على حب الجميع، وإيثارهم، والحرص عليهم. وفي حالة نشوب صراع، فإن حاجات الآخرين، وحاجات الجميع، يجب أن تفوق حاجات الفرد. ويتوجب على كل فرد أن يكون مستعداً للتضحية من أجل أي عضو آخر؛ فما من عائلة يُكتب لها البقاء طويلاً إذا كان أعضاؤها مسوقين بالمصلحة الشخصية.

والمبدأ الخُلقي العائلي (يكمن في الشعور والوعي والإرادة، غير المقصورة على شخصية فرد ومصلحته، بل تشمل المصالح المشتركة لأعضاء العائلة عموما).

لكن الحياة الأخلاقية ليست دائمة وتنحل ما إن ينضج الأطفال ويميزون أنفسهم عن آبائهم ويخرجون الى العالم ليكسبوا ملكيتهم ويكونوا عوائل جديدة.

(4)

إن المجتمع المدني هو (نفي) للحظة الأخلاقية الجوهرية للعائلة. وإذا كانت العائلة تتشكل عبر نكران الذات والوحدة، فإن المجتمع المدني هو الحياة الأخلاقية متجسدة في حال من التنافس والخصوصية. ويتصرف أفراد المجتمع المدني طبقا لمصالحهم الذاتية التي يرونها، ويعنون بتوفير حاجاتهم الفردية، وينساقون على الدوام وراء معاملة الآخرين باعتبارهم وسائل لتحقيق غاياتهم.

وحيث توحد العائلة أعضاءها على أساس ما يشتركون فيه، يقسم المجتمع المدني أعضاءه على أساس اختلافاتهم. ويضطر الأفراد الى التصرف بأنانية وذرائعية أحدهم مع الآخر، ولكنهم لا يستطيعون توفير حاجاتهم، ولا تحسين مصالحهم المتبادلة، ولا بناء مجموعة من العلاقات الاجتماعية المتينة.

إن العائلة في الأصل هي الوحدة الذاتية التي تعيل الفرد في جانبه الجزئي بأن تقدم إليه الوسائل أو المهارة الضرورية التي تؤهله لكسب رزقه من موارد المجتمع، أو العيش في حال الكفاف إن كان يشكو من عوق دائم. ولكن المجتمع المدني ينتزع الفرد من صلاته العائلية، ويبعد أعضاء العائلة أحدهم عن الآخر، ويعترف بهم بصفتهم أشخاصاً قائمين في ذواتهم. وهكذا يصير الفرد ابناً للمجتمع المدني الذي يُحَمّله أعباءً كثيرة ويقدم إليه حقوقاً [كتاب هيجل المذكور صفحة148].

(...يفرخ المجتمع المدني اللامساواة على الدوام، واكتشاف هيجل أن البؤس هو المشكلة الكبيرة التي يطرحها المجتمع المدني ولكن لا يستطيع حلها، هو اكتشاف استبق انعطافه نحو الدولة). [الكتاب 123]

عندما ينحط المستوى الحياتي للسواد الأعظم من الناس الى ما دون مستوى الكفاف، وعندما ينعدم بالتالي الإحساس بالحق والباطل، وينعدم الإحساس بالاستقامة واحترام الذات الذي يجعل الإنسان يصر على إعالة نفسه بعمله وجهده الخاصين، فإن النتيجة هي خلق حشد من المعوزين. وهذا سيجلب معه، في الوقت نفسه، في الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، شروطاً تسهل بشكل كبير من تركيز الثروة غير المتكافئة في يد القلة. [ص 150].

(5)

إن نظام الحاجات هو حال من الاعتماد المتبادل، لأن عمل الفرد لم يعد يضمن له توفير حاجاته. وفي النهاية يغدو المجتمع المدني ميداناً مغترباً، وغير حر، وغير عادل، فالسلطة المغرّبة عن الفرد، الذي لا سلطان له عليها، هي التي تحدد ما إذا كانت حاجاته سوف تُلَبَى أم لا.

والمجتمع المدني الذي يتحول بفعل ديناميته الى نفي للحرية، ينتج جمهرة بالغة الخطورة من الفقراء المسيسين والمغربين؛ (( تتكون الحشود الفقيرة عندما يرتبط البؤس بموقف فكري، وسخط داخلي ضد الأغنياء، وضد المجتمع، وضد الحكومة الخ)).

((عندما تأخذ الجماهير بالانحطاط الى مستوى البؤس، فإن عبء المحافظة على مستواهم الحياتي الطبيعي يُلقى مباشرة على عاتق الطبقات الأغنى، أو أنهم يتلقون وسائل العيش من مصادر الثروة العامة (الأديرة، المستشفيات، المؤسسات الخيرية الخ).

إن عجز المجتمع المدني عن التغلب نهائياً على اللامساواة الطبيعية للهمجية يؤدي الى تضاؤل إمكاناته الأخلاقية. وإن ارتكاز المجتمع المدني على الخصوصية والأنانية يقوض الإمكانات الرسمية للحرية. وما دامت فوضى المصالح متفشية بشكل عام، فإن الثروة المفرطة ستقترن بالبؤس المفرط. ولسوف يتكللان في ما يسميه هيجل (البربرية).

(6)

والدولة، كما يراها هيجل، هي الميدان الأخلاقي للكلية والتكامل الذي يختتم الضرورة المتحكمة بالمجتمع المدني وحق الخصوصية السائد فيه. إن الدولة العادلة هي التحقق النهائي للروح في التاريخ لأنها قائمة على الحرية وليس القسر. فالدولة مقولة أخلاقية لأنها توفق بين تناحرات المجتمع المدني، وتغطي المشاغل الكلية للبشر بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح.

وإن الدولة هي استكمال للحظة العائلة ولحظة المجتمع المدني، من حيث هما لحظتان أخلاقيتان، وهي تستكمل ذلك لأنها تقف بمعزل عن الاثنتين. إن منطق الدولة يختلف عن منطق المجتمع المدني، وإذا ما أعلن عن الغاية المحددة للدولة هي تأمين الملكية والحرية الشخصية وحمايتهما، تصبح مصلحة الأفراد بحد ذاتها هي الغاية النهائية لترابطهم.

فما دامت الدولة هي العقل الموضوعي، فإن الفرد نفسه، بوصفه أحد أعضائها، يتمتع بالوجود الموضوعي، والفردية الأصيلة، والحياة الأخلاقية.

قد تصل مصالح المنتجين والمستهلكين المختلفة حد التصادم؛ وعلى الرغم من أن التوازن العادل بينها قد يحدث آلياً، يظل توافقها بحاجة الى سيطرة تقف فوق كل منها، وتدار بشكل واعٍ، وهو دور الدولة.

في العائلة يختفي العقل وراء الشعور والعاطفة؛ وفي المجتمع المدني يظهر العقل باعتباره أداة للمصلحة الفردية الذاتية. ولكن في الدولة فقط يصبح العقل واعيا بذاته ويفيد في التحرر الإنساني.

ابن حوران 12-05-2010 03:40 PM

نظام الحاجات

بدت الثورة الفرنسية وكأنها أتمت حركة الإصلاح الديني بجعل الفرد سيد نفسه وحياته سواء أكان ذلك في شؤون العالم الدنيوي أم الروحي. ودلت على أن النشاط العقلاني الحر يمكن أن يعبر بالملموس عن الحرية الباطنية. ورأى جيل كامل من المفكرين، من بينهم كانط، أن الثورة الفرنسية قد وسمت ظهور الكائنات البشرية باعتبارها (ذوات) تتحكم بتطورها الخُلقي. وبدا الناس، للمرة الأولى، قادرين على أن يكونوا أحراراً ينظمون العالم طبقا لمتطلبات العقل.


(1)

يدخل المؤلف، (جون إهرنبرغ)، في مرحلة جديدة، من تتبع تطور مفهوم المجتمع المدني وأداءه، فيستعرض تحت هذا العنوان الحراك الفكري الأوروبي الذي رافق التغيرات الاقتصادية والسياسية والاستعمارية، ليؤشر على محاولة حسم للمفاهيم التي مهدت لتلك المرحلة والكيفية التي تعامل معها الفلاسفة في تفسير الدوافع لما حدث وسيحدث، ويتناول تحت هذا العنوان، جهود (هيجل)، ومساهماته العظيمة، التي استطاع فيها أن يبين طريقته في الربط بين الماضي الفلسفي القديم (منذ أرسطو) الى المرحلة التي كان يعيشها ويناقش فيها بقوة آراء المفكرين والفلاسفة. مما جعله موضعاً لتبني أفكاره من قبل كل التيارات الفكرية المتصارعة.

ويعتمد المؤلف على كتاب (فنومينولوجيا الروح) لهيجل، والذي صدر في عام 1806، وبالمناسبة لقد صدرت ترجمة لهذا الكتاب المهم باللغة العربية عام 2006 عن المنظمة العربية للترجمة.

(2)

لم يقف هيجل عند موضوعات مختلفة وكأنها مسلمات لا نقاش فيها، فقد اعتبر أن إنزال الأخلاق الى مستوى التشريع الداخلي، يجعلها مفتقرة الى أي مرجع ملموس في عالم العلاقات الاجتماعية الحقيقي. كما توقف هيجل عند مصطلح (كُلِّي) فقال: لا يمكن للكلي أن يوجد باعتباره تجريداً قائماً بذاته، ومستقلاً عن الجزيئات التي تركبه.

ويقول هيجل بصدد الحرية: (الإنسان لا يُولد حراً. إنما نحن نصير أحراراً هكذا إلا من خلال وعينا بتاريخنا، بوصفنا كائنات اجتماعية).

فتح تصوُر هيجل للحرية البابَ واسعاً أمام النظريات الحديثة كلها التي تدرس المجتمع المدني بمعزلٍ عن الدولة. فكان أول من طوّر مفهوم الحداثة بإحكام بوصفها ميادين متميزة، ووضع بذلك نهاية للاتجاهات النظرية المبكرة السائدة. وأن ميادين الحياة الاجتماعية الثلاثة ـ العائلة، والمجتمع المدني، والدولة ـ هي بُنى مختلفة للتطور الأخلاقي.

(3)

تشكل العائلة [عند هيجل] الحياة الأخلاقية في طورها الطبيعي، وتميل العائلة الى كبت الخلافات بين أعضائها لأنها مبنية على حب الجميع، وإيثارهم، والحرص عليهم. وفي حالة نشوب صراع، فإن حاجات الآخرين، وحاجات الجميع، يجب أن تفوق حاجات الفرد. ويتوجب على كل فرد أن يكون مستعداً للتضحية من أجل أي عضو آخر؛ فما من عائلة يُكتب لها البقاء طويلاً إذا كان أعضاؤها مسوقين بالمصلحة الشخصية.

والمبدأ الخُلقي العائلي (يكمن في الشعور والوعي والإرادة، غير المقصورة على شخصية فرد ومصلحته، بل تشمل المصالح المشتركة لأعضاء العائلة عموما).

لكن الحياة الأخلاقية ليست دائمة وتنحل ما إن ينضج الأطفال ويميزون أنفسهم عن آبائهم ويخرجون الى العالم ليكسبوا ملكيتهم ويكونوا عوائل جديدة.

(4)

إن المجتمع المدني هو (نفي) للحظة الأخلاقية الجوهرية للعائلة. وإذا كانت العائلة تتشكل عبر نكران الذات والوحدة، فإن المجتمع المدني هو الحياة الأخلاقية متجسدة في حال من التنافس والخصوصية. ويتصرف أفراد المجتمع المدني طبقا لمصالحهم الذاتية التي يرونها، ويعنون بتوفير حاجاتهم الفردية، وينساقون على الدوام وراء معاملة الآخرين باعتبارهم وسائل لتحقيق غاياتهم.

وحيث توحد العائلة أعضاءها على أساس ما يشتركون فيه، يقسم المجتمع المدني أعضاءه على أساس اختلافاتهم. ويضطر الأفراد الى التصرف بأنانية وذرائعية أحدهم مع الآخر، ولكنهم لا يستطيعون توفير حاجاتهم، ولا تحسين مصالحهم المتبادلة، ولا بناء مجموعة من العلاقات الاجتماعية المتينة.

إن العائلة في الأصل هي الوحدة الذاتية التي تعيل الفرد في جانبه الجزئي بأن تقدم إليه الوسائل أو المهارة الضرورية التي تؤهله لكسب رزقه من موارد المجتمع، أو العيش في حال الكفاف إن كان يشكو من عوق دائم. ولكن المجتمع المدني ينتزع الفرد من صلاته العائلية، ويبعد أعضاء العائلة أحدهم عن الآخر، ويعترف بهم بصفتهم أشخاصاً قائمين في ذواتهم. وهكذا يصير الفرد ابناً للمجتمع المدني الذي يُحَمّله أعباءً كثيرة ويقدم إليه حقوقاً [كتاب هيجل المذكور صفحة148].

(...يفرخ المجتمع المدني اللامساواة على الدوام، واكتشاف هيجل أن البؤس هو المشكلة الكبيرة التي يطرحها المجتمع المدني ولكن لا يستطيع حلها، هو اكتشاف استبق انعطافه نحو الدولة). [الكتاب 123]

عندما ينحط المستوى الحياتي للسواد الأعظم من الناس الى ما دون مستوى الكفاف، وعندما ينعدم بالتالي الإحساس بالحق والباطل، وينعدم الإحساس بالاستقامة واحترام الذات الذي يجعل الإنسان يصر على إعالة نفسه بعمله وجهده الخاصين، فإن النتيجة هي خلق حشد من المعوزين. وهذا سيجلب معه، في الوقت نفسه، في الطرف الآخر من السلم الاجتماعي، شروطاً تسهل بشكل كبير من تركيز الثروة غير المتكافئة في يد القلة. [ص 150].

(5)

إن نظام الحاجات هو حال من الاعتماد المتبادل، لأن عمل الفرد لم يعد يضمن له توفير حاجاته. وفي النهاية يغدو المجتمع المدني ميداناً مغترباً، وغير حر، وغير عادل، فالسلطة المغرّبة عن الفرد، الذي لا سلطان له عليها، هي التي تحدد ما إذا كانت حاجاته سوف تُلَبَى أم لا.

والمجتمع المدني الذي يتحول بفعل ديناميته الى نفي للحرية، ينتج جمهرة بالغة الخطورة من الفقراء المسيسين والمغربين؛ (( تتكون الحشود الفقيرة عندما يرتبط البؤس بموقف فكري، وسخط داخلي ضد الأغنياء، وضد المجتمع، وضد الحكومة الخ)).

((عندما تأخذ الجماهير بالانحطاط الى مستوى البؤس، فإن عبء المحافظة على مستواهم الحياتي الطبيعي يُلقى مباشرة على عاتق الطبقات الأغنى، أو أنهم يتلقون وسائل العيش من مصادر الثروة العامة (الأديرة، المستشفيات، المؤسسات الخيرية الخ).

إن عجز المجتمع المدني عن التغلب نهائياً على اللامساواة الطبيعية للهمجية يؤدي الى تضاؤل إمكاناته الأخلاقية. وإن ارتكاز المجتمع المدني على الخصوصية والأنانية يقوض الإمكانات الرسمية للحرية. وما دامت فوضى المصالح متفشية بشكل عام، فإن الثروة المفرطة ستقترن بالبؤس المفرط. ولسوف يتكللان في ما يسميه هيجل (البربرية).

(6)

والدولة، كما يراها هيجل، هي الميدان الأخلاقي للكلية والتكامل الذي يختتم الضرورة المتحكمة بالمجتمع المدني وحق الخصوصية السائد فيه. إن الدولة العادلة هي التحقق النهائي للروح في التاريخ لأنها قائمة على الحرية وليس القسر. فالدولة مقولة أخلاقية لأنها توفق بين تناحرات المجتمع المدني، وتغطي المشاغل الكلية للبشر بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح.

وإن الدولة هي استكمال للحظة العائلة ولحظة المجتمع المدني، من حيث هما لحظتان أخلاقيتان، وهي تستكمل ذلك لأنها تقف بمعزل عن الاثنتين. إن منطق الدولة يختلف عن منطق المجتمع المدني، وإذا ما أعلن عن الغاية المحددة للدولة هي تأمين الملكية والحرية الشخصية وحمايتهما، تصبح مصلحة الأفراد بحد ذاتها هي الغاية النهائية لترابطهم.

فما دامت الدولة هي العقل الموضوعي، فإن الفرد نفسه، بوصفه أحد أعضائها، يتمتع بالوجود الموضوعي، والفردية الأصيلة، والحياة الأخلاقية.

قد تصل مصالح المنتجين والمستهلكين المختلفة حد التصادم؛ وعلى الرغم من أن التوازن العادل بينها قد يحدث آلياً، يظل توافقها بحاجة الى سيطرة تقف فوق كل منها، وتدار بشكل واعٍ، وهو دور الدولة.

في العائلة يختفي العقل وراء الشعور والعاطفة؛ وفي المجتمع المدني يظهر العقل باعتباره أداة للمصلحة الفردية الذاتية. ولكن في الدولة فقط يصبح العقل واعيا بذاته ويفيد في التحرر الإنساني

ابن حوران 27-05-2010 11:48 AM

سياسة الثورة الاجتماعية


كان لنظرية هيجل عن المجتمع المدني الدور الأكبر في صياغة البيان الشيوعي في العام 1848. فقد وجد به ماركس كما وجد به الجمهوريون واليساريون والاشتراكيون ثغرات كثيرة؛ وقد كان لعجز الثورة الفرنسية في تحقيق المساواة والعدالة، مع التطورات الصناعية الكبرى، الأثر في إطلاق العنان لجهود الفلاسفة والمفكرين في محاكمة نظريات هيجل، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الكل كان متفقاً معه على نظام الحاجات.

(1)

لم يكن نقد ماركس لهيجل في نظرته فيما يخص المجتمع المدني فحسب، بل كان نقده لمفهوم هيجل عن الدولة ودورها، كما كان نقده منصباً على فكرة المجتمع المدني نفسه. فقد أنكر ماركس المجتمع المدني الذي تحدث عنه هيجل، فقال: إنه مجتمع مدني برجوازي. وقد جاء هذا المجتمع بتشكيلاته من خلال تطور مناهضة البرجوازية للأرستقراطية، فلهذا السبب لا يستحق اسم المجتمع المدني.

كما أنه انتقد فكرة هيجل عن الدولة باعتبارها دولة تحقق العدالة والمساواة، فلو حققت الدولة العدالة والمساواة فلا حاجة للدولة عندها، لأنه لن يكون لها دور، طالما أن العدالة والمساواة هما السائدتان. لكن كون هناك لا مساواة ولا عدل، فإن الدولة تستحق ضرورتها التي اقترحها هيجل!

أما أن الدولة هي التي تشكل المجتمع المدني، حسب رؤية هيجل، فهو قول مغلوط، لأن المجتمع المدني هو الذي يشكل الدولة.

(2)

لم يكتفِ ماركس بنقد هيجل في موضوع الدولة والمجتمع المدني، بل انتقده كما انتقد تلاميذه وأتباعه ولاحق أفكارهم عن تلك المقولات وعن رؤيتهم عن معنى الحرية. فدعوة هيجل وتلاميذه عن عزل الدين عن الدولة وترك الحرية للأفراد أن يزاولوا ما يرون من معتقدات دينية، هي دعوة تحمل تناقضها داخلها (حسب رأي ماركس).

أحد تلاميذ هيجل ويدعى (برونو باور) امتدح الثورة الفرنسية بعزلها الدين عن الدولة وإعطاء الحريات الدينية للطوائف (اليهود مثلاً) حيث قال: إن التحرر من كل دين يمكن أن يحمي الديمقراطية من الرجعية الإقطاعية. تهكم ماركس من هذا الرأي وقال: (إن باور رأى الأشجار ونسي الغابة، فإبعاد الدين عن السياسة لن يمحو اللامساواة الاقتصادية والسياسية. كما أن تحرر الدولة من الدين لا يعني تحرر الإنسان من الدين) [ماركس وإنجلز: في المسألة اليهودية].

في رأي ماركس، لم تمس الثورة الفرنسية المجتمع المدني البرجوازي، وادعائها بتحقيق الحرية لم يتأسس على ارتباط الإنسان بالإنسان، إنما على فصل الإنسان عن الإنسان. إنه حق (الانفصال)، حق الفرد المتقهقر الى ذاته.

(3)

وسم ماركس الثورة الفرنسية، بأنها ثورة جزئية، تلك الثورة التي تترك دعامات البيت قائمة في مكانها. أما الثورة الشاملة، فهي تلك الثورة التي تطال كل مناحي الحياة، يتحرر الإنسان الحقيقي فيها من خلال ما أسماه (الانعتاق الإنساني).

ما هي واسطة هذا الانعتاق؟ إن التحولات المبكرة في أوروبا جرت بقيادة ذلك الجزء من السكان الذي جعله موقعه المتقدم يزعم أنه يجسد العلاقات الاجتماعية للمجتمع. ولاحظ ماركس بهذا الصدد: (أنه ما من طبقة في المجتمع المدني يمكن أن تقوم بهذا الدور، من دون أن تثير في نفسها وفي الجماهير لحظة من الحماسة، لحظة تتآخى فيها وتندمج مع المجتمع بعامة، فيتصورها الناس أنها هي كل المجتمع المدني، ويعدونها ويعترفون بها بوصفها ممثله العام، لحظة تكون فيها مطالب وحقوق هذه الطبقة هي بالفعل حقوق المجتمع نفسه ومطالبه؛ لحظة تصبح فيها فعلاً رأس المجتمع وقلبه ولا يمكن لطبقة معينة أن تعلن هيمنتها إلا باسم حقوق المجتمع عامة).

عن أي طبقة يتحدث ماركس هنا؟ إنه يتحدث عن طبقة (البروليتاريا) عديمة الملكية، والتي لم تشملها جهود التطوير في القوانين والنظريات التي قام بها البرجوازيون لصالح البرجوازية نفسها.

(4)

في النظريات البرجوازية، لا تبرز أسماء البرجوازيين فيها، بل يبرز إنتاجهم من السلع، والنظريات تنظم علاقة السوق لتبادل تلك السلع. حسناً، إن (البروليتاريا) لديها أكبر السلع وأعظمها وأكثرها أهمية، إنها العمل، فالعامل يبيع جهده في سوق السلع كسلعة، وكون جهده يدخل كمادة خام في كل السلع، فتستحق الطبقة العاملة أن تكون هي من يقرر شكل العلاقات العامة، وتستحق أن تكون هي من يمثل المجتمع.

إن التحرر في رأي ماركس، هو إلغاء المجتمع المدني، بل وإلغاء الطبقات، وهي دعوة شاملة لتدمير النظام العالمي الذي كان قائماً لذاك الوقت.

كان الاقتصادي السياسي الكلاسيكي يرى الإنتاج، والاستهلاك، والتوزيع، والتبادل بوصفها عمليات منفصلة، ولكن ماركس كان مقتنعاً بأن أي نظام اجتماعي لا يمكن أن يُفهم إلا بوصفه (نمط إنتاج). ذلك أن الفوضى التي تخلقها السوق تُظهر أن المجتمع المدني يشكل بفعل أنواع من العمليات الاقتصادية غير المترابطة. أما ماركس فكان يرى ببصيرته أن العلاقات الاجتماعية كلها كانت تؤلف لحظات إنتاج مهما بدت مستقلة.

(5)

يقول ماركس: إن كل طبقة تهدف الى الهيمنة، حتى عندما تكون هيمنتها، كما في حال البروليتاريا، مفضية الى إلغاء الشكل القديم للمجتمع بتمامه ولكل الهيمنة بشكل عام. أقول (القول لماركس) إن هذه الطبقة يجب أولاً أن تنتزع السلطة السياسية لتمثل مصلحتها بوصفها المصلحة العامة.

إن الخطوة الأولى في ثورة الطبقة العاملة هي رفع البروليتاريا الى موقع الطبقة السائدة لتحقيق الانتصار في معركة الديمقراطية. سوف تستخدم الطبقة العاملة سيادتها السياسية لتنزع تدريجيا كل رأسمال البرجوازية، ولمركزة وسائل الإنتاج كلها بيد الدولة، أي بيد البروليتاريا المنظمة باعتبارها طبقة سائدة.

عندما تتلاشى التمايزات الطبقية في مجرى التطور، ويوضع الإنتاج بأسره بأيدي اتحاد واسع من الأمة كلها، تفقد السلطة العامة طبيعتها السياسية.

وبدلاً من المجتمع البرجوازي القديم، بطبقاته وتناحراته، سيكون لدينا اتحاد يكون فيه أي تطور حر للفرد شرطاً للتطور الحر للمجموع.


تعليق:
أكثر ماركس في كتاباته، استخدام كلمة (عندما) وذلك لصعوبة تحقيق مثل تلك الخطوات أو تنفيذ ذلك الجهد النظري وتحويله لإجراءات. وقد ثبت ذلك في المشاهد المتلاحقة منذ محاولة الثورة البلشفية تبني تلك الأطروحات. فقد أصبح الإتحاد السوفييتي من أكثر الدول صرامة وتنظيماً، في حين كان في النظريات (لا للدولة ولا للقومية ولا للدين)، أما في موضوع القومية: فرأينا كيف تحالفت القوميات غير الروسية مع هتلر وتعاونت ضد الدولة السوفييتية، وفي الدين: لم تستطع 73 سنة من حكم الشيوعيين أن تمحو من الذاكرة الدين الإسلامي من نفوس سكان الجمهوريات الخارجة من الاتحاد السوفييتي أو الجمهوريات ضمن روسيا الاتحادية (الشيشان، الأنجوش، داغستان، تتارستان، بشكيريا الخ). أو حتى عودة الأرثوذكس لتغيير أسماء مدن (لينينغراد: سان بطرس بورغ) (ستالينغراد: فولغا) الخ.

ابن حوران 14-06-2010 12:45 PM

الفصل السادس: المجتمع المدني والتنظيمات الوسيطة

الجمهورية الأرستقراطية

يربط المؤلف (جون إهرنبرغ) وحدات كتابه بعناية فائقة، متجولاً بين مفكري أوروبا بشكل متتابع لكل مفكر ومتجادل مع من سبقه، ليصل في نهاية كتابه الى رسالته التي أراد الوصول إليها من خلال كتابه.

يتحدث المؤلف في هذا الباب من هذا الفصل، عن (شارل لوي دي سيكوندا: المعروف باسم مونتسكيو) والمولود في جنوب غرب فرنسا قرب (بوردو) عام 1689، والذي يُعتبر أول داعية بوضوح لمسألة (فصل السلطات)

(1)

كان مونتسكيو ابن القاضي، ورئيس المحكمة البرلمانية، مثقفاً ساخراً، يميل للتورية في كتاباته، فهو ابن عائلة برجوازية قريبة من البلاط الفرنسي. كان يريد تقديم النصح للملك الفرنسي، ولكن بطريقة غير مباشرة، وكان معجباً بالنتائج التي أسفرت عنها الثورة الإنجليزية، حاله حال كثير من فلاسفة عصر التنوير.

بدا لمونتسكيو أن النظام الاجتماعي المتسامح والمرن في إنجلترا قد أنهى قرناً صاخباً من دون السقوط في مهاوي التطرف والاستبداد أو الفوضى. فقد تأسس في إنجلترا مجتمعٌ مقسمٌ الى ثلاث طبقات: الملك والنبلاء والعامة، وكلها تتبع لمؤسسات العرش: مجلس اللوردات ومجلس العموم. وهذا قد جسَد بضم الواحد، والقلة، والكثرة في دستور سعيد وحكيم. كانت الدولة والمجتمع واحداً؛ والنشاط الاقتصادي والسلطة السياسية يحددان بعضهما بعضاً، على نحو متبادل، ففقدت الأرستقراطية دورها المهيمن ولكنها لم تتعرض للتدمير.

لقد برَّرت الأرستقراطية، على الدوام، احتكارها الأرض بالقول إنه ما دامت سلطتها وملكيتها مستقلتين عن كل من إرادة الملك وانفعالات الرعاع، فإنها الطبقة الوحيدة القادرة على التوسط بينهما.

(2)

مَيَّز مونتسكيو بين ثلاثة أشكال من الحكومات: الحكومة الجمهورية التي يمسك زمام السلطة فيها جميع الناس (الديمقراطية)، أو أن عوائل معينة (أرستقراطية) تمسك بسلطة السيادة؛ أو الحكومة الملكية التي يمسك فيها الأمير بزمام السلطة، ولكنه يمارسها طِبقاً لقوانين راسخة؛ وحكومة الاستبداد وهي فساد النظام الملكي الذي لا يحكمه قانون، إنما أهواء الأمير ونزواته هي التي تسيره.

وأفضل وصف للاستبداد هو أنه مَلَكية من دون الهيئات الوسيطة للأرستقراطية؛ (إذا أنت ألغيت صلاحيات اللوردات، ورجال الدين، والنبلاء، والبلدات في نظام ملكي، فسرعان ما سيكون لك دولة شعبية، أو دولة استبدادية)*1

وإن الحرية تقتضي تقسيم السلطة وتوزيعها عن طريق مؤسسات جمهورية أرستقراطية: (تشكل السلطات الوسيطة، والخاضعة، والتابعة، طبيعة أي حكومة ملكية، أي طبيعة الحكومة التي يحكم فيها واحد أوحَد اعتماداً على قوانين أساسية. وأقول سلطات وسيطة، وتابعة؛ لكن الواقع أن الأمير، في نظام ملكي، يكون مصدر السلطة السياسية والمدنية بأسرها.)

(إن السلطة الطبيعية، الوسيطة، الخاضعة، هي سلطة النبلاء. فطبقة النبلاء تمثل، بطريقة ما، جوهر النظام الملكي، الذي تقول بديهيته الأساسية: لا ملكية من دون نبلاء، ولا نبلاء من دون ملكية، فمن غير ذلك سيكون هناك مستبد أوحد)*2

(3)

رأى مونتسكيو أن الأنظمة الملكية أكثر استقراراً من أنظمة الاستبداد؛ وذلك لأن هيئاتها الوسيطة تمكنها من تشكيل علاقات منفعة متبادلة بين الملك والنبلاء. ويقتضي هذا توزيع السلطة السياسية طبقا للمكانة الاجتماعية والثروة.

لن يشعر المستبد دائما بالرضا، لكن ملكاً حكيماً يتفهم أن الحفاظ على الامتياز المحلي والتفاوتات الاجتماعية هو أمر جوهري لسلامة الدولة برمتها.

المستبد هو الرجل الخاص الذي ارتقى الى سدة القيادة العامة؛ وهو لا يستطيع أن يحكم مملكة مستقرة لأنه لا يعرف غير رغباته الخاصة، ولا يمكن أن يسمح بقيام مراكز أخرى للسلطة. أما المَلِك، الذي يعرف كل مقاطعة من مقاطعاته، فيمكن أن يضع قوانين متنوعة، وأن يجيز أعرافاً مختلفة.

إن الاستبداد الذي يسوِّي الجميع في مرتبة واحدة خصم لدود للتحرر والاستقرار، لأنه يهاجم التراتبيات التي تسند قاعدة الحكم المعتدل والمسئول.

وهكذا عندما يجعل الإنسان من نفسه مستبداً بلا حدود، تكون فكرته الأولى أن يبسط القوانين. وفي هذه الدول، ينشغل المستبد بإقامة العوائق الجزئية أكثر من انشغاله بحرية رعاياه*3

(4)

البشر متساوون في الحكومة الجمهورية؛ وهم متساوون لدى الحكومات المستبدة؛ في الأولى لأنهم كل شيء، وفي الثانية لأنهم لا شيء.

يطرح مونتسكيو فكرة (مجتمع المجتمعات) أي إقامة فدرالية الهيئات الوسيطة التي تستطيع أن تخدم التحرر بتقييد كل من السلطة التنفيذية وعنف الدهماء. والدولة المختلطة المتشكلة على هذا النحو ستجمع الفضيلة المدنية للنظام الجمهوري مع السلطة الخارجية للنظام الملكي، وهي تقاوم التحلل الداخلي والغزو الأجنبي.

ويميل بل ينحاز مونتسكيو في التنظيمات الوسيطة الى تأسيس مجلسين تشريعيين: (هناك دائماً، في دولة معينة، بعض الناس يتميزون بقوتهم أو ثروتهم أو شرفهم، لكنهم إذا اختلطوا بين الناس، وإذا كان لهم صوت واحد مثل الآخرين، فإن الحرية العامة ستكون استعباداً لهم، ولن تكون لهم مصلحة في الدفاع عنها، ذلك أن أغلب القرارات ستكون ضدهم. ولذلك، فإن دورهم في التشريع يلزم أن يكون بمقدار ما لهم من ميزات، وهو أمرٌ سيحدث إذا ما شكلوا هيئة لها حق في فحص مشروعات الشعب، مثلما أن للشعب الحق في فحص مشروعاتهم.

من الواضح أن لتلك الأفكار أهميتها حتى في عصرنا الحاضر، فمجلس الشيوخ في أمريكا مع مجلس النواب ومجلس الأعيان (في الأردن مثلاً) محاذي لمجلس النواب، وفي كل البلدان التي لها تجارب ديمقراطية معينة، والأصل في تسمية الشيوخ والأعيان و (التشريعي في مصر) كان اسمها (مجلس الملك). حيث عندما أُعطي الحق للشعب في اختيار ممثليه فإن للملك الحق في اختيار ممثليه باعتباره (مؤسسة العرش أو الحكم).




هوامش من تهميش المؤلف

*1ـ روح الشرائع/ مونتسكيو/ كمبردج 1989 ص 18( التهميش مُتَرْجَم).
*2ـ المصدر نفسه.
*3ـ نفس المصدر صفحة 74.

ابن حوران 07-07-2010 03:23 PM


المجتمع المدني والجماعة

(1)

أقام جان جاك روسو نظريته الأخلاقية عن المجتمع المدني ماداً جذورها في مفهوم الجماعة (Community)، في محاولة لتكييف الفضيلة الرومانية والنزعة الجمهورية المكيافيللية مع متطلبات انتشار الأسواق، وترسخ سلطة الأرستقراطيين والملوك. كانت نظرته للعالم بكليتها تستمد حيويتها من قضية بسيطة، ولكن معقدة، مفادها: (الإنسان خَيِّر بطبيعته، والسبب في تحوله شريراً إنما هي مؤسساته).

ربط روسو حال الفطرة بأفراد منعزلين لا أخلاقيين، وكانت لامبالاتهم بعضهم ببعض تعني أنهم لا يضرون ولا ينفعون. فالناس في حال الفطرة عاشوا لأنفسهم، ورغبوا في ما هو ضروري لحفظ ذواتهم الفردية. وإن افتقارهم الى الصلات الاجتماعية أدى بطريقة عجيبة، الى إنقاذهم.

(كان الإنسان البدائي يمشي مطوّفا في الغابات، بلا صناعة، ولا كلام، ولا مسكن، بلا حرب ولا صلات، وبلا حاجة لأقران، وبلا رغبة أيضاً في إلحاق الأذى بهم، وربما لا يدرك أبداً فردانية أي آخر، خاضعاً لانفعالاته واكتفائه الذاتي، ولتوافق مشاعره وذكائه مع حال الفطرة التي هو فيها، لم يكن يشعر بغير حاجاته الحقيقية، ولم يرَ إلا ما اعتقد بأن له مصلحة في رؤيته، ولم يحقق ذكاؤه تقدماً أكثر من خيلائه. وإذا حقق اكتشافاً ما مصادفةً، فإنه لم يكن قادراً على إيصاله، لأنه لا يميز حتى أطفاله. فمهاراته تموت بموته. لم يكن ثمة تربية ولا تقدم؛ والأجيال تتكاثر بلا نفع؛ وكل واحد يبدأ دوماً من النقطة نفسها...)*1

(2)

قال روسو قوله الشهير (يولد الإنسان حُرَاً وهو مقيد بالأغلال في كل مكان). (إذ ليس كافياً توحيد الأفراد بالقسر وبالتهديد بالقوة الغالبة... يتشكل المجتمع المدني على يد أفراد هم أحرار بالطبيعة وأخلاقيون بالقوة)*2

(سيكون هناك دوماً اختلاف كبير بين إخضاع حشود الناس وحكم مجتمع ما. وإذا استعبد فرد واحد بشراً متفرقين، مهما كثُر عددهم، فإني لا أرى غير سيِّدٍ وعبيد، ولا أرى بشراً وقائدهم. إنهم جَمْعٌ، إن شئت، وليس رابطة متحدة. ليس لهذا الجمع صالح عام، ولا هيئة سياسية. وليس ذلك الرجل، حتى لو استعبد نصف العالم، سوى فرد خاص. وليست مصلحته، المنفصلة عن مصالح الآخرين، غير مصلحة خاصة. ولو مات هذا الرجل، لغدت إمبراطوريته، منذ لحظة موته، وبلا روابط)

أراد (روسو) تقديم إجابات عن بعض المفاهيم التي انتشرت في عصر التنوير، بشكل مختلف. فلم يرضَ بمصطلح (صاحب السيادة) عند (هوبز) ولم يرض بمفهوم (الحقوق الطبيعية) عند (لوك)، ولم يقبل بأحقية (طبقة النبلاء) عند (مونتسكيو).

لقد لخص روسو موضوع الترابط الاجتماعي ب (التنازل الكلي لكل شريك، بكل ما له من حقوق الى الجماعة ككل). وعن الحرية يقول: (الشخصية الحرة لا يمكنها أن توجد إلا قرب الآخرين). فالحر يمنح نفسه طوعا (لا قسرا) للسلطة الأخلاقية.

عندما يمنح كل فردٍ نفسه للجميع، فإنه لا يمنح نفسه لأحد؛ وما دام لا يوجد امتياز لفرد على آخر، لأن الفرد يعطي الحق ذاته على نفسه وعلى الآخر، فإنه يكتسب معادل كل ما يفقده.

(3)

يناقش روسو مفهوم (الإرادة العامة General Will)، مبتعداً عن مفهوم (المصلحة العامة) و لا (حكم الأغلبية) و لا (السلطة الملكية) وكلها دلالات عن الصالح العام، لكن الإرادة العامة هي توفر الصلة الأخلاقية بين الفرد والجماعة.

ليس هدف العقد الاجتماعي لدى روسو أن يحافظ على الإنسان الطبيعي، بل كان يتوخى أن ينتزعه من حال الفطرة ليجعله بشراً كامل الإنسانية. ويستلزم (العقد الاجتماعي) وجود جماعة تنظمها الإرادة العامة؛ لأن صالح الكل يتيح لكل فرد أن يحقق أعمق أهدافه وأصدقها. والتوجه الشامل هو وحده الكفيل بتمكين الأفراد من تنظيم مصالحهم الخاصة المتقلبة. وإن الإرادة العامة تحمي الأفراد والجماعة من التدمير المحدود الذي ينجم عن النزعة الجزئية وسوء الظن، والتعصب، والتحامل، والإقصاء.

يهجم روسو على المصلحة الشخصية، وعلى الاستثناءات في تطبيق القوانين. (ليس من المناسب لمن يسن القوانين أن يكون هو من ينفذها، وليس مناسباً لمجموعة من البشر أن يصرفوا انتباههم عن الاعتبارات العامة ويعنون بأشياء الجزئية).

(4)

يقول روسو (كلما تشكلت الدولة على نحو أفضل، طغت الشؤون العامة على الشؤون الخاصة في عقول المواطنين. وفي مدينة حسنة الإدارة، يسارع كل شخص بالذهاب الى الجمعيات العامة. أما في ظل حكومات فاسدة، فلا أحد يرغب في أن يخطو خطوة واحدة نحوها، إذ لا مصلحة له في ما يجري فيها... إن القوانين السليمة تؤدي الى سن قوانين أفضل، أما القوانين السقيمة فتولد القوانين الأسوأ. وحالما يقول المرء ما لي وشؤون الدولة؟ تكون الدولة قد ضاعت).

في القول السابق، يرسم روسو العلاقة أو الخطوط بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني. فعندما تعتبر الدولة (مؤسسة الحكم) أن منظمات المجتمع المدني هي منظمات تابعة لها، فإن النفاق والمداهنة ستكون هي السائدة، وسيعزف الأحرار عن ارتياد تلك المؤسسات.

وعن شرذمة الأحزاب وكثرتها ومؤسسات المجتمع المدني وكثرتها، دون أن يوحدها (إرادة عامة)، ستصبح الإرادة العامة عند كل منها محصورة في حدود تلك الكيانات، وستصبح الإرادة العامة لعموم الوطن ذات معطى ثانوي وهامشي.

كان روسو عدواً لتراتبية النظام القديم، وأعرافه وظلاميته، وكان ناقداً لتعويل زملائه، بصورة أحادية على العقل والمصلحة الفردية.

ابن حوران 05-08-2010 12:37 PM

أعراف المجتمع المدني

من يستعرض ما تقدم من الكتاب لحد هذه الساعة، سيرى أن الأفكار والنظريات التي وُضعت حول المجتمع المدني، كانت تنضوي تحت مفهومين: مفهوم المساواة المطلقة، ومفهوم التسليم بالتراتبية.

إذا كان جان جاك روسو هو أحد أركان النظريات التي تدعو الى المساواة المطلقة، فإن (إدموند بورك) كان من ألد أعداءها. و(إدموند بورك) هذا إيرلندي ولد في دبلن عام 1729 وتوفي في عام 1797، وهو رجل دولة ومؤلف وخطيب ومنظر سياسي وفيلسوف. خدم مدة طويلة في مجلس العموم البريطاني. ومعروف بدعمه للمستعمرات الأمريكية في كفاحها ضد الملك (جورج الثالث)، الذي أدى الى الثورة الأمريكية، كما أنه معروف بمعارضته للثورة الفرنسية، وقد كتب في ذلك خلاصة الموقف الأوروبي من الثورة في كتابه (تأملات في الثورة الفرنسية).

(1)

المساواة والمساواتية (المساواتية Leveling: هي إلغاء المراتب الاجتماعية، وامتيازاتها، و(المساواة Equality): هي التمتع بحقوق واحدة أمام القانون. وهما في نظر (إدموند بورك) لا يساعدان إلا على تدمير المجتمع المدني.

لقد أرجع (بورك) عنف الثورة الفرنسية الى تمسكها بالحلم الأخلاقي غير الواقعي في المساواتية، لأنها في نظره تتعدى على القدرة الإبداعية والتجديدية للمجتمع المدني. إن أفضل النوايا في العالم لا يمكنها أن تكون نظاماً جديداً. وحالما جرف الطيشُ الفرنسيين وراء الحدود التاريخية والعرفية للإصلاح المعتدل، لم يبق أمامهم من خيار سوى الانسياق وراء الهجوم على الحضارة نفسها. وعلى العكس من ذلك فإن البريطانيين فهموا سلطة ((العرف)) والتاريخ، فاحترمت الثورة الإنجليزية المجيدة الأعراف، والممارسات، والمؤسسات التقليدية التي تنبع منها كل حرية.

التاريخ والعرف يؤسسان توازناً دقيقاً بين عناصر أي دستور، ومن الحكمة ألا نعبث فيها. (إن ميثاق المجتمع والتزامه، الذي يطلق عليه عموماً اسم الدستور، يمنع مثل هذا الإقحام أو هذا الاستسلام. إن الأقسام المكونة لدولةٍ ما ملزمة بالتمسك بإيمانها المشترك بعضها ببعض، وبأولئك الذين يتحصلون على أي مصلحة جدية تجري بفضل التزاماتهم، بمقدار ما تلتزم الدولة كلها بإيمانها بالجماعات المنفصلة. وإلا فسرعان ما يصيب الوهن السلطة والكفاءة، ولا يعود ثمة قانون، بل إرادة القوة المتغلبة)*1

(2)

إن تشديد (بورك) على قوة العرف الموحدة يبين سبب عدم قلقه من الحزبية، أو حتى النزاع. فالسلم الاجتماعي يقتضي الحفاظ على مراكز السلطة الموجودة.

في استعراضنا السابق لرؤى (مونتسكيو) وجدناه قد لام الفرنسيين لتخليهم عن المؤسسات الأرستقراطية التي كانت أداة لاحتواء الجماهير، وكابحاً للنظام الملكي. وكان لِزاماً عليهم أن يتعظوا بالأحداث الإنجليزية، وأن يقيموا البناء على الأسس التي تركها أسلافهم.

كان ممكن لبعض التعديلات البسيطة (حسب مونتسكيو) على النظام الملكي أن تضمن الحريات العامة وفي نفس الوقت أن يبقى نفوذ النظام الملكي على الكل دون انحراف الأقسام المختلفة*2

إن المجتمع المدني يتشكل على أساس علاقات تكاملية بين الفئات الاجتماعية التي يكون لانسجامها المتبادل جذور تاريخية عميقة، ولا خير يُرتجى من طموحٍ في غير محله. ولا يمكن إهمال التاريخ، أو إعادة كتابته باسم أي أيديولوجيا. فالاستقرار والنظام والتقاليد والأعراف والملكية الخاصة والدين كلها تشكل أسس أي مجتمع مدني مستقر. وهي ركائز دمرتها الثورة الفرنسية (برأي بورك).

(3)

في عام 1215 صدر ما يُسمى ب (الميثاق الأعظم) أو (الوثيقة العظمى للحريات)، وكانت مناسبة صدور تلك الوثيقة خلافات نشبت بين (جون) ملك إنجلترا والبابا (إنو سينت الثالث) والبارونات حول حدود سلطة الملك. وأقرت هذه الوثيقة أن إرادة الملك مقيدة بالقانون. فصارت فعلاً أعظم وثيقة في تاريخ الديمقراطية.

وفي عام 1689 صدر في إنجلترا إعلان حقوق الإنسان، حصل بموجبه الشعب، المُمَثَل بالبرلمان على حريته وحقوقه، فضلاً عن بنود أخرى عديدة.

يُذَكِر (بورك) الأوروبيين والفرنسيين بالذات، بالمسيرة التي كانت بين التاريخين، وتأصيل المسيرة الديمقراطية الإنجليزية التي راعت التاريخ والأعراف. ويقول: (لدينا تاج متوارث، وطبقة نبلاء متوارثة، ومجلس عموم وبَشرٌ يرثون الامتيازات، والحقوق الدستورية والحريات المتحدرة من شجرة ممتدة من الأجداد.

ثم يخاطب الفرنسيين: (كان لديكم كل هذه المنافع في دولكم القديمة، ولكنكم شئتم التصرف كما لو أن لديكم كل شيء لتبدأوا من جديد. لقد بدأتم بداية كريهة، لأنكم احتقرتم كل شيء كان ينتمي إليكم.

لقد هاجم المساواتية الفرنسية فيقول أنها تؤدي الى حماية الشعب، صحيح، وتجعله مطيعاً أيضا صحيح، ولكنها تجعله مكتفاً وغير سوي. فالمجتمع المدني تشكله اللامساواة.



هوامش من تهميش المؤلف
*1ـEdmund Burke, Reflections on the Revolution in France, Edited by Thomas H.D. Mahoney (New York: Macmillan 1955. صفحة 23.
*2ـ نفس المصدر صفحة 40


ابن حوران 12-09-2010 01:45 PM


الدروس الأمريكية

في عام 1835 أصدر الأرستقراطي الفرنسي (ألكسي دي توكفيل 1805ـ 1859) كتابه ( الديمقراطية في أمريكا). وهو الذي سافر الى أمريكا وهو في عمر 25 عاماً، لوضع دراسة عن السجون الأمريكية، ولكنه فوجئ بمادة مختلفة للدراسة، جعلته يضع مؤلفه (الديمقراطية في أمريكا) من مجلدين وهو من أهم الكتب التي صدرت عن هذا الموضوع في الحقبة نفسها، ليعود بإصدار مجلده الثاني في عام 1940.

(1)

كتب توكفيل (( من بين الأشياء الغريبة التي لفتت انتباهي، خلال إقامتي في الولايات المتحدة، لم يستوقفني شيءٌ بهذه القوة أكثر من المساواة العامة في الظروف القائمة بين الناس)).

كان توكفيل يخاطب الأوروبيين وبالذات الفرنسيين، يدعوهم لدفن الماضي، وإدراك الفرص والمخاطر التي طرحتها المساواة الاقتصادية على السياسة والمجتمع المدني على حد سواء.

كان ضعف الدولة (في أمريكا) أول شيء يستوقف توكفيل. فجاء تفسيره ليرسي أول التمييزات بين أمريكا ( المجتمع القوي، والدولة الضعيفة)، وأوروبا (الدولة القوية، والمجتمع الضعيف)، وهو التمييز الذي ترك تأثيراً فاعلاً في التنظير المعاصر. إن الافتقار الى التراث الإقطاعي الراسخ، وما صاحبه من غياب ( للنظام القديم)، وندرة المدن الكبيرة وما ترتب عليه من تزايد أهمية من تزايد أهمية المجالس المحلية، والغياب النسبي للبيروقراطية، وهو غياب مقرون بتقاليد اللامركزية، والعزلة الجغرافية، وغياب جيش كبير دائم، كل هذه العوامل، لا سيما عندما تُضَمُ الى المساواة الاجتماعية الواسعة، وثقافة الاعتماد على الذات، ومستوى منخفض من صراعات الطبقات، تُبين لماذا لم يكن لأمريكا تقاليد الدولة القوية التي ميزت التاريخ الأوروبي.

(لا شيء يستوقف المسافر الأوروبي في الولايات المتحدة أكثر ما نسميه نحن بالحكومة، أو الإدارة. ثمة قوانين مدونة في أمريكا، ويرى المرء التنفيذ اليومي لها، ولكن على الرغم من تحرك كل شيء بانتظام، لا يمكن اكتشاف المحرك في أي مكان. واليد التي توجه الماكنة الاجتماعية غير مرئية)*1

(2)

يذكر مؤلف الكتاب الذي بين يدينا (جون إهرنبرغ)، الكيفية التي يستدعي فيها (توكفيل) نماذجه لإحداث التأثير في نفسية من يخاطبهم.

فهو في حديثه عن نمط الإدارة والدور الشعبي في الولايات المتحدة يقول (كان تدخل الناس في الشؤون العامة، والتصويت الحر على الضرائب، ومسئولية ممثلي السلطة، والحرية الشخصية، والقضاء المستند الى هيئة المحلفين في حين أن الأشياء كانت تمارس بشكل منقوص في أوروبا وبالذات في إنجلترا الجديدة فالقوانين هي من وضع الدولة)*2

في إنجلترا الجديدة، تشكلت دوائر البلديات (Township) تشكلاً تاما ومؤكداً منذ بواكير العام (1650). وكانت استقلالية البلدات النواة التي تلتقي حولها المصالح والأهواء والحقوق والواجبات وتتشبث به. فهي وفرت سَعَةً في نشاط الحياة السياسية الحقيقية بشقيها الديمقراطي والجمهوري. وكانت المستعمرات ما زالت تعترف بسيادة البلد الأم.

عينت البلدات في إنجلترا الجديدة حكامها على اختلاف أنواعهم، وخمنت مقدار ما عندها، وفرضت على نفسها الضرائب. وفي أي بلدة من بلدات إنجلترا، لم يجرِ قانون التمثيل؛ بل كانت شؤون المجتمع تبحث في الساحات العامة كما في أثينا.

ليلاحظ القارئ الكريم، أن توكفيل شأنه شأن (مونتسيكيو) من المعجبين بصدارة إنجلترا في التجربة الديمقراطية، ولكنه زاد عليه في دمجها أو دمج ما يبشر به من أفكار مع التجربة الأمريكية.

وعندما يعرج (توكفيل) على التجربة الفرنسية ـ رغم ثورتها ـ فإنه يصفها بالسلطة (الممركزة حول الثورة) والتي لن تلاءم الحياة في أمريكا ( مهما تكن السلطة المركزية متنورة وبارعة، فلا يمكنها بنفسها أن تستوعب كل تفصيلات حياة أمة عظيمة. فمثل هذه اليقظة تتجاوز قوى البشر. فقوة هذه السلطة تخذلها عندما يُراد تحريك المجتمع على نحو عميق، أو تسريع تقدمه، وإذا ما صار تعاون المواطنين الخصوصيين أمراً ضروريا لتعزيز تدابيرها يفتضح سر عجزها)*3

وعلى الجانب الأمريكي فإن النقاط المناقضة للنزعة المركزية للدولة الفرنسية تتمثل في المؤسسات المحلية القوية المدعومة بثقافة (فردانية) ومحلية ضيقة تذود عن الحرية من خلال تقييد سلطة الدولة، وجعل الناس أقرب الى أداء مهمات القيادة في مواطنهم.

إن الحكم الذاتي المحلي كان ملائما تماما للثقافة الأمريكية المتمثلة في الاعتماد على الذات؛ فكل شخص هو أفضل من يُقَيم ما يخصه، وهو أنسب شخص يوفر لنفسه ما يحتاجه. أما البلدة والمقاطعة فإنهما كفيلان بالعناية بمصالحهما الخاصة، والدولة تمارس الحكم، لكنها لا تنفذ القوانين.

(3)

(يشكل الأمريكيون، من كل الأعمار، والمراتب والميول، تجمعات طوعية. فهم لا يملكون فقط الشركات التجارية والصناعية، التي يساهم فيها الجميع، بل يشكلون أيضاً تجمعات من ألف نوع ونوع؛ دينية وأخلاقية، جادة وعابثة، جليلة أو مقيدة، صغيرة أو ضخمة. والأمريكيون يكونون التجمعات للاستمتاع، ولتأسيس المدار، وبناء النُزُل، وإقامة الكنائس، ونشر الكتب، وإرسال المبشرين الى جهات المعمورة، وبهذه الطريقة أسسوا المستشفيات والسجون والمدارس... إنهم يؤلفون جمعية طوعية، ترأس ما تدير بعكس فرنسا التي ترأس فيها الحكومة أي مشروع)*4

يقول توكفيل ( أن المجتمع المدني سيخدم التحرر عن طريق التخفيف من وطأة تأثير أي مصلحة مفردة، وإضعاف الأغلبية، والاحتراس من تجاوزات الديمقراطية نفسها التي حفزت على ظهور هذه الأمور)*5

وعندما يشير بطرف خفي لخطورة التسلط تحت أي مسمى فإن توكفيل يؤكد (لا أرى ثمة وقاية ضد الطغيان الأشد إثارة للسخط؛ وربما يمكن لفئة صغيرة أو فرد واحد، يطوق نفسه بحصانة لا يطولها القانون، أن يقمع شعباً كبيراً)*6

(4)

بعد هذا التغزل الطويل من توكفيل بالنموذج الأمريكي، فإنه يتساءل متخوفاً من مصير هذا النموذج فيقول: ( عندما تكون الظروف الاجتماعية متساوية، يميل كل إنسان للعيش بمعزل عن الآخرين، ويتمحور حول نفسه متناسياً البشر حوله)*7

هو يريد توازناً دقيقاً ومدروساً، ولا يحقق هذا التوازن إلا مجتمع مدني حر وقوي ومؤمن بما يفعل، لأنه حسب رأيه (فالديمقراطية لا تجعل من كل إنسان متنكراً لأسلافه فحسب، بل هي تطمس أصله وتفصل معاصريه عنه. وترده فريسة لذاته ووحيداً. وتهدد في الأخير بحبسه في عزلة مشاعره القلبية الفردية)

وهنا يتوجه بنصيحة لتواصل الفرد بالمجموع لتعزيز قيمته أمام الآخرين (قد يكسبك إنجازٌ رائع رضا الناس بضربة واحدة؛ ولكن لكي تحظى بحب واحترام السكان الذين يحيون حولك، سيتوجب عليك أن تثابر في تقديم الخدمات الصغيرة المتصلة، والأعمال الخيرية الخفية، وأن تتطبع على العطف الدائم، وأن تكون معروفاً بالنزاهة)

وفي التحذير من تغول الدولة ( كلما حلت السلطة محل التجمعات الطوعية، فقد الأفراد فكرة الاتحاد معاً، وزادت حاجتهم الى مساعدة الدولة)


هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Alexis de Tocqueville, Democracy in America, 2 vols. (New York: Random House, 1990, vol1 صفحة 70.
*2ـ صفحة 39 من المجلد الأول.
*3ـ صفحة 90 من المجلد الأول.
*4ـ صفحة 106 من المجلد الثاني.
*5ـ صفحة 191 من المجلد الأول.
*6ـ صفحة 195 من المجلد الأول.
*7ـ صفحة 256 من المجلد الأول.

ابن حوران 14-10-2010 03:22 PM

القسم الثالث: المجتمع المدني في الحياة المعاصرة

الفصل السابع: المجتمع المدني والشيوعية

(الصفحات 327 وما بعدها من الكتاب)

(1)

تكمن جذور الاهتمام المعاصر بالمجتمع المدني في قناعة ـ سادت لدى بعض المثقفين الغربيين الأوروبيين في عقد الثمانينات من القرن العشرين ـ مفادها أن تسارع أزمة الشيوعية كان (ثورة المجتمع المدني ضد الدولة). فتشكل ببطء أدبٌ منشقٌ، مناوئ تماماً لدعاوى الأحزاب الحاكمة التي تصف نفسها بالطليعية، ومناوئ لفهمها البيروقراطي للسياسة، وهو أدب رأى أن الاشتراكية القائمة، ما هي إلا دولة مسيطرة ومندسَّة في ثنايا كل شيء، دولة تقترن بتخطيط مركزي عالٍ لإنتاج الصناعات الثقيلة، وبقمعٍ شاملٍ مانعٍ لكل مبادرة اجتماعية تقع خارج سيطرة الدولة ـ الحزب.

لقد بلور المحللون الأوائل، استناداً الى النزعة الدستورية الليبرالية، والى (توكفيل)، والأدبيات الغربية حول (النزعات الشمولية أو التوتاليتارية)، نقداً قوياً لما اعتبروه افتقار الماركسية للحدود، ونزعتها في تسييس كل شيء، وخيانتها للديمقراطية، ورغبتها في توجيه أو استيعاب كلّ فاعلية عفوية تنشأ عن المجتمع المدني.

نتيجةً لتجذرِ هذا النقد في الرغبة الشعبية الواسعة في نيل الديمقراطية السياسية، فإنه تجاهل تماماً المسائل الاقتصادية، وقدم نفسه ابتداءً باعتباره تجديداً للفكر الاشتراكي. ما من شك في أن أحكام هذا النقد لم تكن جديدة، غير أن الأزمة الاقتصادية الخانقة وانتصار اليمين السياسي في إنجلترا والولايات المتحدة قدَّما إليها دعماً جديراً بالاعتبار. فكان ما كان في تحالف العوامل الداخلية والخارجية لانهيار الشيوعية.

(2)

لما كانت (الاشتراكية: النظم السياسية السابقة) تتطور بوصفها إستراتيجية دولة تدير النمو الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي [ استناداً لأقوال ماركس وهو يسمي نفسه: ديمقراطياً اجتماعياً]، انجذب النقد المُنشَّق نحو النظريات الليبرالية بصدد المجتمع المدني التي تركزت على الحد من سلطة الدولة القسرية.

استندت الاشتراكية الحديثة، توأم الليبرالية في (عصر التنوير)، الى توسيع الديمقراطية لكي تشمل المجال الاقتصادي؛ وهذا في الواقع هو السبب الذي حدا بماركس أن يصف نفسه بالديمقراطي الاجتماعي في المقام الأول.

إن فهم المجتمع المدني بوصفه كياناً ذاتي التنظيم بكل بساطة جَنَحَ الى رؤية الدولة عائقاً أساسياً أمام الديمقراطية، والى عدم إقامة الاعتبار للاقتصاد. ولكن إذا كانت النظرية تصور المجتمع المدني بوصفه ميداناً لفوضى الإنتاج، والمصلحة الخاصة، واللامساواة، فإن ديناميكية الاقتصاد الداخلية يمكن أن تخضع للضبط. ويكمن هذا التوجه في جوهر النظريات الاشتراكية كلها عن المجتمع المدني.

فمن سياسات إعادة التوزيع المعتدلة التي دافع عنها البعض الآخر، بدت المساواة والديمقراطية بحاجة الى استعمال سلطة الدولة للتدخل في الملكية الخاصة ومنطق التسليع.

يفسر صاحب الكتاب (جون إهرنبرغ) سر انجذاب العالم الى الشيوعية نظرياً وعملياً في الفترة التي عقبت الحرب العالمية الثانية وما أصاب العالم من خراب ودمار احتاج قسوة في تطبيق العدالة لإعادة إعماره، وحماية المتضررين من الحرب من استغلال متصيدي الفرص!

تعليق

رغم الحرص على تقديم الكتاب كما يراه المؤلف، والذي بذل جهداً كبيراً في تقديم تفسيرات تساعد المثقف والقارئ في كل أنحاء العالم للاستدلال على مراحل التطور في تكوين المجتمع المدني وما رافقها من نظريات سياسية واقتصادية، بالرغم من كل هذا، فإن المؤلف، شأنه في ذلك شأن مؤلفي صراع الحضارات ونهاية التاريخ الكتابين اللذين سبق وقدمنا لهما قراءات وعرض، لا يفتأ في التبشير بالليبرالية الحديثة، وسيرى القارئ فيما تبقى من فصول هذا الكتاب.

فإن كانت الشيوعية والماركسية بنظره تسم من يتبناها من أنظمة بالدكتاتورية والقمع ونكران الدين الخ، فهي بنظر أصحابها تزعم نشر العدالة وتبشر ما بشر بها أصحاب الأديان السماوية وغير السماوية، فهي تزعم القدرة على معرفة كيفية تحقيق العدل والمساواة بين الناس، حتى ولو بالقوة، وقد يكون نهجها قد ألحق الأذى بالإبداع الفردي المتعلق بالملكية الفردية وحمايتها.

لكن من زاوية أخرى، فإن الليبرالية والديمقراطية الغربية، وإن بدت للمراقب الساذج أنها متاحة بعدالة ومساواة كاملة لتناقل السلطة ومواقع القيادة بين كل الناس بالتساوي، فهذه النظرة كاذبة كل الكذب، فالمرشح للرئاسة والبرلمان يركض من مكان لمكان ومن لوبي لآخر ليسترضيه حتى يُسمى مرشحاً لحزب أو غيره، وقد انتقلت تلك العدوى للدول التي تدور بفلك الدول الليبرالية الغربية، فلن ينجح بترشيح من لا يتلاءم مع فكر أعوان هؤلاء. والعراق ومصر واليابان وأوروبا كلها أمثلة صارخة، فأي اختلاف بين ديكتاتورية شمولية وديكتاتورية ليبرالية تدعي أنها متاحة للجميع؟

ابن حوران 18-11-2010 02:00 PM

النزعة الشمولية (التوتاليتارية)

(1)

كان المشروع العظيم لكارل ماركس هو تحليله النقدي للمجتمع المدني البرجوازي. لقد قضى وقتاً قصيراً نسبياً في وصف فكرته عن طريقة تنظيم الشيوعية. ولكنه قدم مخططاً متماسكاً تماماً للانتقال الى الاشتراكية. وتصور ماركس أن الاستيلاء على السلطة سوف يسبق المجتمع المدني ويجعل تغييره ممكناً، وتوقع ماركس بيقين أن مشروعه سيحظى بدعمٍ فاعل من أغلبية الجماهير.

تبين لفلاديمير لينين بأن تحويل المجتمع المدني أصعب بكثير من الاستيلاء على سلطة الدولة. فأجل ذلك للتغلب على الثورة المضادة وتصفية جيوبها المعيقة لتحويل المجتمع الى مجتمع اشتراكي شيوعي. وكانت ظروف الاتحاد السوفييتي كافية لإعاقة بناء مجتمعٍ مدني راقٍ، فكيف وقد جاءت الحرب العالمية الأولى بنتائجها وثقلها؟

تراجعت أفكار الشيوعيين التي كانت تريد مجتمعاً بلا دولة، تقوده سوفياتات محلية من العمال والفلاحين، وتُرك هذا الموضوع جانباً، لتقوم مكانه دولة حديدية هي من يفرز منظمات المجتمع المدني وتسخرها لتكون رديفة للدولة نفسها.

أدرك لينين أن صهر الدولة بالحزب وتحييد القوى المعارضة سيكون خطراً كبيراً بالاعتماد على الدولة والحزب وحدهما، وحذر زملاءه مراراً وتكراراً من أن سيطرة العمال وإشرافهم هو الأمر الوحيد الذي سوف يحول مركزية الثورة الحتمية لصالح الاشتراكية. وأقر بصعوبة تفادي البيروقراطية، لكنه اعتقد بإمكان تحجيم آثارها السيئة من خلال إشراف الطبقة العمالية، وفي نهاية حياته أدرك بأسى أن قول ذلك نظرياً أسهل من تحقيقه على أرض الواقع.

(2)

لم يقدم موت لينين عام 1924 الكثير لحل التناقضات المتأصلة في استعمال الدولة لتحويل المجتمع المدني. لقد بدا أن كل هدف من أهداف الثورة بحاجة الى تقوية سلطة الدولة المتعاظمة، وتقوية قيادة الحزب للتعبئة الاجتماعية العامة والتحديث الاقتصادي. فجرت مناقشات التصنيع المهمة في أواخر العشرينات في سياق إجماع القيادة السوفييتية الواسع على أن الرأسمال اللازم لبناء الصناعة سوف يأتي من الفلاحين. وكان السؤال الوحيد هو مدى سرعة استخلاص هذا الرأسمال.

ضَخمَت الحرب العالمية الثانية والمواجهة اللاحقة مع الولايات المتحدة من دور الدولة في الصناعة الثقيلة، ومن كونها في حال طوارئ مستديمة، وغدت الضرورة العسكرية هي ما يميز الاشتراكية السوفييتية، سار الاقتصاد السوفييتي منذ البداية على الاستعداد للحرب، واعتمد على التخطيط المركزي، والسيطرة الصارمة، وإحكام القبضة على قوى السوق.

انتشرت عدوى النموذج السوفييتي لعقود طويلة في القرن العشرين، واستلهمتها كثير من الدول المتخلفة في العالم، فاتسم هذا النمط من الإدارة الى حتمية الهجوم على المجتمع المدني وصبغه بصبغة نظام الحكم القائم، تحت ما يُسمى بالصالح العام ومقتضيات ظروف الثورة أو المعركة.

(3)

وصف المفكرون السياسيون، منذ أرسطو، الحكم المطلق بأنه تشكيل سياسي يتسم بالتعسف واللامسئولية وانعدام الحدود. فالنزعة الشمولية بما تتميز به من رغبة شديدة في فرض الوحدة الأيديولوجية، وإزالة الاختلافات الاجتماعية، وتنظيم مستويات عالية من المشاركة الجماهيرية والتلاعب بها، هي جذور النزعة الشمولية في محاولتها إخضاع دوافع المجتمع المدني التلقائية لغايات محددة سلفاً.

إن قدرة الدولة الشمولية غير المسبوقة على الإقناع والعقاب تساعدها على تنظيم (سيطرة وتوجيه مركزيين للاقتصاد برمته من خلال التنسيق البيروقراطي للكيانات التعاونية والمستقلة سابقاً.

وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الأنظمة الشمولية لتحطيم وجود الكيانات المنفصلة عنها، تظل في هذه الأنظمة الديكتاتورية، بعض المجموعات تعمل على مقاومة السلطة الشمولية. فالعائلة والكنائس والجامعات ومراكز أخرى للمعرفة التقنية، والكُتَّاب والفنانون، كلٌ حسب تقديره لوجوده باعتباره كائناً عاقلاً، يتعين عليهم، إن أرادوا البقاء، مقاومة مطالب الأنظمة الشمولية.

ستواجه النُظم الشمولية والتي على شاكلتها جماهيرها بنفس الصيغة التي يتعامل معها المحتلون (فرق تَسُد). ويكون قيام الحركات الشمولية ممكناً حيثما توجد جماهير تجنح لسبب أو لآخر الى التنظيم السياسي. فالجماهير لا تأتلف معاً بداعي الوعي بالمصلحة المشتركة، فهي تفتقر للوضوح الطبقي الخاص الذي يتم التعبير عنه في أهداف مقررة ومحدودة وُضعت لهم دون مشاركتهم الفعالة في فهم مفرداتها.

خاتمة تلك المقالة

إن الدولة الاشتراكية العاجزة عن نبذ شكوكها في المجتمع المدني، اندفعت الى (تمزيق كل الصلات والروابط الاجتماعية وغير الرسمية التي تقع خارج نطاق العائلة). فالمجتمع السياسي ـ عندها ـ يعني أولوية الدولة السياسية على الحياة الاجتماعية ككل، وأن المجتمع ملحق بالدولة الكلية القدرة أكثر منه كياناً مستقلاً. وهنا يتم شَّل الأفراد عن تبيين حاجاتهم، ويتحولوا الى كيانات فردية خالية من الإبداع الحقيقي.

ابن حوران 11-12-2010 01:12 AM

الثورة (المحدودة ذاتياً)

(1)

كانت النزعة الشديدة المناهضة للدولة، التي وسمت أدبيات المجتمع المدني المبكرة، ردَّ فعلٍ مفهوماً تماماً على ما تتصف به (الاشتراكية القائمة) من روتينية وبيروقراطية. وبنهاية السبعينات من القرن العشرين، كانت تصور المجتمع المدني في أوروبا الشرقية على أنه (ميداناً للنشاط الاجتماعي المستقل واللاسياسي ظاهرياً) الذي لا يسعى الى تحدي سيطرة الدولة على زمام السلطة الرئيسة، وقد حقق هذا عقداً ضمنياً بين تلك المنظمات وسلطات دولة الحزب الحاكم.

إن الفكرة القائلة إن نقابات العمال المستقلة، والحركات الاجتماعية الجديدة، والمنتديات المدنية، ومنظمات حقوق الإنسان، والدوائر الأخرى (للمجتمع المدني الاشتراكي) يمكن أن تصل الى تسوية مع الدولة هو قول يدل ضمناً الى إمكانية التفكير في المجتمع المدني بمعزل عن سلطة الدولة المباشرة، ويقر بأن مراكز السلطة المستقلة كانت تتطور في مجتمعات اشتراكية (ناضجة).

كانت الفائدة المجتناة من (النزعة الشمولية) قد أصبحت في الحقيقة إشكالية متزايدة. فمع غروب عقد الستينات، تعرضت قضيتان مركزيتان طرحهما منظرو النزعة الشمولية الى هجوم كاسح، تتمثل الأولى في أن العلاقات الاجتماعية الفردية تمت تذريتها (Atomized) بشكل يتعذر إصلاحه، والثانية هي أن الحياة الاجتماعية والسياسية المستقلة أمرٌ مُحَال.

وأن الفكرة المُبسطة القائلة إن المصالح المُستقلة لا يُمكن أن تُنَظَم في المجتمعات الاشتراكية، نُبذت تلك الفكرة حتى أن معاينة نماذج متسامحة كان ممكن أن يراها المراقب حتى في العهد الستاليني. وبعد مجيء (نيكيتا خروتشيف) وإتباعه لسياسة (شيوعية الغولاش) [وهي كناية للشوربة الهنغارية، وترمز الى غض النظر الذي اتبعه السوفييت والتهاون في مضايقة المجر بعد أحداث 1956، والتي قمعت فيها القوات السوفييتية ثورة المجر، فأُريد من تلك السياسة عدم تكرار ما حدث.]

(2)

بعد تلك الأحداث، لم تعد السياسة تدخل من الباب الأمامي لمنزل المواطن، واختفى دور المُحرض السياسي الذي كان الشيوعيون يرسلونه ويسمى (قارع الأبواب). وحل محله شاشة التلفزيون. ولكن التسييس الشمولي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. ولم يعد هناك مناقشات سياسية في العمل، فساعات العمل للعمل فقط، وبإمكان المواطن أن يفعل ما يريد في أوقات فراغه.

بدت الأحداث التي جرت في بولندا مصداقاً للمقاربة التعددية، وتوكيداً للتخمينات المبكرة حول تجذر مجتمع التنظيمات الوسيطة المدني. فحركة الاحتجاج الفاعلة في بولندا حفزت التطورات المبكرة، وكثفتها في نظرية المجتمع المدني الأولى في أوروبا الشرقية.

كان الناطقون باسم المعارضة البولندية، الذين لم يدفعوا الأمور الى أقصى حد، حريصين على عدم الظهور بمظهر التخريب السياسي. فبدلاً من مهاجمة سلطة الدولة مباشرة، نشد التنظيم الذاتي للمجتمع تقييد تجاوز دولة الحزب حدود ميدانها الخاص. فالمنظمون أولوا عنايتهم لنقابات العمال، وفِرق الطلبة، والجمعيات الثقافية، ولجان العمال، ومنشورات الأدب السرِّي [ نوع من النشاط ظهر بعد موت ستالين 1953]. وغيرها من النشاطات التي أصبحت مؤثرة فيما بعد.

(3)

أطلق (آدم مشنيك)*1 ما دعاه بالمعارضة (المحدودة ذاتياً) وتتلخص فكرته في تحسين تنظيم المجتمع في منظمات طوعية ليس لها علاقة بالدولة، وعدم الاصطدام بالدولة مباشرة، بل على العكس كان يطلب مساعدة الدولة، ولكن فكرته وأسلوبه هذا لم يأتي بنتائج ملموسة.

لكنه في جانب آخر نجح في التأكيد أن تطور المعارضة يجب أن يكون من خلال توجهها للرأي العام وليس للسلطات.

استطاعت نقابة تضامن البولندية من انتزاع اعتراف الدولة بها، حتى لو كان هذا الاعتراف مقترناً بتعهد من النقابات بأنها لا تسعى لانتزاع السلطة.

كانت تسود الفضاء الذهني أجواءٌ تشجع لتقدم مثل تلك النشاطات. فمقاومة الكنيسة للإلحاد الرسمي، ومقاومة القرى للتعاونيات، ومقاومة الطبقة المثقفة للرقابة، عبَّدت الطريق أمام العمال لتنظيم أنفسهم.

(4)

في بداية عهد (غورباتشوف) في الاتحاد السوفييتي، اعترفت جريدة (برافدا) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوفييتي، بوجود أكثر من ثلاثين ألفاً من المنظمات الطوعية غير الرسمية في الاتحاد السوفييتي، وقد تصاعد نشاط تلك المنظمات مع الشعور بأن غورباتشوف قد أطلق حملة إصلاحات، تدعو الى اعتبار الديمقراطية السياسية خطوة أولى في التجديد الاشتراكي لا يمكن تمييزها من الديمقراطية الاجتماعية الكلاسيكية.

كان غورباتشوف يدرك أن خططه لا يمكن أن تتم إلا بتخفيف الرقابة وإطلاق الحريات، حتى يصل لما سماه (الغلاسنوست: أي سياسة الشفافية) والتي يمكن أن تؤدي الى (البيروسترويكا: إعادة البناء)...

هكذا أدركت الشعوب وقياداتها محدودية نشاط منظمات المجتمع المدني في ظل النظام الاشتراكي، فسواء كان انتشارها يتم انتزاعاً أو من خلال إرادة رأس الحكم فالأمران سيان، لا مكان لمنظمات المجتمع المدني الحقيقية في ظل النظم الاشتراكية (هذا رأي المؤلف).

هوامش:
*1ـ [ آدم مشنيك هذا هو من كبار من أوحى لفاليسا صاحب فكرة نقابة تضامن، وهو أيضاً من أوحى للقيادة البولندية للاشتراك مع (بوش) في غزو العراق]

ابن حوران 30-12-2010 01:57 PM

بلوغ الحدود

(1)


إن هدف المُنشقين الأولي في تحقيق تعددية اشتراكية قادهم الى وصف مشروعهم باعتباره (تنظيماً ذاتياً للمجتمع لا أكثر). فبعد محاولات، بات المجتمع المدني في عموم منطقة أوروبا الشرقية يعني المعارضة صراحةً. وربما كان بالوسع التفاوض بشأن تسوية مؤقتة بين المجتمع والدولة الفاقدة للشرعية باطراد.

لقد كانت رؤية (فاسلاف هافل: الرئيس التشيكي فيما بعد) تعبر عن طبيعة التفكير التي كانت سائدة في أوروبا الشرقية بما فيها (الاتحاد السوفييتي) فالمهمة الملائمة المنوطة بالدولة بالنسبة له هي: الدفاع عن القواعد المؤسساتية لمجتمع مدني غير مُسَيّس، ومُستقل، وتعددي، ومنظم ذاتياً. وأي شيء خلاف ذلك سيكون تهديداً مميتاً للاستقلالية الشخصية ولسلامة المجتمع.

(2)

أوحى بعض المنظرين أن الأصل المصطنع للاشتراكية الأوروبية الشرقية يُفسر تشوّه البنى الاجتماعية في بلدانهم. فالمسار الطبيعي للتطور للتطور الرأسمالي الديمقراطي قد أجهضته الحرب العالمية الثانية، كما فرضت معاهدة (يالطا) نموذج الدولة القائدة في الاتحاد السوفييتي على بيئة لم تكن مناسبة لها. فاملاءات السياسات الدولية حفظت هذه البيئة المصطنعة في مكانها لوقت طويل.

إذا كان السوق يقع في صميم المجتمع المدني، فإن (مناهضة السياسة) أنتجت نظرية ليبرالية عن الدولة. (( إن الدولة يمكن أن تحمي المجتمع، وتقوم بالتعبير عن مصالحه؛ وهذه الأمور في الحقيقة هي من صميم عملها)).*1

((إن الدولة تزج أموراً، وقضايا، وقرارات لا حصر لها في السياسة التي لا شأن لها فيها؛ فالأمور الشخصية وقضايا التقنية ليس للدولة، في نهاية المطاف، علاقة بها))*2. إن المجتمع المدني العادي يقتضي تحرير ميادين كالعلم والموسيقى والدين وتربية الحيوانات، وتحريرها من (الانتفاخ المَرَضي للدولة السياسية)*3

(3)

لقد آمن القائمون على مناهضة الدولة الاشتراكية، بأن المجتمع المدني (المنظم ذاتيا) و(المحدود ذاتيا) المنفصل عن الدولة بحقوق الملكية وحكم القانون سوف يتشكل حتماً بفضل السوق.

ويرى هؤلاء: إن الاقتصادات الأوامرية (الموجَهة)، ودول الحزب الواحد، تعطل، بكل ما للكلمة من معنى استقلالية تلك الميادين المنفصلة، بحيث يصبح من المحال تنظيم مسعى المصلحة الشخصية في الميدان الوحيد الذي يهمها فعلاً. ولهذا برأي هؤلاء فإن الديمقراطية السياسية والرأسمالية الآن شيئاً واحداً.

لذلك، فإن إحياء الاهتمام بالمجتمع المدني نشأ ضمن جهود الطبقة المثقفة في أوروبا الشرقية لدمقرطة (الاشتراكية القائمة). وإذ تركزت جهودهم ضد احتكار دولة الحزب للنشاط السياسي، أولى هؤلاء المثقفون عناية قليلة بالمسائل الاقتصادية. ولكنهم سرعان ما اضطروا الى مواجهة البنى الاقتصادية الأساسية للاقتصاد المخطط، ثم اكتشفوا أن السوق بوصفها ميداناً مُنظماً ذاتياً للفرص الفردية والرفاه الاجتماعي قادر على أن يوجه ضربة قاضية لبيروقراطية الدولة، المتملقة وعديمة الكفاءة التي تقوم بخدمة أغراضها الخاصة.

(4)

وفي النهاية، فإن آمالهم في أن المجتمع المدني (المحدود ذاتياً) قادر على دمقرطة الشيوعية من دون التحول الى الرأسمالية لم تستطع أن تتجاوز محدودية مضامين ليبراليتهم. وبعد أن صاغوا نداءاتهم بلغة (الديمقراطية) و (الميدان العام) و (التعددية) وما شابه، فشلوا في معالجة مفعول السوق، ويبدو أنهم تخيلوا أن (المجتمع المدني) يمكن أن يُعاد تشكيله من دون ثمن.

فالمجتمع المدني الذي (يحكم ذاته) من دون أحزاب سياسية محترفة وكُتل سياسية مستقلة، أو من دون حياة سياسية متماسّة كان منذ البداية محض خيال.

هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Hungarian by Richard E. Allen (New York; San Diego: Harcourt, Brace, Jovanovich, 1984 صفحة 160.
*2ـ المصدر السابق صفحة 228.
*3ـ المصدر نفسه صفحة 229.



ابن حوران 22-01-2011 11:33 AM

الفصل الثامن

المجتمع المدني والرأسمالية

(1)

لعل المنشقين في أوروبا الشرقية الذين استخدموا لغة المجتمع المدني في هجومهم على الدولة الاشتراكية، معذورون لفشلهم في تقدير خطر السوق الرأسمالية الداهم. وأياً كان مزيج سذاجتهم، ويأسهم، ولامسؤوليتهم، فقد كان لهم خصوم أقوياء تتوجب منافستهم، وحلفاء مهمون يجب إرضائهم، وقلة من مصادر الدعم النظري والنشاط العملي المحلي يستندون إليه. ولعلهم تخيلوا صادقين أن (المجتمع المدني) المعافى يمكن أن تتعايش مع مجموعة من الخدمات الاجتماعية السخية، غير أن آمالهم تبخرت أمام المنطق الحديدي لمتطلبات السوق القاسية.

لقد حققت (الاشتراكية التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية) قدراً من الرفاه الاجتماعي (اختفاء البطالة، التعليم المجاني، الصحة المجانية، تأمين السكن الخ)، ولكن الديمقراطية السياسية كانت مسألة أخرى تماماً. وهذا يساعدنا على تفسير السبب الذي دفع الأوروبيين الشرقيين الى التنظير للمجتمع المدني بمصطلحات ليبرالية.

لقد نُحيّت المسائل الاقتصادية جانباً تقريباً، وأما آثارها الجانبية البغيضة فلسوف تعالج بعد إقامة (دولة القانون)، وإعادة توحيد أوروبا. لكن لذلك ثمنه الذي كان يجب دفعه، وسرعان ما وصلت فاتورته. ولكن الأمل في أن يكون الشعب الحيوي قادراً على الدفاع عن مجاله العمومي (Public Sphere) قد تلاشى عندما تبين أن كلاً من السوق والدولة التي وسعته وحمته هما ميدانان للقسر، واللامساواة، والإقصاء. وفي منتصف عقد التسعينيات أخذ الخطاب الجامح عن المجتمع المدني يذوي في أوروبا الشرقية.

عندما أعلن المثقفون في الغرب (نهاية عصر الأيديولوجيا)، وفسروا كيف أن لا مبالاة المواطن تتيح للنخب قيادة المجتمعات الجماهيرية في شروط من الإصلاح الاجتماعي والاستقرار السياسي. كان ثمة مجتمع استهلاكي غير مسبوق تاريخياً آخذاً بالتشكل في الغرب، وساعدت التعددية على تلطيف الجو عندما برهنت على أن المصالح غير السياسية يمكن أن تسهم في الاندماج الاجتماعي.

أسس التعددية

(2)

خرج علم السياسة الأمريكي من الحرب العالمية الثانية وهو واقعٌ تحت تأثير النماذج الاقتصادية، فراح يركز على الفاعل الفرد (Actor) بوصفه العنصر الناشط الوحيد الذي يستطيع أن يفهم مصالحه، ويضع الخطط للوصول إليها.

وقف (ترومان)*1 ليقول: ((أن الفرد في المجتمعات كلها، المُعقد منها والبسيط، يتأثر مباشرة بالمجتمع ككل بصورة أقل من تأثره بأقسام هذا المجتمع الثانوية ومجموعاته)). وأن فهم السياسة يقتضي دراسة التوسطات الناشئة.

قال ترومان: (( عند بلورة تفسير مجموعة ما للسياسة، فلن نكون بحاجة الى تفسير مصلحة شاملة كلياً؛ لأن مثل هذه المصلحة الكلية لا وجود لها))*2. تنشأ السياسة العامة (الحكومية) عن التفاعل بين اداعاءات مجموعات المصالح؛ والقدرة على الوصول الى ما تبتغيه هذه المجموعات يعتمد على موقعها في المجتمع المدني، وتنظيمها الداخلي، وعلى المؤسسات التي توجه إليها جهودها.

وفهم السياسة يعني فهم التفاعلات المعقدة. ((وسواء أكنا نعاين مواطناًَ فرداً أو منتمياً لحزب سياسي، أو مُشرعاً، أو رجل إدارة، أو حاكماً، أو قاضياً، فإننا لا نستطيع وصف مشاركته في مؤسسة الحكومة، دع عنك تفسيرها، إلا بموجب مصالحه التي يحددها لنفسه، وبموجب المجموعات التي ينتمي إليها ويواجهها))*3

(3)

لقد حدد ترومان وسيلتين تنظيميتين تصونان الاستقرار السياسي. أولاهما البنية المعقدة للانتماءات المتعددة والولاءات المتشابكة، وثانيهما مفهوم المصلحة غير المنظمة.

وتتأسس الانتماءات المتعددة في الجماعات المحتملة على المصالح المتبناة والمقبولة التي كانت بمثابة عجلة توازن في نظام سياسي قائم. ومن دون الانتماءات المتعددة يستحيل إيجاد نظام حكم قابل للحياة. وفي نظام سياسي حيوي نسبياً تكون تلك المصالح (غير المنظمة) سائدة بتواتر كافٍ في سلوك قطاعات مهمة في المجتمع.

(4)

يقول صاحب الكتاب: ثمة ثلاثة خلائط من النزعات والمستويات النفسية للنشاط السياسي أطرت التحليل. تميزت الثقافة (الضيقة) ل (العالم الثالث) المتخلف بمستويات منخفضة من المصلحة، ومن النشاط، ومن الولاء. بينما كشفت ثقافة (الإذعان) الشيوعية عن مستويات عليا من المعرفة السياسية عن النشاط الحكومي، ولكنها ثقافة عرجاء بسبب مفهومها المتدني للفاعلية الفردية. وأخيراً، اتسمت ثقافة (المشاركة: Participant) الأنجلوأمريكية بمستويات عليا من المصلحة، والنشاط، والتأثير الفردي.

لقد أوصى (ألموند وفيربا) مؤلفا كتاب (الثقافة المدنية: The Civic Culture) المجتمعات التي يتصف حكمها بالقومية (التحديثية) في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية بأن تتبنى مجتمعاً مدنياً يتألف من التجارب الثلاث كلها.

لقد سعت المدرسة التعددية الى تفسير كيف أن مجموعات المصالح في المجتمع المدني تترجم الانشغالات الفردية الى مصطلحات سياسية، وتساعد في صياغة سياسة عامة. فالانتماءات المتعددة والولاءات المتشابكة تفضي الى التسويات الوسطية والتكامل، لتطمين مدى واسع من المصالح الناشئة في المجتمع المدني من دون وقوع اضطراب سياسي كبير.


هوامش
*1ـ ديفيد بيكنيل ترومان (1913ـ 2003): أكاديمي أمريكي، الرئيس الخامس عشر لكلية (ماونت هوليوك) ـ جامعة كولمبيا.

*2ـ David Bicknell Truman, The Governmental Process; Political Interests and Public Opinion نيويورك 1951، صفحة 51. (تهميش المؤلف).
*3ـ المصدر نفسه صفحة 502.

ابن حوران 18-02-2011 03:08 PM

تسليع الميدان العام

(1)

إن محاولة العديد من مفكري الغرب تفسير الأزمة التي شهدتها أواخر الستينات من القرن الماضي، قادتهم الى عمل (أنطونيو غرامشي) الشيوعي الإيطالي الذي سجنه الفاشيون بضع سنين والذي أراد أن يعرف سبب نجاة الرأسمالية الأوروبية بعد اشتعال حربين عالميتين واندلاع الثورة الروسية ونشوب الأزمة الاقتصادية الخ.

لقد ميَّز (غرامشي) بين البيئتين الروسية التي حدثت فيها الثورة البلشفية، وبين أوروبا التي لم تتعرض لثورات. وقد عزى ذلك لتطور الدولة والمجتمع المدني في الغرب، في حين كانت الدولة الروسية هشة والمجتمع المدني في روسيا بدائياً وهلامياً*1

فإن كانت الثورة في روسيا قد نجحت في طريقتها، فإنها لن تنجح في أي بلد أوروبي غربي، لتعقيد العلاقات بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم في الغرب الأوروبي ليس فرداً مستبداً بل صيغ معقدة من العلاقات يقابلها مجتمع مدني يشارك وينتقد ويحرس القيم التي تبقي الدولة واقفة.

شدد غرامشي على الأيديولوجية ومنحها منزلة مساوية لمنزلة (القسر المنظم) الذي تمارسه الدولة، فقد ظهرت في المجتمع المدني الرأسمالي المتقدم بنية إجماع متراتب، وهو إجماع يتصف بالسلاسة، والمرونة، والفاعلية. فالهيمنة التي تمارسها الدولة الأوروبية الغربية تفترض درجة معينة من الرضا، والتشارك، والتعاون.

فالمؤسسات من قبيل العائلة، وعلاقات المِلكية، والقانون تفاعلت مع المعايير غير الرسمية التي حكمت الزواج والعمل وأوقات الفراغ، لإنتاج مجتمع مدني برجوازي عَبَأ درجة مهمة من الإجماع.

(2)

كان عصر التنوير يَعِدُ بتحرير البشر من قبضة التقليد الميت، والتراتبية الاجتماعية والخرافة، ولكن انتهى به المطاف الى أن أخضع البشر لقوى جردتهم من قدرتهم على تكوين الأحكام المعيارية (Normative) أو جردتهم حتى من إدراك أن عليهم بلورة أحكام معيارية.

لقد تم ضخ ثقافة سوقية وأصبحت تلك الثقافة سلعة. لقد حُفِّز المجتمع الاستهلاكي الضخم الذي أعقب الحرب النموّ المتسارع ل (صناعة ثقافة) امتثالية وطامعة بالربح، ثقافة تتوخى الحد الأدنى من القاسم المُشترك الذي يجمع منتجاتها، ثقافة أفرغت كل شيء من محتواه.

اتفق (هربرت ماركوز) مع كل من (هوركهايمر) و (أدورنو) على أن صناعة الثقافة كانت تعمل بوصفها قوة مستقلة أكثر فأكثر. وإن دورها المباشر في (تسليع الحياة) يميل الى تسطيح كل شيء؛ لأنها تلتمس أدنى قاسم مشترك في محاولة منها للبيع قدر ما أمكن. فيتم بذلك احتواء البدائل الأخرى، وامتصاص منابع المعارضة المحتملة، فتضمر قوة الفكر المستقل الانعتاقية*2.

وبينما كانت العصور السابقة تستخدم الحريات المدنية، وحرية الكلام، والتفكير، والعقل، والضمير استخداماً مقوضاً وتحررياً، فإن المجتمع الصناعي المتقدم يستخدمها للإبقاء على الوضع القائم. وعندما تتلاشى البدائل، يصبح عدم الإذعان عقيماً وصعباً. ويقول ماركوز: عندما تتكثف الهيمنة، والاستغلال، واللاعدالة فإن صناعة الثقافة تجعل المقاومة مستحيلة تقريباً؛ لأنها تجعلها غير مرئية.

(3)

وصف ريتشارد سينيت سقوط الإنسان العام وزوال (الحميمية) من بين أفراد المجتمع، بأن وراءه ما تعززت فيه القيمة الفردية للحياة الخاصة. وإن الاهتمام المهووس بالأشخاص على حساب العلاقات الاجتماعية، وهذا يشبه المصفاة التي تفسد فهمنا العقلاني للمجتمع؛ فهو يحجب الأهمية المتزايدة للطبقة في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ ويقودنا الى النظر الى الجماعة على أنها بوح ذاتي متبادل، والى أن نبخس من قيمة علاقات الغرباء الجماعية، لا سيما تلك التي تحدث في المدن.

لقد كشف سينيت عن المفارقة المريرة المتمثلة في أن المجتمع الحميمي يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً. فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدّوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية. لأن الحياة المدنية هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضا، ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر. فالعيش مع الناس لا يستلزم (معرفتهم). ولا يستلزم التأكد من أنهم (يعرفونك).*3

إن كتاب سينيت (سقوط الإنسان العام) نقدٌ ثاقب البصيرة بشكل لافت للفكرة الرائجة التي تفيد أن المجتمع المدني الذي ينظم حول الجماعة والحميمية يوفر بالضرورة بديلاً مناسباً من الضعف، والاغتراب، والوحدة. فمنطق الدفاع المحلي ضد عدوانية العالم الخارجي يغفل خبرة الإنسانية التي تؤكد أن الناس يتطورون عندما يجربون أشياء جديدة وناساً جدداً.

(4)

لقد هدد منطق شكل (التسليع الشمولي) بصهر العام بالخاص، معرضاً الديمقراطية بذلك للخطر. واكتسبت المسائل الاقتصادية الخاصة أهمية عامة عندما أنتجت أسواق السلع أسواقاً للأخبار، وعندما صار من غير الممكن الاستغناء عن المعلومات في التجارة. فأخذت الصحافة بالتطور، ولكن سرعان ما انضمت إليها المقاهي والصالونات، والمسارح، وجمعيات المتعلمين، ومواقع أخرى انتظمت حول تبادل المعلومات الحر.

ويتصرف المواطنون بصفتهم هيئة عامة عندما يتشاورون بصورة غير مقيدة ـ في ظل ظرف يضمن لهم حرية الاجتماع والارتباط، وحرية التعبير عن آرائهم ونشرها ـ في مسائل الصالح العام.

ويقف تسليع الميدان العام من وراء (أزمة مشروعية) نظام سياسي غير قادر على تقديم تبرير عقلاني لسلطة الدولة، وهو تبرير كان قادراً على تقديمه مرة. والقادة السياسيون يستعينون زيفاً بجمهور عام، لا من أجل المساعدة على صوغ السياسة، إنما هم يناورون لخلق دعم عابر. وإن العملية الطويلة من التشاور المتبادل، والتنوير، والنقاش التي ميزت الميدان العام في السابق قد تفككت وانسحقت، تحت وقع مطالب الدولة ووقع احتياجات السوق في المجتمع المدني.

يرى الكثير من علماء الاجتماع السياسي، أن الاندماج والشرعية من خلال التواصل (الاتصال)، لا من خلال الهيمنة، هو الحل الأمثل لإبقاء المجتمع المدني بعافية.



هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Antonio Gramsci, Selection from the Prison Notebooks of Antonio Gramsci, Edited and Translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith (New York: International Publishers 1971) p.238
*2ـ Herbert Marcuse, One- Dimensional Man: Studies in the Ideology of Advanced Industrial Society (Boston: Beacon Press 1966, pxvi
*3ـ Richard Sennet, The Fall of Public Man: On the Social Psychology of Capitalism (New York: Random House 1978) p.4


ابن حوران 22-03-2011 01:49 PM

أحلام التجديد

(1)

اكتشف الغرب أن خطاب الأخلاق لا يستطيع بناء ميدان عام ديمقراطي في بيئة موسومة بالنزاع السياسي، والصراع الطبقي، والعنف، واللامساواة الرأسمالية.

اعتقد بعض علماء الاجتماع والسياسة الأمريكيين، أن التاريخ الأمريكي قدم إجابة لحل هذا المأزق؛ لأنه أثبت أن مقولات الفردية لا تستطيع أن تقدم تفسيراً غنياً كفاية للحياة الاجتماعية. فالناس لا يَخْلقون أنفسهم بأنفسهم كما يبدو. وهذا ما قاله (روبرت بيلاه Robert Bellah) (( نحن لم نكن، ولسنا أبداً، مجموعة أفراد خصوصيين لا شيء يجمعهم غير عقدٍ واعٍ لتكوين حكومة الحد الأدنى. لقد صار لحياتنا معنى بألف طريقة وطريقة، وأغلبها لا نعيها، بسبب تقاليد يمتد عمرها لقرون إن لم يكن لألف عام. إن هذه التقاليد التي تعيننا على معرفة أهمية اختلاف طبائعنا وطبيعة تعاملنا مع بعضنا بعضاً))*1

لا تشكل الذاكرة الجمعية والتقاليد المنتقاة من (الألفية) أسساً يُعتمد عليها على نحوٍ خاص لبلورة نظرية عن المجتمع المدني، ولكن من السهولة فهم ما تحظى به من جاذبية. فالفضائل التي كانت تسود البلدة الصغيرة في عصرٍ غابر لا تستطيع أن توفر المحتوى الديمقراطي لمجتمع مدني تؤطره قوى اقتصادية جبارة ودولة قوية. ولكن يمكن للتقاليد التراثية أن تمد يد العون.

إن تصور المجتمع بوصفه متكوناً من مجموعات مختلفة تماماً، ولكن مستقلة عن بعضها بعضاً، من شأنه أن يُنتج لغة عن الصالح العام يمكنها أن تقضي بين الحاجات والمصالح المتعارضة، وبذلك تخفف من الأثقال التي ينوء بها منطق الحقوق الفردية*2

(2)

إن البديل الواعد من دولة السيادة ليس مجتمعاً عالمياً واحداً قائماً على تضامن الإنسانية، إنما على مجتمعات وهيئات سياسية متنوعة ـ بعضها أكبر من الأمم وبعضها أصغر ـ تتوزع عليها السيادة. ويرى صاحب هذا القول أنه (إذا لم تستطع الأمة أن تستجمع أكثر من الحد الأدنى من الشراكة، فلا يبدو أن المجتمع العالمي يستطيع أن يفعل ما هو أفضل... صارت السياسة في المجتمع الصغير أهم لا أقل أهمية. فالناس لا يقدمون الولاء الى الكيانات الكبيرة والنائية، أياً تكن أهميتها، إنما يمنحون ثقتهم لتلك المؤسسات المرتبطة بنوع من التنظيمات السياسية التي تعكس هوية المشاركين)*3


يرى أصحاب مثل تلك الآراء، أن مؤسسات المجتمع المدني، كالمدارس، وأماكن العمل والمعابد والنقابات والجمعيات الخيرية، هي المواقع الجديدة للنشاط الديمقراطي في عالم ما بعد الحداثة المكتظ بالعديد من الولاءات والهويات والذوات. وإن التشتت والخصوصية والهوية يمكن أن ترسي فلسفة عامة تعالج ضياع الحكم الذاتي وتآكل الجماعة.

إذا كان الرأي السابق يعود للمدرسة الليبرالية التي تركز على الفرد باعتباره مركز لفلسفتها، فإن هناك مدرسة (الجماعيون) [ أي التي تنأى بالتركيز على الجماعات]، وهي مدرسة أقل عداءً للدولة، لا بل تذهب الى ضرورة حماية قدرة الدولة على رعاية الجماعات، وذلك بحماية تلك الجماعات من مساومات جماعات المصالح. وهي ترى أن دولة إيجابية يمكنها أن تحسن الصالح العام الأكثر أهمية من دفع المدرسة التعددية باتجاه المصلحة الخاصة.

(3)

حاول (روبرت بوتنام Robert Putnam ) أن يفسر ظاهرة تفوق شمال إيطاليا على جنوبها في التجربة الديمقراطية، وهو بذلك كان يبحث كمُنظِّر عن المصادر العميقة للديمقراطية. وقد كشف لنا أن الديمقراطية والمؤسسات السياسية الفاعلة تعتمد على مجتمع مدني متطور تزدهر فيه روابط وسيطة وثقافة مدنية.

يكتب (بوتنام) بأن شمال إيطاليا ووسطها ومركزها الصناعي، قد شهدا مشاركة فاعلة في الشأن العام، ومساواة سياسية واسعة، وانتشار قيم التضامن، والثقة، والتسامح، إضافة الى بنية كثيفة من الروابط ذات الانتماءات المتعددة، وقام في ما بينها تعاضد عالي المستوى، بصورة أقوى بكثير مما شهده جنوب إيطاليا الريفي والمتخلف. فأهل الشمال مشاركون فاعلون في الشأن العام، ويتابعون الصحف بانتظام، وغالباً ما يشاركون في التصويت. وهم راضون عن الهيئات والقادة المحليين.

يفسر بوتنام تلك الظاهرة، بأنه وخلال ألف عام، أرست التجارب (الكومونات) [أي الأشكال الأولية من التنظيم السياسي المحلي، وإدارات محلية سبقت نشوء الجمهورية]، والتي أكسبت السكان مهارات في تنظيم شؤونهم وتمويل القطاعات العامة، ولم تكن الكنيسة (مثلاً) إلا مؤسسة واحدة من بين مؤسسات عديدة، فكانت الروابط الاجتماعية والاقتصادية والمدارس وغيرها تدار بطريقة تنشد التطور والتقدم الذي يرفد الثلاثي (المال، والأسواق، والقوانين).

أما الجنوب، فكان الحال على العكس: فالنظام الملكي المركزي القوي كان ينظم الحياة بأوامر فوقية، وخانقاً المبادرات المحلية، ومعيقاً تطوير تقاليد الروح المحلية. وعملت العلاقات الاجتماعية التراتبية، والكنيسة المتنفذة، وأرستقراطية قوية مالكة للأرض على كبح قيام حكم محلي ذاتي. ما زال الجنوب، الى يومنا هذا، تسوده تقاليد اللامساواة، والتبعية الشخصية. (إن المناطق ذات الروابط المدنية العديدة، والكثير من القرَّاء المتابعين للصحف، والكثير من المصوتين المعنيين بالمسائل الخلافية، وقلة من شبكات الإتباع للسادة والزبائنية، كلها تساعد على ازدهار حكومات أكثر فاعلية). *4

(4)

يُعَبِّر كثير من علماء الاجتماع (الجماعيين) عن مخاوفهم من نظام اجتماعي أمريكي مهترئ. فيعتقد (بوتنام) أن ضعف المجتمع المدني الأمريكي يعود الى تدهور رأسماله الاجتماعي. وعلى الرغم من مستويات التعليم العالية، فإن الناس يدلون بأصواتهم، ويشاركون في الأنشطة السياسية الأخرى بزخم أقل مما كانوا يفعلون من قبل. ومعروف الآن أن ثقتهم بالحكومة أقل من السابق. غير أن التدهور لا يقتصر على السياسة وحدها. فلقد شهدت جموع المواظبين على الحضور الى الكنيسة، وكذلك النشاطات ذات الصلة بها، انخفاضاً ملحوظاً، وتقلصت أعداد المنتمين للاتحادات العمالية ..الخ

ويسخر بوتنام من المنظمات الاجتماعية الحديثة، فيقول إن تلك المنظمات الأمريكية لا تفعل سوى أن تتيح لأفرادها التحدث عن أنفسهم أمام الآخرين.

يُطلق (بونتام) على هذا التدهور (تآكل رأس المال الاجتماعي)، والذي ينذر بتفتيت الولايات المتحدة واندثار بنيتها الاجتماعية، ويسأل لمَ يحدث كل هذا؟ ويتطرق في إجابته الى أن الأجيال الجديدة لا تهتم بشأن عام، فتقضي معظم أوقات فراغها في مشاهدة التلفزيون، وألعاب الكمبيوتر والمحادثات الجانبية غير المهمة. ولكنه يسأل لما يفعلون ذلك؟ فيرجع أسبابه الى طبيعة الدولة وقوانينها التي تجعل من نفسها شيئاً بقدر ما يُعتمد عليه في إدارة شؤون البلاد، بقدر ما تجعل من نفسها مشرعة لقوانين لا حول للمواطن ولا قوة في تغييرها، فتحدث اللامبالاة!




هوامش من تهميش المؤلف
*1ـ Robert N. Bellah et al. , Habits of the Heart: Individualism and Commitment in Amarican Life (Berkeley: University of California Press, 1985 p.282
*2ـ المصدر نفسه، ص 285.
*3ـ المصدر نفسه ص 346.
*4ـ Robert D Puntam, Robert Leonardi and Raffaella Y. Naneti, Making Democracy Work: Civic Tradition in Modern Italy (Princeton University Press, 1993) p 99

ابن حوران 21-04-2011 01:11 PM

الفصل التاسع: المجتمع المدني والسياسة الديمقراطية

(الحلقة الأخيرة)

الصفحات 437 حتى نهاية الكتاب

(1)

اتفق المفكرون وأصحاب العقائد المناصرون لفكرة المجتمع المدني، منذ أيام أرسطو الى يومنا الحاضر، على أن المجتمع المدني دعامة هامة وضرورية لحماية الديمقراطية وتناقل السلطة بين الجميع دون تقنينٍ أو قسر. فهو بنظرهم جميعاً يُفترض أن يُحيي دور الجماعات، وأن يُدرب المواطنين الناشطين، وأن يؤسس تقاليد الاحترام والتعاون، وأن يوفر بديلاً أخلاقياً من المصلحة الذاتية، وأن يحد من البيروقراطيات الطفيلية، وأن يُنشط الميدان العام.

لقد تأثر الغرب بما كُتب وقيل عن المجتمع المدني، وحوَّل تأثره الى إجراء يتطور مع تطور ما كان يقال وما يزال. وقد يكون التأثر ب (توكفيل) هو الأكثر والأطول عمراً. ومع ذلك فإن الدعوات للمجتمع المدني واعتماده أسلوباً ناجعاً ما زال يكتنفه بعض الغموض والضبابية.

ففي خطابٍ له صرح (كولن باول) في مؤتمر القمة الرئاسية (1997) عن مستقبل أمريكا قائلاً (إن مجتمعاً مدنياً هو مجتمع يحرص أعضاؤه على رعاية بعضهم بعضاً، وعلى رفاه الجماعة كُلها)... (فالتسامح والاحترام والسلوك المتحضر يمكن أن تبنيها خدمات طوعية للجماعة؛ ذلك لأننا نساعد الجيل القادم من الأمريكيين على أن يُنشئوا مواطنين صالحين، ونعرّف الجيل الراهن مرارا وتكرارا، بالحاجة الى تجاوز عوائق العرق والطبقة والسياسة التي تفرقنا)*1

(2)

ظهرت منذ البدء، إشكاليتان في التعامل مع مفهوم المجتمع المدني. الإشكالية الأولى: الموقف المتذبذب للسلطة منه، ففي حين نظر اليونانيون الى غيرهم من الشعوب على أنهم (برابرة) لأنهم في أحد أشكال تعاملهم مع المجتمع المدني لا يولون اهتماماً خاصاً، بل ينكرون حق تنظيم المجتمع لنفسه. وهذه النظرة لا زالت قائمة حتى اليوم، فإذا أرادت دولة كبرى كالولايات المتحدة مثلاً أن تتهم دولة أخرى بخرق لوائح حقوق الإنسان، فإنها تبحث في القضايا التي تشكو منها منظمات المجتمع المدني من نظامهم السياسي. وبنفس الوقت تقمع مثل تلك الدول أي نشاطات تتعارض مع سياساتها، (تلوث البيئة، الاحتباس الحراري، سياسات التسابق في التسلح النووي، شن الحروب الخ).

والإشكالية الثانية: صعوبة التنسيق بين محاور نشاطات منظمات المجتمع المدني. فما الذي يجمع منظمة تهتم برعاية نوع من السلاحف مهدد بالانقراض، مع منظمة تهتم بالمحاربين القدماء أو منظمة تهتم بشؤون الناجين من سمك القرش؟

ترعى بعض الدول أو كلها أحياناً نوعاً معيناً من منظمات المجتمع المدني، ويتسابق أفراد الأسر الحاكمة بتسلم رئاسة مثل تلك المنظمات لتسوق نفسها على أنها أنظمة متحضرة، رءوفة برعاياها ومحبة للنشاطات الإنسانية. (اتحادات رياضية، منظمات نسائية لدعم نشاط اقتصادي أُسري الخ). في حين تلاحق وتضطهد أفراد آخرين ينشطون بمجالٍ لا تحترمه تلك الأنظمة (نساء معارضات للحرب على العراق، مجتمع محلي يعارض التجارب النووية في بعض مناطق العالم الخ).

(3)

يتفق الليبراليون والماركسيون على أن المجتمع المدني يصب في جهود الارتفاع بالديمقراطية لمستويات أفضل. فالليبراليون يرغبون بإيجاد منظمات مجتمع مدني تنضوي تحت حكم مركزي يحد من تسلط هذا الحكم وتفرده، في حين يرى ماركس بعقيدته الثورية (إن المجتمع المدني هو إشكالية يجب حلها بدلاً من كونه حلاً يجب العثور عليه). فقد استمد الماركسيون ارتيابهم من أن الأسواق غير المنظمة (الحرة أو الفالتة) تستطيع أن تدمر إمكانية الحياة المتحضرة نفسها*2

ولتبيان أهمية منظمات المجتمع المدني، يسوق المؤلف (جون إهرنبرغ) مثالاً حدث في الأرجنتين عندما خرجت نساء تتبع لمنظمة (Mothers of the Plaza de Mayo) وهن نساء اختطف النظام الأرجنتيني أطفالهن بين عام (1976ـ 1983) خلال ما سُمي ب (الحرب القذرة) وعدد هؤلاء الأطفال حوالي ثلاثين ألفاً وقتلهم جميعاً لأن آباؤهم من اليساريين المناهضين للنظام، فخرجت الأمهات والجدات لابسات الملابس البيضاء (رمزاً لحفاظ الطفل)، وهذا ما جعل النظام الأرجنتيني مفضوحاً أمام العالم وأمام شعبه.

ولكن المؤلف يسوق مثالاً آخراً، يبين التلاعب في نوعية المزايا التي تتحقق من تلك المنظمات، فيذكر أن مطالب كثيرة قام بها الأهالي المجاورون لأراضي زراعية تملكها الحكومة الفدرالية الأمريكية يطالبون بتمليكها للمزارعين للاستفادة منها، وبعد تلك المطالبات تم توزيع الأراضي واستفاد منها كبار المزارعين بشكل كبير في حين لم يستفد صغار المزارعين إلا بالنزر اليسير.*3

(4)

يتناول المؤلف قضية مهمة جداً، وهي أنه من يهتم بالمجتمع المدني؟ هل يهتم به المُشرد والكادح والفقير؟ أم حتى أنه هل تهتم به نسوة هذه الأيام اللواتي لم يعدن يجلس ببيوتهن، لقسوة الظروف الاقتصادية، بل يعملن وأزواجهن لا يقل عن 12 ساعة في اليوم.

ويذهب أبعد من ذلك، عندما يُجبر أشخاص لحضور اجتماعات تناقش قضايا المجتمع المدني (والإجبار هنا، بحكم العلاقة بين الداعين للاجتماعات وتابعية المدعوين وعدم قدرتهم على رفض طلبات من دعوهم). وتكون المعلومات والحقائق محجوبة (بخبث أو بطيب نية) عن المدعوين، فيتداول مناقشتها متنافسون يعلمون سبب حضورهم!

ويذهب صاحب كتاب (الصوت واللامساواة) الى القول: (المشاركة السياسية بدءاً من التصويت، مروراً بكتابة الرسائل، والانتماء الى التنظيمات السياسية، والدعم بالأموال، والمشاركة في المظاهرات، موسومة بدرجات من اللامساواة أعلى من أشكال النشاط العام الأخرى.) ويصل في حديثه عن المجتمع المدني على أنه (مخترق كلياً بالعلاقات الطبقية، أما اللامساوة في توزيع الموارد السياسية فهي دالة الحياة الاقتصادية)*4

إن المشاركة الديمقراطية المثمرة تقتضي أن تكون أصوات المواطنين في السياسة واضحة وعالية ومتساوية: واضحة حتى يعرف المسئولون ما يريده المواطنون وما يحتاجونه؛ وعالية حتى تكون حافزاً للمسئولين لإيلاء العناية بتلك المطالب؛ ومتساوية حتى لا يُنتهك المثال الديمقراطي.

(5)

يمر المؤلف على إحصائيات تدلل على أهمية الاقتصاد في تحفيز المواطنين الأمريكان في الاشتراك بالديمقراطية، أو منظمات المجتمع المدني. فيقول: أنه وقت تأليف كتابه كان 1% من الأمريكان يملكون ثلثي الثروة في الولايات المتحدة. وأنه في نفس التاريخ انخفض دخل نصف الأمريكان الى أقل بكثير مما كان عليه في عام 1973. وأنه في عام 1998 وحدها اتحدت مجموعة شركات بما مقدار رؤوس أموالها (التريليون من الدولارات).

ويصف جورج سورس (George Soros) وهو واحد من أكبر أصحاب النفوذ الإعلامي في العالم، ومن أكبر المدافعين عن المفاهيم الليبرالية الأمريكية، يصف الوضع بقوله في مقالة نافذة في (أتلانتيك مونثلي Atlantic Monthly في 2/2/ 1997) (( إن الزيادة الكثيفة في ما تتمتع به رأسمالية المنافسة الحرة من انفلات من رقابة الدولة وانتشار قيم السوق في نواحي الحياة كلها يعرضان مجتمعنا المفتوح للخطر؛ أن العدو الرئيس للمجتمع المفتوح، على ما اعتقد، هو الخطر الرأسمالي لا الشيوعية)).

انتهى عرض الكتاب بحمد الله





هوامش من تهميش المؤلف

*1ـ Colin L. Powell, "Recreating the Civil Society – One Child at a Time," Brookings Review, vol. 15, no. 4( Fall 1997), pp. 2-3
*2ـ Karl Polanyi, The Great Transformation (Boston: Beacon Press1957
*3ـ McConnell, Private Power and American Democracy, p349
*4ـ Sidney Verba, Kay Lehman Schlozman and Henry E. Brady, Voice and Equality: Civic Voluntarism in American Politics (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1995) p522


Powered by vBulletin Version 3.7.3
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.